.
في ديوانية المنزل، يجلس اليمنيون مع دخول العصر بعد الغداء يحمل كل منهم كيس قاتِه، ليغنوا برفقة أحد فناني العود ألحانًا من الغزل والتراث. ما بين خطر غصن القنا إلى يا من هواه أعزّه وأذلني، يسمع الجالسون قصف الطائرات الأمريكية والبريطانية للعاصمة اليمنية صنعاء، إثر موقف جماعة أنصار الله الداعم – عمليًا – لغزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية عليها. كلما اشتد القصف في الخلفية، يعلو صوت الغناء والتفاعل معه. ليس الغناء بالنسبة لليمني احتفاءً بالموت، وإن كان رخيصًا في سبيل الوطن ولا استهانة بالأرواح ممن قضت وهي تحرس البحر الأحمر، بقدر ما هو سُلوة رافقت الحروب بالنسبة لبلد لُقّب باليمن السعيد وخرج شعبه في تظاهرة مليونية قائلًا لأمريكا “لا نبالي، لا نبالي.”
الصواريخ أو القوارح في اللهجة اليمنية المحكية هي جزء من الواقع المعاش منذ ٢٠١٤، مع اختلاف جنسيات مطلقيها عبر الأعوام، بحسب إحدى النكات الساخرة التي تداولها المؤثرون اليمنيون. في شباط عام ٢٠١١، أي بعد شهرين من الثورة التونسية، اندلعت احتجاجات واسعة، انطلقت من جامعة صنعاء، للتنديد بالبطالة والفساد الحكومي في اليمن. بعد اعتقالات واسعة ومجازر عدة أشهرها جمعة الكرامة التي قتل فيها أكثر من ٥٢ شخصًا برصاص قناصة، أسقطت حكومة الرئيس علي عبد الله صالح، وتسلم نائب الرئيس صالح عبد ربه منصور هادي الرئاسة بموجب المبادرة الخليجية.
منذ ذلك الحين، انخرط الحوثيون في محاربة حكومة هادي الذي شكّل ذراعًا للمصالح السعودية والإماراتية، وتمكّنوا من الحصول على السلطة في أعقاب معركة صنعاء ٢٠١٤ التي قادوها ضد قوات من الجيش اليمني رفضًا لقرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية. في الربع الأول من ٢٠١٥، قادت السعودية تدخلاً عسكريًا في اليمن باسم عاصفة الحزم، لدعم شرعية نظام هادي في اليمن وتدمير الدفاعات الجوية للحوثي.
يبسط الحوثي اليوم سيطرته على معظم المدن اليمنية المركزية بعد فشل العملية العسكرية للسعودية؛ صنعاء وإب والحديدة، إلى جانب حضور الحكومة “الشرعية” بقيادة المجلس الرئاسي اليمني، في تعز وحضرموت، وسيطرة المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًا على الجنوب. تُتم اليمن هذا العام عشرة أعوام من الصراع خسرت فيها أكثر من ٣٠٠ ألف فرد من أبنائها في القصف وجبهات القتال، وانعكست على الظروف المعيشية؛ حيث توقفت الرواتب الحكومية في كافة القطاعات الحيوية وتدهور الريال اليمني ومعدلات صرفه عبر المدن، وأصبحت الدولة ثكنة من نقاط التفتيش بين المدن المنقسمة سياسيًا، وصولًا للقطاعات الخدمية بما فيها الثقافة ودعم الموسيقى.
شكلت المدارس الموسيقية اليمنية ركن الزاوية لكل ألحان الحجاز في شبه الجزيرة العربية، إذ تزخر بثروة فنية وألوان غنائية عدة ضاربة في عمق التاريخ. بدأ ارتباط الموسيقى الوثيق بالحضارة اليمنية منذ ألفي سنة قبل الميلاد، حيث شوهدت رسومات الآلات الموسيقية البدائية التي تعزف عليها النساء على شواهد القبور السبئية المنحوتة على ألواح الرخام.
تنقسم الموسيقى اليمنية حسب الأسلوب لنوعي الغناء الشعبي الذي يعبّر عن الفلكلور، والغناء التقليدي الذي يتمحور بصورة أساسية حول الموشحات اليمنية والقصيدة الغنائية. أما من ناحية المناطق، فتتعدد أنماط الغناء لتشمل الغناء الصنعاني، الحضرمي، العدني، اللحجي، اليافعي، التهامي، التعزي، والتي تتمايز عن بعضها باللحن والإيقاع والمقام واللهجة ونوعية الآلات الموسيقية المستخدمة.
شهد المشهد الثقافي في اليمن تراجعًا كبيرًا منذ بدء الحرب؛ إذ أوقفت أغلب الفعاليات الثقافية والفنية وقُلِّصت ميزانية وزارة الثقافة لتعزيز نفقات الجيش والأمن، وتوقفت العديد من المؤسسات الفنية الرائدة عن العمل. منذ عامين فقط، عاد معهدي جميل غانم للفنون والبيت اليمني للموسيقى، وهي مؤسسات قادت المشهد الثقافي اليمني، لفتح أبوابها وترميم مسارحها بعد توقف دام لسنوات. بذلك، ظلت الأغنية اليمنية في إطار إعادة الإنتاج الذي لا يضيف جديدًا للأصل أو ضمن جهود فردية يقودها الفنانون للتجديد أو الابتكار، خصوصًا في ظل تراجع عمل شركات التسجيل الفني والتوزيع بعد غياب الكاسيتات وتزايد الإقبال على السوشال ميديا.
اشتكى اليمنيون في مناسبات عدة من الفراغ الذي أحدثته السياسة في الأغنية اليمنية وانحصارها في المناسبات والأعراس والمقايل، فهي بالنسبة لهم وعاء تاريخي عبّر عن أهم الأحداث ومثّل الذاكرة الجمعية بما تحمله من مشاعر. لا يوجد في اليمن اليوم جهة حكوميةٍ تُتابع أوضاعَ فناني الجيل الأول ممن لا يزالون على قيد الحياة بعد توقّف صرف المرتبات الحكومية، وأشهرهم أيوب طارش عبسي وعبد الباسط عبسي وأحمد السنيدار ومحمد عطروش وعبد الرحمن الحداد ويحيى العرومة وعلي العطاس. أما في حالة الفنانين ممن خلّفوا إرثًا موسيقيًا ضخمًا، على رأسهم أبوبكر سالم بلفقيه الذي رحل عام ٢٠١٧، فلم تحظ أعمالهم بالتوثيق.
كان آخر جهود التوثيق الرسمية مشروعًا قادته وزارة الدفاع اليمنية عام ٢٠٠٥ لإعداد موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين، واحتوى على ٣٦٩٥ قصيدة غنائية لأكثر من ٢٠٠ شاعر وفنان يمني، مطبوعة في عشرة مجلدات. أعاقت الحرب تعميم هذه الموسوعة، لكنها ظلت مرجعية بين الهواة والفنانين وحفظت التراث، بالتوازي مع جهود المستشرقين ممن وقعوا في حب الأغنية الصنعانية، أمثال الباحث الفرنسي جان لامبير الذي عمل كملحق ثقافي لسفارة بلاده في صنعاء، وألف كتاب طب النفوس حول تاريخ الغناء الصنعاني الذي يمتد لأكثر من ٥٠٠ سنة، وآلة القنبوس عود صغير يصنع من جلد الماعز، وله أربعة أوتار، ويصدر نغمات رفيعة..
رغم اتهامات الجهات الرسمية للحوثي بالتضييق على الأغنية اليمنية عبر توقيف بعض الفنانين ومنع بعضهم من الغناء في مدن معينة، وحظر أغاني إباحية بعينها أو تحريمها دينيًا، إلا أن أنصار الله أحيو عام ٢٠٠٤ الغناء التقليدي للقبائل اليمنية والذي يعرف بالزوامل، وهو فن شعري غنائي تراثي يستخدم لمهاجمة الأعداء ورفع معنويات المقاتلين. يمكن النظر إلى الزوامل ضمن رؤيتين، الأولى بوصفها طفرة موسيقية تدفع باتجاه تأجيج مشاعر التطرف والترهيب والطائفية، وهي السردية التي تحاول السعودية ترويجها، رغم أنها انخرطت في إنتاج شيلات موازية تروّج لدورها في اليمن وتشيطن الحوثي، والثانية هي باعتبارها امتدادًا للأغنية الوطنية اليمنية التي تعود إلى خمسينات القرن الماضي، وتغنّت بحركة المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال البريطاني في الجنوب.
لقيت الزوامل رواجًا واسعًا بعد ٢٠١٦ على وقع اشتداد المعارك بين الحوثيين والقوات الحكومية قرب مدينة مأرب، كنمط من الإنشاد الجهادي متسارع اللحن وموّحد الإيقاع، وما زال صدى كلماتها يتردد حتى اليوم في الوقفات الاحتجاجية التي ترفض الحرب الإسرائيلية على غزة. في واحدة من هذه الاحتجاجات المليونية، أشعل عيسى الليث، المنشد الأول للحوثي، ميدان السبعين بزوامل حيّة شارك بها المحتجون لأول مرة. بالتأكيد فإن منشدًا مثل الليث لن يكون شغوفًا بدخول السعودية للغناء في موسم الرياض، لكن مطربين يمنيين كُثر ممن عُرفوا بطابعهم الغزلي منعوا من دخول السعودية على خلفية ترديدهم لبعض أغاني الحوثي أو ذمّهم الملك السعودي.
جعلت الحرب الأغنية اليمنية ساحة للاستقطاب السياسي حيث تستخدم الزوامل للتعبئة والنيل من الأعداء، ومع الحرب الإسرائيلية على غزة، ركزت الزوامل على مديح المقاومة الفلسطينية والدعم اليمني المفتوح لفلسطين مهما كان الثمن، حيث قال عيسى الليث في أحدها “الحرب حرب وإحنا لها وأغمار كرب مهما تكون أهوالها”. احتفت زوامل صباح السبت وسفينة ومليان أبوها سلاح والثورة الكبرى بعملية طوفان الأقصى وببطولة مقاتلي حماس، قبل أن تشيد بعمليات اختطاف واستهداف السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية ممن تمر عبر البحر الأحمر، مثل زامل شعب اليمن قفل المندب وخط أحمر يا باب المندب.
هاجر عددٌ من الفنانين اليمنيين للعيش والعمل في الخليج هربًا من الحرب، أو وجد بعضهم هناك على الأقل مشهدًا يمكنه المساهمة فيه. ضمت سهرة غنائية ضمن فعاليات موسم الرياض بعض نجوم الفن اليمني هم أحمد فتحي، وحسين محب، وفؤاد عبدالواحد، وعوض بن سالم، ووليد الجيلاني، بتنظيم الهيئة العامة للترفيه السعودية وفي مسرح أبوبكر سالم في الرياض. تعززت هجرة الفنانين اليمنيين للخليج بفعل عدّة عوامل أبرزها انفتاح دول الخليج وقياداتها على الفن والموسيقى، والتقارب في اللحن بين الأغنية اليمنية والخليجية، عدا عن الشعبية الواسعة لبعض الفنانين في الأوساط السعودية والإماراتية.
أما من لم تسنح لهم مواقفهم السياسية أو تاريخهم الغنائي بزيارة السعودية، فقد وجدوا في سلطنة عمان مساحة تقارب مع الشعب وحكومته التي رفضت المشاركة في العمليات العسكرية ضد اليمن منذ عملية الحزم حتى عملية حارس الازدهار في البحر الأحمر. هاجر آخرون إلى دولٍ عربيةٍ أخرى، مثل السنيدار المقيم في مصر، وتنقل حسين محب بين مصر ولندن والسعودية، مع زيارات محدودة لليمن يحيي بها بعض الأعراس. أتاحت لهم الغربة التجديد على الأغاني بعناصر تتجاوز استخدام العود واللحن التقليدي، عبر إدخال الآلات المتنوعة والتوزيع الموسيقي والأستوديو والمسرح، وغيره من التقنيات المتطورة، لكن لم تطل هذه الانعكاسات المشهد الموسيقي في وطنهم الأم.
لمع المايسترو اليمني محمد القحوم في حفلة يمنية فنية شارك فيها ٧٠ عازفًا في باريس، بعد حفلتين سابقتين جرى تنظيمهما في كوالالمبور وفي القاهرة. حمل هذا العرض اسم نغم يمني في باريس، وقدم عشر مقطوعات موسيقية مستوحاة من الفنون الغنائية والموسيقية اليمنية، تصحبها عروض فولكلورية يمنية لرقصات شعبية متنوعة، من تنظيم مؤسسة حضرموت للثقافة التي انطلقت عام ٢٠٢١ برئاسة تاجر سعودي من أصول يمنية، وتسعى لإبراز جمالية الفنون اليمنية التي “يأمل أهلها بطي صفحة الحرب والصراع.”
عام ٢٠٢١، وضع الشاعر الشاب لؤي النزاري البذرة الأولى لفكرة يوم الأغنية اليمنية، الذي تبنته وزارة الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة “الشرعية”، وأصدرت قرارًا يقضي بتحديد الأول من يوليو من كل عام يوما للاحتفاء بالأغنية اليمنية بمختلف مناطقها ومدارسها، بعد أن أرهقتها الحروب وتعرضت لسرقة الألحان والكلمات وشهدت تراجعًا في مستوى انتشارها بين الأوساط العربية. إلى جانب القامات الفنية اليمنية من الجيلين الأول والثاني، تشق اليوم بعض الأصوات اليمنية الشابة ممن اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي أو في برامج الغناء طريقها بصعوبة، لكن الحقيقة هي أن ردم ما خلفته الحرب على الأغنية اليمنية يحتاج مشروعًا أكبر من الجهود الفردية.