.
إذا وصفنا العصر الثاني للأغنية الجديدة سنبدأ من سبعينات القرن العشرين، بدايةً من رحيل أقطاب عصر الأغنية الجديدة الأول (بين الثلاثينات والستينات) مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. أعني بالأغنية الجديدة موجة ذات ملامح واضحة، تنشأ من تكامل عناصر فنية وأخرى سياسية / اجتماعية بحيث ينشأ عنها وعي جديد.
لا بد أن يتوفّر للوعي الجديد إدراك ذاتي يمكّنه من تحقيق نفسه فنيًا. مثلًا لو قال محمد عبد الوهاب أن أغنيته في الثلاثينات تستهدف جمهورًا جديدًا، وتقطع مع نمط قديم من التطريب، وتتواصل مع إرث سيد درويش المسرحي / التعبيري؛ يعيّن عبد الوهاب بذلك ملامح يدرك أنه يستطيع تحقيقها فنيًا، ليغيّر بها وجه الغناء السائد إذا وافق طرحه مزاج المتلقي. عندما يتكامل هذا الإدراك الذاتي مع القبول الجماهيري والتوسع الإنتاجي أو الرواج التجاري تصبح الموجة وعصرها قابلين للتوصيف.
هناك دائمًا وجهان لقراءة الظواهر الفنية واسعة الانتشار، وجه تحقيق الجمالية الخاصة، ووجه تحقيق التعبيرية الجماهيرية، بمعنى قراءة ما مثلته ظاهرة فنية لجمهورها، بكل ما يحتمل ذلك من رسائل سمعية وبصرية وشفرات حسية، وارتباطها بحالة اجتماعية أو طريقة تذوق أو أسلوب حياة. قد يتحقق أحد الوجهَين دون الآخر، لكن لقاؤهما بالتحديد هو ما يصنع الفارق، وينقل المنتج الفني من موقعه الجمالي إلى تناوله من زاوية التعبير، أو إسقاط التعبيرات المختلفة على جمالياته، حتى تلك التي لم تدر في خلد الفنان.
يمكن توصيف مسار الأغنية الجديدة في عصرها الثاني على مرحلتين، ويمكن وضعه بين قوسين زمنيين لبنانيين، الدخول السوري إلى لبنان في ١٩٧٦ على خلفية الخلافات المصرية السورية، والتي تلاها توقيع اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨، ثم حرب تموز ٢٠٠٦.
بدأت الأغنية الجديدة التي نتحدث عنها في السبعينات التي شهدت متغيرات كبرى على الصعيدين الفني / التقني والسياسي / الاجتماعي. ظهر الكاسيت معلنًا بداية النهاية لعصر سيطرة المؤسسة الرسمية على أدوات الإنتاج، اقتحمت الآلة الكهربائية والاستوديو المطور عملية صناعة الموسيقى، وتوفّي الكبار ومعهم الأغنية الطويلة كآخر ما يمكن إلحاقه بعصر الأغنية الجديدة الأول. على الصعيد السياسي، هذا عصر ما بعد ١٩٦٧، حيث هزيمة عسكرية ثقيلة بدأت موجة من النقد والتشكك بشأن نظم حكم سادت في حقبة ما بعد الاستعمار، ومجتمعات بدأت تفسح لها الحرب الباردة وأخبارها طريقًا لمقارنة المعسكرات الاشتراكية والرأسمالية، واتفاقية سلام مصرية مع إسرائيل تقطع مصر عن المحيط العربي المتواصل معها ثقافيًا عن قرب في لبنان وسوريا وفلسطين، وعن بلدان المغرب العربي، ثم تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية ١٩٧٩.
كانت سياسات “الانكفاء على الذات” المصرية واتفاقية السلام إيذانًا بتشكّل معسكرات وقوى جديدة ستؤثر على حالة الإنتاج الثقافي كليًا في المرحلة التالية. المال العربي واتجاهاته هو مرشدنا هنا. من ناحية، يمول معسكر الممانعة إنتاجه الثقافي في العراق وسوريا وليبيا، ويحشد تحالفاته في لبنان ومصر وإيران الإسلامية. من ناحية أُخرى، استثمر الثقل المالي الخليجي في تصعيد التيارات الوهابية ومساندة تيار الإسلام السياسي في مصر ومن بعدها باقي المنطقة، متنحيًا عن مشاركة فعالة في المجال الموسيقي.
في مصر كانت السبعينات زمن وداع الكبار في مجال الغناء، من رحلوا بأجسادهم مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، ومن خرجوا من المنافسة تدريجيًا أمام عصر جديد بدأ يزحف على زمن يتآكل، متمثلٍ في أغنية طويلة مترهلة لا يزال يحاول بليغ حمدي تقديمها بينما عينه تلمح أفولها، باحثًا عن أجيال شابة من المطربين تولد على يديه (علي الحجار / محمد الحلو / عفاف راضي). لكن سرعان ما كونت مجموعات شابة فرقًا جماعية تمثل مشروعًا طازجًا لموسيقيين كانوا بالفعل قد عملوا مع كبار المطربين كعازفين وملحنين (هاني شنودة / عزت أبو عوف / عمر خورشيد / عمار الشريعي)، أو عملوا في فرق جماعية تستعيد وتنتج أعمالًا غربية بالإنجليزية (لو بيتي شا).
ظهرت الفرق الجماعية بصيغة موسيقية مختلفة، تشابه الباند الغربي في تكوينه ولكنها تعتمد صيغًا موسيقية وشعرية تختلف باختلاف أصحاب المشروع من حيث اقترابها وابتعادها عن الطابع الشرقي والتيمات الغنائية الدارجة. ظهرت المصريين على يد هاني شنودة بمشاركة استراتيجية من صلاح جاهين في رسم خطها الغنائي، والأصدقاء على يد عمار الشريعي بمشاركة مشابهة من سيد حجاب، وطيبة بمشروع موسيقي طموح للأخوين حسين ومودي الإمام، والفور إم على يد عزت أبو عوف مقدمةً أقرب الصيغ لمعنى الباند الغربي الخفيف الذي يستعين بروح شعبية، شارك في صناعتها خفيف الظل لاذع الموهبة حسن أبو عتمان الذي تشارك أكبر نجاحات أحمد عدوية.
https://youtu.be/nlM54Uc5E4M
لم تجتح الفرق الجماعية السوق المصري فقط، على التوازي كان المغرب العربي يقدم تجارب هائلة لتفكيك وإعادة إنتاج الألوان الفلكلورية للجماعات السكانية المتنوعة، مثل الغناوة والملحون في المغرب (ناس الغيوان / الترزات الذهبية وفراج الله)، وموسيقات الراي والموسيقى البدوية والقبائلية والشعبي في ليبيا والجزائر (فرقة الموسيقى الحرة / أحمد فكرون / الهاشمي قروابي / نجيب الهوش). في الجنوب كانت التجربة الجماعية لفرقة العقارب والمطرب سيف أبو بكر تقدم رؤية متقدمة وناضجة للتعاطي مع الإيقاعات والأغنية السودانية من مدخل الجاز، تجربة تمددت في مصر بظهور مشروع محمد منير والملحنين أحمد منيب وهاني شنودة ويحيى خليل، كمعالجة إنتاجية تجارية تبني على تجارب أكثر محلية تسبقها، خاصةً تجربتَي البحر أبو جريشة وعلي كوبان.
ربما بانزواء حالة الاحتفاء القومي بوحدة عربية متوهمة وقسرية، أصبحت التيارات الشابة في المجال الفني والثقافي متحررة من إرثها التعبوي الذي كُرست له جهودها في الخمسينات والستينات، واتجهت بعيدًا عن مؤسسات الإنتاج الرسمية تحاول استكشاف الجذور المتنوعة لمجتمعاتها المحلية، مع عين مفتوحة على تيارات الموسيقى العالمية وتوزيعاتها، فولد عصر الفرق الجماعية القصير الذي حمل نواة تغيير جذري للحالة الموسيقية السابقة عليه. سنختزل الكثير من الأسماء لو حاولنا مراجعة عدد الموسيقيين والمطربين والكتاب الذين أفرزتهم تلك المشاريع الطموحة، وأغنيتهم التي حملت بقدر الحلم الموسيقي حلمًا تحرريًا أصبح قادرًا على التجمّل بهوياته المتعددة.
في دول المشرق (التي تقع في قلب صراعات الممانعة وأعدائها والحرب الأهلية اللبنانية كذروة أفقية ممتدة) ظهرت “الأغنية الملتزمة” لتستوعب طلب شباب المشرق للإنتاج الجماعي عبر الباند، كتكوين يختلف عن الفرقة العربية الموسعة التي صاحبت المطربين في المراحل السابقة. وضع مؤسسو التيار إطارًا في معظمه أيديولوجي لمشروعهم الفني، يتمحور حول الرسالة الغنائية المتحررة من سيطرة المؤسسة الرسمية وفنانيها (أطلقوا عليهم لقب مطربي الأنظمة)، والتي تلتزم بقضايا مجتمعاتها، بإشارة متكررة لكثافة المنتجات الفنية المعتمدة على دعم الدولة والبعيدة عن مساندة القضايا الجماهيرية والإشارة للمآسي الاجتماعية والسياسية التي يحياها المواطن العربي. كما اتهم تيار الأغنية الملتزمة الصاعد المنتَج الفني الشائع بالفقر والتكرارية وعجز صناعه عن تملك أدوات التجديد والابتكار، وهو ما عاد فنان مثل خالد الهبر لنقضه معترفًا أن “من المؤسف القول إننا اليوم في لبنان متخلفون بما لا يقاس بما قدّمه الرحابنة في الستينات.”
تبدو المهمة المشار إليها طموحًا كبيرًا، خاصة عندما تضع على عاتقها مواصلة ما أنجزه آباء اعتبر أرباب “الأغنية الملتزمة” أنفسهم امتدادًا لهم مثل سيد درويش، والأخوين رحباني في بعض الحالات، وكذلك الشيخ إمام في مصر. تكونت المجموعات الموسيقية مثل الميادين (مارسيل خليفة)، العاشقين الفلسطينية والطريق العراقية، والأعمال المسرحية السياسية لزياد الرحباني التي جمعته وجوزيف صقر وسامي حواط والشاعر والمؤدي مخول قاصوف. تلت الأجيال الأولى للأغنية الملتزمة في المشرق أجيالًا ضمت إليها جوليا بطرس وفرقة صابرين الفلسطينية وريم بنا وغيرهم، ممن تباينت رؤاهم السياسية ولكن ظلت لمشروعاتهم الفنية ظلال أيديولوجية، تتضح بشكل أكبر في التصريحات الصحفية والمواقف المساندة لتيارات سياسية بعينها، أو عبر تقديم الحفلات والأغاني دعمًا لمواقف تلك التيارات وأحيانًا تحت لافتاتها وشعارها المباشر (حالة جوليا بطرس وقناة المنار اللبنانية والعلاقة بالنظام السوري وحزب الله في لبنان حالة فجة الوضوح).
برغم تعطل الإنتاج الفني في لبنان الخصب ثقافيًا خلال سنوات الحرب الأهلية، اعتبرت الأغنية الملتزمة أنها المعبِّر الرئيسي – الذي استمر خلال الحرب وبعدها – عن الحالة السياسية والمعارضة الجذرية؛ حيث عبرت أعمال خالد الهبر وتوفيق فروخ وزياد الرحباني وأحمد قعبور عن خطاب الممانعة السياسي – وجادلته في بعض الأحيان – مستعينة بإنتاج موسيقي متقشف حيث الأداء، يعتمد بالأساس على آلة مركزية وآلة إيقاعية وباص أو بيانو في معظم الأحوال، أو إنتاج أكثر سخاءً حال توفر السبل لذلك (جوليا بطرس – زياد الرحباني – أعمال مارسيل خليفة الموزعة للأوركسترا).
سارت الأغنية الملتزمة – باستثناءات قليلة – نحو التعميم الذي يركز على صوت نضالي في مواجهة تخاذل الأنظمة السياسية، أو يعين هذا الصوت متحدثًا باسم الجماهير في صيغة تستدعي الجماعة بالأساس لتثور أو تغير أو تزأر بالاحتجاج. كان هذا المسار مناقضًا تقريبًا للتوجه في مصر والسودان والمغرب العربي، حيث جنحت الفرق الجماعية (باستثناء مشروع الشيخ إمام) للتعبير عن قضايا داخلية تهم مجتمعاتها برغم تضييق أمني محتمل دائمًا على حفلاتها الحية وظهورها الإعلامي، معيدةً النظر في علاقة الرجل بالمرأة ونظرة الشباب للسلطة الأبوية والتنوعات السكانية والأوضاع الاجتماعية، محررين أنفسهم من هيمنة خطابات التذويب والصهر، مارقين نحو اجتراح ما استمر تجاهله طويلًا من تغيرات اجتماعية وجيلية، واحتجاجات تطال ما طمسته الدولة القومية الضاغطة من هويات ولهجات وتراث ثقافي جماعي.
انتقلت عدوى الأغنية الملتزمة تدريجيًا إلى بلاد أخرى مثل المغرب (سعيد المغربي / لمشاهب / السهام / ألوان) وتونس (الفرقة العمالية – لطفي بوشناق) والجزائر (معطوب لوناس)، وبشكلٍ ما اكتسحت في طريقها المشاريع الجنينية الأخرى للفرق الجماعية في مصر، التي لم تمتلك بنية إنتاجية قوية تسمح باستمرارها. أولًا بتشديدها على مركزية القضية الفلسطينية، كانت الأغنية الملتزمة تؤجج ربما مشاعر ذنب لدى بلد ابتعد نسبيًا عن مركز الصراع العربي الإسرائيلي، واحتفظ بخطاب معاد ورافض للتطبيع الثقافي يساوم عبره خصومه السياسيين؛ وثانيًا، بتمكنها من منصات إعلامية ونوافذ للعرض تفوق القدرات المصرية والمغربية بالطبع في ذلك الوقت. يضاف إلى ذلك في تقديري المقدرة الشعرية المتميزة دائمًا للفنانين اللبنانيين في صياغة الأغنية المشهدية، ذات التأثير الدرامي المكثف المحكم لفظيًا، والتي حملت إلى جانب التزامها السياسي صياغة شاعرية جديدة للمشاعر الفردية المتمردة، وافقت المزاج الشبابي المحبط وشكلته لمراحل طويلة تالية.
في مصر سيطرت تيمات التغريبة والنقد الاجتماعي المتحرر على أغنية الفرق الجماعية (أغنيات فرقة الأصدقاء: الحدود – مطلوب موظف – تحت العشرين)، وكانت هجرات العمل إلى الخليج ملمحًا رئيسيًا تناولته الأغنية منذ نهاية السبعينات وعبر الثمانينات حتى لدى المطربين الأفراد (سلامات لـ نادية مصطفى وحمدلله ع السلامة لـ عمرو دياب). من هذا المدخل عبر حالة اقتصادية متردية تدفع عشرات الآلاف لما أطّرته الأغنية كحالة هوان، تسللت قضايا الأغنية الملتزمة إلى الأغنية في مصر، لتربط اتفاقية السلام والمقاطعة العربية بالتقزم والعوز.
لو نظرنا إلى ألبومات محمد منير الأولى في نهاية السبعينات التي حملت دلالات التغريبة إسقاطًا على تهجير النوبة وإقصائها الاجتماعي (أغنيات أمانة يا بحر وقول للغريب وإيه يا بلاد يا غريبة والمدينة)، ثم اتجاهها إلى إدخال أغنية أو أكثر في كل ألبوم تحول الدلالات نفسها إلى القضية الفلسطينية كمحور وحيد لما تبقى من “التزام” عربي (أغنيات شجر الليمون ولو نسيت القدس والعمارة في منتصف الثمانينات)، يمكننا تلمس تبادل التأثير مع الأغنية الملتزمة المشرقية. لكن محمد منير الذي اعتبر نفسه (وفق حواراته الصحفية في تلك الفترة) واعتبرته التيارات اليسارية والقومية امتدادًا صوتيًا لها، كان من المفهوم أن يضمّن أعماله خطابًا ملتزمًا تجاه القضية الفلسطينية، بل حتى يحملها لآفاق إنسانية واسعة تتصل بمعنى الحرية والعدالة الكوني والمستحق. لكن اختلف مذاق تلك المساندة تدريجيًا لدى باقي الفنانين، بينما كان يزحف النشاط الكبير للتيارات الإسلامية في تركين القضية الفلسطينية في جانبها الديني بالتدريج نحو الخطاب الفني والثقافي، ويمرر مضامين الولاء والبراء والمعارك الحطينية بين رسائل الأغنية وألفاظها، كما يتضح جليًا في الخط الذي انتهجه الشاعر جمال بخيت ومن ساروا على دربه متحيزين علنًا لانتمائهم للمشروع الناصري ومقولاته المؤسِّسة (ألبوم لم الشمل لـ علي الحجار).
https://youtu.be/SiZFyE6XeAc
انتهت التجارب الجماعية بسرعة قبل نهاية الثمانينات لصالح المشروعات الغنائية الفردية، والمفارقة أن غناء الجماعة حمل للفرد تأملات بشأن وضعه الاجتماعي وحقوقه وحرياته داخل مجتمعه، بينما أعاده غناء الأفراد لتقمص أزمات الجماعة العربية ككلية تسعى لتماه كامل. توازت النهاية مع صعود نجم حميد الشاعري ونجاحاته التجارية الواسعة في مصر، والتي فتحت الباب لعودة الاستثمار في صناعة الموسيقى والغناء على نطاق اتسع في التسعينات، برعاية رأس المال الخليجي الذي انفتح على السوق الإعلامية والقنوات الفضائية (بالتوازي مع استثماراته الضخمة في مجال القنوات الدينية التي ظهرت من خلالها تائبات الثمانينات واعظات، ودعمت طوفان الدعاة الجدد الذي حظي بسيطرة طاغية على المجالَين الاجتماعي والفني في مصر).
انتهت محاولات التجديد الموسيقي السبعينية إلى شكلها التجاري الكامل في التسعينات، وبدأ مطربو الأغنية الملتزمة في التراجع عن التسمية ذاتها ضمن محاولات توسيع هامش الحركة والجماهيرية الذي يضيق تدريجيًا. ولد جمهور جديد بعد الحرب الأهلية اللبنانية، صغرت في عينه شعارات الممانعة بعد حرب الخليج ثم حرب العراق ٢٠٠٣، وتنامى أمامه حجم الفشل العربي بما يكفي لإحجامه عن تشجيع المزيد من الشعارات، وصعدت اللهجات الفردانية في مواجهة القمع السياسي والهوس الديني والتفكك الطائفي، وبات تراث الأغنية الملتزمة أقرب إلى الاستخدام التهكمي منه إلى التعاطي الجاد، وإن بقيت آثاره على آلية التلقي وتداخل الفني مع الإيديولوجي والهالة الذوقية المحيطة بفنانيه. وهو أيضا التهكم الذي جاءت حملة الإغتيالات السورية ثم حرب تموز ٢٠٠٦ في لبنان ببرهان أحقيته واستحقاقه، ثم التحمت سخريته بجديته، وهزله بمأسويته، في انتفاضات الدول العربية منذ ٢٠١١ والتي انكشفت بعدها أوراق اللعب التي لا يزال لا يستوعبها الفن.
ربما كانت اللحظة التالية لنكسة ١٩٦٧ فرصة لاحت بالتحديد لمشهد موسيقي جديد في مصر، تصبح فيه مركزًا لتيار جديد كما كانت مركزًا ألهم ودعم صناع الأغنية الجديدة الأولى، من المصريين وغيرهم. لكنها فرصة هزمتها الضغوط الاقتصادية وتوجهات رأس المال العربي في المنطقة، لتخلق وتدعم الأغنية الملتزمة أو تنكص عن دعم غيرها، وهزمتها من ناحية أخرى سوق إنتاجية وإعلامية في مصر نفسها، تتعيش على ابتذال الشعارات القومية وتستبيح خصومها باستخدامها في التشويه والإدانة، ما أنتج مناخًا معاديًا خلال الثمانينات للفرق الموسيقية الحرة، التي واجهت تضييقات أمنية وإنتاجية مستمرة أجهضت طاقتها وحالت دون استمرارها ومرورها إلى الجمهور الأوسع لتستطيع تثبيت وجودها فنيًا.
أحيانًا تتلو النكسة فرصة، الفرصة هنا كانت عودة لأحد جواهر وظيفة الغناء والموسيقى الشعبية / الجماهيرية، وهو دورها في مشاركة الجماعة البشرية صوتها، أو الخروج بصوتها إلى حيز جمالي متجدد يصل ماضيها بحاضرها وينجدل بين ذكرياتها وثقافتها ودندنتها اليومية. لكن آخر محاولات استكشاف صوت مصري الطابع وحديث النكهة كانت شبه ضحية لمنطقتها الأوسع وضيق أفق محيطها الداخلي، انقطعت بعدها مصر عن فرصتها، وكذلك عن مركزيتها، والأهم: عن صوتها.