fbpx .
الجهاد

صوت الجهاد | من النهضة إلى الدولة

مازن السيّد ۲۰۱۷/۰٤/۱۱

مقدمة لتأريخ الإنشاد الجهادي الحديث في المشرق العربي

تخيّل نفسك فتى دمشقياً لم يبلغ العشرين في أواخر ستينيات القرن الماضي. تستلهم معالمك من المنظّرين الحركيين في مسجد المرابط بحي المهاجرين. ينشأ عقلك في كنف دروس يختلط فيها الإخوانيّ بالصوفيّ بالسلفي، فهاك السباعيّ وهاك الألباني وهاك جودت سعيد، يلتقون على رغبة ثورية تفيض عملاً لاستنهاض “الحضارة الإسلامية”. وتشبّ أذناك في مثلث بين ألحان عبد الوهاب والسنباطيّ، وأساليب الإنشاد التقليدية السورية، وموسيقى البروباغاندا الوطنية من السوفيات إلى الناصرية، على وقع هزيمة النكسة.

ابتلانا التاريخ بأن نسمع اسم أبو مازن فلا نذكر إلا وجه كهل أوسلو بيّاع صفد. ولكن، لدى شريحة لا يستهان بحجمها من العرب والمسلمين، يعود اسم أبو مازن إلى ذلك الشاب الدمشقي الذي ظلّ بلا وجه في ذاكرتنا حتى مطلع الألفينيات، إلى الذي نستطيع القول فيه دون غلوّ، إنه اخترع النشيد الإسلامي الحديث.

الفكرة المؤسسة

لم يبتكر رضوان عنان مبدأ النشيد الإسلامي في المطلق. لكنه ابتدع تركيبة موسيقية محدّدة، لتحمل مجموعة مركّزة ايديولوجياً من قصائد أعلام ما كان يسمى بـ النهضة الإسلامية. فلنتبيّن إذاً الملامح الفكرية النصّية للذي أحدثه أبو مازن، فنستكشف طبائع صناعته الموسيقية وأسباب امتيازها. ما كان يحرّك أبو مازن إلى الإنتاج الموسيقي هو التعبئة، هكذا يقول في مقابلات صحافية قليلة أجراها في الألفينيات. كان الفتى ممتلئاً بالنشأة العقائدية التي تلقاها في مسجد المرابط وحوله، فعلى أي إسلام تربّى؟

بينما كانت الوجهة الإخوانية لأمثال مصطفى السباعي –المؤسس الفعلي لـ إخوان سوريا، شارك في حرب ١٩٤٨ في فلسطين- تحضّ على النشاط السياسي التنظيمي وتبقي على مرونة في التعامل مع ظواهر الحداثة، كانت وجهة ناصر الدين الألباني مقتضبة في السياسة مسهبة في علم الحديث والشؤون الفقهية، وهي بذلك بحت سلفية تنهى عن كلّ ما تراه بدعة وتزدري كلّ ما تراه يشابه الحداثة الغربية.

في المقابل، كان حمَلة الوجهة الفلسفية العقلية لـ “النهضة الإسلامية”، أمثال داعية اللا-عنف الجولاني جودت سعيد، يجعلون أعلى أولوياتهم في البناء الحضاري مستهدفين قيم العمل و”إعداد النفوس”. هؤلاء كانوا في واقع الأمر منفتحين على الأفكار الماركسية والانتي-كولونيالية والتحررية العالمية، وعملوا على تأصيل فكر تحرّري معاصر منبثق من العقيدة الإسلامية. هكذا فإن كان السلفيون ينبذون أي تجديد والإخوان يدعون فعلياً إلى “التجديد في الإسلام” من خلال إدخال عناصر السياسة الحديثة، كان المفكر الجزائري مالك بن نبي – الذي قدّم لأحد كتب جودت سعيد يدعو فيها إلى “التجديد بالإسلام”، أي إلى استنباط قيم تحررية معاصرة من صلب العقيدة الإسلامية.

وفي هذه التركيبة التي تبدو لنا متناقضة اليوم بعد انفجار الجسد “النهضوي” الجامع، تشكّل التوتر الداخلي الذي أنشأ الجمالية الموسيقية الخاصة بأبي مازن. فأنشد شمس أمجاد الإسلام في قصائد النافذين، وأنشد قمر مأساة الإسلام في قصائد المضطهدين. هكذا لحّن أبو مازن قصائد الشاعر الهندي محمد إقبال الأب الروحي لدولة باكستان –الذي غنت له أم كلثوم قصيدة حديث الروح، ومنها الصين لنا والعرب لنا التي تريد الإسلام مشروعاً عالمياً بملامح حضارية. وغنّى أعيدوا مجدنا لحافظ إبراهيم صديق أحمد شوقي وخليل مطران. لكنه لحّن أيضاً قصيدة أخي أنت حرّ للمصري السجين سيّد قطب، وأحزان قلبي لا تزول لمروان حديد مؤسس حركة الطليعة المقاتلة، وهما شخصيتان تفرّعتا من الجذر الإخواني نحو خيار التسلّح في وجه الخصم القوميّ الحاكم، وانتهت حياتهما في المعتقل.

لكن الشاعر الأقرب إلى أبي مازن كان الداعية المصري إبراهيم عزت، بقصائد له كـ ملحمة الدعوة وأرملة الشهيد وحبيبتي بلادي. وإن كان علينا أن نصف شعر عزت فنقول إنه من الشعر الحديث أو الحرّ، لا في شكليته وتفعيلاته فحسب بل أيضاً في موضوعاته وصوره كما في ملحمة الدعوة التي ينهيها بـ:

عرفت قصة الطريق كلَّها

الموت أول المطاف

لكنّ خضرة الطَّريق لا يصيبها الجفاف

قادمٌ .. وقادمٌ .. وقادمُ

إشراقة مضيئة تجيء في الختام

تقدَّموا … تقدَّموا … تقدَّموا

فبعد لحظة من المسير

ينتهي الزحام

ينتهي الزحام

لا بديل للخلود

لا بديل للجنان

لا بديل

لا بديل غير ذلّةِ الرُّغام

لا بديل غير خدعة السَّراب

لا بديل غير وهدةِ الظَّلام

لا بديل للإقدام … غير سحقةِ الأَقدام

المعادلة الفنّية

إن كان من السهل على أبي مازن أن يجمع هذه الآداب من مشارب عديدة ليضعها في قالب تعبوي واحد، إلا أن التحدي الفنيّ كان كامناً في موقعين: التميّز عن الحالات الإنشادية القائمة للتعبير عن النزعة المستقبلية، وتلبية شروط الموافقة الشرعية التي كان أقصاها ما رآه الألبانيّ والسلفيون من حرمة المعازف. بل ذهب أبو مازن حينها إلى الموقع الذي لا يمكن لأي توجه فقهي أن يحرّمه: لا دف، لا آلات إيقاعية. طبعاً هذا لا يغيّر شيئاً في أنّ أبي مازن كان سامعاً شغوفاً للموسيقى، للملحنين النابغين في الموسيقى العربية الجديدة حينها، للأناشيد الوطنية. وفي هذا المقام بين الوسعة والمحدودية، بين القبول والمنع، بلور أبو مازن إنجازه الموسيقي وهو في الدرجة الأولى إنجاز تلحيني-توزيعي، لأن قدراته الصوتية الغنائية بدائية.

هيّأت نشأة الفتى الدمشقي ظروفاً تميزه عن سابقيه في الإنشاد، حيث أن النشيد كان قبله حلبيّ الهوى، صوفيّ الرجاء، مُطرباً. من دمشق، ومن المدرسة العقائدية التنظيمية في مسجد المرابط، جاءت رؤية أبي مازن الفنيّة مختلفة. من محدودية قدراته الصوتية ومداه الفقهي الشرعي، وإمكانياته التقنية المقتصرة على آلة تسجيل في مجلس، ونزعته الإنقلابية التي تقوده إلى رفض التطريب على أنه مرادف لـ “تخدير المسلمين”، ركّب أبو مازن معادلته التلحينية. يصبح الإلقاء المحكيّ للقصيدة على خلفية مؤثرات صوتية تصويرية بديلاً عن الموّال أو المقدمة الموسيقية، يصبح زرّ الصدى على آلة التسجيل السبعينية أداة للتنويع وجذب انتباه المستمع. نشيد الجيش الأحمر السوفياتي مصدر إلهام ايضاً – كما يؤكد المنشد في أبرز مقابلاته المكتوبة – ليضيف أصوات صيحات وصراخات المعذبين.

نغمياً مال أبو مازن إلى طيف حسّي يحاكي “العالمية” في إسلامه، عالمية ينوي أن يتصدى بها للنزعة الفولكلورية داخل الإسلام وفنونه وفكره، ويحملّها “روح العصر” الثورية المشبعة بقيم العمل وبالـ “دراما الجماعية”. هي هنا روح “فجر الأمة (والإله)”، على نفس أرضية غسق الآلهة لريتشارد فاغنير، تنفيها فتشابهها. لا نذهب بعيداً في افتراض النوايا الجمالياتية للفتى الذي كان تقريباً في السادسة عشر من عمره حين بدأ بتلحين القصائد وإنشادها. بل قد يكون الأحرى بنا أن نتقصّى التأثيرات الكامنة في ألحانه.

ولا شكّ مثلاً، في أن القصيدة الأولى التي سجلها أبو مازن وهي قصيدة قطب أخي أنت حر، ملّحنة على ايقاع المارش المنوط بالأناشيد الوطنية وعلى مقام الرست. منذ مطلع أخي أنت حر نستعيد سريعاً بلادي بلادي الذي لحّنه سيد درويش رائد النشيد في المشرق العربي، وحماة الديار من ألحان الأخوين فليفل. ولكن الفارق النغمي الدقيق هو نفسه الفارق بين مقامي العجم والرست.

يرى الباحث الموسيقي فيكتور سحّاب في ظاهرة تلحين الأناشيد على مقام العجم (وهو مطابق لسلّم الـ مايجُر في الموسيقى الغربية)، تأثراً مباشراً بالغرب نتج عن استقدام حاكم مصر محمد علي (وهو ألباني أيضاً) لفرق موسيقى عسكرية فرنسية في القرن التاسع عشر. من آلاتها النفخية بالذات، كان من الصعب جداً على تلك الفرق أن تعزف العلامتين المخفّضتين في سلّم الرست، فألغي هذا الخفض مما يساويه بسلّم العجم. وهذا بحسب سحّاب ما أدى إلى تحوّل هذه الأناشيد من ألحانها الأولى على مقام الرست إلى العجم.

ولحّن أبو مازن نشيداً آخر على مقام الرست في قصيدة أشعلتها من دمي العائدة على الأرجح إلى مروان حديد. استطاع الفتى الدمشقي أن يستثمر الرست في الحالة الحماسية للنشيد، بجمل نغمية إيقاعية بسيطة ونقلات تصاعدية فطرية إن جاز القول، ما يجعله سهل الحفظ والتكرار من عامّة الناس ليؤدي بذلك وظيفته التعبوية.

لجأ أيضاً ومراراً إلى مقام الـ نوا أثر (أحزان قلبي لا تزول) وتنويعاته التي تعرّج كثيراً على النهاوند. وصوّر الـ نوا أثر على طبقات مختلفة منها طبقة الدوكاه حيث يتخذ المقام تسمية حصار كما في أرملة الشهيد. يتميّز هذا المقام بأبعاده التي تحيل حيناً إلى الحجاز وحيناً إلى النهاوند، معطوفة على عقدة تحزينية الإيحاء مؤلفة من نقلتي نصف بعدٍ متتاليتين. الحزن في ألحان أبي مازن شحيح التلوين يمجدّ نفسه بالتموضع في سياق لـ  الرسالة والتضحية، آخره مكافأة الآخرة.

أنهى أبو مازن تسجيل تسعة شرائط في الأعوام الأولى من السبعينيات، ثم دخلت المرحلة السياسية في ذروة المواجهة الأمنية بين السلطات الرسمية السورية والتوجهات الإسلامية المعادية لها بدرجات مختلفة، أي المحنة، كما يسمونها. حتى تمّ “الحل الأمني” في الثمانينيات مع أحداث حماه وتدمر وجسر الشغور الدموية. بعدها غادر أبو مازن المجال السوريّ وانتقل إلى مصر حيث انقطعت أخباره إلى مطلع الألفينيات.

في هذه الأثناء سطعت أنجم منشدين سوريين آخرين أمثال أبي راتب وأبي الجود وأبي دجانة والترمذي وغيرهم. هؤلاء كلّهم من حلب. وحملوا في أناشيدهم تأثراً كبيراً بالموسيقى الحلبية مقامياً وايقاعياً من شقّها الصوفي التقليدي والشقّ القدودي والموشحاتي تحت مظلة موروث بكري الكردي وعمر البطش. كما لم تتوان غالبيتهم عن استخدام الدفوف في الأناشيد. اللهّم ما عدا أحمد البربور من قرية أريحا في إدلب والذي اشتهر بإنشاده قصائد الشاعر الإسلامي العراقي وليد الأعظمي.

على كلّ حال، تعدّدت الجغرافيا والهروب واحد. أنهى النظام السوري بقيادة حافظ الأسد الوجود العمليّ لكل ما يُنسب مباشرة إلى “الحراك الإسلامي”، وبالأخص ما يدور في فلك الإخوان المسلمين. فخرجت غالبية هؤلاء المنشدين واحداً تلو الآخر من سوريا. تلقّفت الحالة الإخوانية-الحمساوية في الأردن أبا راتب، الذي أكمل مسيرة مهنية مربحة مادياً في مجال الإنشاد، يقيم المهرجانات والمؤتمرات ويترأس رابطة الفن الإسلامي العالمية. وبالطبع، ليكون كذلك كان عليه أن يقتطع من خطابه النصّي والموسيقي كلّ ما قد يشكّل تهديداً لسلطات الأمر الواقع في الجغرافيا العربية، إلّا في ما يتعلق بفلسطين (وذلك ضمن حدود المسموح). تمكن أبو الجود من ذلك حتى داخل سوريا، على الرغم من أنه مرّ بمرحلة “جهادية” تعبوية في أوائل السبعينيات. رحل أبو دجانة  إلى الإمارات واعتزل الإنشاد. وقس على ذلك، لا تبعثراً للوسط المنتج للنشيد فحسب بل للكتلة المستهلكة إياه أيضاً.

إلى أين ارتحلت جذوة أبي مازن؟

منذ الثمانينيات ومواكبة للانتفاضة الأولى، تركّز جهد الإخوان التعبوي في الميدان الفلسطيني، انطلاقاً من الأردن ومصر. ولأبي راتب مجموعة واسعة من الإصدارات المختصة بقضية الاحتلال والتحرير في فلسطين نذكر منها شريط المجد القادم الذي شاركه فيه أبو البشر وموسى مصطفى (أولى تجارب الدويتو في الإنشاد الإسلامي). في المقابل، كانت وجهات أخرى غير منفصلة فعلياً عن الحالة ألإخوانية -مع تفرعات مرحلتي “الصحوة” و”المحنة”، أكثر عالمية في اهتماماتها. ولأسباب سياسية عديدة أبرزها تشجيع الأميركيين وحلفائهم في الحكم السعودي، بدأت تظهر ملامح ثقافة حراكية جديدة، عينها على افغانستان والقوقاز.

أسس الفلسطيني عبد الله عزّام ما أسماه مكتب الخدمات في أفغانستان في العام ١٩٨٤ لاستقدام المجاهدين العرب بدعم باكستاني-سعودي-أميركي، ووضع الحجر الأساس في مخيال جهادي جديد يدور حول التغريبة (أو التشريقة) العربية في وديان أفغانستان والشيشان لاحقاً. بعد عام من هذا، كان السعودي سعد الغامدي في الثامنة عشر من عمره ينشد في الجامعة – بحسب الرواية المتداولة – لحن قصيدة غرباء لسيد قطب، ليصدره ضمن شريط أناشيد الدمام في العام ١٩٨٧. لكن اللحن المتراوح بين الحزن والبطولة (على مقام الكرد)، لم يتفشّ في الأوساط الإسلامية إلا بعد عقد من ولادته الأولى، وتحديداً يوم ما يسمى بـ محاكمة الغرباء في ١٥ أيار/مايو ١٩٩٣، أي اليوم الذي أدانت فيه محكمة مصرية متهمين من جماعة الجهاد باغتيال رئيس مجلس الشعب. عند صدور الحكم بالإعدام، وقف المتهم محمد النجار في القفص وأنشد غرباء في مشهد مصوّر أعاد إنتاج المظلومية المرتكزة على عذابات السجون.

ثقافة جهادية جديدة ممتلئة بتجربتها الأفغانية: ميادينها الشيشان والقوقاز والبوسنة، وارتداداتها في الجزائر ومصر دموية. كانت هذه النزعة الجهادية تزداد أكثر فأكثر التصاقاً بسيد قطب ومروان حديد وابتعاداً عن محمد إقبال وحافظ إبراهيم. كان إذاً مؤاتياً أن يعاد إنتاج أعمال أبي مازن، ولكن بقولبة مختلفة. في العام ١٩٩٣ نفسه، كان المنشد المصري المقيم في السعودية طارق جابر أبو زياد يعيد تسجيل شرائط أبي مازن المؤسسة، بجودة أفضل وصوت أحسن محافظاً على الألحان مع بعض التوزيع الهارموني الطفيف. ولكن، بتسلسل مختلف وبتسمية جديدة: الكتائب، وهي شرائط صادرة عن دار أضواء الرباط ومقرّها في الرياض. عندما سمعها جيلنا في أواخر التسعينيات ظنّنا أننا نسمع صوت أبي مازن نفسه، لأن أبا زياد أراد إعطاء المؤسس حقه فأرفق تسمية الكتائب بـ مجموعة أناشيد أبي مازن، ولم تكن التسجيلات الأصلية قد وصلتنا.

الطريف (إن صحت العبارة في هذه السياقات الدموية) أنّ السلطة السعودية لم تعط الترخيص المطلوب لإصدار قصيدة سيد قطب أخي أنت حرّ فحُذفت من شرائط أبي زياد بعد ستة أعوام من سماحها بصدور غرباء تعمّق خلالها الخلاف بين السلطة وبعض الأطراف الجهادية والحراكية في الداخل (الخلاف مع بن لادن، سقوط الاتحاد السوفييتي، موقف الجهاديين من الحلف السعودي-الأميركي، الخ…)

لم يقتصر نتاج أبي زياد على إعادة إصدار أناشيد أبي مازن، بل اشتهر بإنشاده قصيدة عبدالله بن مبارك (خلال وجوده في طرطوس) يلوم فيها الفضيل بن عياض على انشغاله بالعبادات عن القتال فيطلعها بـ:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب

وكم كان لهذه القصيدة من وقع تجنيدي بين أوساط الجهاديين، فالمطلوب منها تماماً إيجاد إحساس قوي بالذنب لدى “القاعدين عن الجهاد”، له أن يتحول إلى محفز حقيقي على القتال.

العراق والجهاد الزرقاوي

لأبي زياد أيضاً نشيد مزقيهم يا كتائب الأحرار الذي رافق بواكير الإصدارات البصرية لـ القاعدة في العراق إبان الغزو الأميركي في ٢٠٠٣ وانفتاح الميدان العراقي أمام الجهاديين الجدد. وفي العراق، تعمقت الخلافات التي بدأت منذ هزيمة السوفيات في أفغانستان، وبرزت في الأوساط الجهادية شخصيات اكتشفت إسلامها في السجون وأخذت علومها الشرعية في الزنازين. شخصيات تشبه الألفينيات، وانتشار الفضائيات وتنامي المنتديات الجهادية على شبكة الانترنت. تشبه الأجندة السياسية التي تقاطعت عندها واستثمرتها إرادات القوى الإقليمية والدولية الكبرى: إشعال حرب طائفية في العراق.

أبو مصعب الزرقاوي اختزال لهذه “الجهادية ما بعد الحداثية” إن صحّ التعبير. فسمعته أوجدها الأميركيون عندما لم يتوقفوا عن تكرار اسمه ضمن تبريرات غزوهم، وذلك على الأرجح قبل أن ينتقل هو فعلياً إلى العراق. في عمق دوغما الزرقاوي وزملائه ميكافيلية قصوى تصبح فيها الضوابط الشرعية أو الأخلاقية عائقاً يبطئ “سلسلة الانتصارات” من أفغانستان إلى ١١ أيلول.

ومع عولمة الصورة، بزغت صورة الذبح.

هي براغماتية تامّة، تزعج الحرس القديم الذي لا يرضى عن تصعيد استهداف الزرقاوي للمدنيين الشيعة في العراق. فيردّ الزرقاوي بتفجير القبة المذهبة ومعها حرب طائفية سنية-شيعية، أراد منها كما يقول في رسائله أن يفرض على السنّة خيار القتال ليغذي بهم مشروع الدولة الإسلامية في العراق. لكن الحرس القديم عاد ولحق بالزرقاوي في خياراته المتقدمة، ولولا ذلك لوجدوا أنفسهم شيوخاً أثقلهم الشيب ولا أمر لهم أمام “إنجازات” الزرقاوي (وهذا ما حصل لاحقاً مع الظواهري والبغدادي).

من الأعمدة الأساسية لهذه الدوغما الجهادية الجديدة، مقولة يبرزها كتاب إدارة التوحش وتحدد إطار الموقف من الجهاديات السابقة: التعويل على “عامّة المسلمين” لأن “فطرتهم أسلم” من أبناء الأطر التنظيمية التقليدية الإسلامية، ما يقف فعلياً على نقيض البيئة النظرية التي خرج منها أبو مازن في مسجد المرابط بدمشق وأجوائه التربوية التي يغلب عليها الانضباط الإخواني.

ولا يعني هذا البتّة انقطاع إمكانية الوصل بين الإخوان وهذه الدوغما الجديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقلت وكالة رويترز عن حركة حماس (حليفة حزب الله حينها) يوم مقتل الزرقاوي في ٢٠٠٦، بياناً تنعاه فيه كـ “أخ مجاهد بطل مرابط استشهد على أيدي عناصر الحملة الصليبية الشرسة التي تستهدف جميع ربوع الوطن العربي”. نفت حماس إصدارها البيان لكن المتحدث باسمها سامي أبو زهري أضاف أن “حماس تكرر موقفها الداعم لكل حركات التحرر وأولها حركة تحرير العراق التي كان الزرقاوي أحد رموزها في مواجهة الاحتلال الأميركي.”

من أبرز منشدي هذا السياق في المرحلة السابقة لاحتلال الموصل أبو هاجر الحضرمي الذي قتل في غارة أميركية. وله نشيد يا أهل السنة الشيعة مزقوني الصادر في العام ٢٠١٠ تقريباً، تتكرس فيه معاني التأجيج المذهبي على لحن حدائي يمنيّ يسطّر نفوذاً متصاعداً لهذا اللون في الإنشاد الجهادي.

داعش والعنف الصرف

ما أطلت الحديث عن الظروف التاريخية لهذا التحوّل إلّا تدليلاً على ما أسميه الإنحدار العملي في الفكرة الجهادية والذوق الإنشادي المرتبط بها. ومع دمقرطة الصورة، وانفجار وسائل التواصل الاجتماعي بعد عقد الفضائيات، أصبح للنشيد موقع ثانوي في البروباغاندا لا يمتلك أي بعد تربوي أو حضاري أو شعوري. هو موقع مرافقة الصورة وخلق الأجواء المؤاتية لها، نصاً يصبح العنف مادة حصرية للنشيد، التكفير، الردة. ويزاد على العنف ترغيب شهواني مركّز بـ الحور العين وعذارى الجنّة.

والأهم أن النشيد الجهادي أمسى يُصنع في الجزيرة العربية والمملكة السعودية تحديداً ليُستهلك في العراق وبلاد الشام ومصر وغيرها من بلاد ينتج فيها المسلمون صورة العنف الصرف – التي تعود وتستهلك في الخليج. ونضرب على ذلك مثل النشيد الملازم لـ داعش: صليل الصوارم الذي رافق عدداً من فيديوهات داعش المختصة بإذاعة مشاهد إعدام خصومهم المسلمين المرتدين كما يصفونهم، من أبرزها الفيديو الهوليوودي المروّع لإحراق الطيّار الأردني معاذ الكساسبة.

مؤلف النشيد “شاعر” من شعراء تويتر والمنتديات الخليجية، اسمه عبد الملك العودة، نراه في القصيدة يتغزل بـ “صدى كاتم الصوت” و”اقتحام يبيد الطغاة”، معلناً من المملكة أن “درب القتال طريق الحياة”. طبعاً هو مع ذلك ومع بذله جهوداً متواصلة في سبّ الشيعة، يتبرّأ من داعش، ويؤكد مراراً وتكراراً وقوفه وراء السلطات السعودية.

صليل الصوارم ولنا المرهفات وغيرها، أناشيد تدور كلّها في نفس الفلك اللّحني المبسّط حدّ الكاريكاتورية، غالباً حول نقلات بدائية على مقام النهاوند. فبالتوازي مع بلوغ البراغماتية الجهادية ذروتها، وصلت غاية التبسيط في لحن النشيد إلى تتفيهه. و اندحرت كل معالم التربية والتجييش والتحزين لصالح معبودية العنف والغلوّ في تصوير تفاصيله – كأداة أساسية لاستقطاب العامّة المهمشة على أطراف العولمة. إضافة إلى نوع جديد من النشيد هدفه مدح ذَكَر السلطة الجديدة، سلطة البغدادي.

“إذا الكفر ماج وأرغى وهاج، ملأنا الفجاج دمًا أحمراً”، “أهل الجزيرة إذا جينا، الذبح والسلخ بأيدينا”، “رصوا الصفوف وبايعوا البغدادي”. هذه مفردات الداعشية الزرقاوية النسب. غير أن النشيد يصل الآن إلى درك أدنى من ذلك، مع انتشار نوع حديث نسبياً يقوم على شتم الفصائل الأخرى من الخصوم العسكريين والسياسيين، وهذه من ظواهر خاصة بولادة داعش وحالة الصراع الدموي في الميدان السوري. أناشيد الهجاء المتبادل.

من هذه الأناشيد التي تكون بالعاميّة إجمالاً، شيلة الشيلة هي أسلوب غنائي من الموروث الشعبي في السعودية يا عاصب الراس وينك، على مقام الرست، أطلقها أحد أبرز وجوه الإنشاد الداعشي أبو ثامر المطيري المهاجر وهو سعوديّ مثل غالبية عناصر داعش حالياً كما يشاع (مما يعيدنا إلى دورة إنتاج-استهلاك-إنتاج صورة العنف). يهدف المطيري في هذه الشيلة إلى تأليب المزيد من السعوديين ضد الحكم السعوديّ بغية استجلابهم إلى صفوف داعش في العراق وسوريا. ويتوعد المهاجر محمد بن نايف بالقتل، منتقداً حلف النظام السعودي مع أميركا ومعرجاً أيضاً في انتقاداته على توجهات جهادية أخرى مثل جبهة النصرة.

تحوّل “يا عاصب الراس” إلى ترند في وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص عندما بدأت الردود تتوالى من مجالس القبائل السعودية ومن مجالس النصرة في سوريا أيضاً: خلافتكم خرافة، الملك الملك الملك، لا تمثلون الإسلام الخ…ثم دارت جولة ثانية حين ردّ المطيري على الردّ الذي استفزّ ردوداً جديدة. المضحك المبكي أنّ كلاً من الأطراف الثلاثة يعاير غرمائه … بعدم نصرة فلسطين.

عود على بدء

أنظر الآن بعيني هذا الفتى الذي ألهمت أناشيده الجماعات الدعوية والقتالية الإسلامية من حماس إلى أمير خطاب إلى القاعدة. أنظر إلى نفسك كهلاً في الـ ٢٠١٢ وأنت تكتب كلمة الإسلام داخل قلب رسمته على رمال شاطئ البحر في اللقطة الأخيرة من وثائقي لـ الجزيرة.

رومانسية تآخي تحوّل نشيد أخي أنت حر من الرست إلى النهاوند، بعد إعادة إنتاجه على يد المظلومية الإخوانية الجديدة في مصر بعد رابعة. وهي رومانسية مظلومية عصرية بالبيانو والاستخدام المفرط حد الابتذال للمصحّح النغمي الآلي Autotune. رومانسية ميسورة أيضاً مندمجة في السوق، وتظهر ذلك بلا حياء في كل تفاصيل مظهرها “الشبابي”. (طالب أبو زياد في مقابلة هذا العام باحترام ألحان الأناشيد القديمة، وكان بادياً على ربطة عنقه المزركشة عدم انبهاره بهذه الجماليات الجديدة)

تعود الدائرة اذاً إلى سيد قطب: أخي أنت حرّ. من أقرب إلى قطب الآن: أبو مازن والقلب الرمليّ؟ برجوازية اللحن الجديد؟ ماكدونالدز مكة؟ داعش؟ النصرة؟ أحرار الشام؟ حزب الله؟

السجّان العسكري لا زال يملك زنازين تتكدس فيها أجساد الإسلاميين والكثيرين غيرهم، ولكن هذه الأخيرة صارت تتكدس أيضاً في سجون إسلاميين آخرين. ولا يغيبنّ عن ذهن أحد أنّ المنظومة الايديولوجية-الأم الحاكمة في إيران منذ الثورة الإسلامية تنتمي أيضاً في سيرورتها إلى الحراك الإسلامي، إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وسيد قطب الذي ترجم له المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي كتابين هما “المستقبل لهذا الدين” و”بيان ضد الحضارة الغربية”.

خاتمةً أقول إن هذا الاستعراض المقتضب لتاريخ الإنشاد الجهادي الحديث يحيلني إلى عدد من الأسئلة الواقعية، فلست هنا ولا في أي موضع آخر، داخل دائرة التفكيك للتفكيك. أليس هناك ارتباط بين اقتصار الفن العقائدي على البروباغندا، وبين إفلاس المشروع الحضاري للعقيدة؟ أليست الثنائية المؤسسة مجد/مظلومية هي المسؤولة عن المحصلة الثنائية عنف/آخرة؟ أليس الهوس بالدونية التقنية إزاء الغرب هو المسؤول الأكبر عن الإنتاج المتكرر لـ أشياء خالية من الأفكار؟ ألا تبدأ هزيمة الإسلام أمام “الحداثة” باقتصار الإسلام، في أدبه وفنّه وفكره، على ردة الفعل؟ كيف يحتمي الفنّ من استيلاء مراكز رأس المال على سياقاته؟

والآن مع فقرة الكوارث الطبيعية. دين سكواد، وهي فرقة تختص في تعديل أغاني الراب الرائجة إلى سياقات إسلامية: النتيجة استبدال الـ بتشز  بـ الحور العين، والفيلا في كاليفورنيا بقصر في الجنة. وهكذا صارت عدن في هوليوود:

أنهار من الخمر. استرخاء. نساء

مال حلال، نحصّله ونذهب إلى السعودية لننفقه Wine rivers chillin Hoor Al Ayn Women Halal money, Get it. We go to Saudi spend it


صورة الغلاف مأخوذة عن مقال للنيويورك تايمز.

المزيـــد علــى معـــازف