.
تكثر الدراسات النقدية التي تتناول الشعريّة العربية على وجه العموم. نعني الدراسات الحديثة التي تتوخّى قراءة الظاهرة من منظور نقديّ على ضوء ما بات يعرف بالحداثة. دراسات بوشرت مع نازك الملائكة في عملها النقديّ المبكر والافتتاحيّ، قضايا الشعر المعاصر، مرورا بأدونيس وعمله الشعريّة العربيّة، ولم تنته بطبيعة الحال مع نقاد ما يزالون يُصدرون أعمالا نقدية تعنى بالشعرية العربية عموما (العراقيّ هاتف الجنابي في السنين الأخيرة حول شعريّة قصيدة النثر). من تلك الدراسات، وتحديدا الدراسات المعنية بقصيدة النثر وإيقاعاتها ما ظل يدور في دائرة طروحات جوهرية لا ابتكار جديّا بها إذ هي طروحات، على أهميتها، ظلت تحيل في العمق إلى التنظيرات النقدية الجوهرية للشعر الغربي الحديث، من سوزان برنار مروراً بالموجات الرمزية والسوريالية. فمفاهيم نقدية من قبيل إيقاع النص الداخليّ أو الخارجيّ في القصيدة النثرية أو في نصّ التفعيلة.
عموماً، ظلّ شعر الحداثة العربيّ يفتقد إلى مُسند نظريّ أصيل ناجز يمكن من خلاله فهم واستيعاب تلك الإمكانيات الفائقة في نصوصه منذ السيّاب وصولا إلى درويش وما بينهما. هذا الفهم لا يتأتّى بطبيعة الحال فقط من الإحالة المرسلة إلى حداثة مفترضة في الشعر العباسي الوسيط انظر أدونيس في الثابت والمتحوّل، كما أنه لا يكون ناجزا في الإحالة السهلة إلى الطروح النقدية الغربية في شعر النثر وايقاعات النصّ الداخلي. ما ظل مفتقدًا حتى اليوم هو محاولة تقديم قراءة تفكيكية جدية تخوض في إيقاعات بحور الشعر العربي الخمسة عشر يمكن من خلالها تكوين تصوّر شبه مكتمل عن تلك الظاهرة الإيقاعية العربية الاستثنائيّة منذ الشعر الجاهلي وصولاً إلى اليوم. نتحدّث عن تصوّر نظري وتطبيقيّ بالدرجة الأول يعيد تفتيح مساحات ما كانت مرئية في التركيبة الوزنية لبحور الشعر العربي قديما وحديثا وفي تفاعيله على نحو يغدو معه تفكيرُ الشعراء الأولين بالإيقاع، شعراء ما قبل الخليل بن أحمد الفراهيديّ ١٠٠ هـ١٧٠ هـ - ٧١٨م ٧٨٦م قابلا ًللفهم، وتاليا ًتغدو الرؤية الإيقاعيّة في الحقب اللاحقة قابة للمقاربة على ذات المنهج.
دراسة الموسيقي والناقد الفلسطيني خالد جبران (مواليد فلسطين، ١٩٦١) دراسة استثنائية في هذا السياق. تكمن استثنائيتها في كونها تؤسّس لمستوىً أعمق في الرؤية إلى بحور الشعر العربيّ. مستوىً يتمّ إنشاؤه بالانتباه إلى مسألة الايقاع الموسيقي للبحور المقسّّمة إلى تفاعيل تتخذ وزن الجذر “ف ع ل” أصلاً منذ الفراهيديّ. الانتباه إلى مسألة الإيقاع الموسيقي سوف يسمح بتكوين نظرة نقدية متينة عن تلك المساحات الايقاعية المتّصلة بذائقة الشاعر الجاهليّ والتي يفترض أنها أُسست، وئيدًا، منذ القرن الأوّل الميلادي وصولاً إلى المهلهل وامرئ القيس، لتلك المباني التي قعّدها فيما بعدٌ بقرنين ونيف الفراهيديّ.
تكمن نقطة القوة في الدراسة بأنها تنظر إلى تلك الشعرية العربية الكلاسكية من منظور الأذن الإيقاعيّة الموسيقية. تلك النظرة، متكئة على ثقافة موسيقيّة تأليفية عند جبران سوف تسمح بإعادة النظر في أسس التقسيمات الإيقاعية التي أوصلت الفراهيدي إلى إنشاء دوائر بحوره المختلفة والمؤتلفة. وهي، بنظر الدراسة، نفس التقنيات التي استخدمها الشعراء الجاهليون قبل الإسلام في تكوين بحورهم من وجه الذائقة الفطرية التي كانت عرفتْ بداهةً وسماعاً نقاط القوة والضعف في التركيب الداخليّ للوحدات اللفظية لما سوف يسمّى فيما بعد “عروضا” و“وتداً” و “سبباً خفيفاً” و “سبباً ثقيلاً“، و “قبضاً” او زحّافاً وسوى ذلك من التسميات التي هي نعوت تطبيقية تقنيّة على البيت أو التفعيلة.
بتقسيم البحور الشعرية العربية إلى بحور نقرية الوافر، الكامل أيْ أنّ عدد النقرات الزمنية فيها ثابتٌ بمعنى أنّ نظامها الدوريّ مؤسَّس على عدد النقرات) وبحور مقطعية (عدد النقرات الزمنية قابل للتغيير بتأثير الزحّاف تنماز بحسب الأحداث الزمنية الإيقاعية، يخوض جبران غمار قراءة تطبيقية على الإمكانات العميقة لتلك البحور على مستوى الإيقاع. وقد أنتجت تلك القراءة فهمًا إيقاعيًا مغايراً بمعنى أنه فهم أكثر ثراء لمواضع الضعف في النظرية الفراهيدية الكلاسيكية على أهميتها وموضعها التأسيسيّ. نتحدّث عن الانتباه إلى كون الإيقاع الموسيقي (لا لا نعم\ التنعيم)، أو بمعنى آخر، دورية الأوتاد والأسباب هي المادة الجوهرية الثابتة في معرفة مناطق القوّة والجذب (الدفع الوتدي) في الإيقاعات الشعريّة قبل تجميعها فيما بعد إلى تفاعيل وبحور.
يورد جبران ما نصّه في المتن “إن الوتد( حركتان وساكن) هو المولّد الإيقاعي الرئيسيّ في الشّعر العربي. هذا التتالي لمقطع قصير (حركة) متبوع بمقطع طويل(حركة وساكن) هو مثل شرارة كهربائية عالية الطاقة بمقدورها أن تشحن عدداً من المقاطع الطويلة الإضافية (الأسباب) وأن تقطّبها حول الوتد. بذلك يشكّل الوتد حدثاً صوتياً متمايزاً يولّد في محيطه اللفظيّ أو الكلامي مجموعات دورية أي إنه يولد موازين شعريّة“. إذاً، بالإصغاء إلى وضعية الوتد داخل الوزن الشعري (يفرّق جبران بين الوزن والميزان، فالوزن هو عدد المقاطع الصوتية، أما الميزان فهو تراتب هذه المقاطع على نحو معين في الدورية الايقاعية) بمعنى كون الوتد هو الشرارة التي تتقولب حولها شحنات الدفع و الجذب داخل الدورية الإيقاعية يصير من الممكن فهم المجالات الإيقاعية التي تردد خلالها الشعراء لناحية تفضيلهم بحوراً معيّنة على أخرى او لناحية اختياراتهم التعبيرية شعراً عن أوضاع وحركات نفسية وحالات غنّ من خلال بحر نقري أو مقطعيّ ومن خلال سلسلة مؤتلفة أو مختلفة بسحب التسمية الفراهيدية (انظر ص ١٦٢، الشعر والدّفع الوتدي).
بغية الإيضاح، نورد هذا الشرح التقني الثمين من المتن فيما يخص اشتغال الوتد في تفعيلة التنعيم الرئيسية، لالا نعم\ مستفعلن: تتألف التفعيلة من أربعة مقاطع صوتية: السببان الأوّلان هما مقطعان طويلان أو نبضان قويان (سببان خفيفان بتعبير الفراهيدي، ويليهما الوتد المتألّف من مقطع قصير ثالث (متحرّك) هو نبضُ خفيف ويليه مقطع طويل رابع(سبب طويل).
فور حدوث الوتد أو سماعنا إياه، “… سوف تتمّ تقوية المقطع الرابع على حساب الثالث. ثم سيسري نفس التأثير الإيقاعيّ وبأثر رجعي على المقطعين الطويلين الأوّليْن الذي سبقا حدوث الوتد، فتتم تقوية الثاني على حساب الأول تبعا لنفس النموذج الوتدي …”
خلافا للنظرة التي سادت طيلة قرون عند دارسي الشعر العربي وآخرهم العراقيّة نازك الملائكة، لا يكون الزحاف عيبًا محبّبا أو خللاً يصيب التفعيلة في البيت الشعريّ، بل إن الزحّاف، والشواهد الشعرية كثيرة هو تقنية ضبط إيقاعية، لو صح التعبير، ترفد جمالية البيت. فالزحاف، وهنا الأهميّة، إذ يضبط الإيقاع (لا يسقط كحدث صوتيّ من الأفق المسموع للبيت) على ما يرتأي الحدس الفرديّ للشاعر، فإنه يؤشر إلى كونه المتنفّسَ الذي من خلاله لا يبقى الشاعر حبيس الميزان الشعري باعتباره الهيكل الايقاعي الأكمل للبيت. فالشاعر الجاهلي، أصلاً وإن خالف ذلك الميزان بتقنية الزحاف، ونعني ميزان الفراهيدي المتأخّر عنه زمنيّا، فإنه لم يكن بطبيعة الحال تبعاً لتلك التفاعيل بل كان يتبع حدسه الإيقاعيّ الفطري (الهمس الشعري بتعبير جبران) الذي من شأنه بالصقل والترديد أن يمنحة قدرة على خلق تقنيات خاصة تساهم في صقل جمالية البيت. ومن خلال عرض وتفصيل أبيات زحّافية بامتياز من شعر امرئ القيس يخلص صاحب الدراسة إلى كون استخدام امرئ القيس الدقيق للزحاف إلى حدّه الأقصى في بعض تلك الأبيات لا يمكن أن يكون اضطراراً يولد عيباً أو ضعفاً او خللاً في شعرية ومتانة البيت.
لم يَغفل الفراهيدي ومن بعده العروضيون عن الجماليات التعبيرية للبحور الشعرية ولكنهم لم يفطنوا بحسب الدراسة لما يسميه الكاتب الإيقاعات الفعلية داخل البيت والشطور. وهي إيقاعات تأتي ضمن فواصل معنوية، أي تأتي تبعاً لمقتضيات المعنى التعبيريّ. فالإشكالية المركزية هي عبارة عن تساؤل عميق بالغ الأهميّة يورده الكاتب في طبيعة “الهمس الإيقاعي“ الذي سمعه امرؤ القيس، مثالاً لا حصراً، أثناء نظمه الأبيات، إذ يُستبعد أن يكون الملك الضلّيل قد استهدى وهو ينشئ الطويلّ معلقة امرؤ القيس، ذلك البحرَ المقطعيّ المركب: تقسيمة (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن). فالمنطق لا يقبل “فكرة كون شعراء الجاهلية اعتمدوا في نظمهم على مصطلحات وإيقاعات معقدة ومستهجنة“. على أنه بالعودة إلى تقنية التنعيم وجعلها أساساً في تصور طرائق الجاهليين في استقبال الإيقاع، يمكن فهم الآليات المرنة التي من خلالها تم ذلك النظم الإيقاعي الفائق في بيئة شفوية سماعية أصلاً.
إذاً، يتوجّب في كل حال، إذ نرى إلى بحور الشعر العربي وبغية فهم الجماليات الداخلية والتقسيمات التمييز بين قوالب البحور الشعرية الفراهيدية باعتبارها ميزاناً شعرياً لا يعكس بالضرورة الإيقاع الشعري الداخلي للبيت. ببساطة، فالإيقاع الفعليّ هو تتابع الوحدات الصوتية داخل الشطر أو البيت تبعاً لمعنى أو فكرة ما من ضمن القالب الأوسع الذي هو البحر الشعري. بهذا التمييز يمكن إعادة النظر والرؤية بوضوح نظريّ إلى مجمل العملية الجمالية الشكلية والمعنوية الداخلية للبيت الشعري في مجمل تفريعاتها من توشيحات وترصيعات وتسهيمات ومقابلات تساهم في تكوين هذا المبنى.
يتيح هذا الفهم المرتكز على الوحدات الإيقاعية للبحور التعرف بدقّة على سلاسل بحور الشعر العربي الخمسة عشر. نتحدث عن رؤية إيقاعية تتيح استكشاف العلاقة بين السلاسل الشعريّة وبناء تصّورات تقريبية حول نشأة بعض البحور المغرقة في القدم. فالتمايز الذي يتكّئ عليه صاحب الدراسة في تصنيف البحور، كما ورد أعلاه، بين بحور نقرية أسهل في الغناء (يمكن ترجمة البحور النقرية إلى حقول موسيقيّة متساوية الميزان) وبحور مقطعية، يعني، في العمق، الإصغاء فقط إلى نقاط القوة والضعف والبطء والانسياب وإلى حركات الجذب التي تخص التفعيلة الأمّ. بهذا نفهم بدقة، مثالًا لا حصراً، التصور الذي يجعل البحر البسيط المقطعي الذي شاع استخدامه ما بعد المهلهل بحراً خارجاً من المنسرج عبر التكوين النظريّ لما يسمى بالسبيكة الإيقاعيّة الثابتة (سلسلة إيقاعية دوريّة مشتركة في سلسلة شعريّة).
في العموم، يمكن القول إن الإضاءة على السبيكة الإيقاعية من أهم منجزات هذه الدراسة. فعبر تلك السبيكة صار يمكن فهم ماهية الحدس الإيقاعي للشعراء الجاهليين المؤسّسين وتقنياتهم في إنشاء ما سوف يسمّى البحور. إنها الحساسية التي أمكن من خلالها لهؤلاء الشعراء الإقبال على وحدات إيقاعية معيّنة والاستنكاف عن أخرى تتيحها ذات السلسلة تبعا لتقنيات الدفع الإيقاعي المتعاكس أو المتجانس التي امتكلها شعراء تلك الحقبة السماعية الشفوية. (انظر سلسلة الطويل\ البسيط، المديد)
خلافا لما تمّ تناوله من دراسات في شعر امرئ القيس وتحديدا فيما يتّصل بمعلقته الشهيرة، يمكن اعتبار هذه الدراسة مفترقاً في الاشتغال النقدي عل الشعر الجاهليّ. ونقول مفترقاً إذ، كما ورد فيما تقدم من مقاطع، فإن الرؤية إلى هذه المعلّقة قد صارت مؤسَّسةً من ضمن مبنى نظري بإمكانه الخوض في العبقرية الإيقاعية عند الشاعر الكنديّ. فإدراك طبيعة الهمس الإيقاعي ومركزيته في تأسيس تلك المعلّقة ليس، بحال، بأقلّ اهمية من المستويات البلاغية المعنوية التي درج التراثيون في التفصيل بها. يمكن القول إن الاتّساق عند امرئ القيس بين المستويات الإيقاعية والمعنوية والبلاغية هو ما أوجب لهذه المعلّقة هذه المكانة في بيئة شفوية سماعيّة أساسا.
يتيح التقسيم الإيقاعيّ المقطعيّ صوتيا المعتمَد، بحسب الدراسة، الإضاءة على التوازن الدقيق داخل المعلّقة بين الحركات النفسية المعنوية المتبدِّلة ضمن المبنى الدراميّ وإلى تواؤم هذه التبدّلات مع تغيّر الإيقاعات الصوتية بما يناسبها. المؤكّد أن الحدس الإيقاعيّ عند الشاعر لم يكن بحال متطابقاً مع هيكل البحر الطويل المقطعي، كما قعّده الخليل بن أحمد، بل نستطيع، هنا، استقبال الأبيات مدركين تلك البراعة الفطرية عند الشاعر في تكوين المقاطع الإيقاعية القصيرة أو الطويلة بفواصلها المعنوية (الإيقاعية الفعليّة) حالاً بعد حال.
لمزيد من الإيضاح لا يُتصور من خلال استقبال التركيب المعنويّ في مطلع المعلقة أن يكون مأخوذًا بالجرس الخليلي الذي يخص البحر الطويل ونعني فعولن. فتقسيم الهمس الإيقاعي الأول في روع الشاعر (قفا نبكِ) يعكس تلك الموتيفات الجزئية الصغيرة المرتكزة على الوتد مكررة على نحو معيّن والتي سوف تنتج بالنتيجة تلك الدورية المقطعية المركّبة.
تعيد هذه القراءة المتّسقة للمعلقة التشكيك في مجمل إشكاليات الحداثة الشعرية، أو إذا صحّ التعبير، مجمل السلبيات التي ألقاها النقد الحديث على المبنى الشعري الجاهلي المحصور في القالب الخليليّ. فالإصغاء إلى المرونة والفواصل المعنوية باتساقها المتين مع إيقاع المقاطع او توشيحاتها فضلًا عن توظيف موسيقية الألفاظ بما يناسب الجرس العام للبيت بما لا ينتج تكلّفاً أو إحساساً بضيق الشاعر من الميزان الشعري التقليدي، كل ذلك سوف يجعل النقد الحداثي نفسه قابلاً للنقد.
ألزم الخروج من قالب البيت العموديّ، بعد ألف وأربعمئة عام على استخدامه في التعبير عن موروث شعري ضخم، البحثَ عن بدائل بنيوية نظرية أو تقعديّة تؤطر الفورة أو النّقلة الشعرية الحداثية. المحاولة الأشهر هي محاولة الشاعرة العراقية نازك الملائكة في كتابها النقدي المبكر، قضايا الشعر المعاصر ١٩٤٧. على أن الملائكة لم تخرج في العمق من المفهوم الأعمق للبيت العموديّ كمبنى شعريّ. فالبيت الشعري هو الآن السطر الواحد يطول أو يقصر والذي يلتزم تفعيلة خليليّة وينتهي بقافية قد تتبدل. أمّا التدوير فيمتنع مطلقاً لأن التدوير عموماً هو قسمة تفعيلة واحدة بين شطرين. لقد أغفلت الملائكة بسعيها الواضح إلى تقعيد أو ترسيم الحدود الشعريّة الإمكانات الكامنة في تلك الوحدات الإيقاعية الوزنية لناحية كونها في الأصل وكما أظهرت الدراسة مقاطع صوتية جرسيّة تخضع في العمق لمستويات الدفق الإيقاعي وتفاوتات الحالة المعنوية النفسية للشاعر. وهذا يلزم بطبيعة الحال وتبعاً للواقع الشعريّ الحديثَ فورة واتساعاً في استخدامات التفعيلة. استخدامات من خارج ترسيمات الملائكة سوف تظل تثير جدلاً نقدياً واسعاً بين من يخرجها من الشعريّة الإيقاعية وبين من يجيزها بطبيعة الحال.
المثال الأبرز في أخذ تلك الابتكارات إلى حدودها القصوى في نصّ التفعيلة هو محمود درويش (١٩٤١–٢٠٠٨). لقد انتبه درويش أولا إلى كون الخروج من السطر الواحد باعتباره شطراً عند الملائكة هو إمكان سوف يتيح له إعادة تكوين إيقاعية تتيح مرونة واسعة في استخدام تقنيات ليست ممكنة في مبنى الملائكة النظري. نتحدّث عن ابتكارات في طرائق التدوير (لازماً وشاملاً) والتقفية الداخلية أو الخارجية أو التسكين أو ابتكارات في استخدام الضرب. ابتكارات أعاد درويش من خلالها إبراز الإيقاع الفعليّ على أنه المغزى الجوهريّ في مسألة العروض كلّها. فهم العروض على أنه قالب البحر الخليليّ بجوازاته الصارمة هو فهم جامد تسطيحي لا يتيح، كما أظهرت فصول الدراسة، النفاذ إلى دورية الإيقاعات الأصلية التي خرجت منها سلاسل ودوائر الشعر. أنظر تطبيقات الدراسة التفصيلية على شعر درويش الفصل الثالث من الكتاب، جنديّ يحلم بالزنابق، جدارية
تظهر الدراسة قصور ترسيمات الشعر الحر كما أرستها الملائكة عن فهم الإمكانات العميقة للتفاعيل باعتبارها ميزاناً موسيقياً مفتوحاً مشرعاً بحرّية مطلقة على حدس الشاعر الإيقاعيّ. فالميل إلى منجز درويش أو إلى نصّ التفعيلة عن طريق الإضاءة على فهم فعلي للسلاسل الإيقاعية هو تعبير عن مستوى أعمق وأمتن في فهم البحور. يبدو ذلك جلياً في مجمل النقد الحديث الذي طال قصيدة سجّل انا عربي، باعتبار انطوائها على خلل إيقاعيّ أو تخليطاً غير جائز في النص الشعريّ الموزون بين تفعيلتين من بحرين مختلفين. تفعيلة الرمل\ تفعلية الوافر.
شياع الزّجل أو الشعر المحكيّ في البيئات العربية المتفرّقة، البيئات ذات اللهجات المخصوصة والتي تتباين جزئياً في مستويات إيقاع الجملة وخصائصها المقطعية والصوتية… نقول إنّ بروز هذا النوع من الشعر يطرح أسئلة عن مدى كون المحكيّ هو سليل الإيقاعّية الشعرية الفصحى الكلاسيكيّة أو مدى كونه سليلَ أنماط من البحور الغنائية ذات التأثر بشعر حضارة متماسة مع الحضارة العربية.
تميل هذه الدراسة إلى كون القصيدة المحكيّة في غير بلد عربيّ هي سليلة القصيدة العربية الفصحى أو هي مرحلة متأخرة نتجت من حقبات صار النظم بقصد الغناء أولا دون هاجس الموازنة الدقيقة الصارمة للبحور هو الأساس. هاجس طغى في غمرة تطوّر الحضارة العربية الاسلامية واستدخالها قدراً من العجمة مع توسّع وتنوّع البيئات الشعبيّة المخصوصة(التوشيح الأندلسيّ مثالا). على أن الخوض في الخصائص الإيقاعية للمحكية الراهينة في غير بلد عربي، وعطفاً على الرؤية الإيقاعيّة التي أبرزتها هذه الدراسة تسمح بالانتباه كون الإيقاعات القصيرة والطويلة للمحكية هي سليلة التفاعيل أو على نحو أدق سليلة الدوريات الإيقاعية الفصيحة مع خصائص جوهرية طرأت عليها. خصائص مثل ورود مقاطع ثلاثية الحروف مسكّنه الآخر ترد في حشو البيت لا في آخره أو تجميعات ثلاثيّة الحروف مسكّنة الأول أو تسكين رأس الوتد في أول الكلام وسوى ذلك من تقنيّات يمكن، بعد الانتباه إلى أساليب إنشائها أنها مستمدة من تفاعيل سلاسل البحور التقليدية الأيسر غناءً.
عمليّاً، لا جدال في كون الحداثة الشعريّة قد أتاحت تصرفاً أكثر مرونة في استخدام التفاعيل الخليلية أو في ترتيب الدوريات الإيقاعية على نحو لا يلتزم بالتشطير العروضي الكلاسيكي (نصّ التفعيلة). على أن التدقيق في الحدوس الإيقاعية التي تبرزها معلقة الملك الظلّيل تجعل من الصعب الحسم في كون ذلك البيت التقليدي قيداً أو حاسرًا في الغالب لجماليات سجية يتيحها النص الموزون الحداثي. بطبيعة الحال ثمّة هامش مرنٌ أوسع في نص القصيدة الحرة أو نصّ التفعيلة باختيار الدورية الايقاعية التي تتكرّر في أفق شعريّ يقرر الشاعر فيه مواطن الوقف والتسهيل والاستئناف، لكنّ ذاك الهامش قد يغدو فخاً للشاعر إذ إنه سوف يجد صعوبة في إنشاء ذاك الاتساق الإيقاعي الجماليّ المعنوي الذي تبرزه معلقة كمعلّقة امرئ القيس. نتحدث عن ما يشبه هرميّة موسيقية بالغة الإحكام تكون القوالب الإيقاعية الثابتة فيها بفواصلها وتماثلاتها جوهراً ثابتاً في خلق المتعة السماعية المعنوية في روع المتلقّي. متعة قد لا تضاهيها أمتن النصوص الحداثية الموزونة المطوّلة (جدارية محمود درويش).
عموما، لا يسعنا الرؤية إلى المنجز الخليليّ في إنشاء بحور الشعريّ العربيّ غافلينَ عن المجال التاريخي–التأسيسيّ الذي كان يحكم شغل الخليل. ونعني اعتبار الهاجس الأساسيّ في حضارة سوف تباشر التدوين بعد قرون من السماع والحفظ والركون على الذاكرة. نتحدّث عن هاجس بالتقعيد الذي يتيح استيعاب مجمل الموروث الإيقاعيّ في قوالب نظرية ليست ناجزة على نحو مطلق بالضرورة ولكنها تلبّي المتطلبات المرحلية التي حكمها الظرف التاريخيّ بمجمل أبعاده. فتقنية التنعيم البدائية أو تلك الدوريات الإيقاعية خالصة أو مركبة والمتكئة على حدس فائق فطري عند الجاهليين قد لا تكون قابلة للانخراط في المتون التدوينية التعليمية إلا على النحو التقنيّ الخليليّ وهنا تكمن عبقريّة الفراهيدي في ابتكارها، مع وعيه الأولّيّ، بتصوّرنا، بالمواضع التي تقبل التطوير أو التفريع على البحور والتي من شأن النقد لاحقاً أو الحدس الإيقاعي المرهف إبرازها والإشارة إليها.