fbpx .
الجهاد

من التلبية إلى الغربة | أناشيد مظاهرات الإخوان

ياسر عبد الله ۲۰۱۷/۰٤/۱۰

لم تبدأ الألفية الجديدة في مصر بحفلة جان ميشيل جار عند الهرم وأغنيات محمد منير على كوبري قصر النيل ليلة رأس السنة عام ٢٠٠٠، أفتتحت الألفية بجيل ينشئ وعيًا مختلفًا عن الألفية السابقة، عبر نشاط سياسي استهلته مظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية في خريف ٢٠٠٠ وبلغ ذروته مع الثورة المصرية في شتاء ٢٠١١. في تلك الأيام ظل التيار الإسلامي، حسب الاسم الذي عُرف به طلاب الإخوان المسلمين والمتعاطفين معه في سنوات دراستي الجامعية، تيارًا مؤثرًا كمًا وكيفًا على الممارسة السياسية داخل الجامعات المصرية، كان الاسم يرمز لحالة جبهوية استطاعت جماعة الإخوان تبنيها بوصفها المظلة الأوسع لتمثيل التيارات الإسلامية، ربما لم يحلم الإمام الشهيد عند تأسيس الجماعة عام ١٩٢٨ بمصير الوفد المصري الذي بدأ مظلة وطنية جامعة ثم تخاصم قادته بعد ذلك ليصبحوا رؤوساء كل الأحزاب الحاكمة ما بين ١٩٢٣-١٩٥٢. لكن جماعة البنا تحولت لمظلة تجمع أغلب الأفكار الإسلامية الدائرة وسط المجتمع، انعكس ذلك في أغنيات التيار الإسلامي التي لم تكن بالضرورة من تأليف وتلحين الجماعة، بل  تعددت روافدها ومواطنها الأصلية، واختلفت أغراضها ما بين أناشيد تُردد في المظاهرات العامة التي رأيتها كشاهد من تيار سياسي مختلف، وأناشيد تُردد داخل رحلات الأسر والشعب ولا يسمع بها المراقب البعيد، وأغاني الأفراح الإسلامية التي تخرج للعلن في أفراح التيار أو المتعاطفين معه كمتعة حلال بديلة عن أغاني الأفراح الراقصة.

دخلت الجامعة طالبًا يساريًا غير منظم يصنف داخل التنظيمات السرية في خانة متعاطف، حصيلته من الأغاني الثورية شريطي كاسيت للشيخ إمام عيسى التي لم تكن بعيدة عن الألحان الطربية المصرية المتداولة بقدر ابتعاد أناشيد مظاهرات التيار الإسلامي الأولى لدعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية في خريف ٢٠٠٠ عن هذا التطريب الموروث. شهدت مظاهرات دعم الانتفاضة بمد وجذر لكن ظل لبيك إسلام البطولة يتردد في أغلبها، وتحول إلى النشيد القومي الختامي لمظاهرات طلاب التيار الإسلامي الداعمة للانتفاضة الفلسطينية الثانية. في ساحة الجامعة لعب النشيد أكثر من دورِ، فهو شارة لإبراز التيار المسيطر عدديًا على المظاهرة، وداعم معنوي لا ينكر في حشد الأخوة في إنشاد جماعي يبلغ ذروته في ترديد التلبية “لبيك … لبيك … لبيك” التي توحد المتظاهر الجامعي في جماعية تذكر بالحجيج، كأن الوقفة الختامية في نهاية المظاهرة مقابل لوقفة جبل عرفة يعلن فيها المتظاهر تبرأه مما فعل قبل تعاطفه أو انخراطه في التيار. لعبت الكلمات دورًا هامًا في إعلان أيديولوجي خفي، خاصة في الإجابة على سؤال “كيف تكون دعوة إسلامية في دولة مسلمة بنص الدستور؟”، ففي مقابل إسلام شيوخ الدولة الرسمي، يعلن النشيد إسلامًا بديلًا هو إسلام البطولة الذي سيحرر القدس، القضية المركزية في شعور العربي المسلم بهزيمته أمام المحتل اليهودي وفي الحشد لمظاهرات دعم الانتفاضة. إسلام البطولة هو الشعار البديل المريح لجماعة واسعة لم تقطع مع المجتمع مثل الجماعات التكفيرية. بدلًا من تكفير المجتمع تؤكد مظاهرات الجماعة على وجود إسلام آخر غير منبطح، يعيد عز الأمة حتى لو ارتقى هذا العز على الجماجم.

رغم الخيال الشاطح في الاستشهادية والتشبيه الغرائبي لسلم الجماجم الصاعد للعز، انساق المتظاهرون وراء حالة الإنشاد الجماعية التي تمثل توحد المتظاهر مع كتلة أكبر منه تغني لمعانٍ مجردة مثل إسلام البطولة والعز القادم الذي ستموت الجموع فداءً له. كان التشبيه هو محور النقد الأكثر انتشارًا للنشيد في الدوائر اليسارية والليبرالية وحتى في مقالات جهادي تائب، واتخذ عجز البيت دلالة على الروح التطهرية التضحانية بحسب تعبير حسام تمام. لكن التشبيه المنتقد في النشيد لم يكن إسلامي المولد، بل هو ابن نشيد عروبي ألفه ولحنه وغناه محمد سلمان أثناء حرب ١٩٥٦، قلبت كلماته لاحقًا مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧. تحول علم العروبة إلى إسلام البطولة، مع الإبقاء على الخيال التطهري المضحي، “اجعل من جماجمنا لعزك سلمًا”. التعبير المنتقد وسط التيارات الوطنية، حسب الاسم الذي ارتضته لاحقًا أثناء تمييز نفسها عن التيار الإسلامي في خضم الصراع السياسي ما بعد سقوط مبارك، كان ابنها في الواقع بقدر ما كان ابنًا بالتبني للتيار الإسلامي، مع مراعاة تحول التلبية لعلم العروبة من زمن الناصرية. لبيك لبيك شعار مرن سمح بالتلبية لعلم العروبة وإسلام البطولة، وهي مرونة مكتسبة من الكلمة ذاتها، فلَبَيْك فبفتح اللام والباء تستدعي في الخيال المسلم العام حالة الحج وترديد “لبيك اللهم لبيك”، بينما تستدعي لُبِيْك بضم اللام وكسر الباء في الخيال المصري المشبع بالقصص القديمة حالة أخرى تمامًا، حالة خروج العفريت من المصباح في حكايات ألف ليلة وليلة وافلام الأبيض والأسود.

لم يتوقف الأمر عند تبني التيار الإسلامي لنشيد عروبي أنتج في زمن الناصرية العدو الأبرز للجماعة، بل أنشد النشيد في عرض عسكري حضره السيسي نفسه.

حل الإسلام وجيشه

تخرجت في ٢٠٠٣ بعد غزو العراق، ازدادت حصيلتي من الأغاني اليسارية بعد الإنترنت لتضم أغاني مارسيل خليفة وزياد رحباني، ووجد مخزوني الشخصي متنفسًا للغناء الجماعي في مظاهرات وسط القاهرة ما بين ٢٠٠٤-٢٠٠٦، مظاهرات التغيير التي اكتشفت معادلة صيغت كشعار فيما بعد، “تحرير القدس يبدأ بتحرير القاهرة”، وانفتحت المظاهرات على تيارات أخرى أوسع من اليسار الماركسي والناصري لتضم روافد من يسار وسط وليبرالية اجتماعية. هيمنت أغاني الشيخ إمام عيسى الموروثة من يسار السبعينيات، مع تأثير الطرب المشايخي الواضح على أغاني إمام (اليسارية) مقابل تفادي التيار الإسلامي للانتساب لهذا الطرب المشايخي وإنشاده الديني التقليدي القائم على التطريب.

تبنت الدفعات التالية من طلاب التيار الأسلامي نشيدًا آخر غير لبيك إسلام البطولة. ما بين ٢٠٠٥-٢٠٠٧، احتل نشيد قادم جيش الإسلام، مركزًا متصدرًا في مظاهرات الجامعة متزامنًا مع حالة الحماس داخل التيار بعد فوز الجماعة بـ ٨٨ من مقاعد مجلس الشعب في انتخابات ٢٠٠٥. يُوحي لحن النشيد بتشابهات مع ألحان شارات الرسوم المتحركة، فمثلما تقطع أغاني الشارات مع جماليات تلحين القصيدة العربية التقليدية كأمر طبيعي في أغنية موجهة للأطفال، يقطع النشيد مع نفس الجمالية فلا يشابه النشيد ألحان القصائد الكلثومية أو الوهابية. تَشابه البحور الشعرية البسيطة المختلفة عن بحور القصيدة العربية الغنائية التقليدية هو تشابه آخر ما بين الأناشيد الحماسية وأناشيد الطفولة، كذلك انتشرت في نفس الأعوام أناشيد إسلامية دعوية لم تردد داخل المظاهرات تعتمد على استخدام صوت الأطفال كصوت عذب (نظيف)، بلغت ذروة شهرتها مع نشيد يا طيبة لعنان الخياط، مغنية شارات سبايس تون.

لم يكن اللحن الأصلي للنشيد ملزمًا للمتظاهرين بالطبع، فترديد النشيد داخل المظاهرة يعتمد على إنشاد جماعي لمتظاهرين غير مدربين صوتيًا، فتعدل اللحن لإبراز حماس مختلف مبشرًا بقدوم جيش الإسلام. احتلت كلمة قادم مركز الصدارة حتى سمع النشيد في المظاهرات الجامعية مقلوبًا “جيش الإسلام قادم” بتقديم شبه الجملة على مبتدئها والتركيز على ترديد قادم كهتاف.

على عكس حماسية النشيد السائد داخل مظاهرات طلاب التيار داخل الجامعة، أصدرت الجماعة ألبوم دعاية للانتخابات احتوى على أغانٍ ملحنة بألحانٍ تتبنى النهج السائد حينها. في شرع المولى، جاء اللحن راقصًا تمامًا كأنه أغنية شعبية من أغاني الميكروباص المنتشرة. كان من الواضح إنها موجه لشريحة مختلفة عن طلاب التيار داخل الجامعة، مما أدى لتبني توزيع كامل بآلات موسيقية وإيقاع راقص، بل حتى مشابهة لازمة أغنية شعبية اشتهرت في نفس العام. ديكتاتورية اللأ لأ تذكر بأغنية عمدة زعلان لأ لأ، وفي الإسلام هو الحل التزمت الأغنية بالفصحى مقابل اعتماد توزيع سريع راقص دون حماس.

كان شريط دعاية الانتخابات خير مثال على حيرة الجماعة في تلك السنوات وما تلاها. تزامن الشريط مع انتشار فرق الأناشيد الملتزمة حسب تعبير التيار بديلًا عن فرق الأفراح. صاحب هذا الانتشار تبني الفرق لأغاني فولكلورية وإعادة صياغتها بصيغة جديدة، فظهرت إسلامنا ماله مثيل بلحن أغنية للريس متقال يا ليل يا ابو الليالي، وهو أمر مفهوم لجماعة تنفتح على المجتمع وترغب في تقبلها داخله حتى لو غير من هوية الجماعة نفسها، وحوّل النشيد الحماسي عن أغراضه الأساسية فجعله أغنية مسلية لكن ملتزمة. هذا التحول لم يمضِ بسهولة داخل أوساط شباب الجماعة بحسب شهادات لاحقة.

ثورة ٢٠١١ من القيام إلى الغُربة

في اعتصام التحرير ما قبل تنحي مبارك تنحّت أناشيد التيار جانبًا حتى على المنصات المحسوبة على الإخوان، مقابل استعادة أغاني سيد درويش ووطنيات الناصرية الجامعة، واحتفظ اليسار بتماهيه مع أغاني الشيخ إمام حتى وإن كانت تعبر عن حالة انهزامية لم تعد ممكنة ما بعد جمعة الغضب. حافظ التيار الإسلامي على التماهي مع حالة الميدان العامة، تماهي سيتيح للأعضاء فيما بعد نفي أي تيار آخر عن الثورة واعتبار الثورة حالة إخوانية خالصة.

في العامين اللاحقين حتى انقلاب يوليو الثاني في ٢٠١٣ اختفت أغاني الشيخ إمام من المظاهرات غير الإسلامية ليحل محلها أغاني الألتراس القادمة من فضاء المدرجات بإيقاعها الجماعي الحماسي الذي لا يقطع مع جماليات الموسيقى البديلة الناشئة. جاءت يا غراب يا معشش ومش ناسيين التحرير يا ولاد الوسخة لتعبر مباشرة عن الصراع مع النظام وداخليته، لتصبح مظلة جامعة بديلة عن أغاني اليسار الغارقة في اجترار حالات فات زمنها.

في المقابل حافظ التيار الإسلامي وخاصة بعد فوزه المتتالي في صناديق الانتخابات، خريف ٢٠١١ وصيف ٢٠١٢ على انفراده بعيدًا عن الحالة الجامعة، إلى جانب لبيك إسلام البطولة الحاشد دومًا صعد نجم في سبيل الله قمنا وبخاصة مع تزايد المعارضة ضد محمد مرسي. بدلًا من حالة شريط الدعاية الانتخابية، وهو أكثر حالات الجماعة تماهيًا مع مجتمعها، عادت الأناشيد الفصيحة القاطعة مع الألحان السائدة، تغني لمجد الإسلام وتؤكد إن الدفاع عن كرسي الحكم ليس إلا دفاعًا عن سبيل الله ذاته.

انتهت مسيرة العامين ونصف (يناير ٢٠١١ – أغسطس ٢٠١٣) بمذبحة، في شهر ما بعد الانقلاب وقبل المذبحة استعيد في الاعتصام كافة الأناشيد الحماسية، واسترجع نشيدًا منسيًا لم يستمع له متابعو مظاهرات التيار الإسلامي خلال العقد السابق. نشيد غرباء الذي ألفه سيد قطب واشتهر بصوت محمد النجار أحد متهمي قضية اغتيال رفعت المحجوب.

ربما كان نشيد غرباء هو الأكثر حزنًا في أناشيد التيار والأكثر تمييزًا لمردديه أيضًا. الحزن في النشيد تطهري يذكر بأغاني الجمعة العظيمة كأن الغريب وجد أخيرًا الفرصة ليكون الفادي لإسلام البطولة، ويذكر النشيد بحديث النبي “طوبى للغرباء”، فالدعوة التي بدأت غريبة في نظر الشاب الجامعي المتفتح وعيه على نشيد لبيك إسلام البطولة في بداية الألفية عادت غريبة مثلها مثل الإسلام نفسه، حالة الغُربة المختلفة عن الانفراد في سبيل الله قمنا، فالغُربة بنت ضعف بينما القيام منفردًا ومعجبًا بذاته ابن إحساس بقوة.

في ٢٠١٤ عادت مظاهرات التيار الإسلامي في الجامعة في زمن مختلف تمامًا عن بداية الألفية. تحول الغرباء إلى شهداء قبل تلاشي المظاهرات التام وإغلاق المجال العام بالضبة والمفتاح، وعادت أغاني الشيخ إمام تتردد في جلسات خاصة. عاد التيار الإسلامي لغرباء وعاد التيار اليساري لتراث المبتسرين السبعيناتي، واختفى النشيد الحماسي من الفضاء العام واختفى الفضاء العام إلى حين، ربما يعود الفضاء العام ويعود معه النشيد العام بصيغ أخرى يرويها مراقبون بعيدون آخرون.

المزيـــد علــى معـــازف