.
في الذكرى السابعة لوفاة نجيب محفوظ، تنشر معازف هذا الفصل من كتاب “نجيب محفوظ: صفحات من مذكّراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته” من تأليف رجاء النقّاش.
ما هى أغرب هواية كان يمارسها الشيخ زكريا أحمد مع صديقه سيد درويش؟ ولماذا شعر نجيب محفوظ بصدمة عندما قابل بيرم التونسي لأول مرة؟ وما رأي نجيب محفوظ فى الأغاني الشبابية؟ ولماذا امتنع عن حضور حفلات أم كلثوم فى حديقة الأزبكية؟ وما قصة المطرب الكفيف الذي اعتبره نجيب محفوظ صاحب أقوى حنجرة عرفتها مصر؟ وما قصة عميد معهد الموسيقى العربية صاحب “الشخير العجيب“؟ وهل استغل صديقه عبد الحليم نويرة صلة نسبه بالرئيس السادات؟ الإجابات عن هذه الأسئلة كلها تعرفها من خلال هذا الفصل الذي يتحدث فيه نجيب محفوظ عن ذكرياته مع الفنانين اللذين التقى بهم خلال مشواره.
الشيخ زكريا أحمد من أظرف الشخصيات التي قابلتها في حياتي . فهو على المستوى الإنساني ابن بلد لطيف “حبوب” و “ابن نكتة“. بالإضافة إلى صفة ظريفة كانت تجمع بينه وبين صديقه توفيق الحكيم. فكلاهما إذا جلس فى مجلس فإنه يظل ممسكا بناصية الكلام منذ حضوره وحتى نهاية الجلسة. والفارق الوحيد بينهما أن “الحكيم” يتحدث عن نفسه فقط، وعن ذكريات مر بها أو حوادث وقعت له. أما “الشيخ زكريا” فأنه يقوم بدور الراوى، ويتحدث ربما طوال الليل دون أن يذكر كلمه عن نفسه، حتى يبدو للسامعين أنه مؤلف “ألف ليلة وليلة” والشيخ زكريا أحمد هما من نسيج واحد وتجمعهما نفس العقلية. كانت حكايات الشيخ زكريا لا تنتهى، حكاية تجرك إلى حكاية أخرى فى تسلسل عجيب وترابط مذهل، وقد يبدأ في سرد حكايته الأولى في “التاسعة مساء” ويعود إلى نقطة معينة من نفس الحكاية فى “الثالثة صباحا“. و ما بينهما عبارة عن استدراك وملاحظات وتنويعات.
وكان من الأسباب التى تجعل أصدقاء الشيخ زكريا أحمد يتحملون سطوه وسيطرته على الجلسة، إلى جانب حبهم له، أنه يمثل الحكايات التى يرويها بخفة دم لا مثيل لها، وكل من يحضر مجلسه لم يكن يتمالك نفسه من الضحك وهو ينظر للشيخ زكريا أثناء تمثيل حكاياته. وربما تكون الحكاية بسيطة وسطحية ولا معنى لها من نوع أن جارة له مرت به وقالت له “صباح الخير يا زكريا يا ابنى“. فيقلد صوت السيدة، وطريقة سيرها وحركاتها، ورد فعله على “صباح الخير” هذه بشكل “كاريكاتيرى” ساخر ومثير للضحك الشديد.
وكثيراً ما كنا نتفاجأ به وهو يسرد الحكاية مندمجاً ومنفعلاً وفي منتهى التركيز، فإذا به يترك حكايته بدون مقدمات ويمسك عوده ويغنى، وكنا نحب هذا أيضا، فصوت الشيخ زكريا أحمد يتميز بقوة ورخامة لا نظير لهما، وقد يترك العود و يعود لحكايته من النقطة التى توقف عندها!
تعود معرفتي بالشيخ زكريا أحمد إلى صديق مشترك هو “صلاح زيان“، وهو من الأعيان. كان “صلاح زيان” من سكان العباسية، وقد تعود على إقامة سهرة يومية في منزله يحضرها الشيخ زكريا أحمد. وكنت أسأل نفسى متى يعمل الشيخ زكريا ويتم ألحانه وهو يداوم على تلك السهرات اليومية؟ واكتشفت أن لديه القدرة على أن يلحن فى أى وقت. وأذكر أنه لحن أغنية “حبيبي يسعد اوقاته” لأم كلثوم وهو يجلس معنا. وفي مرات عديدة كان يضع لحنين مختلفين لأغنية واحدة ويعرضها علينا لنختار الأفضل.
عندما كان الشيخ زكريا يتحدث لا تشعر أبدا في كلامه بأى محاولة من جانبه لاستخدام مصطلحات فكرية أو ثقافية، ولكنك تشعر أنك أمام رجل شعبي وابن بلد، رأسه ملئ بالموسيقى. أما شخصيته فكانت فى غاية الطيبة والإحساس بالمودة الدافئة نحو الناس، وما كنت أظن أنه يمتلك كل هذا القدر من الكبرياء الذى جعله يختلف مع أم كلثوم.
كانت أم كلثوم تدفع للشيخ زكريا أحمد أجرا مماثلاً لما تدفعه لبقية الملحنين الذين يتعاملون معها، في حين أنه كان يشعر بالتفوق وبأن ألحانه متميزة عن ألحانهم. ولقد عاصرت فترة خلافه مع أم كلثوم عن قرب. وكان يعتبرها مسألة كرامة.
لم يكن الشيخ زكريا يحب القراءة، وربما كانت “زقاق المدق” هي روايتى الوحيدة التى قرأها، وأبدى أعجاباً بها للدرجة التي جعلته يعيد صياغتها ويحكيها أمامنا كأنه المؤلف، بطريقته المثيرة لضحكنا وضحكه هو أيضا. ولا أعرف من أين جاء الشيخ زكريا بالوقت الكافي لقراءة “زقاق المدق“. فقد كان يسهر يوميا حتى الصباح، وينشغل دائما بألحانه وأعماله الجديدة والكثيرة جداً التي لا يجد لها الوقت الكافى. لدرجة أنه – كما قلت – كان يلحن وهو يجلس بيننا. ويذكرنى الشيخ زكريا بما سمعته عن أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي كان يستقل الترام أحيانا ويأتيه الإلهام فيخرج علبه سجائره ويكتب قصيدة عليها. وكان الشيخ زكريا ينقطع عن سهرتنا أحيانا، وذلك عندما يرتبط بألحان عاجلة في إحدى تمثليات الإذاعة المصرية.
كان الشيخ زكريا يحب سيد درويش إلى درجة العبادة، وكان يتكلم عنه بانفعال شديد، ولا يمل أبدا من الحديث عن أيام صعلكة مشتركة بينهما، وأنه كثيرا ما كان يصطحب الشيخ سيد درويش فى جولة منتصف الليل فى حوارى القاهرة الشعبية المظلمة، ثم يختاران نوافذ منخفضة ومساوية لسطح الأرض، ويجلسان القرفصاء بجوار هذه النوافذ، ويتصادف أن يكون صاحب البيت فى حالة خاصة جدا مع زوجته، فيسمعان الأصوات الصادرة عن ذلك الوضع فى سعادة، وربما تلهمهما تلك الأصوات الليلية نغمة موسيقية جديدة.
ويبدو أن الشيخ سيد درويش كان مثل الشيخ زكريا أحمد يميل إلى حياة الصعلكة والتحرر الكامل من القيود، وجاء موت سيد درويش المفاجئ صدمة للشيخ زكريا. وطبقاً لروايته التي قصها علينا، فإن سيد درويش كان يجهز لحنا جديداً لاستقبال الزعيم سعد زغلول. وحجز لنفسه غرفة فى أحد الفنادق القديمة بالاسكندرية حتى ينتهي من اللحن سريعاً، وحدث أن تناول جرعة زائدة من المخدر، ولأنه بمفرده في حجرته أخذ ينزف حتى مات، وأظن أن الرواية صحيحة، لأن سيد درويش كان قوي البنيان وفى عز الشباب، ومن ثم لا بد أنه ارتكب غلطة من هذا النوع أودت بحياته، وهو نفس ما حدث لموسيقى آخر كنت أحبه، وهو الشيخ محمود صبح. ورغم أن محمود صبح كان ضريراً، فإنه كان يهوى “الملاكمة” و “رفع الأثقال” و “ركوب الدراجات“، وكان يتمتع بصحة جيدة. ويبدو أنه أخذ كمية زائدة من المخدرات سببت له هبوطا حادا فى الدورة الدموية فمات. وكما قال لي ذات مرة صديقي الدكتور أدهم رجب، إن هناك خطا أحمر فى تعاطى المخدرات، وأى تجاوز له يكلف صاحبه حياته كلها.
جلست إلى الشيخ محمود صبح أكثر من مرة وكنت أجده شخصية ممتعة، ومتحدثاً لبقاً، وعاشقاً للنكتة، وللشيخ محمود صبح صوت رهيب لم تر الحنجرة المصرية مثله. وأطرف ما فى حياته تلك المشاجرات على الهواء والتي كان يمارسها فى محطات الإذاعة الأهلية، وأذكر مشاجرة له مع مدحت عاصم على الهواء، حيث دخل الشيخ صبح الأستوديو وغنى لبعض دقائق ثم سكت فجأة ليقول: “اسمع الأغنية القادمة يا مدحت عاصم يا أعمى“! ثم واصل الغناء. والطرافة هنا أن الشيخ محمود صبح هو الذى كان ضريرا وليس مدحت عاصم، والشيخ “صبح” مثله مثل الشيخ “زكريا” وكل الملحنين في ذلك العصر، لم يدرس الموسيقى فى مدرسة أو معهد، إنما تعلمها مباشرة على يد أستاذ فى الموسيقى الشرقية، وهو نوع من التعليم أشبه بطريقة دراسة الأدب العربي قديما، حيث كان طالب العلم يذهب إلى أستاذ معروف يدرس على يديه ويتعلم منه ويلازمه فترة طويلة حتى يأخذ منه العلم. وكان الشيخ صبح صاحب موهبة عظيمة وله شخصية جبارة، ولكن المخدرات أضاعته كما أضاعت سيد درويش.
عن طريق الشيخ زكريا أحمد تعرفت على الشاعر والساخر الكبير “بيرم التونسى“، وكان اللقاء الأول بيننا فى سهرة “صلاح زيان“. وكنت أظن أن الجلسة سوف تنقلب إلى المزيد من الفكاهة والضحك فى وجود بيرم التونسى. ولكننى فوجئت بشخص مختلف تماماً عن تلك الصورة الي رسمتها له في ذهني. جلس بيرم في ركن بعيد عنا ولم يفتح فمه طوال الجلسة. وفي المرات القليلة التي تحدث فيها كانت كلماته مقتضبة مليئة بالأسى والمرارة. ويبدو أن مرد ذلك للمآسي التي مر بها في حياته ومعاناته وعذاباته.
توطدت صلتي ببيرم التونسي إلى حد ما بعد أن عملنا معا في كتابة سيناريوهات بعض الأعمال السينمائية مثل فيلم “ريا وسكينا“، حيث شارك بيرم في كتابة الحوار والأغاني. وعلى الرغم من ندرة اللقاءات بيننا والفترة القصيرة التي جمعتنا معا في العمل، فإن بيرم كان متابع لأعمالي كأديب أكثر مما تابعني الشيخ زكريا في عملي الأدبي.
من أبرز ما يميز الشيخ زكريا كموسيقى ألحانه الشرقية الأصلية، ومع ذلك لم يكن له موقف معاد من الموسيقى الغربية، ولم أسمعه يوماً يهاجمها، بل كان يرى فيها فناً جميلاً، ولكنه كان يرى أن مذاقها مختلف تماما عن موسيقانا. وفي رأيي الخاص أن الانفتاح على الثقافة الغربية لا يعني بالضرورة إضاعة أصالتنا وتراثنا. ولذلك فإنني أختلف مع الذين زعموا أن محمد عبد الوهاب أفسد الموسيقى الشرقية، بإدخاله للآلات الغربية وبتأثره بالموسيقى الغربية، وأرى أن عبدالوهاب أغنى موسيقانا وأثرها وطورها من خلال هذا التأثر بالغرب، وقد مزج بين اللونين الشرقي والغربي ببراعة، وجعل منهما نسيجاً واحدا متناغماً. وهذا هو سر عبقرية عبد الوهاب، لأن المزاج يحتاج إلى حس وذكاء غير عاديين. أما الآخرين الذين حاولوا مزج الموسيقى الشرقية بالغربية، فأشعر في ألحانهم بالتناقض بين هذين اللونين وبالافتعال في التراكيب الموسيقية.
وفي اعتقادي أن سيد درويش لو امتد به العمر لفعل ما فعله محمد عبد الوهاب وسار في نفس الطريق، خاصة أنه كان ينوي السفر لدراسة فن الأوبرا في أوروبا. ومن المعروف أن سيد درويش كان ثائراً على الموسيقى التقليدية السائدة في أوائل هذا القرن، ولدية رؤية عصرية متطورة، ويميل إلى أسلوب الأغاني الجماعية والاستعراضية، كما وجد نفسه في “الأوبريت” المسرحي.
واستمرت علاقتي بالشيخ زكريا أحمد من بداية الحرب العالمية الثانية وحتى وفاتة عام ١٩٦٢. ولقد تأثرت بشخصيته في قصة قصيرة بعنوان “الزعبلاوي“.
تعلقت بالغناء منذ الطفولة، وفي بيتنا وجدت عدداً كبيراً من الاسطوانات لكبار مطربي ذلك الزمان. وفي بيتنا أيضا أقيمت حفلات غنائية في المناسبات السعيدة. وكانت هذة الحفلات تجمع بين لونين من الغناء: “العوالم” في مكان خاص بالسيدات، والمطربين في مكان خاص بالرجال. وبما أنني كنت طفلاً فقد تنقلت بين المكانين واستمعت إلى اللونين في تلك الحفلات. وصل حبي للغناء درجة العشق، وحفظت ذاكرتي الكثير من الأغنيات كنت أرددها مع نفسي أو بين الأصدقاء وفي الرحلات. وكنت أشعر بمتعة بالغة عندما يصطحبني والدي إلى مسارح روض الفرج، وكانت “روض الفرج” هي مصيف أهل القاهرة في شهور الصيف آنذاك. كانت الفرق المسرحية في “روض الفرج” تقلد فرق شارع عماد الدين الشهيرة، فتجد من يقلد “على الكسار” أو “نجيب الريحاني” أو يعرض “أوبريت” لسيد درويش. ومن خلال مسارح روض الفرج شاهدت كثيرا من العروض المسرحية الشهيرة التي لم تتح لي الفرصة لمشاهدتها عند أصحابها الأصليين في مسارح عماد الدين.
وعندما بدأت الإذاعة المصرية عام ١٩٣٤ أخذت مسارح روض الفرج في التلاشي. فقد قدمت الإذاعة الأوبرا والأوبريتات القديمة فاكتفى الناس بسماعها في الراديو. وأذكر يوما أنني أجلس في غرفتي منهمكا في الكتابة، وفجأة سمعت في الراديو مشهداً من إحدى المسرحيات التى شاهدتها في “روض الفرج” فقفزت من مكاني وألصقت أذني بالراديو، واكتشفت أن المسرحية من أعمال سيد درويش، وكنت أحفظها وأرددها دون أن أعرف أسم المؤلف. وكثير من الأعمال التى شاهدتها في روض الفرج كنت أحفظها وأرددها دون أن أعرف مؤلفها الأصلي.
وإذا كنت لم أحضر حفلات مطربي الجيل القديم مثل “صالح عبد الحي” و “عبد اللطيف البنا” وغيرهما إلا أنني عرفتهم جيداً، وحفظت أغانيهم من خلال الأسطوانات. وعندما ظهر “عبد الوهاب” و “أم كلثوم” تعلقت بهما وتابعتهما في شغف. ولقد ظهرت أصوات أخرى مواكبة لهما زمنياً إلا أنها لا تقارن بهما. ثم ظهر نوع آخر من المطربين الذين يقلدون الفرق الغربية وروجوا للأغاني المسماة “الفرانكو آراب” ورغم أنني اعتبرتها خارجة عن الموضوع وعن الغناء والطرب الشرقي، فإنني وجدت فيها بعض الملاحة وكنت أتابعها.
ثم جاءت الموجة الحالية من الأغاني “الشبابية” وأحيانا أستمع إليها وأنا راكب السيارة مع ابنتي، ولكنني لا أستطيع التمييز بين أصوات أصحابها، ودائما ما أخطئ في أسمائهم، لأن الأنغام متقاربة والأصوات متقاربة، واستمعت منهم إلى أغنيات لطيفة، ولكني لم أجد فارقاً يذكر بين حنجرة وأخرى، كما لم أجد من بينها صوتاً له شخصية خاصة. والمطرب الوحيد الذي استطاع الحفاظ على تميزه وسط هذا الطوفان الغنائي منذ وفاة عبد الحليم حافظ وحتى الآن هو “أحمد عدوية“. و “عدوية ” في رأيي صاحب صوت قوي مؤثر، وله أسلوبه الشعبي المميّز، وأغانيه “الكاريكاتيرية الظريفة” لا يجاريه فيها أحد.
قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت هناك أصوات ممتازة، لكنها كانت بالنسبة لي ثانوية إلى جوار عبد الوهاب وأم كلثوم. كانت هناك “أسمهان” بصوتها القوي المعبّر الذي لا تستطيع أن تجد فيه عيباً واحداً، ومع ذلك لم أتعاطف مع هذا الصوت، بالضبط كما تلتقي بشخص جميل ولا تميل نفسك إليه رغم جماله، وكان إحساسي بصوت شقيقها “فريد الأطرش” هو نفس الإحساس، فهو يمثل نوعاً من الجمال لا تميل إليه نفسي، هذا على الرغم من إعجابي بالغناء الجبلي الشامي، وخاصة أصوات “صباح فخري” و“وديع الصافي” ومن قبلهما “فيروز“. فصوت فيروز يسحرني ويترك في نفسي تأثيراً عميقاً.
وقد بلغ من حبي للموسيقى والغناء أنني التحقت بمعهد الموسيقى العربية ودرست فيه لمدة عام كامل. ويبدو لي الآن أنني لو كنت وجدت توجيهاً سليماً من أحد لتغير مسار حياتي واخترت طريق الموسيقى وليس الأدب. أنا لم أفكر يوماً في أن أصبح فنانا تشكيلياً رغم حبي للفن التشكيلي، ولكن كان ممكناً أن أحترف “الموسيقى” من شدة افتتاني بها، ولكن – على أي حال – فقد كان للقدر تصاريف أخرى.
كان التحاقي بمعهد الموسيقى العربية ١٩٣٣، وكنت وقتذاك طالباً بالسنة الثالثة في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن). وكانت النظم الجامعية المعمول بها تسمح لمن هم في السنة الثالثة بأداء امتحان الليسانس مباشرة، وبذلك لا أكون ملزماً بأداء امتحانات السنة الثالثة. فانتهزت الفرصة وقررت دراسة الموسيقى، والتحقت بالمعهد لمدة عام حصلت في نهايته على أعلى الدرجات. ولكنني لم أواصل الدراسة في العالم التالي، فقد كان على الاستعداد لامتحان الليسانس في كلية الآداب. و إلى وقتنا هذا ما زلت أحفظ أدوار من تلك التي درستها في معهد الموسيقى العربية، ومازلت أحفظ من دور “السماعي الدراج” أجزاء “بالصولفيج“، وذلك لأني كنت أعزف آلة القانون، وعزفت خمس “بشارف “. ولكنني نسيتها الآن.
وكان أستاذي في آلة القانون حفيداً للعقاد الكبير عازف آلة القانون في فرقة أم كلثوم الأولى، وابن العقاد بك مدير المعهد. و“للعقاد بك” حادثة معي لا أنساها. حيث كان لديه عيب في حنجرتة يجعل صوتة أشبة “بالشخير” أحياناً، وفي أول مرة أذهب فيها إلى المعهد طلبوا منى مقابلة المدير، فدخلت مكتبه، وطلبت الالتحاق بالمعهد. فجعلني أجلس أمامه وأبدى ملاحظة عن تقدمي في السن قليلًا بالنسبة لمبتدئ في الموسيقى. وأبلغته أنني طالب في الجامعة، فوافق على انتسابي للمعهد، وسألني عما إذا كنت اخترت آلة موسيقية معينة لكي أدرسها. فقلت له إذا كانت دراسة الآلة الموسيقية إجبارية فإنني أختار آلة القانون. ففوجئت به يصدر هذا الصوت الذي هو أشبه بالشخير فاعتقدت أنه يعبّر به عن رفضه لي أو احتجاجه على اختياري لآلة القانون، فتألمت واحمر وجهي خجلاً ولكني التزمت الصمت. إلا انه قدم لي استمارة بيانات لأملأها، وأثناء تدويني للبيانات المطلوبة تكرر منه هذا الصوت الغريب وهو صوت “الشخير” أكثر من مرة، ففهمت أن ذلك صادر عن عيب في الحنجرة وليس في أي قصد، ولم يكن أحد قد نبهني إليه قبل أن ألتقي به.
كما حكي لي المرحوم الموسيقار عبد الحليم نويرة حكاية طريفة عن هذا الرجل. ففي افتتاح معهد الموسيقى صمم “العقّاد بك” على أن يشارك الأوركسترا التي ستقوم بعزف السلام الملكي في الحفل الذي سيحضره الملك فؤاد. وحاول كثيرون إثناءه عن عزمه وشرحوا له إمكانية أن تفاجئه عادتة الغريبة وهي الشخير أمام الملك، لأن الصالة ستكون هادئة وإذا خرج هذا الصوت فلابد أن يسمعه الملك، ولابد أن يعتبر ذلك إهانة شخصية له فيغلق المعهد قبل أن يفتتحه. ولكن الرجل صمم على موقفه ووعدهم بألا يتنفس، وبأنه سوف يسيطر على نفسه ويتحكم في صوته إلى أن تنتهي الحفلة. وبالفعل صدق فيما وعد طوال الحفلة التى ما إن انتهت حتى اختبأ خلف الستار وفعلها وكأنه كان مكتوماً.
أما العقاد الكبير، وهو والد “العقاد بك“، فكان أعظم عازف قانون في عصره، ومن الأعضاء البارزين في فرقة أم كلثوم الأولى . ولقد استمعت إلى عزفه في حفلات أم كلثوم في مسرح “الماجستيك“، الذي تحول بعد ذلك إلى عمارة ضخمة في أول شارع عماد الدين من ناحية شارع فؤاد. كانت هذه الحفلات في العشرينات، وواظبت على حضورها منذ أن كنت طالباً في الصف الأول الثانوي وحتى التحاقي بالجامعة . بعدها انتقلت أم كلثوم بحفلاتها إلى حديقة “الأزبكية“.
في حفلات “الماجستيك” كانت أم كلثوم تبدأ بــ “مونولوج“، أي أغنية فردية، وكل أغانيها الفردية كانوا يسمونها “المونولوج“، ثم تغني قصيدة، ثم تختتم حفلتها بــ “طقطوقة“، أي أغنية خفيفة من نوعية “حود من هنا“. وأحياناً تستبدل بالمونولوج دوراً من أدوارها القديمة. و“الدور” يتميز بوجود “كورال” يرد وراء المطرب. وكان لمحمد عبد الوهاب في بداياته أدوار يستعين فيها “بالكورال” وعندما ظهر “الراديو” كنت أفضّل الاستماع إلى حفلات أم كلثوم في راديو المقهى. خاصة أن أسعار تذاكر الدخول أخذت ترتفع بمرور الوقت، بل تحوّل أمر الحصول على تذكرة لإحدى حفلاتها إلى أمر شاق. وكان آخر حفلة حضرتها لأم كلثوم في مسرح “الماجستيك“، ورافقني فيها مثل كل الحفلات صديقي ابراهيم فهمي دعبس، وهو ضابط مهندس تولى فيما بعد رئاسة شركة كبرى وأظنه مازال حيا يرزق.
ومع حبي لأم كلثوم لم أعرفها معرفة شخصية ولم أتحدث إليها مباشرة إلا مرة واحدة فقط، وذلك في الحفلة التي أقامتها جريدة الأهرام لتكريمي بمناسبة بلوغي الخمسين سنة 1961. حيث اتصل بها الأستاذ محمد حسنين هيكل وعرض عليها حضور الحفلة فوافقت بدون تردد وكانت مفاجأة لي، لأنني لم أتوقع أن يكون لها اهتمامات بالقصة والرواية، وكنت أسمع الكثير عن ثقافتها واهتمامها بالشعر. ولم أتخيل أن توافق بهذة السهولة على المشاركة في احتفال أدبي خالص. وكانت هذة هي المرة الوحيدة التى ألتقي فيها مباشرة بالسيدة “أم كلثوم” ويدور بيننا حوار. وكذلك لم أقابل محمد عبد الوهاب سوى مرتين، وكانت المرتان في منزل الدكتور مصطفى محمود، ولم أتمكن من التعرف على شخصيته عن قرب نظراً لوجود عدد كبير من الضيوف، وأذكر منهم محمود السعدني، الذي سيطر كعادته على الجلسة بخفة ظله وحديثة المتصل، ومن خلال ما سمعته عن محمد عبد الوهاب تأكد لي أنه من نفس فصيلة الشيخ زكريا أحمد: عاشق الكلام، خفيف الظل.
في بداية عصر أم كلثوم كانت توجد مطربة أعتبرها من أجمل الأصوات النسائية التى عرفتها مصر، وهي منيرة المهدية فصوتها من نفس طبقة أم كلثوم أو أقل درجة. وقد شاهدت منيرة المهدية واستمعت إليها مرتين، الأولى في مسرح رمسيس في أحد العروض المسرحية مع يوسف بك وهبي. والثانية في إحدى حفلاتها العامة وكان معي صديقي إبراهيم فهمي دعبس. واكتشفنا أننا الشابان الوحيدان بين جمهور حفلة “منيرة المهدية“، أما باقي الحاضرين فقد كانوا من كبار السن، مما أدهش صديقي إبراهيم فسألني: ما الذي جعلك تأتي بنا وسط هؤلاء العجائز؟. وعندما غنت منيرة المهدية ظهر عليها التأثر بتقدم العمر، فكانت تغني قليلا وتسعل قليلاً، إلى أن أتمت الحفل، وأعلنت بعده اعتزالها الغناء. فكان لي شرف حضور آخر حفلة من حفلات “منيرة المهدية” التي حملت لها في قلبي إعزازاً بالغاً.
وقد أسست “منيرة المهدية” مجدها على خشبة المسرح، وعندما كان المسرح في أوج ازدهاره وعظمته. ويعود الفضل في شهرة عبد الوهاب الأولى إلى “منيرة المهدية“، فبعد الموت المفاجئ لسيد درويش دون أن يتم ألحان مسرحية “كيلوباترا” أسندت منيرة إلى عبد الوهاب مهمة إكمال الألحان، كما أسندت إليه القيام بدور البطولة “الرجالية” أمامها، وكان عبد الوهاب لا يزال شابا صغيرا في سن أبنائها. وكانت هذة الفرصة نقطة فاصلة في حياة محمد عبد الوهاب دفعته كثيراً إلى الأمام، ووفرت علية سنوات من المعاناة.
ربطتني صداقة بالموسيقار المرحوم عبد الحليم نويرة، وكانت أسرته تسكن بجوارنا في العباسية، وشقيقه فؤاد نويرة الذي أصبح طبيبا بعد ذلك، كان يلعب معنا كرة القدم رغم أنه أصغر منا بحوالي خمس سنوات. درس عبد الحليم نويرة الموسيقى الشرقية وتتلمذ على يد أستاذ إيطالي. واشترك في وضع ألحان كثيرة من الأعمال السينمائية الغنائية. وكانت له أمنية حاول تحقيقها قبل وفاته ولم يتمكن، وهي تحويل روايتي “رادوبيس” إلى أوبريت موسيقي. وقد عرض نويرة هذه الرواية على عدد من الشعراء الكبار مثل أحمد رامي لتحويلها إلى أشعار يسهل تلحينها، ولكنهم رفضوا، لأن اسمي لم يكن معروفا في ذلك الوقت (سنة 1943). وقد جاءني بعد فوزي بجائزة نوبل في الأدب عام موسيقار هاو من كندا، وطلب موافقتي على تحويل رواية” اللص والكلاب” التي قرأها مترجمة في الإنجليزية، إلى عمل أوبرالي شبية بأوبرا “عايدة“. تعجبت وتذكرت “نويرة” وقلت للشاب الكندي أن “رادوبيس” تصلح أكثر لهذا الغرض، وربما تجد فيها أجواء موسيقية أكثر من “اللص والكلاب” لأن “رادوبيس” تتصل بتاريخ الفراعنة المعروف والمحبوب في العالم كله، ولكنه صمم على موقفه، مؤكداً لي أنه وجد في رواية “اللص والكلاب” جواً موسيقياً درامياً يبحث عنه. وقال لي أنه استمع إلى الكثير من الأغاني الدينية التى تناسب الشخصية “على الجندي” وهي شخصية الشيخ المتصوف الموجودة في الرواية. ولما رأيت تصميمه أعطيته توقيعي بالتنازل عن الرواية ليقوم بهذة التجربة الغريبة، فكانت لا توصف. وقال لي إنه ظن بعد فوزي بجائزة نوبل أن التعامل معي سيكون أمرا صعباً، وأنه ما كان يتصور أن أوافق على طلبه بهذه السهولة. وأرسل لي خطاباً بعد سفره يخبرني فيه بأنه انتهى من الجزء الأول من العمل الأوبرالي حيث حوّل الرواية إلى أشعار ومناظر. ثم انقطعت أخباره عني.
أعود إلى عبد الحليم نويرة لأروي قصة طريفة عنه. ففي أحد الأيام زارني شقيقه “مختار” وقص على بعض الأخبار. ومن بين أخباره تلك أن عبد الحليم تزوج، فسألته من هي الزوجة؟ فقال بالحرف الواحد: “تزوج أخت الضابط أنور السادات الذي كان متهما في قضية أمين عثمان“. وكان ردي أن دعوت لهما بالتوفيق، وقلت لشقيقة “مختار“: أن الزوجة ليس لها ذنب ولم ترتكب جريمة. كان ذلك قبل ثورة يوليو 1952 قبل أن يلمع اسم السادات. وأنا أختلف مع الذين زعموا أن نويرة استغل صلة النسب بينه وبين الرئيس السادات. وصحيح أن بعض الذين يحتلون المناصب العليا في مصر يصلون إلى مناصبهم عن طريق “الواسطة” ولكن بالتأكيد توجد نسبة من بين هؤلاء تستحق المناصب لكفائتها وجهدها وموهبتها الخاصة بها و عبد الحليم نويرة من هذه النسبة، فهو لم يأخذ إلا ما يستحق، بل وأقل مما يستحق، ويكفي أن “نويرة” من خلال الفرقة الموسيقية التى كونها أعاد تراثاً موسيقياً لا تعرفه الأجيال الحالية مثل أعمال داوود حسني ومحمد عثمان وغيرهما.
وفي سنوات الشباب دخلت في معارك مع أعداء الموسيقى الشرقية وضد المتحمسين إلى أقصى حد للموسيقى الغربية مثل الدكتور حسين فوزي، والذين كانوا يرون أن أفضل مكان لموسيقانا الشرقية هو “صندوق القمامة“. كان عندي – ولا يزال – اعتقاد كامل بأن الموسيقى الشرقية فن عظيم، والواقع أن عبد الحليم نويرة له أياد بيضاء على هذه الموسيقى الشرقية، وقد أحدث فيها نهضة رائعة من خلال إعادة التراث القديم.
ومن أمتع البرامج الإذاعية التي كانت تشدني إليها، تلك البرامج التى كانت تقدم الأعمال القديمة، خاصة ألحان سيد درويش ومحمد عثمان وداوود حسني. وعن طريق عبد الحليم نويرة تعرفت على “عزيز عثمان” الذي كانت له شخصية ظريفة ومرحة للغاية انعكست على ألحانه وأغانيه مثل أغنيته الشهيرة “بطلوا دة واسمعوا دة” من فيلم “لعبة الست” وكذلك مشاركته في أوبريت “اللي يقدر على قلبي” من فيلم “عنبر“، والذي غنى فيه “مربوط على الدرجة الثامنة” حيث تميز بأدائه الخاص والجميل. وعزيز عثمان هو ابن محمد عثمان الذي يعتبر ” قاموس” الألحان المصرية. وكان المنافس الأول لمطرب يقال عنه “صاحب أجمل صوت عرفته مصر” وهو عبده الحامولي الذي انفرد بالساحة الغنائية بعد إصابة محمد عثمان في حنجرته أو إصابته بمرض الزهرى، لا أعرف على وجه الدقة. المهم أن جهد محمد عثمان بعد المرض انحصر في التلحين، وهو في هذا المجال يتفوق على الحامولي بعشرة أضعاف. فألحانه تميّزت بالأصالة والطرب الشرقي الجميل. أما الحامولي فقد اعتمد على جمال صوته لا جمال ألحانه، وإذا ما غنى “ريان يا فجل” فهو قادر على جذب الجمهور حتى الصباح.
لم أحضر حفلات الحامولي أو محمد عثمان، فقد ماتا قبل أن أولد. فالحامولي، مات سنة 1901، ومحمد عثمان سنة 1900، ولكنني استمتعت إلى أعمالهما بصوت صالج عبد الحي، وحيث كنت أستمع الى سهرته الأسبوعية في محطة الإذاعة، وكان أصدقائي يسخرون منه ويسمونه “حمار المحطة” أي محطة الإذاعة، أما أنا فكنت أحبه وأقدره وأحترم فنه وموهبته.
لم أتعصب في حياتي للون من ألوان الغناء. وفي الغالب تجد أن من يحب القديم فإنه لا يميل إلى الجديد، والعكس صحيح. أما أنا فأحببت القديم والجديد معاً، الشرقي والغربي، البلدي والريفي والإفرنجي. ووجدت في كل لون مزاياه و أسلوبة ونكهته، وأعطيت وقتاً للاستماع إلى كل الألوان، وهي نفس الروح التى تعاملت بها أيضا مع المذاهب الأدبية. فلم أنكر أي لون أو مذهب أدبي باستثناء مذهب واحد عجزت عن فهمه هو “اللارواية” كما سبق أن ذكرت.
شكر لكل من: أكرم الريّس، وأحمد كمال على المساهمة في استعادة النص الأصلي وإعادة طباعته.