.
“أخي، أملي، سلاحي، درعي، أنا معك ومع الملايين في موعد مع النصر“
لم تكن النداءات اليومية التي سجلتها أم كلثوم بصوتها في الإذاعة المصرية الإذاعة المصرية سبعون عامًا ١٩٣٤-٢٠٠٤ شاهدة على العصر، كتاب أيام مصرية، الطبعة الأولى، القاهرة، ٢٠٠٤ ص ١١٦، صوت بلدنا (عبد الفتاح مصطفى والموجي) غريبة على أيديولجية النصر التي حملتها نصوص أغاني السنوات السابقة على هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧. تزامنت تلك النداءات التي لم تصلنا تسجيلاتها وربما لم يصل بثها لجنود الجبهة أنفسهم مع حالة التعبئة العامة التي بدأت منذ ١٥ مايو/أيار بعد انتشار خبر الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية وتصاعدت بإغلاق خليج العقبة من مضيق تيران المصرية في ٢٢ مايو/أيار ١٩٦٧ في يوم ١٣ مايو أبلغ وزير الدفاع السوري حافظ الأسد المشير عبد الحكيم عامر عن حشود عسكرية إسرائيلية على الحدود السورية تبلغ ما بين أحد عشر إلى ثلاثة عشر لواءً' وكان رد الفعل المصري رفع حالة الطوارئ في الأراضي المصرية إلى الدرجة القصوى في ١٥ مايو ١٩٦٧. بعد الإغلاق بيومين عبّرت أم كلثوم عن أملها في انتصار قريب تغني بعده في تل أبيب. الإذاعة المصرية سبعون عامًا. مصدر سابق.
كانت مسيرة الُمنجَز المُعجِز في أيديولجية الغناء السياسي الناصري قد بدأت قبل ذلك بكثير، المنجز الذي تم ولا يحق لنا التساؤل كيف أو متى، المعجز لأننا بدون الزعيم لن نأتي بمثله أبدًا. فمنذ أن قرر أحمد شفيق كامل أننا “انتصرنا انتصرنا انتصرنا” في حكاية شعب والتي كانت ثاني أغنية يبثها التلفزيون العربي عند بدء بثه يوم الخميس ٢١ يوليو/تموز ١٩٦٠، رحاب خالد، نجاة الصغيرة، دار الكرمة للنشر، القاهرة ٢٠١٦ صـ ١٧٩ . تصاعدت لهجة الانتصار الغنائية وتجاوزت حالة الرقص الشعبي الفرح ببناء السد العالي. انضمت أم كلثوم لركب النصر السياسي المُغنى سريعًا، “بُسنا السما وياه” في ثوار (جاهين والسنباطي يوليو/تموز ١٩٦١)، و”الشعب لا شيء قد أعجزه وكل الذي قاله أنجزه” في على باب مصر (كامل الشناوي وعبد الوهاب يوليو/تموز ١٩٦٤)، وقبل النكسة بعام غنت لبطل الثورة الذي “لم تعطنا الدنيا سواه ولا نريد لها سواه” في الفجر الجديد (محمد الماحي والسنباطي يوليو/تموز ١٩٦٦).
في تلك السنوات، كانت أم كلثوم تمثل منجزًا غنائيًا حقيقيًا تجسد عبر مسيرة عقود سابقة، وهو ما قد تأكد عبر أسلوب جمالي خاص مختلف عن سابقه فُرض على المستمعين. وصلت أم كلثوم الستينيات وقد استوت بالمعنيين العامي والفصيح، فنضجت تمامًا واستولت على عرش ألوهة الغناء المصري واحدة لا شريك لها بعد تنحي المنافسات الأوليات عن طريقها. لم يكن ينقص كمالها شيئٌ بعد أن ضمت القطب المنافس عبد الوهاب إلى جوقة ملحنيها، كانت هي “اكتمال مسيرة تحرير الغناء المصري من عجمته التركية الغجرية” كما عبّر النقد الموسيقي الوطني السائد بلسان كمال النجمي على سبيل المثال، الغناء المصري مطربون ومستمعون دار الهلال، القاهرة ١٩٩٣ وتراث الغناء العربي مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٩٨. المعادل الفني لانتصار مسيرة يوليو/تموز ١٩٥٢ على ما قبلها من مراهقة ثورية ورجعية بائدة. رفع هذا النقد الست إلى مستوى ميتافيزيقي فجاورت إيزيس أم حورس والعذراء مريم أم النور والسيدة زينب أم هاشم نعمات أحمد فؤاد، أم كلثوم وعصر من الفن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية ١٩٨٣، ونقد هذا التصور الميتافيزيقي والإعلاء الديني لأم كلثوم عند حازم صاغية، الهوى دون أهله أم كلثوم سيرة ونصًا، دار الجديد لبنان ١٩٩١ . ومثلما ألّهها النقد السائد نُسخ تراثها القديم بالمعنى الديني للنسخ” فالنسخ في اللغة عبارة عن إبطال شيء وإقامة آخر مقامه، قال أبو حاتم: الأصل في النسخ أن يحول العسل في خلية والنحل في أخرى ومنه نسخ الكتاب' الناسخ والمنسوخ لابن حزم، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان ١٩٨٦، فأصبحت أم كلثوم، تلك التي عُرفت في الأسطوانات مجرد ذكرى بعيدة لا تُذاع عبر أثير صوت بلدنا ولا يتذكرها سوى عواجيز مخلصين للعهد للبائد. أما أم كلثوم الأفلام، فهي الآنسة التي لم تنضج بعد، تلك التي يثير تمثيلها الضحك لدى الجيل الصاعد. ولم تعد أم كلثوم نفسها بعد رباعيات الخيام في الأزبكية مارس/آذار ١٩٦١ لغناء ألحانٍ سابقة على يوليو/تموز ١٩٥٢ سوى مرتين: رباعيات الخيام في المغرب بعد النكسة وسلوا قلبي في مسرح قصر النيل في أسبوع النكسة.
كان الخميس أول يونيو/حزيران ١٩٦٧ السابق على النكسة هو الحفل الأخير في موسم أم كلثوم الغنائي السنوي الذي ينتهي ببداية الصيف ويعاود البدء في الخريف قبل ذاك الحفل، كانت أم كلثوم قد عاصرت أربع حروب وغنت خلالها. في الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) أنشدت وهي صبية تجوب الدلتا مع أبيها، وفي الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥) غنت أمام فاروق الأول 'الملك الديمقراطي' حسب هتاف الجماهير في حفلة النادي الأهلي سبتمبر /أيلول ١٩٤٤ التي منحها خلالها وسام الكمال، وفي حرب فلسطين ١٩٤٨ غنت حفلًا في النادي الأهلي خصص دخله للترفيه عن الجنود في الأراضي المقدسة، وفي حرب ١٩٥٦ غنت والله زمان يا سلاحي (جاهين وكمال الطويل) فصار بعدها بسنوات نشيدًا وطنيًا للبلاد، وغنت بعدها في حفلة لإعادة إعمار بورسعيد في يناير/كانون الأول ١٩٥٧ حفلة اشتهرت وسط السميعة الكلثوميين بحفلة عبارة يخرب بيتك. توافق المحتوى الأيديولوجي لنشيد الله معك، الذي بدأت به وصلتها الأولى في الحفل، مع التبشير بالنصر القريب الباقي لتحقيق كمال المُنجَز، “المرّة الجاية في تل أبيب” كما هتف واحد من الجمهور المتحمس في تسجيل الحفل. كان النشيد قد كُتب على عجلٍ وصُبت قوافيه في لحنٍ متعجل فصار الأداء المُسجل تلفزيونيًا والذي لم يذع مباشرة أول حفل ينقل في بث تلفزيوني مباشر وكامل هو حفل المغرب ٣مارس/ آذار ١٩٦٨ وسيأتي ذكره لاحقًا. على تضادٍ مع صورة المُعجِز الكلثومي. فأم كلثوم التي حافظت على تقليد الحفظ في زمن كتابة النوتة الموسيقية، جلس خلفها ملقّن يُلقنها كلمات النشيد، مشهد استدعى سخرية صلاح عيسى لاحقًا “منذ عشرين عامًا ونحن نستعد للرجوع كما رجع الصباح بعد ليلة مظلمة، فكيف لم تتدرب أم كلثوم على حفظ النشيد طوال هذه السنوات، وكيف تحتاج ملقناً ونحن على أبواب تل أبيب”. صلاح عيسى، مرثية أخرى للعمر الجميل في تباريح جريح، مكتبة مدبولي، القاهرة ١٩٨٨
احتشد الجنود في النشيد “سيوف من الصحاري للسهول زي الرسول” ولم ننتصر. “أكد عبد الناصر أننا قد كسبنا المعركة السياسية، وأن إسرائيل قد خسرتها على طول الخط” خالد فهمي، خمسون عاماً على هزيمة يونيو (٤): خمسة مشاهد على يومين http://khaledfahmy.org/ar/2017/05/19/%D8%AE%D9%85%D8%B3%D9%88%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%8B-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%88-%D9%A4-%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D9%85%D8%B4%D8%A7/ ولم ننتصر، انهزمنا وتنحى الزعيم.
لم تكن النكسة مجرد هزيمة عسكرية بل كانت ضربة لفكرة الإنجاز التام في الصميم، فبعد ما كانت الحشود على حدود فلسطين المحتلة سنة ١٩٤٨ من الشمال والشرق والجنوب كما قال جلال معوض في تقديمه لنشيد الله معك، ضاعت فلسطين التاريخية كلها ومعها سيناء والجولان. لم يبقَ أمام الزعيم، ذاك المُعجِز السياسي وقد تجسد بشرًا، سوى إعلان مسؤوليته والتنحي المستحيل عمليًا.
تلا التنحي مباشرة نشيدٌ آخر لأم كلثوم هو نشيد حبيب الشعب (صالح جودت والسنباطي)، أول أغنية تذكر النكسة صراحة والانفعالات اللحظية الناتجة عنها. أعد لحن النشيد، كسابقه، ليكون وعاءً حاملًا لنص كتب مواكبة لحدث، يطالب الشعب الزعيم بالبقاء، هو السد الواقي، تشبيهًا له بالإنجاز غير المكتمل أصلًا وقت اللحن. فلم يكتمل السد العالي سوى في ٢١ يوليو/تموز١٩٧٠ قبل رحيل الزعيم بشهرين، هو الذي تحول بعد النكسة إلى الناصر والمنصور، دون أدنى شعورٍ بالتناقض.
في مقابل نشيد الله معك، الداعي لحشد الجيوش للبدء بالهجوم الكاسح لاسترجاع فلسطين، أدت أم كلثوم نشيد إنا فدائيون (عبد الفتاح مصطفى وبليغ حمدي) بعد ثلاثة أسابيع من النكسة تشير به إلى “الوجوه الغادرة” البادئة بالعدوان. واللحن كسابقيه متعجل غابت عنه الصنعة السنباطية القادرة على سبك لحن سريع دون سقطات. أما الكلمات فهي متناقضة مع واقع الهزيمة تناقضًا يبلغ حد الفصام، فإن كانت “إنا فدائيون نفنى ولا نهون” تعبّر عن إرادة المقاومة بعد الهزيمة، فلا معنى لـ “لا يا عدوي يا ظهيرًا لعدوي لا لن ترى بحري ولا أرضي وجوي لا بل سأمضي وانتصاراتي تدوي” فيما العدو ينصب خيامه الصيفية على الضفة الشرقية لقناة السويس ويسبح في مياهها.
كان نصيب السنباطي ثلاثة ألحان من رباعية النكسة. في حق بلادك (كلمات عبد الوهاب محمد) يستعيد السنباطي أجواء ألحان ما قبل النكسة برجوعه لمقام الهزام المحُبب لديه. لم يُعدّ اللحن على عجل مقابل إخوانه في رباعية الهزيمة كما يبدو في المقدمة النشطة المستهّلة بالإيقاع والكورال. ويؤكد النص على المسؤولية الجماعية في إزالة آثار العدوان والأيديولوجية الرسمية لفترة ما بعد التنحي. فبينما كان التنحي إعلان مسؤولية الزعيم الفردية عمّا حدث، يأتي لحن حق بلادك ليقول “كلنا جند في كل ميدان”، مؤكدًا على المُنجَز “ياللي بنيت الهرم قبل الزمان بزمان وبنيت لنا في عصرنا السد في أسوان” وهي الجملة اللحنية المُرسلة التي تنتهي بتأكيد المُعجِز المقرر سلفًا، حيث تعتبر الأيديولوجية الوطنية الإنسان المصري استثناءً في تاريخ البشرية، “دا إنت مافيش يا بطل من معدنك إنسان.”
تزامنًا مع رباعية النكسة، بدأت أم كلثوم حملتها غير المسبوقة لدعم المجهود الحربي. بدأت الحملة بالتبرع بشيك مقداره ٢٠ ألف جنيه إسترلينيًا في ٢٠ يونيو/حزيران Laura Lohman ,‘The Artist of the People in the Battle’: Umm Kulthum’s Concerts for Egypt in Political Context in Laudan Nooshin, Music and the Play of Power in the Middle East, North Africa and Central Asia, Ashgate Publishing, Ltd., Jan 28, 2013١٩٦٧ وتكوين تجمع وطني للمرأة المصرية تتبرع عبره النساء بنقود ومصوغات لصالح المجهود الحربي محمود عوض، أم كلثوم التي لا يعرفها أحد، كتاب أخبار اليوم، الطبعة الأولى، القاهرة أغسطس/ آب ١٩٦٩، ص ١٥٦. عاودت أم كلثوم تسجيل نداءاتها الإذاعية داعية للتبرع Laura Lohman ,‘The Artist of the People in the Battle’ ibid وفي أغسطس أعلنت عن نيتها جمع مليون جنيه مصريًا عبر أربع وعشرين حفلة في أربع وعشرين محافظة مصرية، لم تتم منها سوى أربع حفلات في دمنهور والإسكندرية والمنصورة وطنطا. بعيدًا عن الألحان الوطنية المحكومة التي لا تسمح بارتجالات وتفاريد وإضافات، عادت أم كلثوم لمحصولها من الأغاني العاطفية لتؤكد قيمة فنها الذي أخضع للمساءلة من ضمن قيم كثيرة أخضعها جيل الشباب لامتحان قاسٍ بعد النكسة شهادة الفنان التشكيلي عادل السيوي في وثائقي أم كلثوم https://www.youtube.com/watch?v=lOojuNyNR7I. في حفل الإسكندرية (٣١ أغسطس/آب ١٩٦٧) ارتدت أم كلثوم فستانًا أخضر مثل حفلها السابق وحفلها اللاحق في پاريس وهو لون له دلالته في ذهن فلاحة مصرية وسلمها المحافظ حمدي عاشور مفتاح المدينة مثلما فعل قبله محافظ البحيرة في حفل دمنهور وهو تقليد غير معتاد في مصر. كانت الحفلة أثناء غياب جمال عبد الناصر عن البلاد في الخرطوم بعد قمة اللاءات الثلاث الشهيرة، ولم ينس المحافظ تعداد إنجازات الرئيس قبل أن تعزف الفرقة المقدمة الموسيقية. فاستلمت الست مفتاح المدينة لتكون حاميةً رمزيةً لها ضد الغزاة وغاراتهم. اختصرت الحفل في وصلتين، الأولى إنت عمري والثانية الأطلال، لتجمع بين أحدث المنضمين لركبها وأقدمهم من الأحياء وقتها بعد وفاة زكريا أحمد والقصبجي في سنوات سابقة.
أدت تلك الحفلات المخصصة للتبرع للمجهود الحربي دورًا معنويًا هامًا في التأكيد على رسالة عدم مسؤولية الزعيم وحده عن الهزيمة. فمسحت عملية إزالة آثار العدوان اعتراف الزعيم بمسؤوليته عن الهزيمة في إعلان تنحيه. وعلى المستوى الموسيقي، أدت الحفلات الدور الأهم في إعادة تمكين الإنجاز الكلثومي، فدمجت بين الغناء ودعم الجيش على مسرح واحد وأعادت التأكيد على أنّ أم كلثوم مطربة الشعب، هي التي ستجعله “يغني للحب وهو يعيش في جو المعركة لا يمكن أن يكون شعبًا ضعيفًا غير قادرٍ على الحياة ” كما رأى مستشرق أجنبي نقل كلماته – أو اخترعها – رجاء النقاش. رجاء النقاش، لغز أم كلثوم، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٩.
كانت زيارة پاريس، مثلها مثل الأطلال، معدة من قبل النكسة حسبما قالت أم كلثوم لصحفي الديلي ميل لكن بعد النكسة أخذتها أم كلثوم إلى وجهة مختلفة وتبرعت بأجرها للمجهود الحربي كما قالت في حديثها مع سلوى حجازي. كذلك جاءت الحفلة الأولى بعد أسابيع من أول رد مصري عسكري على النكسة بإغراق المدمرة إيلات في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٦٧.
في نص مفتوح كالنص الكلثومي يتدخل الجمهور دومًا في إعادة الصياغة بطلب الإعادات والاستحسانات التي تبقي ارتجالات عفوية وتقعدها في اللحن لاحقًا. كذلك يعيد المستمعون صياغة المعاني عبر استخدامهم لها في حياتهم اليومية ڤريجينيا دانيلسون، صوت مصر أم كلثوم، الأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين، الترجمة العربية، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة ٢٠٠٢، ص ٢٧. فيصبح للأطلال (إبراهيم ناجي والسنباطي) أفقٌ تعبيريٌ مضاف فتبدو كأنها تعليقٌ على النكسة. ويصبح النص المُغنى “صرحًا من خيال فهوى” موجهاً للهزيمة في الحرب لا الحب فقط.
في حفلات ما بعد النكسة، صاح المستمعون مع “أعطني حريتي أطلق يدي” معبرين عن آمالهم الشخصية في التحرر Laura Lohman ,‘The Artist of the People in the Battle’ ibid، وهو تفسير سياسي قد لا يكون مقصودًا في النص الشعري. كذلك كانت الأطلال قمة السبك الدرامي السنباطي للقصائد، وفي مسيرة الستينيات كانت هي الأصلح للتعبير عن الكمال الكلثومي.
في مقابل حضور أعطني حريتي في المشهد العام وتسجيل التلفزيون لمشاهد الحفلة الباريسية الأولى التي ضمت ثلاث وصلات كعادة الست السابقة، تم إغفال الحفلة الثانية من السردية الرسمية، حفلة “سلامتك يا ست” بعد هجوم أحد المعجبين عليها وسقوطها على المسرح.
في ذهن مستمع مصري يحضر الحفلة في المسرح أو عبر أثير الراديو بعد النكسة، قد تكتسب هذه السقطة السريعة بعدًا دراميًا لا يمكن إغفاله، فالاعتداء من أجنبي مجهول – يمكن بسهولة تخيله صهيونياً، سكيراً – يتوافق مع نص سقط النقاب “حقيقة الشيطان باتت سافرة”. ورغم ذلك لم توقف السقطة المسيرة الكلثومية، بل عاد المُعجِز في صوتها أكثر تطريبًا بعد سقطتها فيما علا صوت عبده صالح الآمر”كمّل كمّل” فاستمر العزف دون توقفٍ ملحوظ. فتعود أم كلثوم بعد السقطة أكثر تألقًا وفكاهة حين حولت “هل رأى الحب سكارى مثلنا” تعليقاً على حالة السكير المجهول. بعد هذه السقطة الوجيزة ونهوضها منها إذاً، أعطت أم كلثوم أملاً في نهوض الوطن من نكسته سريعاً.
بعد حفلها في المنصورة في فبراير/شباط ١٩٦٨، طارت أم كلثوم في مشرق البلاد العربية ومغاربها ولم تعد إلى حفلاتها في مصر سوى في نهاية العام. في غياب حفلاتها جرت مياه كثيرة في النهر، فكانت محاكمات قادة الطيران التي أعقبتها تظاهرات في الجامعات المصرية وصدور بيان ٣٠ مارس/ آذار بعدها. في أبريل/نيسان ١٩٦٨تجلت العذراء مريم فوق كنيسة الزيتون فشكل هذا تجمعاً بديلاً عن حفلات الست. في ظل إغلاق المجال العام أثناء الحقبة الناصرية، شكلت حفلات أم كلثوم وسيلة تجمع سلمية حول الراديو في المقاهي لمشاركة الحس الجماعي ولمناقشات على هامش السماع، كانت حفلة أم كلثوم الشهرية ضرورة لتماسك العالم في أذهان المصريين أو كما عبر لي سائق تاكسي ذات صباح “أم كلثوم كانت خزين البيت” في الأجيال السابقة اعتاد المصريون على تخزين الزاد الشهري من مستلزمات المنزل، وخصصوا لذلك غرفة خاصة، في المنازل الأكبر حجمًا، كانت تسمى بغرفة الخزين، كانت حفلة أم كلثوم الشهرية في ذهن هذا السائق المسن هي زاد البيت المعنوي، حين غاب زاد المنزل المعنوي خرج الناس للشارع، خرج الجيل الصاعد الأقل تأثرًا بالمُنجَز الكلثومي في مظاهرات ضد النظام، وخرج الآخرون الأكثر تأثرًا بأم كلثوم في تجمعات منتظرين تجليات أم النور.
في المقابل، كانت أم كلثوم تجوب البلاد العربية مزيلة آثار العدوان بتأكيدها على إعجاز صوتها، فاكتسبت حفلاتها بعدًا صوفيًا بتزامنها مع عيد الأضحى وتسلمها لشمعة طولها مترين مرصعة بالذهب مهداة من شيوخ الطريقة الإدريسية بفاس، وختامًا بوقوف الحضور وتكبيرهم خلال ارتجالها المُعجز في التفريد والارتجال في نظرة وكنت أحسبها سلام.
في مقابل نكسة العام السابق التي استتبعها التشكيك في قيمة الفن الكلثومي، استعادت الست قدراتها التطريبية في لحن لأحد شيوخها الأوائل، الشيخ زكريا أحمد، مجوِّدة حرف النون كأبرع مقرئ ومُنغمة الغُنة حتى الثمالة. ومن المغرب إلى الكويت، عادت أم كلثوم في أبريل/نيسان ١٩٦٨ إلى الأطلال السنباطية، بتفريد أيها الساهر، بارتجال خارج المقام الأصلي وتمويه بين المرسل والموقع في إلقاء المقطع. ثم من الكويت إلى تونس، في مايو / أيار ويونيو/ حزيران ١٩٦٨، عادت أم كلثوم لارتشاف رحيق غنة النون مرة أخرى في لحن لأحد ملحنيها الشباب في بعيد عنك (مأمون الشناوي وبليغ حمدي)، لتثبت قدرتها على إعطاء اللحن حياة أخرى عبر الارتجال، فهي من تُحيي اللحن وتميته عبر أدائها وقدرتها على التطريب. في بعلبك يوليو/ تموز ١٩٦٨ اختتمت رحلتها بارتجالها في لحن لعبد الوهاب، آخر المنضمين لملحنيها، في فكروني (عبد الوهاب محمد ومحمد عبد الوهاب) في تفاريد “كلموني تاني عنك”.
لم تكن رحلات المشرق والمغرب التي أطربت فيها أم كلثوم عابرة في سياق النكسة، فتبرعت أم كلثوم بأجرها للمجهود الحربي كما اعتادت في تلك السنوات. لكن الأهم أن تطريبها أزال آثار هزة العدوان من أذهان المستمعين الذين شككوا في كمال العالم المُعجِز المُنجز، الزمن الجميل كما سيسمونه لاحقًا، تعبيرًا عن كماله في أذهانهم، حتى لو لم يعرفوا سر هذا الكمال ومسحوا أشرطته.
حملت الألحان الثلاثة اللاحقة لرحلات المشرق والمغرب مفردة الليل في عناوينها: هذه ليلتي (جورج جرداق وعبد الوهاب ديسمبر/ كانون الأول ١٩٦٨) وألف ليلة وليلة (مرسي جميل عزيز وبليغ حمدي فبراير/ شباط ١٩٦٩) أقبل الليل (رامي والسنباطي ديسمبر/ كانون الأول ١٩٦٩). كانت الأغنيات الثلاث متماشية مع مسيرة التبسيط النغمي في الألحان الأولى لأم كلثوم بلغ التنوع المقامي ٢٣ مقامًا بينما اقتصرت في ألحان الستينيات على ثمانية مقامات فقط، انظر فرجينيا دانيلسون، مرجع سابق، صـ ٣٠ التي بدأتها منذ انضمام عبد الوهاب لجوقة ملحنيها، وكانت من أقل ألحانها تميزًا كما بدت في مقدمات هذه ليلتي وألف ليلة وليلة الراقصة، وتكرار انفراد الأورغ الكهربائي في أقبل الليل. على مستوى النصوص، احتفت كلمات جرداق وجميل عزيز بالفرح اللحظي فهو ما نملك في مواجهة النكسات والهزائم، “سوف تلهو بنا الحياة وتسخر فتعالَ أحبك الآن أكثر” و”نقول للشمس تعالي بعد سنة”، بينما تشبث رامي بمحاولات استعادة الماضي السعيد قبل هزيمة الحب (أو الحرب) ومساءلة الحبيب السابق “أين أنت الآن بل أين أنا”.
بينما بقيت ألف ليلة وليلة وأقبل الليل في صورة أقل جودة دون تجويدات أم كلثوم، اكتسبت هذه ليلتي حياة كلثومية في حفلة طنطا مايو/ أيار ١٩٦٩ الرابعة والأخيرة في حفلات المجهود الحربي الداخلية، التي تسلمت فيها مفتاح المدينة كما جرت العادة. في مقدمة الحفل وقبل ارتجالات أم كلثوم أو غنائها، أعلن وجيه أباظة عن التبرعات المجموعة للمجهود الحربي، ومن بينها تبرع لمنظمة فتح الفلسطينية.
لم يكن التبرع لمنظمة فتح في طنطا هو الأول في حفلات أم كلثوم، ففي مارس/ آذار ١٩٦٩ أقامت أم كلثوم حفلتين في ليبيا بدعوة من عبد الله السنوسي، غنت في حفلة طرابلس في خيمة أقامتها حركة فتح التي أشرفت على تنظيم الحفل رجاء النقاش، لغز أم كلثوم، مصدر سابق، رافق النقاش أم كلثوم في رحلتها إلى ليبيا وهو يذكر صراحة أن الرحلة كانت من أجل جمع التبرعات لحركة فتح. ظهر من خلفها شعار منظمة العاصفة. وحملت تذاكر الحفل عبارة “لدعم المجهود الحربي وحركة فتح”، كان هذا الانتقال من العمل السياسي المتخفي في شكل حفلات لأغانٍ عاطفية تنظمها أم كلثوم بنفسها بوصفها مؤسسة مستقلة لعمل سياسي مُعلن تحت راية منظمة فلسطينية انتقالًا لافتاً هيّأ لظهور أغنيتها السياسية التالية لذلك الحفل.
ربما كانت أغنية أصبح عندي الآن بندقية (نزار قباني وعبد الوهاب أبريل/ نيسان ١٩٦٩)، التي تزامنت مع بدء عمليات حرب الاستنزاف (١٩٦٩-١٩٧٠)، هي الأكثر جرأة بين أغنيات أم كلثوم السياسية. هنا انتقلت أم كلثوم من “ثوار مع البطل اللي جابه القدر” في لحن ثوار (صلاح جاهين والسنباطي ١٩٦١) لـ “أنا مع الثوار”، هم الذي يحملون بندقية العمل الفدائي، لا الثوار الملتفين حول الزعيم. لحنيًا انتقلت أم كلثوم إلى أرضية توزيع أوركسترالي أقرب لتوزيعات الرحابنة. كما أنها لم تتمسك بحقها الحصري في غناء القصيدة في عام ١٩٦٤ أنذرت أم كلثوم الإذاعة المصرية حين اعتزمت إذاعة تسجيل إنت عمري بصوت عبد الوهاب على عوده، فرجينيا دانيلسون، مصدر سابق فسجلها محمد عبد الوهاب بصوته.
في يوليو/ تموز ١٩٧٠ قبل عبد الناصر مبادرة روجرز وعلى أثرها توقف إطلاق النار وعمليات حرب الاستنزاف ودب خلاف بسيط بينه وبين المقاومة الفلسطينية، التي كانت تشهد خلافًا آخر أكثر تفاقمًا مع الملك حسين تطور إلى ما عرف بأحداث أيلول الأسود، تجاوزت الأنظمة القائمة العدوان وصار بإمكانها استعادة أيديولوجية المُنجَز المُعجز.
في ١٩٧٠ أضافت أم كلثوم لحنين جديدين لمحصولها الغنائي، اسأل روحك (عبد الوهاب محمد ومحمد الموجي يناير/ كانون الثاني) ومرت الأيام (مأمون الشناوي وعبد الوهاب مارس/ آذار). جاءت اسأل روحك محاولة فاشلة لاستعادة التطريب الكلثومي ما قبل الغزو الوهابي لأغانيها، فكان لحنًا باهتًا لا طعم له، وجاءت ومرت الأيام معلنة انتصار الوهابية وهيمنتها على المسيرة الكلثومية، بفالس “وصفوا لي الصبر” المنتقل للرقص الشعبي في “عيني على العاشقين”.
في ٢٨ سبتمبر/ أيلول ١٩٧٠ مات عبد الناصر. فكتب نزار قباني، صاحب هوامش “على دفتر النكسة”، مرثية “عندي خطاب عاجل إليك” للزعيم “البطل اللي جابه القدر”، ولحنها السنباطي على عجل كعادته في مجاراة الأحداث. وفي القصيدة حل الزعيم واتحد بكل شيء “في رائحة الأرض/ وفي تفتح الأزاهر/ في صوت كل موجة/ وصوت كل طائر”، وموسيقيًا احتل الأورغ الكهربائي المقدمة الحزينة.
عادت أم كلثوم لموسمها الغنائي في يناير/ كانون الثاني ١٩٧١، الحفلة الأولى بعد وفاة عبد الناصر. لم يخصص دخلها للمجهود الحربي هذه المرة، كانت أم كلثوم قد اكتفت بوصلتين في حفلاتها منذ عام ١٩٦٨. افتتحت الوصلة الأولى بلحنٍ جديد دون المستوى الكلثومي هو الحب كله (شفيق كامل وبليغ حمدي) وأنهت الحفلة ببكائية عند مقطع “ودارت الأيام ومرت الأيام”، بصوت مختنق متعب، غير قادر على التفاريد السابقة عندما كانت تتلبسها روح الموسيقى وتسري عبرها. فهل كان نواح مرضٍ أم حزنٍ؟ لا أحد يعرف ما دار في خاطرها تلك الليلة، هل تذكرت الزعيم كما يقول البعض؟ أم فكرت في مصيرها الشخصي بعد دورة الأيام؟
كان المُنجَز الغنائي الذي مثلته أم كلثوم نتاج مسيرة طويلة، زيّفها السرد القومي المعتاد، دارت الأيام وتركتها للزمن، ما لم تستطع صنعه النكسة صنعه الزمن وعجْز السرد القومي لمسيرتها الذي أغفل أهم ما فيها. قاومت النكسة بحفلات تلبستها فيها روح الموسيقى الطربية القديمة أحيانًا كثيرة، لكن نَسخ منجزها السابق على يوليو/ تموز ١٩٥٢، سمح لكثيرين بمساءلة هذا المُنجَز ومدى كماله وصحة إعجازه إن وجد. من على يسارها وجد الشيخ إمام، ابن تراث مشايخها القدامى، الذي لا يتورع عن هجائها. من بين جوقة ملحنيها حاول أحدهم صنع وريثة عبر فتاة الكونسرفتوار ولم تفلح محاولته فتاة الكونسرفتوار هو الاسم الذي عرفت به عفاف راضي في ذلك الوقت. مجدي نجيب، السيد أمل مصر في الموسيقى في أهل المغنى تأملات في الأغنية المصرية، كتاب الإذاعة والتلفزيون، القاهرة ١٩٧٣. لم يقدر على فنها سوى الزمن “رايحة اسيبك للي ما بيرحم ولاتقدر عليه/ مش حاقول لك إنت عارف الزمن راح يعمل إيه”، سابته للزمن وسمحت لنقاد الزمن بتزييف حكايته فنُسخ بنسخة باهتة غير حقيقية.
مات عبد الناصر ولحقته الست بعد خمس سنوات، تجاوزت الأنظمة آثار العدوان وغرقنا في رواية المُنجز المُعجِز السياسي مرة أخرى، الملخص في عبارة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، فلم تُحرر الأرض كاملة رغم العودة الكاملة لأيديولجية النظام المنتصر. أما المُنجَز الغنائي فلم يُدرك بعد، رغم تكريسه الدائم عبر أساطير الزمن الجميل بعد النكسة وبعد الحرب.