.
يلتف الخيط الذي يربط السياسة بالغناء في العراق ويدور حتى يصل إلى تواريخ بعيدة، لعل أبرزها البيتان اللذان غنتهما تلك الجارية أمام الرشيد: “ليت هند أنجزتنا ما تعد / وشفت أنفسنا مما تجد / واستبدت مرة واحدة / إنما العاجز من لا يستبد”، ليبطش بالبرامكة بطشته الكبرى. منذ بداية تشكيل الدولة العراقية عام ١٩٢١، وصولًا إلى وقتنا هذا، كانت الاغنية السياسية حاضرة بثبات، وتغير مضمونها بتغير الأنظمة العاصف على الدوام في العراق.
إبان الحقبة الملكية (١٩٢١ – ١٩٥٨) امتلك كتّاب الأغنية مساحة لا بأس بها من الحرية للكلام خارج توجيهات الدولة، بينما بدت أعمالهم في العراق الجمهوري وكأنها صدى للعلاقة المعقدة بين الدولة والمجتمع، خصوصًا في حقبة تولي صدام حسين للسلطة. كلما عبّأت الأنظمة السياسية المجتمع باتجاهٍ معين، كانت الأغنية السياسية انعكاسًا ومخرجًا لما يحدث من تفاعل ولتداعيات تلك التعبئة، سلبًا أو إيجابًا.
يحيلنا هذا إلى ضرورة التفريق بين نماذج الأغنية السياسية، الأغنية التي يمكن أن تسمى الوطنية، وتلك التي ترتبط بالفكر السلطوي. في الحالة العامة قد تكون الأغنية السياسية أشمل وأكثر اتساعًا من أيديولوجية مرتبطة بحزب أو نظام سياسي معيّن، وقد ترنو أحيانًا إلى التغيير وإعادة بناء النظام السياسي والدولة. يبيّن الواقع أنه قد حدث التباس بين الأغنية السياسية الوطنية والأغنية السلطوية في العراق، حتى بدا وكأنهما ممتزجتان معًا في رؤية من يؤديهما.
على هذا، مرت الأغنية السياسية في العراق بمراحل، هي على التوالي: الملكية، الجمهورية المحصورة بين سنوات ١٩٥٨ – ١٩٧٠، السبعينات، خصوصًا مع قيام الجبهة الوطنية التقدمية عام ١٩٧٣، الحرب الإيرانية، الحصار، وما بعد ٢٠٠٣؛ التي يمكن أن تقسم بدورها إلى ثلاث مراحل: من ٢٠٠٣ إلى ٢٠٠٧، ومن ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٤، ومن ٢٠١٤ إلى يومنا.
كان أهم ما ميز هذه الحقبة هو أنها كانت مدنية الطابع. كانت الموسيقى والشعر ـ نعني هنا الشعر الشعبي المغنى ـ ينحصران في المدن، وفي بغداد بالأخص. أبرز من مثل هذه المرحلة في الأغنية السياسية المونولوجست عزيز علي، الذي اتسمت مونولوجاته بالنقد السياسي والاجتماعي الساخر، وكان يتعرض للحكومة بلسان حاد دون خشية العواقب.
في الواقع، لم يُعرف بعد ١٩٥٨ أي مونولوج لـ عزيز علي بأهمية ما غناه في الحقبة الملكية، ما يستوجب الوقوف لمحاولة فهم صمته، فهل يتعلق الأمر بالطريقة التي بدأت بها القوى السياسة تتعامل مع الأصوات الناقدة والمعارضة على طريقة “ماكو مؤامرة تصير والحبال (حبال الشنق) موجودة” شعار رفعه الشيوعيون إبان صدامهم مع البعثيين والقوميين، خصوصًا في أحداث الموصل في ١٩٥٩.؟ أم هو أمر آخر؟
غنى عزيز علي في الحقبة الملكية مونولوجات كثيرة، منها: دكتور، منا منا – التي قدمها في الجامعة العربية، الفن، صلوا على النبي، وغيرها.
لم تكن مونولوجات عزيز علي، بالكيفية التي كان يؤديها وبما تضمنته من احتجاج صريح على السلطة ونقد لمؤسساتها، مجرد متنفّس في مواجهة تحشيد السلطة للجميع للتغني بأمجادها، بل ارتبط الأمر بدرجة كبيرة بالديناميات ديناميات الجماعة مصطلح يشير إلى نظام من السلوكيات والعمليات النفسية التي تحدث داخل مجموعة اجتماعية نفسها، أو بين مجموعات مختلفة وتسمى ديناميات مجموعات متداخلة. تفيد دراسة ديناميات الجماعة في فهم سلوكيات صنع القرارات، وفي تتبع انتشار الأمراض في المجتمع، وفي خلق تقنيات علاج فعالة، وتعقب ظهور وشعبية أفكار وتكنولوجيات الجديدة. التي حكمت الحقبة الملكية، وأسلوب نوري السعيد من أبرز رجال السياسية في العهد الملكي في العراق، تولى منصب رئيس الوزراء لـ ١٤ مرة، عدا عن توليه مناصب وزارية في الحكومات التي لم يشكّلها. بالتعامل مع المعارضة بطريقة لا تجعله يبدو كديكتاتور تقليدي في نظام قمعي. لم تكن حالة عزيز علي شاذة، فكان شعراء مثل الجواهري يشتمون السلطة ليل نهار، دون أن يمس حياتهم خطر، وكان أقصى ما قد يتعرضون له هو الاعتقال السياسي لأشهر ثم يطلق سراحهم.
مع دخول الحقبة الجمهوريّة، وفي الوقت الذي نُظر فيه إلى عزيز علي أو مائدة نزهت وأضرابهم باعتبارهم أبناء المدينة وحاملوا لهجتها وشعرها وطموحاتها السياسية وبنيتها اللغوية والموسيقية، ولّد تريُّف المدن – مع تريُّف السلطة عند بداية العهد الجمهوري في العراق والهجرة الكثيفة إلى المدن من الأرياف – مدرسةً موسيقية جديدة، كان عنصرها الأهم المزج بين الحداثة والمدينية وبين الإيقاع الريفي، وإن شهدت في ذات الوقت ورود الأغنية الريفية الخالصة.
نمى هذا التريُّف بالتدريج مع تزايد سلطوية العسكر، والميل إلى تكريس صورة الزعيم الأوحد. توارت في هذه الحقبة الأغنية السياسية الناقدة التي مثلها عزيز علي في العصر الملكي، وتسيدت المشهد الأغنية التي سبق أن وصفناها بالسلطويّة، فغنت مائدة نزهت وغيرها لـ عبد الكريم قاسم، ضمن ظاهرة تكريس صورة الزعيم الأوحد.
يبدو أن الاضطرابات التي شهدتها حقبة عبد الكريم قاسم، والصدام الدموي بين الشيوعيين والبعثيين، وانقلاب الكفة بعد مقتل قاسم وصعود البعث وتأسيس الحرس القومي، لم تتح الكثير من المساحة لظهور أغنية سياسية حقيقية.
بدايةً، يمكن القول إن هذه الحقبة كانت شيوعيةً فيما يخص الموسيقى والغناء بالعموم، والأغنية السياسية بالخصوص، إذ تصدرها الفنانون والشعراء الشيوعيون، كما بدت على هذه الحقبة – بقدر ما كان رموزها من الملحنين والمغنين والشعراء من المنحدرين من الأرياف – التأثيرات الماركسية، وإن اصطبغت بالتريُّف.
كانت أغاني الحزب الشيوعي أيام الجبهة الوطنية من نتاج هذه الحقبة، وكانت الأغنية العاطفية تحمل معنًى مزدوجًا، وتضمر رسائل سياسية في إطار الغناء حول الحب؛ مثل البنفسج من شعر مظفر النواب ولحن طالب القرة غولي وغناء ياس خضر، وصولًا إلى اغنية تلولحي من شعر عريان السيد خلف وألحان محمد جواد أموري، التي غناها سعدون جابر ثم مُنعت لاحقًا.
https://youtu.be/d8DTWRWzJHc
هنا لابد من الوقوف عند مظفر النواب، بوصفه أهم شعراء الحداثة في الشعر الشعبي العراقي والسياسي منه، ابن العائلة البغدادية الذي كتب بلهجة الريف وغنى بأطواره كثيرًا ـ يذكر المسرحي العراقي الراحل قاسم محمد أن مظفر النواب هو أول من غنى قصيدته المشهورة للريل وحمد في المعتقل وهناك من الجلسات الخاصة التي يغني فيها النواب بحرقة الكثير.. كتب مظفر الكثير من القصائد السياسية وغناها بنفسه، مثل حسن الشموس، وعشاير سعود، وغيرها، فضلًا عن قصائده المبطنة مثل البنفسج، أو ما كان يضمّنه من شعر حول العراق في قصائده المختلفة، مثل مطولته أيام المزبن وغيرها.
بحسب الشهادة التي استمعنا لها من الباحث كريم راهي والكتبي كريم الحنش، اليساريان اللذان عاصرا الحقبة، كانت تُكتب بعض الأغاني لتطابق لحن أغنية مشهورة، مثل من يكدر علينا على لحن سبعتيام من عمري حلالي لـ لميعة توفيق، والتي غنتها أيضًا أحلام وهبي، وحلوة جبهتنا الوطنية على لحن شتّي يا دنيا لـ فيروز أغاني الجبهة الوطنية غير مرفوعة على اليوتيوب وكانت تغنى مباشرة في الاحتفالات الشيوعية.، فضلًا عن أغنيات كثيرة أخرى كتب بعضها كريم العراقي وغناها كثيرون أبرزهم رضا الخياط. من الآثار البارزة للحقبة أيضًا أغاني جعفر حسن، وفرقة الحزب، الفرقة البصرية التي أدارها الفنان حميد البصري وغنت فيها زوجته شوقية العطار مما يذكر هنا أن البصري أسس بعد هجرته فرقة الطريق، في اليمن..
بحسب الشاهدَين (الباحث كريم راهي والكتبي كريم الحنش)، حتى سعدي يوسف شارك في موجة الأغاني الحاملة لخطابات شيوعية وقتها بقصيدة (لم يتذكر راهي والحنش اسمها)، وكان ما تضمنته الأغنية العاطفية من رسائل مبطنة أيضًا في ذات المنحى. بعد انهيار الجبهة الوطنية التقدمية وبدء المذابح التي طحنت الشيوعيين على يد حزب البعث، ظهرت أغنية تلولحي التي سبقت الإشارة إليها، متضمنةً لازمة تتردد بفجائعية مختتمةً كل مقطع من الأغنية: “احنا خلانا وكتنا / تراب بحلوك الرحي”، في إشارة إلى انهيار الجبهة ومذبحة الشيوعيين.
لعل السؤال الذي يبرز هنا: لماذا لم نشهد الكثير من الأغاني السلطوية، المكرسة من جانب حزب البعث لتمجيد رئيسه في هذه الحقبة؟ أمرٌ يتعلق ربما بالدرجة الأساس بشخصية أحمد حسن البكر رئيس جمهورية العراق للفترة من ١٩٦٨ إلى ١٩٧٩، حيث نُحّي عن المنصب ليتولاه صدام حسين.، إذ يروى أنه كان يكره الحشود والهتاف باسمه، واحتج مرة على استقباله في إحدى زياراته إلى المحافظات بالأهازيج والذبائح فقال: “قابل اني عبد الكريم قاسم؟” لهذا لم نجد في حدود تتبعنا أغنية كتبت لتشيد باسم البكر تحديدًا، ما قد يفسر أيضًا سبب عدم اهتمامه بالتحشيد السياسي عبر الأغنية، رغم أنه كان أول من اهتم بالمغنين ومنحهم رواتب ثابتة من الدولة.
سيطرت الحرب الإيرانية العراقية على كل شيء، واستلبت الحياة العامة لصالح نيرانها، لم يعد من الممكن ظهور أي صوت معارض لها أو بعيد عنها، ومن يرفض أن يندمج فيها لا يكون أمامه الكثير من الخيارات: الهرب أو السجون والموت. لهذا غادر فؤاد سالم العراق، ومن المنافي التي تنقّل بينها غنى العديد من القصائد السياسية، بين أهمها قصيدة كاظم اسماعيل الكاطع رسالة أم. كما غنى سالم لـ فهد مؤسس الحزب الشيوعي، ولسلام عادل سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الذي قتل عام ١٩٦٤، ولأبرز الشيوعيين الذين قضوا في المعتقلات.
أما داخل العراق، فقد انضم رموز الأغنية السبعينية إلى عجلة إنتاج غنائي حربي كبيرة ابتلعت كل الرموز السياسية للأغنية العراقية. وصل الحال إلى أن الشاعر الراحل كاظم اسماعيل الكاطع، وكما صرح هو في لقاء له في صحيفة عراقية، كان معتقلًا فكتب اغنية يا كاع ترابج كافوري أغنية تمجد الحرب، وهي الأغنية الوحيدة التي كتبها الشيوعي كاظم اسماعيل الكاطع من هذا النوع. كثمن لخروجه من السجن؛ الكاطع الذي كان ديوانه الأول شمس بالليل عبارة عن احتجاج سياسي كبير، والذي برزت بين قصائده رسالة أم التي أشرنا إليها آنفًا، التي تحاكي زيارة أم لولدها السجين السياسي، ليعتقل الكاطع حين صدر الديوان في السبعينات.
غيّب النموذج التعبوي الصارخ الذي هيمن على الأغنية السياسية في الثمانينات إمكانية دراسة رموزها السياسية أو رسائلها، فقد كانت أغاني للحرب، ضمن أيديولوجيا بعثية شديدة الصرامة. كانت هذه النماذج، وإن لم تخل من الفنية الشعرية أو البناء الموسيقي العالي المستوى (مثل العزيز إنت لـ حسين نعمة وسيد شكد انت رائع لـ ياس خضر)، تعبويةً بلا شخصية، تناغم السلطة في حربها الدائرة.
كانت هذه الحقبة الأكثر رثاثة وفشلًا حتى في أداء الرسالة التعبوية المتوخاة منها. كانت أصوات المغنين والملحنين الكبار قد توارت لصالح جيل جديد من الأصوات والألحان الساذجة، ومن الشعراء الهتّافين المطبّلين. في الأغنية الثمانينية التي كانت موجهة لدعم الحرب، كان يمكن أن نلمس بوضوح الإبداع الكبير، والرموز الوطنياتية التي تضمنتها الأغاني، وإن وُجهت لدعم الحرب، مثل أغنية احنا مشينا للحرب التي تتحدث عن الدفاع عن الحب ومرابع الطفولة، وأقحمت فيها الإشارة إلى حزب البعث إقحامًا دون رغبة الشاعر كاظم الركابي ـ كما كتب صديقه الشاعر كاظم غيلان؛ أما الأغنية السياسية التسعينية فتحولت إلى قصائد تتغنى بانتصارات موهومة وتمجد رأس السلطة.
ظهرت أغانٍ عن الاستفتاء الذي أجراه صدام حسين على منصب رئيس الجمهورية، مثل بايعناك لـ حاتم العراقي، وأغانٍ أخرى عن الحصار وتبني السلطة لخطاب المنتصر في حرب الخليج الثانية، التي أسماها النظام أم المعارك.
كان هذا التصدع نتيجةً طبيعية لسنوات الحصار التي أنهكت العراقيين خلال التسعينات، وانعكست على أمور كثيرة وأصابتها بالبؤس، فضلًا عن تقديم عدي صدام حسين لمجموعة من المغنين والملحنين وكتاب القصائد ممن اتسموا جميعهم بالرثاثة وضعف الأداء، مثل المغنيَين عادل عكلة وحبيب علي، وشعراء مثل عادل محسن وخضير هادي.
بالجملة، كانت الأغنية السياسية في هذه الحقبة مؤشرًا واضحًا للانهيار الذي بدأ يأكل السلطة السياسية تدريجيًا، متوازيةً مع ضعف الجيش وهيمنة قوى الأمن والتردي الاقتصادي، وضعف الروابط الاجتماعية لشعب خرج منهكًا من الحرب ليدخل في حصار شديد جعل العيش أشبه بالمستحيل.
اختلفت وتيرة الحقبة التي تلت عام ٢٠٠٣ بحسب الاضطراب الموجود في الشارع العراقي. خلال السنوات الأولى التي تلت الاحتلال، مع انهيار النظام السياسي وتشظي الدولة، وفي بداية الانبثاق لقوى ما قبل الدولة وتبلور خلاف مذهبي انعكس على السلطة والمجتمع، تقريبًا لم يعد هناك ما يمكن وصفه بأنه أغنية سياسية فعلية. كان المهيمن على الشارع مجموعة من المنشدين الدينيين، يمثل كل واحد منهم صوت طائفته، على الجانب الشيعي مثلًا ظهر منشدون مثل أحمد الساعدي وغيره، وعلى الجانب السني كان هناك صباح الجنابي وغيره. كان الاثنان يؤديان برفقة آلات موسيقية وإعداد في الاستوديو في أحيان كثيرة، لكنهما في الواقع لم يتجاوزا كونهما منشدان دينيان، يقومان ـ وأضرابهما ـ بأداء لا يعدو أن يكون إعلان مذهبي، تمثيل مموسق للطائفة. خلال السنوات ٢٠٠٣ – ٢٠٠٦ كان يمكن لركاب سيارات النقل العام أن يميزوا طائفة السائق من صوت المنشد المنبعث من مسجل سيارته.
مع بداية تبدل الوضع الأمني عام ٢٠٠٧، وقبلها بقليل، بدأت تظهر أغانٍ ذات طابع سياسي أحدثت صدًى بين الناس، بطريقة بطيئة لكن ملموسة فعلًا، أغان غير مصنفة ضمن تيار سياسي معين، ولا متسقة مع أيديولوجيا معينة، رغم الصدام العقائدي المهيمن على الشارع. على سبيل المثال، غنى حسام الرسام عدة أغانٍ من هذا القبيل عن بغداد والعراق، مواويل كان يفتتح بها حفلاته خارج العراق وكانت تتغنى بالبلد وتحدث اهتياجًا بين جمهوره، وكنت تسمعها وأنت تسير بين الطلبة في الجامعات، وفي السيارات، بالتزامن مع بدء خطة فرض القانون. اتسمت هذه المواويل بالغالب ببكائيتها، وإن تضمن بعضها خطابًا توحيديًا فجًا، يحاول أن يبين هوية دينية مركبة لبغداد، كنوع من إعلان الرفض للصدام المذهبي الذي كان دائرًا.
بدأت المرحلة الثالثة بعد احتلال داعش للموصل، حيث ظهر نمط ريفي كاسح هيمن بالتدريج على ما وصفناه مسبقًا بالأغنية التعبوية. أغانٍ حربية، لا يمكن أن توصف بأكثر من الرثاثة، تعتمد على “الهوسات” والقيم العشائرية، أغانٍ من قبيل خالي ابن اختك هالمعرض، ترتبط عضويًا بما يعانيه المجتمع من تمدد العشائرية على مساحة الدولة والفضاء العام للمجتمع، متناغمةً مع الجذور الطبقية للمقاتلين الذين قاموا بعمليات التحرير، ومشيدةً بشجاعتهم بطريقة شعبية بسيطة، تتخذ من قيم البنى الاجتماعية التي سبقت ظهور الدولة، مثل العشيرة والدين، والتي تتوارى في العادة عقب نشأة الدولة في مكان معين، ثيمةَ لموضوعها الشعري المموسق. قد تكون هذه الأغاني تعبيرًا ساذجًا عن الحماسة، لكن تشكّل هذه النماذج الغنائية بالمجمل مخرجًا من الارتباك والاضطراب الذي يهيمن على المشهد.
https://youtu.be/K4haRLSLXNk
يبيّن هذا العرض السريع لم نشر إلى نمط آخر للرسائل السياسية المموسقة، وهو ما كان يتلى على ألسنة الرواديد في عاشوراء، حيث كانت تمثل احتجاجًا سياسيًا أو هوياتيًا في بعض الأحيان. على سبيل المثال كان فاضل الرادود يتحدث في قصائده في النجف عن فلسطين والاستعمار والتجسس، خصوصًا أنه كان ذا ميول شيوعية، الأمر الذي يتطلب وقفة أخرى. أن ما يمكن أن يوصف بأنه أغنية سياسية ـ أو وطنية ـ في العراق كان في الغالب انعكاسًا لطبيعة السلطة القائمة. كانت النماذج التي خالفت السياق محدودة وحوصرت بالضغط الجارف للسائد في الأغنية السياسية، مما دعمه النظام السياسي أو تبنته الأيديولوجيات الحزبية.