.
كتب المقال لمدونة الباريس ريفيو ناثانيال رتش Nathaniel Rich روائي ومحرر سابق للباريس ريفيو، وترجمه لمعازف يحيى محمد.
للأصناف الموسيقية دورة حياة الحيوانات المفترسة: خرقاء في الطفولة، مخيفة في طور البلوغ، شرسة عند اكتمال نضجها، بلا أنياب في الكبر، وبائسة في الهرم، قبل موتها الصامت المحتوم. غالبًا ما يكون أمد حياتها أطول من حياتنا، لذا يمكن أن يكون من الصعب تذكر أن بعض الصنوف الأكثر شيخوخة كانت يومًا حيوية وضارية. لكن حتى موسيقى الباروك كان لها خط وضيع، و”شاطئ صخري خطر” على حد تعبير كاهن ألماني شهير في القرن السابع عشر: “سقط على طوله كثير من الأرواح الشابة، كأنما نادتهم النداهة” – وكانت البولكا في أربعينيات القرن التاسع عشر تهديدًا بوهيميًا فاسدًا، (سنة ١٨٤٤، كتبت صحيفة إلستريتد لندن نويز “أن البولكا تحتاج ﻷن تُرى مرة واحدة فقط ليتم تفاديها إلى الأبد!”). الجاز، الآن وهو في خضم قرنه الثان، كان له شباب عنيف بامتياز. لقد كان أكثر من مجرد عنيف – كان قاتلاً.
وللدقة، لم يكن الجاز ضاريًا بصورة استثنائية. لكن الجاس طريقة قديمة لكتابة اسم موسيقى الجاز، ويُعتقد أنها مشتقة من الكلمة الأمريكية الدارجة في نهاية القرن التاسع عش (Jasm) وهي تحمل معاني: الطاقة، والحيوية، والروح - خاصة لدى النساء - وربما ترجع إلى الكمة السابقة (Gism) ولم تكن تعني فقط الحيوية إنما الفحولة أيضًا؛ مما أدى إلى استخدمها كلمة دارجة للمني. حدث تطور مماثل لكلمة (Jazz) أدى إلى استخدامها للتعبير عن فعل الجنس لم يحدث هذا التطور قبل سنة ١٩١٨. وقد تكون مشتقة من لغة أفريقية قديمة من كلمة تستخدم في سياقات جنسانية. واستخدمت في القرن التاسع عشر أيضا في المناطق المحيطة بمدينة نيو يورك للتسمية العطر المميز الذي استخدمته عاملات الجنس، ويعتقد أيضا اشتقاقها من الدارجة الأيرلندية (Tyass أو Chass) وتعنيان الشاي واستخدما لاحقا للتعبير عن الحرارة والعاطفة لكن التأثيلان السابقان ضعيفان. كان. ثَقُل الصفير الناعم حول نفس الوقت – منذ قرن تقريبًا – الذي ذاعت فيه الموسيقى في الوعي القومي، هادرًا شمالاً على القوارب البخارية في الميسيسيبي وعلى خط إلينوي الرئيسي إلى شيكاغو، ثم نيويورك وكاليفورنيا، حيث اكتسب بسرعة شعبيةً، وقبولاً اجتماعيًا، واحترامًا نقديًا. لفعل ذلك وجب أن يهجر نيو أورلينز، موطنه الأصلي. وكان ذلك مفهومًا، أخذًا بالحسبان المعاملة التي تلقاها.
أخذت جريدة بيكايون تايمز Picayune Times – السجل الرسمي للمؤسسة البيضاء في المدينة – على نفسها عاتق تسجيل اشمئزازها في افتتاحية عنصرية حماسية نشرت في صيف ١٩١٨ عنوانها Jass and Jassism. كانت الموسيقى “خطيئة” مثل “الروايات الرخيصة” و”الدونت الذي يقطر شحمًا”، وهي تجل “في النزعة العابطة في ذائقة الإنسان لم تزيله بعد مغسلة الحضارة. لا بل، قد نزيد ونقول إن موسيقى الجاس هي القصة البذيئة بإيقاع مدغم ولحن كونتربانطي”. الجاس بذلك هو الجنس مجسدًا كموسيقى.
بالطبع لم تحتج إلى الإيقاع المدغم أو الكونترابانط لتستنج ذلك. صرحت بذلك كلمات بعض أشهر الأغاني مثل The Whore’s Gone Crazy و Funky Butt و The Naked Dance و Cocaine Blues التي يتذكرها جيلي رول مورتون كما يلي:
أريد فتاة تعمل في فِناء ناس بيض
فتاة جميلة تعمل في فناء ناس بيض
هل ترى الذبابة الزاحفة على الحائط
هي صاعدة هناك لتسحب رمادها
عندي امرأة تعيش خلق السجن
لقد كانت الموسيقى حرة، غير قابلة للرقابة، منتشية – سمات مناقضة للسلوك الذي يفترض بشباب نيو أورلينز الأسود أن يلتزم بها في العلن، على الأقل حسب توقعات قراء الجريدة. كانت تلك وقاحة مثيرة للقلق. كان الحل الوحيد، اختتم المحررون، هو خنق تلك الموسيقى الشابة في مهدها. ذلك الوأد سيكون “مسألة شرف مدني”، لأن “قيمتها الموسيقية معدومة، واحتمالات ضررها عظيمة.”
لوهلة، بدا أن أعداء الجاز قد انتصروا. بحلول ١٩١٨ كان جيلي رول مورتون قد انتقل إلى سان فرانسيسكو؛ وقضى بادي بولدن، الملك المؤسس لجاز نيو إورلينز، عِقدًا في مستشفى مجانين في ولاية جاكسون، على بعد مئة ميل؛ خليفته كينج أوليفر الذي عمل خادما لأسرة غنية بينما رَوَد الموسيقى الجديدة، قد هرب إلى شيكاغو، حيث لحق به كثير من زملاء فرقته السابقين؛ ومنهم تلميذه ذي الثمانية عشر عاما لويس أرمسترونج، الذي ترك المدينة في نفس السنة بصحبة أوركسترا قارب بخاري متجه إلى شمال الميسيسيبي. في السنة السابقة، جُرمت قصور الدعارة في ستوريفيل، المسرح الذي اعتمد عليه موسيقيو الجاز الأوائل، وأخلى انتشار الأنفلونزا الإسبانية حانات الهونكي تونك نوع من الحانات انتشر في جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية أواخر القرن التاسع عشر بها بار ومسرح صغير أو بيانو لعزف الموسيقى، والنوادي، وقاعات الرقص. اضطر الموسيقيون الباقين أن يعملوا في الطلاء أو الملاحة أو الأعمال اليدوية. عمل كيد أوري نجارًا، أدار قائد الفرقة باب فرانك المطاعم. ألفونسو بيكو مؤلف هاي سوسايتي كان نحّاسًا.
عاش كثير من الموسيقيين في حي قاس لدرجة أنه عرف بميدان المعركة. كانت الشوارع غير مرصوفة، مغطاة بالزجاج المكسور، والمسامير، وقشور المحار. كان الأطفال حفاة دائمًا. “لكننا كنا صغارًا، بصحة جيدة، وصلبين كالجحيم” كتب لوي أرمسترونج في مذكراته ساتشمو، “لذا فأمر تافه مثل كزاز الفك لم يستمر معنا وقتًا طويلاً.” في أحد المرات في طفولته، بينما كان يلعب في أحد المباني المهجورة المتداعية التي مثل صالات الرياضة لأطفال الحي، صرع أرمسترونج لوح أردوازي سقط عليه من السقف.
“أفقدني الوعي وصدمني بشدة لدرجة أني أصبت بكزاز الفك. حين حملوني إلى المنزل عملت الأم لوسي ومايان بدأب محموم وغلين النباتات والجذور ووضعاها على رأسي. ثم أعطياني زجاجة من ماء بلوتو مليّن وباسط عضلات معروف في ذلك الوقت، ووضعاني في السرير تحت أغطية ثقيلة طوال الليل. في الصباح التالي ذهبت إلى المدرسة كأنما شيئًا لم يكن.”
لكن في الشوارع تلك ذاتها سمع أرمسترونج، مثل كثير من موسيقيي جيله، الصوت الجديد – في مواكب الصف الثاني العائدة من المقابر؛ وفي الألحان المتنافرة التي عزفها جامعو الخردة على الأبواق الصفيحية؛ ومن العربات المزركشة التي حملت الفرق الموسيقية في الشوارع، معلنة عن نزالات ملاكمة ورقصات، وخاضت “نزالات قص” مع العربات الأخرى حين تتقابل، حتى تجبر الفرقة الخاسرة على الانسحاب في خزي. كانت نوافذ قاعات الرقص وحانات الهونكي تونك تترك مفتوحة على الشارع، لذا فحتى أطفال الشوارع الحفاة أمكنهم الاستماع. لا بل أعطي جمهور الشارع الأولوية: كان من المعتاد قبل أن تعتلي الفرقة خشبة المسرح أن يفرشوا على الرصيف ويعزفوا وصلة مجانية للمارة.
طريقة مناسبة لتتبع مكانة الموسيقى في نيو أورلينز أثناء هذه الفترة الانتقالية هي من خلال قصة رجل الفأس، رجل مجنون بدأ بتقطيع الناس إربًا حتى الموت في مارس سنة ١٩١٨. كان دافع القاتل غامضًا في البداية. معظم ضحاياه كانوا بقالين إيطاليين وزوجاتهم، ذلك بسبب أن معظم البقالين عاشوا في شقق متصلة بمحلاتهم، الأمر الذي جعل دخولها سهلاً على متربص. لكن هذا الممسوس قتل أبرياء آخرين أيضًا، وبحلول الصيف غمرت عشوائية الجرائم إلى جانب بشاعتها المدينة في حالة من الذعر. أٌلقي القبض على عشرات المتهمين – معظمهم سود – وأطلق سراحهم دون اتهام؛ نام الناس في مقاعد مواجهة لأبواب بيوتهم حاملين بنادق محشوة.
تراجعت الهستيريا فقط بظهور وباء الإنفلونزا الأسبانية، قاتل متسلسل آخر أكثر فتكًا ومهارة. حينما انحسرت موجة الأنفلونزا في ربيع ١٩١٩، عاد قاتل الفأس بكل دمويته، قاتلا بقالاً وزوجته وطفلهما الرضيع. خلال أسبوع، أرسل خطابًا إلى جريدة بيكايون تايمز، فيه اعتراف مباغت: “أنا مولع بموسيقى الجاز.”
مقسمًا “بكل الشياطين في المناطق الدنيا” أعلن القاتل أنه سيحوم حول نيو أورلينز الثلاثاء التالي ويقتل أي شخص لا يستمع للجاز . وجود رابط واضح بين جمهور الجاز والقتل المتسلسل كان مفهومًا، فالجرائم هي التبلور المنطقي للموسيقى التي وصفتها بيكايون تايمز بالـ فظاعة. لكن رد فعل المدينة على الخطاب أشّر إلى أن الموقف كانت تتغير. في أمسية الثلاثاء تلك، لم يكن هناك خوف، فقط نشوة. أمكن سماع موسيقى الجاز في كل أنحاء المدينة، ليس فقط في “ميدان المعركة” لكن في مقاطعة جاردن ومن قصور المليونيرية على جادة سان تشارل. وفعلًا، كما قال، أعفى القاتل الكل من فأسه.
قرب نهاية حياته كان لوي أرمسترونج يحب أن يقول إن الجاز أذاب الحدود العنصرية – أنه، على الأقل لمدة أغنية واحدة، حتى البيض المتعصبين تم إغواؤهم بعيدًا عن كراهيتهم. “قد تذهب نفس تلك المجموعة من الناس إلى الشارع المجاور وتشنق زنجيًا” قال لمجلة أبوني سنة ١٩٦١. “لكن بينما هم يستمعون إلى موسيقانا، لا يفكرون في المشاكل.” لكنها كانت المشاكل ما أعطت هذه الموسيقى حياتها. حينما تفقد الموسيقى خطرها، تخضع للنوستالجيا، التقليد، والافتتان، هي مَلكات سطوة تذوي. سيتطلب الأمر أجيال لاحقة لإعادة إحياء هذا الشكل، لفترة على الأقل، وجعله خطرًا مرة أخرى. حتى أن مايلز ديفيز أخاف نفسه؛ إذ كتب في مذكراته عن لما عزف مع جون كولترين ﻷول مرة: “يا رجل، ما كنا نعزفه في فترة وجيزة كان مخيفًا، مخيفًا لدرجة أني كنت أقرص نفسي ﻷتأكد من أنني كنت هناك بالفعل.” لقد فهم ما فهمه كل الفنانين العظماء – بمن فيهم القاتل ذو الفأس نفسه، فنان جرائم القتل المتسلسلة – وهي أن أي شيء جديد، على حد قول جيلي رول مورتن، يلقي بخوف في القلب.