.
لم يكن رياض السنباطي كثير الكلام، اكتفى بجعل فنه يروي قصته. نجد بين كلماته المعدودة التي خرجت إلى الإعلام عبارة “قصة حياتي أم كلثوم”، و أعماله الغنائيّة في آخر عقدَين من حياته تشهد على ذلك. من عذوبة الصوت وقوّته في أشواق التي غناها في الثانية والستين، إلى التعب والأنفاس القصيرة في لا تقل لي ضاع حبي التي غناها في الثانية والسبعين بعد وفاة أم كلثوم بثلاث سنوات كانت كافيةً لانتقاله من الشباب إلى الشيخوخة.
في عام ١٩٧٩، عرضت فيروز على السنباطي أن يتعاونا على لقاء السحاب الثاني في ميدان القصائد الذي حقق فيه السنباطي فتحه الأكبر؛ عرضٌ سُرَّ به الموسيقار المسحور بصوتها، وقال بعد لقائه الشخصيّ الأوّل بها: “ما تبقى من عمري لفيروز“، كلماتٌ صدق بها بقدر ما أتاح له العمر. حين جاء موعد حفل الأغنية الأولى التي جمعتهما تفاقمت الحرب الأهلية في لبنان وأوقفت كل شيء صميم الشريف، السنباطي وجيل العمالقة ص ٣٦٦، ثم رحل السنباطي في أيلول ١٩٨١ تاركًا ثلاثة ألحانٍ أعدّها لفيروز دون أن يتحقق حلمه بسماعها بصوتها.
مر ٣٧ عامًا حتى اﻵن في انتظار ظهور فيروزيّات السنباطي التي ظلَّل عليها التحفظ الإعلامي المرافق لمسيرة فيروز منذ بدايتها، مما يترك تأويل سبب عدم صدور الأغاني مهمةً للمستمعين الشغوفين، وإن كان من الصعب التوقف عن البحث وإنهاء الانتظار بعد إيجاد السبب. وهُنا مساحةٌ جديدةٌ للتأويل ربّما أكثر سعةً واستنادًا إلى البحث من المعتاد. ومساحةٌ أخرى للتحليل والأمل.
بعد وفاة أم كلثوم، تنافست المطربات على فرصة العمل مع السنباطي، ساعياتٍ لاحتلال عرشها عن طريق التعاون مع أكبر أركان هذا العرش، وإن قامت بعضهنَّ بمحاولاتٍ يائسة لإنكار ذلك، كما فعلت وردة عند انتشار خبر تعاونها مع السنباطي على قصيدة طويلة. صرّحت وردة حينها أنها لن تغنّي لا تقل لي ضاع حبّي إن كان لحنها كلثوميًّا صميم الشريف، السنباطي وجيل العمالقة ص ٣٥٦، مغالطة لا يُلام عليها مستمعٌ يُعبّر عمّا يحسّ دون خبرة حرفية، لكن يُلام عليها من يعلم أنه ليس هناك لحنٌ كلثوميّ، بل لحنٌ سنباطيّ سيطر على المسرح الكلثوميّ قرابة أربعين عامًا، وجعل تمييز الهويّة السنباطيّة في لحنٍ مسرحيٍّ طويل مُعَدٍّ لإطراب جمهور المسرح يستحضر في الذاكرة لا إراديًّا صورة أم كلثوم، ما يعني أن لعبارة “لحن كلثومي” معنًى واحدًا، هو إعداد اللحن بحيث يُبرز مفاتن صوت أم كلثوم ويُفيد من قدراتها الصوتيّة. في النهاية، غنت وردة لا تقل لي ضاع حبّي، وقال الكثيرون لدى سماعها: “أين أنتِ يا أم كلثوم”، رغم أن اللحن مُعدٌّ بشكلٍ هذّب صوت وردة وأخفى عيب الزعيق الذي برز في لحن عبد الوهاب لها في يوم وليلة.
بهذا نصل إلى أشهر تأويل متداول لعزوف فيروز عن غناء ألحان السنباطي لها، وهو أنه قدّم لها ألحانًا كلثوميّة، تأويلٌ فيه استهانة بكل منجزات السنباطي في صقل الأصوات ولمس أجمل مفاتنها كما فعل مع وردة وشهرزاد وسعاد محمد وأسمهان وغيرهن، أما الحقيقة فهي فيما قاله السنباطي نفسه حول كونه أراد إبراز طبقات صوتية مخنوقة وغير مُستكشفة في صوتها من قبل، تصريحٌ شرحه البعض بأن السنباطي سيُبرز الطبقات العالية في صوتها الحقيقي لا المستعار. لكن القسم الذي يستحق التأمُّل بالفعل من هذا التأويل هو صلة أم كلثوم بموقف فيروز، ما سيأخذنا إلى استكشاف بعض أهم ملامح المشهد الموسيقي العربي وقتها للوصول إلى حقيقة تلك الصلة.
المشروع الرحباني من أكبر المحطات التاريخيّة للموسيقى العربيّة، ولم يصبح كذلك لاستثنائيّة ما قدّمه فقط، بل أيضًا لحرص مايسترو المشروع عاصي الرحباني على تشكيل هويّةٍ معيّنة حارب كثيرًا كي لا يهدِّد أحدٌ استقلاليّتها، لأسباب فنّيّة وقوميّة. كانت مصر وقت ظهور هذا المشروع قبلة الفن العربيّة الأوحد، خاصةً في مجال الموسيقى، وأراد الأخوان رحباني لبنانَ قِبلةً ثانية، فلا استعانة باللهجة المصريّة التي اعتادتها الأذن العربيّة في الكلمات، ولا اعتماد على مسارح وإذاعات مصر، ولا اتّباع مدارس الغناء المصريّة في الأداء، ولا حتّى اللجوء لملحّنين مصريّين. حتى تعاونهما مع محمد عبد الوهاب كان أيضًا ضمن تلك الحدود.
أول لحن قدّمه عبد الوهاب لـ فيروز سهار بعد سهار كان لكلماتٍ رحبانيّة تفرض أجواءهما في طول الجملة اللحنيّة وغياب التكرار والتطريب، بالإضافة لكون الأغنية من مقام الكرد، ضمن سلم الماينور الذي كان أحد مفضّلات الأخوين المبتعدَين عادةً عن المقامات التي تتعامل بربع التون، ما أنتج لحنًا أقرب إلى طابع الرحابنة منه لـ عبد الوهاب. لكن مع التعاون الثاني بين فيروز وعبد الوهاب، سكن الليل، بدأ حضور الأخير يتزايد في اللحن، مُفيدًا من كون اللحن لقصيدة غير رحبانيّة يفتح مجالًا أكبر أمام طول الجمل اللحنيّة، ومن مساحات التطريب التي بقيت في حدّها الأدنى لكنها واضحة الحضور، بالإضافة إلى التحويلات المقاميّة التي عُرِفَ ببراعته فيها.
إلى أن وصل الأمر مع أغنية مُرَّ بي إلى غناء فيروز للحنٍ وهابيّ بشكلٍ كامل، قصيدة يبلغ طولها ثلاثة أرباع طول قصيدة سكن الليل لكنها أسفرت عن أغنية أطول بتطريب أكثف وتكرار للمقاطع، وما وصفه عاصي الرحباني نفسه بأنه عودة إلى ألحان عبد الوهاب القديمة لكن بصياغة حديثة. لذلك بدأ الإحساس بخطرٍ لن يسمح الأخوان بتفاقمه، فكان أن توقفت ألحان عبد الوهاب لفيروز في ظروفٍ غامضة، مع تداول سبب غير منطقي لعدم غناء فيروز آخر ألحانه لها، ضي القناديل، وهو أن فيروز أحست أن الكلمات كُتِبت لرجل وأن غناء امرأةٍ لها سيجعل منها تبدو فتاة ليل، وبمعرفة أن الكلمات للرحابنة لا يعود الأمر مبهمًا. سواءٌ كان دافع فيروز لرفض الأغنية حقيقيًّا أم لا، يبقى الرحابنة هم أصحاب القول الفصل الفعليّون.
حتى في ذروة خطر دخول بصمة غريبة واضحة الحضور على مشروع الأخوين، كان التوزيع على الأقل رحبانيّ. لكن حين بدأ تعاون فيروز والسنباطي كانت فيروز قد انفصلت عن الرحابنة، وفي هذه المرحلة كان الاعتبار الأهم إثبات أن فيروز دون الرحابنة ستبقى فيروز، الركن الغنائي العربي الوحيد الذي استطاع أن يبلغ مكانة أم كلثوم دون السير ولا مرة على خطاها، مرحلةٌ حسّاسة متردِّدة في مسيرتها، دفعتها لبضعة قرارات سُرعان ما أعادت التفكير فيها والتراجع عنها، ربما كان التعاون مع السنباطي أحدها كما التعاون مع محمد الموجي.
ما يرجِّح سيناريو التردد هذا مع السنباطي بالذات، أن أبرز ميّزات ما لحّنه السّنباطي لها: أُغنية مسرحيّة طويلة، العمل على طبقات صوتيّة لم تعمل عليها من قبل في صوتها الحقيقي لا المستعار، تطريب مُكثّف، محتوى عاطفي كلاسيكي للكلمات، هويّة لحنيّة مغرقة في الكلاسيكية الشرقية ذات طابع سنباطي (مع غياب التوزيع الرحباني القادر على تخفيف ثقل الشرقية والسنباطية). ميزاتٌ اعتدناها في مسيرة أم كلثوم مع السنباطي، ورُبّما شهدنا مثلها مع فنانين وفناناتٍ آخرين انطلقوا من مصر، لكن مع فيروز المنطلقة من لبنان، والمُقدِّمة لمدرسة موسيقيّة مختلفة عن المصرية شكلًا وموضوعًا، تُشكّل هذه الملامح الجديدة عليها إنذارًا بخطر تلقي الجمهور لسنباطيات فيروز على أنها محاولة فيروزية لتحل محل أم كلثوم في ميدانها، بينما لا حاجة لقامةٍ مثل فيروز بمحاولة كلثمة هويّتها التي استطاعت باستقلاليّتها أن تشغل العالم.
رؤية كهذه للموضوع ربما تصح وقتذاك، لكن هل تصح بعد عقد أو اثنين؟ ألم تُثبت فيروز بالفعل أن لصوتها بصمةً وحضورًا يُدرجان كل ما تغنيه تحت ما يُسمى اليوم “فيروزيات”؟ سواءٌ في تعاوناتها مع زياد الرحباني، أو في أدائها ألحان السوري محمد محسن للقصائد، والتي أدخلت روحًا جديدة على القصيدة الفيروزيّة. هُنا نجد أنفسنا أمام احتمالَين، أولهما أن مساحة صوت فيروز قد تراجعت بتقدّم السن فلم تعد قادرة على تسجيل الأغاني بشكلٍ يُرضيها في المقام الأول، والثاني أن لأحمد ابن رياض السنباطي للأسف دورٌ في إيقاف المشروع، على عكس ظنِّه.
الاحتمال الأوّل القائل بتراجع مساحة صوت فيروز يُضعفه أن جوزيف حرب، مؤلّف قصيدتين من الثلاث اللاتي لحنها السنباطي، أكّد حضوره تسجيلين لقصيدتَيه على الأقل: التسجيل الأوَّل عام ١٩٨٥، حين لم ترضَ فيروز عن التسجيل عند عمل الميكساج، والثاني في عام ١٩٩٥، مجهول المصير. يدعم هذا السيناريو الافتراض الجائز جدًّا حول كون فيروز لم ترضَ عن تسجيل صوتها، ولم تعد تستطيع إعادة التسجيل بعد تراجع مساحته نتيجة تأجيل المشروع لزمنٍ أطول مما يجب، أو ربما لا تنتهي مُشكلة عدم رضا فيروز عن أدائها بإعادة التسجيل، بل تقودنا إلى إمكانية شعورها بضرورة إشراف السنباطي الراحل على التسجيل ليضمن تقديم الأغاني كما تصوّرها.
أما بالنسبة لدور أحمد السنباطي في توقّف المشروع فهو الأرجح، رغم المتداول عن كون أحمد قد حاول كل ما في وسعه لتُصدِرَ فيروز ألحان أبيه المنتظرة، لكن المشكلة تكمن في طريقة طلبه ذلك. سارع أحمد إثر سماعه بأن فيروز عازمةٌ على إعادة التسجيل بإرسال مذكّرة قانونيّة تُهدّد بالغرامة والمصادرة إن لم يُطلب إذن كتابي من الورثة ويُشرف أحمد بنفسه على التسجيل، طلبٌ غريب يفترض صاحبه أنه ورث موهبة أبيه وأن إشرافه على التسجيل سيضمن خروج الألحان بالشكل الذي أراده السنباطي اﻷب. لو أخذنا بعين الاعتبار ما نعرفه من مواقف فيروز القطعيّة من أي قلاقل، حتى إن وصلت لإهانتها في الصحف كما فعلت صحيفة الشراع منذ عامَين دون كلمة ردٍّ واحدة من فيروز، يصبح من المنطقي جدًّا أن تكون استجابة فيروز لتصرف أحمد السنباطي أن تهجر الأغاني بشكلٍ كامل وتكمل طريقها.
تاركةً إيّانا مع مساحةٍ ضيّقة جدًّا للتخيُّل، ليس للأسباب سابقة الذكر من كثافة التطريب وخوف مغادرة المألوف، فألحان فيلمون وهبي ومحمد محسن لها خير دليل على أن التطريب ليس ميدانًا تخشاه فيروز، وعملها مع ابنها زياد أسفر عن شخصية محبَّبة بقدر ما هي مارقة عن موروث الأخوين – إنما تعود صعوبة التخيُّل إلى أن أبرز ما أراد السنباطي إنجازه مع فيروز هو إبراز مواطن جمالٍ في صوتها لم تطرق أذن سامعٍ لها من قبل، فكيف سيتخيّلُها هذا السامع؟
لهذا نجد السنباطي حريصًا على أن تكون بداية تعاوناتهما جسرًا يعبر عليه جمهورها وجمهوره بسلاسة. البداية مع بيني وبينك التي أعدّاها سويّةً خلال زيارته لبيروت صميم الشريف السنباطي وجيل العمالقة ص ٣٦١ تجهيزًا لحفل إطلاقها، وذلك بافتتاحيتها الرقيقة الميالة للأجواء الفيروزية المُحبّبة بجملٍ لحنيّةٍ قصيرة، والتي تأخذك تدريجيًّا وبخفّةٍ جذّابة إلى أرض السنباطي حيث المفاجآت التي أعدّها لنا بصوت فيروز لكسر الحدود المتبقية أمام مدى عالمه، مع مراعاة أن يكون الطول وسطًا بين أطول أغانيها قبله وأغنيتَيه القادمتَين، كذلك الأمر في المقدّمات الموسيقية والإعادات المضبوطة. بعد بيني وبينك، نصبح جاهزين لـ أمشي إليك وآه لو تدري بحالي حيث لم يعد هناك حضورٌ يُذكر للحلول الوسط، حيث يصعب التخيُّل أكثر، وتزيد الحسرةُ أكثر.