fbpx .

متشكرين خلاص | كيف يحاول البوب المصري ابتلاع الراب

عمر غنيم ۲۰۲۵/۰۹/۱۵

تنشأ بين موسيقى البوب والأنواع الموسيقية الصاعدة علاقة مؤقتة، تتغير بتغير مدى أهميتها وتأثيرها وحجمها في الثقافة العامة. إذ غالبًا ما تتكون هذه الأنواع من ثقافات فرعية ومشاهد فنية تحمل تمردًا جوهريًا على الثقافة السائدة، وهو ما يمنحها قدرتها على الوصول والانتشار كثقافة مضادة، خاصة الى الأجيال الجديدة، حتى تصبح جزءًا من الوعي الجمعي ويصعب تجاهلها. عندها يبدأ البوب في التعامل معها وفق نمط متكرر، يرفضها أولًا، ثم يحاول السيطرة عليها واحتضانها مع تشذيب حوافها، ليستعملها لخدمة أهدافه لا من باب التجديد أو الإثراء، بل كوسيلة لبسط هيمنته على كل مساحة جديدة؛ وحين تفقد تلك الأنواع حوافها وتخسر رمزيتها السابقة، تفقد أهميتها وخصوصيتها وتصبح قطعة أخرى في منظومة البوب.

يحدث هذا النمط باستمرار في الموسيقى وفي الفن بشكل عام، ويمكن بسهولة تتبعه عبر حقب من تاريخ الموسيقى نجح فيها البوب بمفهومه الأشمل في إدخال مشاهد موسيقية جديدة ضمن إطاره، فكان الآر آند بي في التسعينات، ثم الهاوس والتكنو، ثم رأينا الجرايم في العقد الماضي، ولاحقًا جانرات إلكترونية فرعية مثل الدب ستيب والبايلي فنك.

كان هذا في السياق الغربي أو الأمريكي بالتحديد، الذي كان أكثر فاعلية في تبني تلك الجانرات والمشاهد وتوظيف عناصرها في سياقات أقل حدة وأكثر استساغة للجمهور العام. بينما في البوب المصري، رغم أنه كان أقل انفتاحًا وأكثر تهجمًا على الجنرات “الدخيلة”، رأينا سيطرة لجنرا الهاوس في منتصف الألفية، والبوب اللاتيني والألحان البدوية والنوبية قبل ذلك، ثم الآن نرى النمط نفسه يتكرر مع الراب.

واجه الراب في مصر في بدايات انتشاره هجومًا ورفضًا عنيفًا من منظومة الفن المصرية، لكنه مع الإصرار والتطور وصل إلى قمم تجارية ونجاح جماهيري ضخم، لتبدأ العملية نفسها مجددًا. في الشهر الماضي فقط رأينا ثلاثة إصدارات تجمع بين نجوم الصف الأول في البوب وفنانين من مشهد الهيب هوب: مروان موسى وعفروتو مع أحمد سعد، كريم أسامة والوايلي مع تامر حسني، وليجي سي مع روبي.

قبل خمس سنوات فقط، ربما بدت هذه التعاونات بعيدة كل البعد عن التحقق، لكن الأمور اختلفت الآن، فأصبح الهيب هوب هو موسيقى الجيل الجديد بلا شك، وأصبح من أكثر الجنرات – إن لم يكن أكثرها – استماعًا في مصر. صار الرابرز هم النجوم الحقيقيون ووجوه الشركات الكبرى والبراندات.

ظهرت في ذلك النطاق التعاونات بين البوب والراب بصورة أكبر، وهي ليست جديدة، لكنها كانت تحدث فقط في سياقات معينة كبرنامج اليوتيوب ريد بول صالونات على سبيل المثال، أو في الإعلانات. أما الآن فنحن بصدد حالة أخرى من تنميط الراب وسحبه داخل البوب واحتضان موسيقى الجيل الجديد ككل، أو محاولة لابتلاعها إن صح التعبير. يطرح هذا النوع من التعاونات الكثير من الأسئلة حول طبيعتها، وما الذي تحققه في الأساس، وما الفائدة الحقيقية التي تعود على المشهد الموسيقي العام واندماج شرائحه.

في تراك هو ده بقى، الذي تعاون فيه كريم أسامة والوايلي مع تامر حسني، والصادر في ألبوم تامر حسني الأخير، نلاحظ وضوح عدم تناغم منفّر. بعيدًا عن جودة التراك على الصعيد الموسيقي – والتي يمكن اعتبارها جيدة نسبيًا – يأتي التراك في مجمله كتجربة هجينة تحاول أن تجذب طرفين متناقضين وتقدم كل شيء في آن واحد، بينما تبدو الفيرسات وكأنها جزء من ماش أب ألفيناتي متواضع الجودة، مقحمة عنوةً جنبًا إلى جنب. ربما الهوك من تامر حسني هو أفضل لحظات الأغنية، وربما كان فيرس كريم أسامة منطقيًا لو كان قائمًا بذاته، وربما كان بيت الوايلي – الذي حاول قدر الإمكان تطويعه لضم الاثنين والتلاعب به ليظهر قدرًا من السلاسة – منطقيًا لو انقسم إلى تراكين مختلفين. لكن الأغنية كمنتج متكامل يظل أبرز عناصرها هو التنافر.

تأتي تجربة أحمد سعد مع مروان موسى وعفروتو في حبيبي ياه ياه أفضل نسبيًا على كل الأصعدة؛ فعلى بيت مقسوم بسيط يغني الثلاثة بصورة متقاربة حتى لو كانت متكررة، ويذهب أحمد سعد كليًا في اتجاه مروان موسى وعفروتو في الأغنية، مبتعدًا عمّا نتلقاه منه عادةً.

بعيدًا عن الجانب الفني المحدود، تكشف تلك التعاونات عن أبعاد تجارية واستراتيجية أعمق، إذ تمثل في جوهرها محاولة لإعادة إحياء نجوم البوب في صورة جديدة تضمن لهم القبول لدى الجيل الجديد من المستمعين. إذ تتجاوز الأرباح الأكبر هنا العائدات المباشرة، لتكمن في إعادة ترسيخ أهمية هؤلاء النجوم واستمراريتهم في ظل تغير ذائقة الجمهور الأصغر. 

يبدو الأمر وكأنه ضخ دماء جديدة في مشروع فني يواجه خطر التراجع، أو محاولة إنقاذ أسماء بدأت تفقد بريقها مع تحولات السوق. في المقابل، يحصل الرابرز على انتشار مضاعف ودخول أوسع إلى المينستريم، لكن مع خسارة جزئية لرمزيتهم كأصوات مستقلة، إذ تنقلهم تلك التعاونات إلى مساحة لطالما تمرد عليها مشروع الراب المصري.

إلى جانب تأثير هذه الديناميكية السلبي على صورة الرابرز، هي تخاطر أيضًا بمشروع صناعة راب مصري متجذر في بيئته ومرتبط بثقافة الشارع، إذ تُفرغ الراب من معانيه الخام وتعيد تقديمه في قالب تجاري مسطّح يسعى لإرضاء الجميع. النتيجة هي تحويل الهيب هوب إلى منتج تُقاس قيمته بالأرقام لا بالمحتوى أو الجودة الفنية، ما يهدد المشهد ككل.

غير أن المفارقة تكمن في أن الراب، في هذا السياق، يبدو الطرف الأقوى؛ فبينما يتعامل نجوم البوب مع هذه التعاونات كفرصة للنجاة، يدخلها الرابرز بنوع من الاستسهال، واعين أو غير واعين بتواضع قيمتها الفنية. الدليل أن أغلبهم مثل ليجي سي ومروان موسى لا يزالون يحافظون على إصدارات قوية ومشاريع خاصة تعكس ثقلهم الفني، بينما تبدو هذه التعاونات بالنسبة لهم مجرد وسيلة لتعظيم الجماهيرية والعائدات لا أكثر؛ محولين الأمر إلى لعبة: احزر مَن يبتلع مَن؟

المزيـــد علــى معـــازف