fbpx .
حوّد عالمالح | أغاني النساء في أفراح الصعيد

حوّد عالمالح | أغاني النساء في أفراح الصعيد

ميرفت الفخراني ۲۰۲۵/۱۰/۲۱

كُتب هذا المقال بالاشتراك مع صالح عمر.


كنت طفلة صغيرة في مطلع الألفية، لا يتجاوز عمري التاسعة أو العاشرة، أتهيأ للأفراح بفساتين مزركشة زاهية من الساتان أو الجبردين، وأحيانًا بـ “تايير” قصير أحضره لي والدي الراحل من السعودية حيث عمل لسنوات طويلة. وسط زحام البنات من أبناء القرية، تجمعنا القرابة والنسب، كنا نتجه إلى بيت الفرح نحمل طبلة من جلد مشدود وفخار، نصنع بها الإيقاع ونغني حتى الفجر.

هنا، في نجع الفخرانية المنسوب إلى سيدي آل الفاخر الإدريسي، داخل قرية البغدادي شرق نيل الأقصر جنوبي مصر، كانت الطبول تنتقل بين بيوت العروس والعريس، تُسخَّن على النار كلما ارتخت لتستعيد شدّها وصوتها. حولها كنا نصنع عالمنا الصغير: ترتفع أصوات النساء، تتكرر الألحان، ويملأ الإيقاع ليل القرية بذاكرة جماعية تحفظها الأغاني.

حين شاركت زميلي صالح عمر، المقيم في قرية على الضفة الغربية للنيل، ببعض الأغاني التي ورثتها عن أمي وجدّاتي، وجدت أنه بدوره يحمل رصيدًا مشابهًا من أغاني النساء في مجتمعه. كانت نصوص مختلفة في بعض المواضع، لكن الروح واحدة: الغناء طقس جماعي تصنعه النساء ليحفظ الأفراح، أو الفَرَحات كما تسميها النساء، ويمنحها معناها.

ظهرت هذه الروح نفسها، وإن على نحو معاصر، في أغنية بت صعيدية التي شدت بها دنيا سمير غانم ضمن الجزء الثالث من مسلسل الكبير (٢٠١٣). كان ذلك امتدادًا لفن قديم أبدعته المرأة الصعيدية، وما زال يتردد حتى اليوم.

ما تجوزيني يمه | غناء الرغبة الأولى

يستهل الشاعر درويش الأسيوطي كتابه أفراح الصعيد الشعبية بتصحيح صورة نمطية طالما رسخها الإعلام والدراما المصرية: أن الفتى في الصعيد لا يرى الفتاة إلا ليلة الزفاف. يكتب الأسيوطي أن الواقع أكثر تركيبًا، إذ يتجاور الفتاة والفتى في ملاعب الطفولة وأماكن العمل، حتى إذا ظهرت علامات النضج على الفتاة، تبدأ العائلة في حجبها بدافع “الصون” وبهدف جعلها أكثر رغبة في أعين الخطّاب. رغم هذا الحجب، تظل اللقاءات ممكنة في المناسبات والاحتفالات، وهو ما يدحض الأسطورة الإعلامية ويكشف عن حياة يومية أكثر مرونة مما يُتصور.

من قلب الليالي الصعيدية، يتشكل تتابع الأغاني كأنه نص مسرحي حي، تتحرك فيه النساء والفتيات بين السخرية والرجاء، بين الغزل المكشوف والرمز المستتر، في كتابة جماعية للفرح والهوية.

“عيني ع العازب .. يا عيني عليه
طالع يبُص ونازل يبُص
ما خَس النُص يا عيني عليه”

تبدو الأغنية غمزة اجتماعية: السخرية من العزوبية، والتنبيه إلى أن الفتاة مستعدة لأن تكون دواءً لهذا العازب. في نص آخر، تلجأ الفتاة إلى الغناء كي تدفع الحبيب إلى خطوة جدّية:

“بتمشي ليه ورايا / وإيه قصدك معايا
إن كنت عايز تخطبني / شيّع لي أمك تخطبني
أبويا واعر يضرُبني / لو عرف الحكاية”

لكن ما الذي يحدث حين يتأخر الزواج؟ في نص آخر، يظهر الحزن ممتزجًا بخفة الظل:

“يا حمام جَرَد يا حمام جَرَد / على سطح بيت عمي
كل البنات اتجوزت / وانا حاشتني أمي
يا حمام جَرَد يا حمام جَرَد / على سطح بيت خالي
كل البنات اتجوّزت / وانا اتوقف حالي”

أيضًا، من أشهر ما يُتداول في الصعيد أغنية بس الولا ييجي، التي تعبّر عن التطلع للزواج.

إذا كانت الفتيات يعبّرن عن الترقب والانتظار، فإن الأمهات بدورهن ينشدن أغاني موجهة للأبناء تحثهم على الزواج، أحيانًا بلهجة عتاب وأحيانًا بسخرية لاذعة:

“ما تجوزيني يمه / ما تجوزيني يمه
حاضر يا ولدي / حاضر يا ولدي
قعدتي تقولي حاضر / لما خضر شنبي
بكرة سوق الخميس / وارهن لك حلقي
خسارة حلقك يمه / في بنت الرفضي”

كما هناك من تقدم للعريس النصح قبل ذهابه لخطبة عروسه:

“على كوبايتها يا وله / على كوبايتها
قبل ما تخطب يا وله / شوف شطارتها
على كبابيها يا وله / على كبابيها
قبل ما تخطب يا وله / شوف أهاليها”

من بين الأهازيج التي تحتفظ بها الذاكرة الشعبية في الصعيد تلك التي تصف مكابدة العاشق وحرصه على رؤية الفتاة ولو عن بُعد. تبدأ الأغنية بنداء جماعي (الرديدة) الذي يشيع أجواء الليل الطويل، بما يحمله من سرية وتربص:

“آه يا ليل يا ليل / ياما طال الليل
آه يا ليل يا ليل / يا حلاوة الليل”

ثم تنتقل إلى تصوير محاولات الشاب للاقتراب من بيت الفتاة، وهو متكئ على عصاه، يبحث عن سبيل لرؤيتها، لتجيبه النسوة بوضوح:

“فايت على دربنا / متكي على الشوبة
حوِّد كدا حوِّد كدا / دا البت مخطوبة”

يتكرر في التراث الغنائي الصعيدي حضور الحمام باعتباره رمزًا للحب والحرية؛ وفي واحدة من الأغاني الشعبية الشهيرة، تتحدث الفتاة عن حمامها الذي اختلط بحمام جارها علي، لتكشف بذكاء عن فكرة أن العاطفة تتجاوز الحدود التي يفرضها المجتمع:

“يامّه حمامي اتخلط / ويّا حمام الواد علي
وطلعت له بمقشّة / ونزلت له بمقشّة
ولقيت حمامة بتتمشّى / مع حمام الواد علي”

المقشّة هنا رمز لمحاولة ضبط العاطفة ومنع الاختلاط، لكن في النهاية تظل الحمائم ـ مثل القلوب ـ حرة عصيّة على السيطرة.

من أبهى الصور الرمزية التي وثّقتها النساء في الغناء الشعبي، تشبيه الفتيات اللواتي يتهيأن للزواج بالقصب العطشان إلى الماء، انتظارًا للعريس الذي يروي ظمأهن العاطفي والاجتماعي:

“القصب القصب / القصب عايز مية يا واد
محلاكي يا بت يا بيضا / لما العريس يخش
يلقاكي بيضا بيضا / ومبيضاله الوش”

تعود النساء إلى الاستعارات الشعبية القديمة، فتغني إحداهن عن القط الذي تسلل إلى الخزانة وخطف الفروجة (الدجاجة)، في صورة شفافة عن اختطاف العريس لعروسه من بيتها:

“والقط دخل الخزانة / خطف الفروجة العريانة / والبت نايمة ونعسانة / وتعالى قُلِّي”

كما تكشف بعض الأهازيج عن المساومة بين العريس والعروسة، حيث يُغريها بالمحفظة وما فيها من نقود مقابل “حبة” أي قبلة واحدة:

“حبّة يا عروسة / واديكي المحفظة
ياما لبست خلخالها / ياما قلعت خلخالها
بتوريه جمالها / علشان المحفظة”

هنا تتضح براعة الغناء الشعبي في تصوير المفاوضة بين الرغبة والجمال، المال والفتنة، بأسلوب لا يخلو من الطرافة.

السياق | البداية من باب العروس

يبدأ طقس الزواج في صعيد مصر بإرسال الفتى طالب القِرب ما يُسمّى بالسياق إلى أهل العروس. السياق هو شخص (أو مجموعة) تُرسَل سرًّا لجس النبض قبل أي إعلان رسمي عن الاقتران؛ وغالبًا ما تكون السياقة من نساء عائلة العريس، تحديدًا من اللاتي يُعرفن بالتكتم والقدرة على كسب القبول عند أهل العروس. يسهّل وجود المرأة هنا الدخول إلى البيت، ويجعل الحديث أقل حدّة مما لو جاء رجل.

المهمة الأساسية للسياق هي استطلاع الموقف: هل العائلة مستعدة من حيث المبدأ لقبول الفتى؟ ما العوائق والتحفظات المحتملة؟ وفي حال وُجد تجاوب مبدئي، تبدأ التحضيرات للخطوة التالية. إذا جاء الرفض، يبقى الأمر طيّ الكتمان، فلا ينكشف الفتى ولا تتعرض سمعته أو سمعة الفتاة للإحراج.

تتحول هذه الخطوة، التي تبدو إجرائية وبسيطة، في الأغاني الشعبية إلى مسرح رمزي كامل: يجلس الأب في قلب المشهد، العروس حاضرة بغيابها، ويطلّ الخطيب مغنيًا شكواه وصابرًا ومساوِمًا.

تقول إحدى الأغنيات:

“بدري زمان بصيت أبوكي
يا صغيرة ياللي الملوك خطبوكي
شهرين واربع ليالي واقفين على الباب
شهرين واربع ليالي حتى أبوكي طاب”

في نص آخر، تتجسد سلطة الأب والأخ معًا عبر الطلب:

“بنت الأكابر روحوا شاوروا أبوها
ألفين شريفة في الطبق حطوها
بنت الأكابر روحوا شاوروا أخوها
وألفين شريفة في الطبق املوها”

يوضع المهر في طبق كبير أمام الجمع، وتبقى الخيمة فضاءً تفاوضيًا بين العائلات. تكشف الأغنية أن المهر بعيدًا عن ماديته هو أيضًا علامة على النسب والشرف.

أما النص الثالث، فيميل إلى الحسي والمباشر:

“حجلك ضرب في الطشت يا عجباني
أبوكي رضي ولا نزيده تاني”

يحوّل صوت الخلخال الجسد إلى لغة إغراء، لكنه يعود مرة أخرى ليُذكّر بأن مفتاح القرار يظل في يد الأب: هل رضي أم يحتاج الأمر إلى زيادة أخرى في المهر؟

كما تشير دراسة نهلة محمد نجيب حول خطاب الأغاني الشعبية في المجتمعات الشعبية في صعيد مصر والقاهرة، تمثل الأغاني خطابًا لغويًا – ثقافيًا يعيد إنتاج موازين القرابة والسلطة والاقتصاد داخل المجتمع. حيث يظل الأب وصيّ القرار، ويفاوض الخطيب ويصبر، وتصوَّر العروس بين رمز الذهب وجسد الموزة. يقدَّم كل ذلك عبر نصوص شفوية تحفظها النساء وتعيد ترديدها جيلًا بعد جيل، فتمنح السياق بعده الرمزي والطقسي.

بعد السياقة الأولى وجسّ النبض، يبدأ العرف في التصعيد التدريجي. فإذا كان الجو مهيأً والفتى مقبولًا، تأتي الخطوة الثانية: السياقة العلنية. هذه المرة يذهب كبار العائلة في وفد رسمي، ويكون على أهل العروس أن يُقيموا لهم عشاءً ويوزعوا الحلوى والشوكولاتة على الضيوف.

لكن القاعدة الاجتماعية تحتم أن “يتبغدد” أهل العروس: يردّون بالمراوغة، هنفكر، هنشوف، حتى وإن كانوا قد حسموا أمرهم في داخلهم. فالتمنّع هنا جزء من الأصول، وإلا ظهروا وكأنهم متعطشون لتزويج ابنتهم. لهذا قد يستغرق الرد أيّامًا، فلا يقال القبول في المجلس نفسه. بل يُرسل والد العروس لاحقًا في طلب أحد وجهاء السياقة الثانية ليبلغه بالموافقة الرسمية.

عند هذه اللحظة فقط، يدخل العريس المشهد لأول مرة، ويكون ظهوره العلني في يوم قراءة الفاتحة، وسط حشد كبير من الأهل والأقارب، يُجمعون على عربات مكشوفة في موكب احتفالي يجوب الشوارع. من هنا تبدأ مرحلة الخطبة بما تحمله من طقوس علنية بعد أن أُنجزت كل المفاوضات الرمزية خلف الأبواب المغلقة.

من عمود صفية إلى مقادير | الخطبة

بعد الاتفاق على الخطبة تبدأ طقوس جديدة، أبرزها الغناء الجماعي تحت عمود جدتي صفية كما كنّا نسميه. كان هذا العمود الكهربائي الضخم – شبه الوحيد في القرية أواخر التسعينات – علامة على الفرح والتجمع. أسفله مقعد إسمنتي نفتَرشه بالحصير المصنوع يدويًا من نبات الحلف الذي ينمو على جنبات الترع والمصارف قبل أن تتحول الحصر ﻻحقًا إلى البلاستيك. عند مدخل القرية، يصبح العمود ساحة صغيرة للنساء والفتيات اللواتي يتجمعن ليغنين الأغاني الفلكلورية والتراثية التي لا تزال تُردد حتى اليوم.

في هذه اللحظات كانت أغنية فاطمة عيد، هو اللي خطبها، تفتتح المشهد:

“هو اللي خطبها هو اللي نقاها
راح وقال لابوها أنا دايب في هواها
خد أبوه وأمه وخاله ويّا عمه
والشبكة قدمها للي بيتمناها”

وبجوارها أغنيتها الأخرى:

“هالله هالله يا مية مليون ما شاء الله
عروستنا حلوة والله
هالله هالله عريسنا حلو والله
مات يالا بينا يالا دي الفرحة علينا هالّة
دا الحلوة أم ضفيرتين كبرت بالصلاة على الزين
صبحت عروسة بالصلاة على الزين
خد بالك منها يا واد واتدارى من الحساد
خلي تكالك على الله
هالله هالله يا مية مليون ما شاء الله”

تكرّس هذه الأغاني صورة العريس الذي تقدم رسميًا، ووالده وأهله الذين قدموا الشبكة وانتظروا الفرح، بينما تحتفي بالعروس كحلوة أم ضفرتين يجب صونها وحمايتها.

كنا نردد أيضًا في ليلة الخطبة أغنية بحر أبو جريشة الخالدة مقادير، التي ارتبطت بذاكرة كثير من الأمهات مع سنوات الغربة الطويلة:

“مقادير مقادير مقادير / تعبنا من المشاوير”

يذكّر وجود هذه الأغنية في ليلة الخطبة بأن الزواج ليس مجرد لحظة فرح، بل امتداد لمشوار الغربة والعمل والكدّ لتأمين “الصفقة” كما يسميها الرجال ساخرين، تلك التي تنتهي في الغالب بإفلاس العريس. 

مع قراءة الفاتحة يواجه العريس أولى التزاماته المادية لإثبات قدرته على إعالة العروس وتجنيبها العوز مستقبلًا، وأولها شراء الذهب ودبلة الخطوبة:

“يا صايغ يا سمعان / اعمل لي دبلتي
واكتب لي عليها / أمي وخيّتي
وارسم لي عليها / أوضة مضللة
وشجر مفرع / بالعز يا وله”

بهذا المعنى، لا تكون الخطبة مجرد وعد بالزواج، بل بداية لمسؤولية مادية واجتماعية كبيرة، تتجسد أولًا في الذهب أو الشبكة كما يسميها أهل الصعيد، وهو طقس تشارك فيه العائلة والأقارب، ويعودون وهم ينشدون ابتهاجًا بخطوات تأسيس بيت الزوجية.

هنا يظهر طقس مشتروات الفاتحة بوصفه جزءًا من العرض الاجتماعي، محل تندر النساء ومقارنة البيوت. فيقلن إن على العريس أن يصحب العروس وخالاتها ليشتروا الشبكة ومعها الشيلة – سكر وبسكويت وفول سوداني وصابون ودبيحة وخضار – بينما أهل العروس يردون بإطعام الطعام على نطاق واسع، حتى مئات الضيوف، مع كميات هائلة من المحاشي والكعك والبسكويت والفايش، في سباق استعراضي للمكانة الاجتماعية.

تقترن هذه الطقوس دائمًا بغناء نسائي يمزج الفخر بالمداعبة والسخرية. في إحدى اﻷغنيات الشعبية القديمة التي تتردد في هذه المناسبة نسمع:

“فايت على دربنا قال السلام أومال
يا خوي رماك الهوى ولا رماك المال
ياختي رماني الهوى على سطح أبوها أنام”

تُلخّص الأغنية حال العريس العاشق الذي يتسلّل بنظراته إلى بيت عروسه المرتقبة، بينما تظل الأعراف والتقاليد قائمة، فتحجب ظهورها عن بيت العريس حتى تُزفّ إليه ليلة الزفاف. إذ كانت أي زيارة سابقة تُعد خرقًا للأصول، وتلحق بالعروس اللوم والعار طيلة حياتها.

أغاني كتب الكتاب

على إيقاع تصفيق الأيادي وضحكات الفرح التي تملأ الساحة، كان يعلو صوت أم ياسر السيدة الستينية التي كان يطلق عليها متعهدة الأغاني الفلكلورية، فلا يكتمل فرح لأهل العروس أو العريس إلا بوجودها. يلتف الكبار والصغار حولها بعد أن يشهر المأذون العقد رسميًا، أو كتب الكتاب. هناك تتألق أم ياسر في إنشاد الأغنية التي تثير الحماسة وتُشعل الأجواء:

“خدناها خدناها خدناها بالسيف الماضي وابوها ما كانش راضي
وعشانها بعنا الأراضي الحلوة اللي كسبناها
خدناها بالملايين وهُمَّ ما كانوش راضيين علشانها بيعنا الفدادين الحلوة اللي كسبناها”

يشتعل الحشد بالترديد من بعدها، ثم تنتقل إلى أغنية أخرى، أقرب إلى المداعبة والمناكفة بين أهل العريس وأهل العروس:

“أوعيله يا بت أوعيله دا الظابط يبقى زميله / أوعالها يا واد أوعالها دا الظابط يبقى خالها”

يتصاعد الهتاف والضحك، ويتبارى الشباب في ترديد: “وخاله مين يا ولا؟ دا خاله فلان يا ولا يدب بسيفه يا ولا بيحيّ ضيفه يا ولا.”

تنساب الأغاني في تتابعها المعتاد، مثل أغنية احنا الهوا بنلاعبه التي كثيرًا ما تشهد مناوشات طريفة بين الفريقين، لكنها تبقى من الأغاني الأساسية في أي كتب كتاب:

“يا عقرب يا مدفونة ياللي ريحتك عفونة / يا اللي قاعدين شرفتونا واحنا الهوا بنلاعبه” 

ومعها مقاطع صغيرة مثل:

“إحنا بنات ارمنت الحيط واخدين الحاجب على الخيط
واللي عايزنا يجينا البيت داحنا الهوا بنلاعبه
حبيبي جاني يجري حطيته على حجري سقيته اللبن يغلي
واحنا الهوا بنلاعبه بنلاعبه واحنا الهوا بنلاعبه
كل ما أقولك يا سمير تزعل وتسيب السرير ليلة أمك زي الطين
واحنا الهوا بنلاعبه بنلاعبه واحنا الهوا بنلاعبه”

تعكس هذه الأغاني ذات النَّفَس الشعبي الطويل المزاج الجمعي في لحظات التحوّل الكبرى من العزوبية إلى الزواج. كما كنا نغني أغنية توديع الحياة القديمة واستقبال الحياة الجديدة:

“أحلى الليالي الليلة ديه دي ليلة حلوة مندية على القمر كتبوا كتابي وداع يا حياة العزوبية
أنا لما بنظر لعيونك بشوف أجمل لون لونك وبدعي ربي يصونك أنا ليك وانت ليا
حبيبتك والحب عذاب أتقدم وأدق الباب وعلى خير نكتب الكتاب وأفرح أهلك وأهاليا
أم يا أم الشعر المتحني شفايفك تين محلي بدعي ربي يخليكي ليَّ يا أحلى صبية”

التنجيد

بعد الخطوبة واستكمال جهاز العروس، تأتي مرحلة التنجيد التي تمثل خطوة أساسية في إظهار اكتمال بيت الزوجية أمام الناس، لترافق مجموعة من الأغاني الشعبية عملية فرش الأثاث وتجهيز الغرف.

من بين هذه الأغاني ما يُعرف بأغنية يا منجد علي المرتبة، التي تخاطب المنجد مباشرة أثناء عمله، في صيغة أقرب إلى الدعاء أو التوسل، إذ يُنظر إلى التنجيد باعتباره عملًا يهيئ العروس لحياة جديدة.

كما تتردد أغنية أخرى مرتبطة بالأثاث والغرف، هي:

“افرحي يادي الأوضة / جياكي عروسة موضة
افرحى يادي المندرة / جياكي عروسة سكرة
افرحي يادي القاعة / جياكي عروسة الساعة”

يلاحظ هنا أن الغناء يتجاوز مخاطبة الأشخاص إلى مخاطبة المكان نفسه، في أسلوب شاعري يضفي حياة على جدران البيت. إذ تتحول الأوضة والمندرة والقاعة إلى كائنات تشارك أهل البيت فرحتهم.

يعكس هذا النوع من الخطاب نزعة عميقة في الثقافة الشعبية نحو إحياء المكان وإسباغ الروح عليه، وهو ما يوازي تقاليد أخرى في الأدب الشعبي والصوفي على حد سواء، حيث تُخاطَب الديار أو تُستدعى الأماكن بوصفها شركاء في المشاعر الإنسانية.

أغاني الخبيز

قبل موعد الزفاف بأيام، يبدأ طقس الخبيز؛ ذلك المشهد النسائي الخالص الذي لا تخلو منه أي فرحة في قريتنا. في بيت العروس تتجمع عشرات النساء والفتيات يضحكن ويتسامرن ويتقاسمن المهام، مجموعة تغسل الصاجات الثقيلة التي ستُخبَز عليها المخبوزات الخاصة بالعروس، أخريات يعجنّ البسكوت والفايش والكحك أو الناعم كما نطلق عليه في قريتنا، والبعض يقفن عند الفرن الطيني لتسوية الأرغفة والبسكوتات الخارجة تباعًا من العجين.

كنتُ أنا دائمًا أقف عند الماكينة – الآلة الحديدية التي يوضع فيها عجين البسكوت – أُدير ذراعها الطويلة بيديّ حتى يخرج العجين على هيئة أشكال مختلفة، تسعة أمواس في داخلها لكل منها قالب مميز، لكننا دائمًا ما نختار شكل النجمة الأكثر شيوعًا والأحب للجميع.

أثناء العمل، كان الفرح الغنائي يشتعل، والأغاني الشعبية تتردد بلا انقطاع، وكأنها تُنسج مع رائحة السمن والبهارات والطحين:

يتكرر المقطع بأشكاله المختلفة عن الحمام والفراخ، والنساء يضحكن ويتبادلن النكات بينما يتوالى العجن والخبيز.

ثم تأتي أغنيات أخرى جماعية، أقرب للهتاف والإيقاع:

“وعلى النبي صلي ويا عاشق النبي صلي
راجل يا ابو حنطور دور ع المحطة ودور
فسّح بنات الحور وعلى النبي صلي”

بهذه الأهازيج والأغاني، تتحول ليلة الخبيز إلى كرنفال نسائي منظم؛ خليط من العمل الجماعي والبهجة والذكريات، تنقش في الذاكرة مثلما ينقش شكل النجمة على البسكوت الخارج من الماكينة.

ما إن يُتفق على موعد الزفاف حتى تبدأ الزفة اليومية، وهي احتفال قد يمتد لأربعين ليلة، ولا يقل عن أسبوع في أضيق صوره. كل ليلة، وبعد صلاة العشاء، تجتمع النساء والفتيات في بيت العروس للغناء والرقص، وتشاركهن العروس نفسها.

وإذا ارتبطت العروس أو العريس بطريق صوفي، تُضاف للزفة أبعاد روحية؛ إذ تدور العروس بثوبها الأبيض حول مقام شيخ الطريقة وتشرب من زير الشيخ المبارك، فيما يبدّل العريس ملابسه في المقام نفسه قبل الفرح.

في الأقصر، يشيع قصد مقام سيدي أبو الحجاج وسط المدينة، بينما في غربها يقصد الأهالي ساحة الشيخ الطيب، وكذلك مقامي الشيخ موسى والشيخ الدوشي بالجبلين، ليغدو العرس طقسًا يجمع بين الصوفي والشعبي، وبين ما هو ضارب الجذور وصولًا إلى الفراعنة.

أغاني الحنّة

ليلة الحنّة في الصعيد هي العرس الصغير الذي يسبق العرس الكبير. لحظة بهجة نسائية خالصة، تعلوها الزغاريد وتغمرها الروائح العطرية للخلطات النوبية والسودانية التي لا تكشف الحنّانة أسرارها أبدًا.

في هذه الليلة، تلتف البنات حول العروس ليشاركن، كما يُعتقد، الملائكة في تزيينها لعريسها. تمد النساء الكبيرات المُدّة، أي السفرة العامرة بالخضروات واللحوم والحلوى، فيما تنشغل الصغيرات بتدليل العروس: حمام طبيعي من الترمس المطحون والردّة والنشا والأرز، يتبعه غُسل بماء الورد، ثم يُدهن جسدها بالدلكة السودانية التي تظل رائحتها عالقة في جلدها أيامًا.

تدور عجينة الحنّة البلدي، المزدانة بالشموع الملونة، بين البيوت على وقع الزغاريد، حتى تصل إلى يد العروس. بعد أن تُحنى كفاها وقدماها وربما خصل من شعرها، تتخاطف الصبايا قطعًا صغيرة من العجين فألًا بأن تكون إحداهن العروس التالية. أما العريس فله حنّته الخاصة، التي قد تكون أقرب إلى سهرة رجالية بالقرآن أو الربابة أو الكف، وقد تُستدعى إليها الغوازي لإشعال الليلة.

ترافق هذه الطقوس أغانٍ متوارثة تعلن الفرحة وتُعبّر عن مخاوف العروس في الوقت نفسه. من أشهرها:

“مدّي إيدك يا عروسة / مدّي إيدك للحنّة
مدّي إيدك يا عروسة / مدّي إيدك واتحنّي”

تأتي في هذا السياق الأغنية التاريخية الحنّة يا حنّة يا قطر الندى، التي ارتبطت منذ القرن التاسع الميلادي بزفاف ابنة والي مصر خمارويه، قطر الندى، قبل رحيلها إلى بغداد للزواج من الخليفة المعتضد بالله. بقيت هذه الأغنية في الذاكرة الجمعية، لتعود بصياغة معاصرة كتبها مرسي جميل عزيز ولحنها بليغ حمدي وغنّتها شادية، حيث تحاكي مشاعر العروس القلقة من الانتقال إلى بيت الزوج:

“الحنّة يا الحنّة / يا قطر الندى
يا شباك حبيبي / جلاب الهوا”

ليلة الحنّة بهذا المعنى مساحة مزدوجة: احتفال بالفرح المقبل، وفي الوقت نفسه لحظة اعتراف ضمني بالمخاوف من حياة جديدة وعلاقات سلطة تنتظر العروس في بيت الزوج.

تبلغ طقوس الزواج في صعيد مصر ذروتها فيما يُعرف بـ النهارية، أي صباح ليلة الدخلة. يتحوّل هذا اليوم إلى ما يشبه المولد الشعبي، إذ يقوم أهل العريس بذبح عجل وتوزيع الطعام بكثرة: شوالات من الأرز والفاصوليا البيضاء، وقفصين من الطماطم، فضلًا عن ثلاثين مُدًّا من الدقيق تُعطى لنساء القرية ليخبزن منها الخبز الشمسي الذي يكفي الجميع. في الأثناء، تجتمع الفتيات لتقطيع الملوخية وتقشير البامية وتنقية الأرز، بينما يُحضَّر فطور النهارية المخصص للضيوف.

لفطور النهارية رمزية خاصة؛ إذ لا بد أن يكون أبيض اللون، مثل المهلبية أو الأرز باللبن، في إشارة إلى النقاء، ثم يُوزّع على بيوت القرية باعتباره حلاوة العرس. يقضي العرف بأن لا تعاد الأطباق إلى بيت العريس فارغة، بل يُعاد ملؤها بأي شيء ولو كان قطعة صابون معطّرة.

في المساء، تُتوَّج الطقوس السابقة من حنّة وتنجيد وزفة باحتفال كبير. فإذا كان العريس ميسورًا، أقام سرادقًا في ساحة قريبة من منزله وجلب مطربي الكف، وهو فن يقوم على مبارزات شعرية غزلية يشارك فيها الرجال على وقع التصفيق الجماعي. أما الأوفر حظًا من حيث المال، فيستدعي كبار المدّاحين والمقرئين ليتحوّل فرحه إلى مولد كامل الطقوس.

في هذا اليوم، ترتدي العروس فستانها الأبيض وتاجها اللامع، وتُزيَّن ملامحها غالبًا على غرار نجمات السينما المصرية في تسعينيات القرن الماضي، بينما يتولى الكوافير فرد شعرها عبر المكواة الحديدية المُسخّنة على النار، إذ يُعتقد أن الكهربائية لا تلائم طبيعة الشعر الجنوبي المائل إلى التموج.

أغاني ليلة الزفاف

“سير بينا يا قطار سير بينا على بلد حبيبي ودينا” بهذه الأغنية كنّا نبدأ دائمًا “الطبيل” في أفراح القرية. لا تتغير الافتتاحية أبدًا، ربما لأن أمهاتنا والسيدات الأكبر سنًا أحببنها وتمسكن بها، فصرنا نرددها مرة واثنتين وأكثر حتى غدت لازمة جماعية، قاموسًا غير مكتوب لافتتاح الغناء النسائي. ربما ظلّت الأغنية عالقة لأنها تعبّر عن رمزية القطار، قطار الزواج الذي يبدأ في الانطلاق نحو حياة جديدة، وعن رحلة الفتاة إلى بيت حبيبها وزوجها البعيد عن بيت أهلها، في انتقال يجمع بين الشوق والحنين والمجهول.

كما تحضر دائمًا أغنية “الورد كان شوك لأجل النبي فتح” في استقبال العريس أو العروس، إيذانًا ببدء الاحتفال، بينما تتنوّع الأغاني الأخرى بحسب المناسبة وما إذا كانت موجهة للعروس أو لأهلها، مثل:

“يحيا أبوها وشنبه اللي محدش غلبه
يحيا أبوها ورمش عنيه اللي محدش مشا عليه
يحيا أبوها وخالها اللي يودوا عزالها
يحيا أبوها يحيا عاوج الطربوش ع الناحية”

 

وأخرى يُغنّيها الأقارب والجيران في جو من المزاح والتفاخر:

“دولا مين ودولا مين / دول أهلك يا عروسة زي الورد مفتحين
دولا مين ودولا مين / دول أهلك يا عريسنا زي الشمع منورين”

 

كما تشتهر أغنيات مثل ع النسب يا غالي مين اللي دلك وما داريش وين وفي اللبني خايل يا اسمر وع القمر. أيضًا، من أصدق ما يعكس التوتر النفسي للعروس بين الفرح والرهبة، تلك الأغنية التي تُنسب إلى العروس نفسها، إذ تصف فيها رحلتها منذ اقتلاعها من بيت أبيها حتى زُفّت إلى بيت رجل غريب. 

تُغنّي العروس ما جرى لها من استعدادات مؤلمة، كأنها تُغَرَّب عن المكان الذي نشأت فيه، لتُلقى في عالم مجهول لا تعرف قوانينه ولا عاداته؛ وبينما يفرح الأب بزواج ابنته وسترها، تشعر هي بالحزن والخوف من مصيرها المقبل: هل ستلقى في جنة الزوجية أم في نار العبودية وبحر الأيام المتلاطم؟

فتخاطب أباها الفقير أبو الحسن في نص مؤثر يقول:

“بسكّين السلخانة وسلخوني يا ابو الحسن
بالليفة والصابونة وغسلوني يا ابو الحسن
والطرحة والعباية ولبسوني يا ابو الحسن
وعلى فرسة العمدة وركّبوني يا ابو الحسن
وفي البحر الكبير وحدفوني يا ابو الحسن”

 

يكشف النص، برمزيته الفجّة، عن لحظة التغريب التي تمر بها الفتاة، إذ تُشبّه عمليات التنظيف والنتف القاسية التي تُجرى لجسدها بالسلخ بسكين السلخانة. إذ يعاد تشكيل العروس هنا قسرًا على أيدي النساء، اللواتي لا يرحمن هشاشتها ولا جسدها الغض، لتُلقى في عالم مجهول عنوانه الزوج.

وفي بيت العريس مع وداع العزوبية، تتردّد أغنيات مثل:

“حلال عليك ست الحلوين / عرفت يا عريسنا تنقى
رشوا الملح يا ناس من العين / الليلة ليلة هنا وسرور
وكوبايات في صواني بتدور”

 

وفي منطقة ريفية يتجلى أثر البيئة الزراعية والمفاهيم السائدة:

“من سبل الغلة / ما تجيب لنا يا حمام
دا أنا عندي عروسة صغيرة / تستاهل الزفة
يجعل قدمها لبن / ع السلفة والعمة وتبكري بالولد”

 

هنا تنكشف قيمة أن تكون العروس صغيرة السن لتُنجب كثيرًا من الأولاد، وأن الإنجاب – خصوصًا للولد – هو الغاية الأولى من الزواج، وهي مفاهيم ما زالت تسيطر على الريف والصعيد.

كما يوجّه أهل العروس التحية لوالدها الذي أحسن تربيتها:

“رشوا الشارع مية / عروسة الغالي جاية
رشوا الشارع كاكولا / عروسة الغالي منقولة”

ومنها ما يصف سعي أم العريس لدعوة الأهل والأحباب:

أم العريس ولا حد لاقيها / دايرة البلد تدعي مداعيها
أم العريس ولا حد واجدها / دايرة البلد تدعي حبايبها”

 

كما تشتهر أغنيات فرحولي الغالي عاد يا حبايب ويا حبايب قولوا يلا وعيني وأخت العريس وكلها تعكس رغبة الأهل والأحباب في مشاركة أهل العريس فرحتهم بابنهم، وتُختتم غالبًا بأدعية شعبية من قبيل يا رب يتمم على خير توكيدًا على الأمل بتمام الزيجة في أجواء من البركة والرضا. كما أن هناك أغنيات تميل إلى المرح والدعابة، مثل:

“يا بلح أحمر في الكوباية / عريسنا جاي اسم الله عليه
لما قابلني في شارع السيما / قلي رايحة فين يا نعيمة”

 

تُختتم الليلة بالزفّة، حيث يركب العريس والعروس سيارة مزيّنة بالشرائط والأقمشة (كانت البيجو ٥٠٤ هي الأشهر)، تصحبها الزغاريد والموسيقى، ثم يُستقبلان في المسرح حيث يجري تدوين النقوط – مبالغ مالية أو هدايا – في دفتر خاص لتُردّ في أفراح الآخرين.

لم تكن كل الأغاني النسائية بريئة أو محايدة، بل وُجدت مساحة أخرى أكثر جرأة عُرفت بـ الأغاني المكشوفة، وهي مقاطع تفيض بالإيحاءات الجنسية أو الوصف الجسدي، لكنها تظل محصّنة بستر الغناء والرمز؛ فالأغنية إحدى وسائل تمرير المعرفة، خاصة في البيئات المغلقة والمحافظة كالصعيد المصري.

في كتابه أغاني النساء في صعيد مصر، جمع محمد شحاتة عددًا من هذه النصوص وشرح دلالاتها. يشبّه بعضها ثدي الفتاة بـ الرمان: “يا رمان ع الحواشي وجنيته أنا وماشي / وأخضر مستواش فرحك يا عريس هايل”، أو البرتقال كناية عن النضج والاستعداد للزواج: “والعرباوي كان عيان وصفوله البرتكان والبرتكان دوا العيان”، وأغنيات أخرى مثل “حلو مص الشفايف ومحدّق يا لمون.”

قد تبدو هذه النصوص فاضحة بمعايير اليوم، لكنها كانت جزءًا من منظومة تعليمية شعبية؛ إذ لم يكن هناك مجال للأبوين أن يشرحا لبناتهما وأبنائهما طبيعة العلاقة الزوجية بسبب الحرج الاجتماعي والديني، فجاءت الأغاني لتسد هذه الفجوة. أيضًا، كما يوضح شحاتة، كان الهدف منها تهيئة المقبلين على الزواج وتخفيف رهبتهم من هذا العالم الجديد.

يرى الدكتور خالد أبو الليل، أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة، في حديثه مع رصيف ٢٢، أن النظر لهذه الأغاني من منظور أخلاقي بحت يجردها من سياقها التاريخي والاجتماعي؛ فهي تراث شفهي مجهول المؤلف، قيل في زمن أكثر تحفظًا وتماسكًا من الحاضر، لكنها مع ذلك أدت وظيفة معرفية ونفسية مهمة. كان المجتمع الصعيدي مؤمنًا بأن الفتاة إذا دخلت الحياة الزوجية دون معرفة مسبقة قد تتعرض لصدمة، لذا جرى توظيف الغناء كوسيلة تهيئة وتعليم.

كذلك إذا كانت بعض هذه الأغاني تُردَّد في سياقات نسائية أو رجالية منفصلة لتعليم الأبناء والبنات بشكل غير مباشر مفردات العلاقة الزوجية، هناك أيضًا موروثات أخرى موازية في صراحتها، مثل ما رصده الباحث كرم الأبنوذي حول ما يُعرف بالمقارفة. كان هذا الموروث شائعًا بين الصبية في سن العاشرة حتى الخامسة عشرة، ويتخذ شكل ألعاب كلامية فاحشة تحمل تصريحات مكشوفة وألفاظًا جارحة؛ ومن نصوصه المتداولة “الليل الليل / الليل الليل / ومعاه سمك مقلي / ومعاي سمك مقلي / أول ما وعيت لجيبي / وقعت من عقلي / ومعاه سمك بوري / ومعاي سمك بوري / أول ما وعيت لجيبي / وقعت من طولي.”

تكشف مثل هذه النصوص أن المجتمع الشعبي لم يكن يُقصي الحديث عن الجسد، بل يُدرجه ضمن قوالب غنائية أو لعبية تحفظ الحياء العام وتُشبع في الوقت ذاته فضول الأفراد في مراحل عمرية مختلفة. هي امتداد طبيعي لفكرة الأغاني المكشوفة في الأفراح، لكنها تُمارس في سن أبكر وبصورة أكثر سرية.

في ليلة الدخلة خصوصًا، حيث كان عمر العرائس والعرسان صغيرًا نسبيًا، يصبح الغناء وسيلة لتمرير ما لا يُقال مباشرة، مثل “نوم السرير شوكني / ونوم دراعك حرير / والواد من كتر هزاره / كسر رجل السرير / وآدي السرير من تعبه / يدعي ع النجّارين.”

كما يوصف دخول العروس حجرتها بأغانٍ مثل “والعين تشيل وقية / م الكحل آبو دلال / هاتلي خمرة نضيفة / وأقلعلك القميص.”

تصل الرمزية أحيانًا إلى السخرية المباشرة: “ما اعرفش أدوق الكسبرة / هاي هاي / إلا بقميص المسخرة / هاي هاي / معرفش أدوق التوم / هاي هاي / إلا بقميص النوم.”

كما قد تحمل جرأة في التعبير عن الجسد واللذة، إذ تعبر  الفتيات بصراحة عن التعب من الرقص أو السهر، ويتغنين بهمسات جريئة:

“ياللي ع الترعة حوِّد ع المالح
وسطي بيوجعني من رقص امبارح
يا اللي على الترعة حوّد على المالح
شعري بيوجعني من شد امبارح
خدي بيوجعني من بوس امبارح
ضهري بيوجعني من نوم امبارح
يا اللي على الترعة حوّد على المالح
حاسب على بيتنا بانيينه امبارح”

تجاوز دور الأغاني النسائية في الصعيد مجرد الخلفية للفرح أو الحزن، بل شكّلت نظامًا رمزيًا متكاملًا يعبّر عن تفاصيل الحياة اليومية ويُعيد إنتاج القيم الاجتماعية. في لحظةٍ تمجّد العريس وأهله، وفي أخرى تُذكّر العروس بخوفها واغترابها، وفي ثالثة تجرؤ على كشف المستور من العلاقة الزوجية.

بهذا المعنى، تبدو أغاني الأفراح مؤسسة تعليمية غير مكتوبة. تراث شفهي مجهول المؤلف، لكنه باقٍ في الذاكرة الجمعية كوثيقة حيّة عن المجتمع، تكشف توازناته بين الكتمان والإفصاح، وبين الصرامة والمرح، وبين المقدّس والدنيوي.

المزيـــد علــى معـــازف