.
لم يغب التصوف البدوي عن قائمة مواضيع البحث التونسية، بل ربما كان من الجوانب الأكثر حظًا بالدراسة، ولو بشكل عرضي أثناء دراسة الظاهرة الصوفية عمومًا كما في دراسة توفيق البشروش الوليّ الصالح والأمير (١٩٨٩) المخصصة أساسًا لدراسة علاقات السلطة بالمتصوفين الحضر وبدرجة أقل البدو.. مع بحث حمّادي الدالي، الدولة والقبيلة والزاوية والفقهاء (٢٠٢٢)، حظي التصوف البدوي بالاهتمام الرئيس، لكن مرّة أخرى اختزلت الظاهرة في بعدها السياسي؛ علاقة التصوف بالسلطة الرسمية للدولة أو بسلطة القبيلة.
أما المادة التي استقى الدالي منها البحث، فلم تخرج عن الوثائق المكتوبة دون سواها، في حين غابت المدوّنة الشفوية وخاصة السماعية منها بشكل شبه كلي. قد يُفهم هذا في سياق دراسات تؤرخ لعلاقات السلطة وللدور السياسي للمؤسسات الصوفية، إلا أن بحثًا آخر ومن حقل معرفي مختلف، لم يشذ عن نفس النتيجة، وهو بحث حبيبات الله (٢٠٢٣) لألفة يوسف، والتي في سياق تتبعها لظاهرة الولاية النسائية الروحانية، انفتحت على جلّ الرواية الشفوية الأسطورية ووثّقتها وحاولت تأويلها. غير أن عمل السيدة يوسف، جاء أفقيًا ودون تمييز بين وليّات البدو ونظيراتهن من المدن والحواضر، وبالتالي جاءت نتائجه عامة ومحكومة أصلًا بمعطى الأنوثة، لا الفضاء الاجتماعي.
هنا تأتي أهمية مدونة السماع البدوي، كمادة أرشيفية غير مستغلة بالقدر الكافي، للكشف عن أبعاد أخرى لهذه الظاهرة في سياقها البدوي، لا فقط باعتبارها وسيلة للهيمنة – أو المقاومة – السياسية، بل كشكل مخصوص من التصوف، في سياقه وتعابيره.
لمفهوم العار حضور قوي في المجتمعات البدوية، بل ربما كان العار حاضرًا كمرادف لكل قيمة دونية أو لكل إخلال بالواجبات والخلق القبلية. فالجبن مثلًا، يترتب عليه معرّة تلحقها الجماعة بالمتخلفين عن الغارة أو ركوب الخيل من أبنائها، أو ربما تلحقه بجماعة قبلية أخرى بأكملها. في مجتمع قائم بشكل كبير على الاعتبار الشخصي، فإن احتمالية الاكتساء بالعار تلحق كل أفراد القبيلة وكل العناصر المتداخلة في حياتها على حد سواء.
كما أن لأولياء البدو الصالحين عارهم أيضًا، وهنا تأتي أهمية المدونة الغنائية باعتبارها المصدر الوحيد الذي من الممكن أن نستدل به على هذه المسألة. إذ لا تشير الوثائق القليلة المتوفرة بين أيدينا عن تمرد المريدين على أوليائهم أو هدم زواياهم ربما باستثناء تلك التي أوردها البشروش في كتابه ربيع العربان، حول احتجاج أهل مساكن وقلبهم لتابوت سيدي الصحبي في القيروان غضبًا ورغبةً في استنهاضه لغوثهم في ستينات القرن التاسع عشر.. كذلك، لا تحتوي المقامات الصوفية أو الطقوس التي تقع داخلها اليوم على غير مظاهر الإجلال والاحتفاء، وبالتالي لا تبقى لنا غير المدونة الغنائية مصدرًا نادرًا يوثق معرّة الأولياء، بل وتفسّر أيضًا خصوصية بعض الطقوس والسلوكيات في المقامات البدوية.
باستنطاق هذه النصوص نجد أن المعرة تلحق الولي أساسًا كنتيجة لعجزه عن تلبية رغبات ودعوات مريديه. لا تصوّر هذه الرغبات عادةً كطلبات مادية حسيّة – ولو كانت في الحقيقة كذلك – بقدر ما تعاد صياغتها في عبارات عامة ومجازات بدوية بامتياز. في واحدة من مدائح نساء الهمامة، تردد الذكّارة في مطلع المديح الجملة التالية: “لمّوا فزعكم ولحقوا تالكيم / الشرفة العار عليكم”. في هذه الاستعارة، يُصوّر المريد، ومن معه من الملتجئين بالولي، كمجموعة من المستضعفين في آخر قافلة مرحول بدوي، في حين يحضر الصلاّح أو الأشراف وكأنهم رأس لتلك القبيلة وحماتها، المحمول عليهم واجب الذود وإجابة صريخ المستضعفين منهم. لا يمكن للإخلال بواجب “الفزْع” هنا – وهي العبارة الأشد في المعجم البدوي التونسي للتعبير عن معاني التعبئة الحربية والأمنية – أن يجازى بغير العار.
أما في مدونة أشهر أولياء نفطة بالجنوب التونسي، تلمود سيدي بوعلي الموقّر على حد السواء بين الحضر والبدو، نجد تقريبًا نفس الصورة المجازية لقيم الفروسية البدوية التي يفترض من الولي التحلي بها، وذلك بعد ترديد لازمة “فارس اللزمية سيدي بوعلي” لينتقل المدّاح في البيت الموالي للتأكيد على “عار ليوما / عار على اللي ساكن القرجومة” القرجومة هي اللفظ المحلي للحلق، وتردد عبارة ساكن القرجومة كناية عن موقع استقرار أبي علي النفطي الجغرافي ومقر زاويته اليوم.، وذلك عندما صدّ أبو علي النفطي عن تلبية رجاء المريد، وهو الذي نظم من أجله الملزومة الشهيرة الملزومة هي القصيدة الشعرية التي يتكرر في لازمتها بيت واحد. هنا تتوضح معالم المعادلة، مريد يسترضي وليّه بالمدح ووليّ يجيب، وإن كان إخلال الأول بواجباته تجاه شيخه موجب للعقاب الدنيوي تزخر ذاكرة البدو بقصص الخوارق هذه.، فإن إخلال الولي بالتزامه بالاستجابة، مجلبة للغضب والاحتجاج.
في مواضع أخرى لا يحل العار كرديف لعدم الإجابة أو للإخلال بقيم الفروسية، لكن كترجمة لجانب بدوي آخر، يتعلق برابطة الدم والنسب. إذ يندر وجود قبيلة أو فرع قبلي، خاصة منذ بدايات القرن السادس عشر، لا يدعي الانتساب لجدّ مؤسس هو بالضرورة ولي أو رجل صالح. لم تعكس هذه الأسطورة المؤسسة – الرائجة في جلّ الأوساط القبلية التونسية – فقط رغبة البدو في الارتقاء الاجتماعي من خلال ادعاء نسب شريف أو التحلل من الالتزامات الجبائية إذ أن مجمل القبائل المرابطية الصوفية تمتعت بإعفاءات جبائية كلية أو جزئية خلال العهد التركي.، لكنها عكست أيضا إيمانًا روحانيًا صادقًا ورغبة حقيقية في توثيق روابط دموية مع أجداد شبه أسطوريين. إذ لا تعلو على الرابطة الدموية في السياقات البدوية الأبوية، أي رابطة أخرى.
في واحدة من مدائح الحضرة الحرشانية، المخصصة كليّا لمدح وذكر أجداد وآباء القبيلة الصالحين لا يتوانى المنشد عن تذكير أجداده بانتسابه لهم “الحرشان العار عليكم / نا واحد من ذريكم” وبذلك يرميهم بمسبة العار لا لخذلانهم مريدًا أو لمستضعفًا، ولكن لخذلانهم الولد، وتلك أكبر المعرّأت، والتي تجد تعبيرها الأجلى في عبارة “بابا العار عليك”، والتي تسرّبت من مديح بدوي رائج في بوادي شمال غرب تونس إلى الأوساط الحضرية، حيث اختارها المخرج صلاح الدين الصيد وزميله علي اللواتي لتضمينها في مشهد شهير من قمرة سيدي المحروس عام ٢٠٠٢، والذي خصّص في مفارقة لولي متخيل من أولياء الحُضر.
في الكثير من مدائح البدو، تبنى القصائد في شكل خطاب موجه مباشرة للولي المنشود، في أحيان كثيرة يمدح وكأن المدّاح واقف بين يديه، وفي أحيان أخرى تنقلب الصورة ويمسي المدّاح آمرًا لوليه. صيغ الأمر هذه كثيرة ومتعددة، وعادة ما ترد في سياق استنهاض وتحدِ، كما في تلك المدحة المخصصة لأولياء بلاد الجريد، وتحديدًا وليّها سيدي مرزوق عندما يفتتح المدّاح المقطع مباشرة بقوله “تقعد ترى مرزوق” أو انهض يا مرزوق. غير أن اللافت هنا، هو لفظ “ترى” المضاف للأمر، والذي لا يحتمل في سياقات مغرقة في محليتها كلهجة الهمامة – أصحاب القصيدة – إلا معنًى وحيدًا: إن قدرت. بذلك تمسي بركة الولي وسطوته، محل تشكيك حتى يثبت الأخير عكسه.
في مواضع أخرى يُجاوز المدّاح التشكيك لما هو أبعد، حين يقرن صيغة الأمر بالتهديد. من حسن الحظ أن حسابات الفايسبوك حفظت لنا مقطعًا قصيرًا لأحد منشدي فرقة الرحمة التي تستمد جلّ قصائدها من تراث الطريقة القادرية المنتشرة بين مدينة قفصة وقراها وبدوها على حد السواء. وهو بصدد إنشاد قصيدة تراثية، يرجح من أبياتها أن صاحبها رجل من بلاد الجريد، نظمها خلال بدايات القرن الماضي على شرف كلّ الأولياء الصالحين المنتشرين على خط سكة الحديد الاستعمارية، من مدينة القيروان وصولًا إلى توزر في الجنوب.
في هذا المقطع ينشد الشاب بيتًا من مطلع القصيدة: ” افزعوا لنا يا رجّالة / وإلا ع أنادي النسوانِ” وهو بيت وجهه صاحبه لكل راقدي القباب الذين مرّ بهم في رحلته وتبرّك في مقاماتهم، إذ بعد أن مدحهم أنذرهم بأنهم إن لم يلبوا النداء فسيستعيض عنهم بالنسوان. الطريف فعلًا في هذه المطوّلة أن الناظم لم يشر لأي وليّة من النسوة “المبروكات” بالرغم من انتشار مقامات بعضهن على امتداد خط رحلته. بالتالي فإن خطابه مركز للأولياء الذكور بوصفهم ذكورًا قبل كل شيء، أي أن الذكورة تسبق الولاية، ليتحول بذلك طلب الغوث لما هو أبعد من مجرد أمر متكل على علاقة التودد والاستعطاف، بل تحدي ذكورة صريح إن فشل فيه، لن يجزى فقط بمعرة الهجران وإنما الهجران نحو من هو “أدنى” في ثقافة ذكورية بامتياز.
صورة الهجران هذه لافتة، ذلك أنها تتكرر في أكثر من مديح وبطرق مختلفة، إذ يهجر المريد وليّه روحيًا عند انقطاع بركته ويهجره ماديًا أيضا بأن يترك زيارة مقامه، كما في مديح آخر للحضرة الحرشانية يتحسر فيه صاحبه على حال أجداده الأولياء ممن أخلفوا إجابة دعائه: “ناري على الشيّاب وجماعتنا / قعدوا خلاوي بالحجر مبنية” أي أنه لم يبق من أيام سطوتهم وتبجيلهم سوى أطلال قبور ومقامات حجرية، لا يزورها أو يتبرك بها أحد. في قصيدة أخرى، ربما هي من الأكثر تأثيرًا وحسرة، متوارثة بين أفراد قبيلة أولاد سيدي عبيد المنتشرة على الشريط الحدودي التونسي الجزائري في الاستغاثة بجدّهم، يأخذ هذا المعنى جلاء وصراحة أكثر:
ما يحكّ كان أكتافه / يستاهل بالخايبة يتكافى
تبطّله الوعدة
هذاكا عبيد الغالي / ما جاش لولده
في هذا المقطع يبلغ الوعيد أشدّه، حتى العبارات المعتمدة في معجم القصيدة يغلب عليها طابع الغضب والنقمة، فأمام ولي/جدّ يعجز عن الغضب لابنه وقد “ضامته الرجّالة”، لا يبقى للابن سوى الردّ بمجازاته بما يصفه بالخايبة، أي إبطال الوعدة أو النذر الوعدة هي النذر المعتاد تقديمه من طرف المريدين والزيّار لمقامات أوليائهم، والتي تختلف في السياقات البدوية عن نظيرتها الحضرية ولا تخرج عادة عن الهدايا العينية من خراف أو تمور.. هذا النذر هو أشد ما يربط المريد بوليّه، إذ يتخذ طابع الإلزام تمامًا كالزيارة، بل لا تجوز زيارة عادة من غير نذر، وعليه فإن الإخلال به يجلب على صاحبه اللعنات والشرور؛ باستثناء هذه الحالة، حيث ينقلب المشهد من جديد، ويصبح الوليّ مهددًا بانقطاع وعدته، جزاءً لإخلاله بواجبه المناط به.
في نفس القصيدة، يستمر المنشد في تبرير خياره، ويبكي بحسرة غياب جدّه المريب “عبيد قالوا غيّب / شكيته مربوط مش مسيبّ”، حتى أنه توقع أن وليّه صار سجينًا مكبّلًا في “سلاسل حدّة” بعد أن كان قديمًا “مهيّب / يضرب بيده مدفعه ويسيّب”. لكن كيّف يفسر المدّاح هذا الانتقال؟ بطبيعة الحال وفي إطار علاقة روحانية متينة، لا يمكننا افتراض أنه يبني تشكيكه في مقدرات وليه على حجج علمية عقلانية، أو حتى على حجج لاهوتية من الإسلام السني الرسمي – الذي يرى أن إجابة الدعاء ملكة إلهية خالصة لا دور للأموات فيها، وإنما يعزوها لفعل الولي نفسه، ورغبته في الاستقالة من الدور المنوط به:
عبيد لا من شافه / راهو بعينه هزّ من أوصافه
يتقعد صعده
شكيته من الخوافة / في تابوته داير بيه لحافه
واستحلى الرقدة
هنا ما زال الولي – الميت منذ قرون – صاحب إرادة وسلطة على نفسه، غير أن إرادته توجهت نحو الركون للراحة وسط تابوته، حيث استكان للدعة والنوم ملتحفًا بعمامته البيضاء ومحتجبًا بها عن الزوار. مع ذلك فإن المدّاح لا يقطع جزمًا بأن وليّه أمسى خانعًا وخائفًا، إذ يقف في الوسط عند مرحلة الشك دون أن يجاوزها، ورادعه في ذلك الأدب وإيمانه القاطع بأن صاحبه ما زال صاحب جاه وقدرة متى أراد. ما على المريد إلا أن يستنهضه، ومن أجل ذلك يمتلك البدو طرقًا ووسائل شتّى.
أثناء الزرّد، أي الأيام الموعودة للاحتفاء بالأولياء، والزيارات، وتحت القباب الخضراء، يصبح النص المنشد تفصيلًا في مشهد فرجوي كامل، له طقوسه ومؤثراته المختلفة من أزياء وروائح وحركات، تخدم جميعًا وفي تناسق الغرض المرجو منها: الاحتفاء بالولّي وطلب بركته ورضاه، واستنهاضه أيضًا. كما أشرنا في البداية فإن الطقوس مبتورة لا تكشف لنا الكثير من مميزات الاحتجاج، غير أن وجود المدح كعنصر مكوّن للمشهد، يوفر لنا فرصة مقارنة طقوس الحضرة بعضها ببعض واختلافاتها بين طوري الرضا والغضب.
لعل أول عنصر لافت للانتباه هنا، هو فعل الزغردة نفسه. فعلى خلاف الحضرة المدينية، تعتبر الزغاريد عنصرًا ثابتًا في الحضرة والزيارات البدوية على امتداد المجال الريفي التونسي، إذ تزغرد النسوة عند دخولهن مقام الولي أول مرة وعند بلوغ الذكّار أوج انفعاله، أو عند تطرقه في المدائح متعددة الأقطاب لولي ترتبط به الجماعة من ناحية القرابة أو النسب. تحضر الزغاريد أيضًا في المدائح الاحتجاجية، وهو الحضور المثير للّبس في بعض الأحيان، إذ كيف لفعل احتفالي أن يكون حاضرًا وربما بقوة وعنف أكثر في مواضع الغضب واللوم؟
تعود بنا الإجابة على هذا السؤال لما هو أعم وأقدم، أي دور الزغردة في حياة البدو ككل. ففي سياقات الصراعات الدموية والغارات المتبادلة والمتواترة بين فرسان القبائل، كان للنساء دور حيوي في شحن أطراف الصراع وإثارة حماسهم. يكفي أن “تزغرد عليك النساء” وهي العبارة الرائجة على ألسنة قبائل الهمامة والفراشيش وغيرهم، حتى يجد الرجال أنفسهم مضطرين لخوض المعركة، أو يلحق بهم عار الفرار.
كان هذا الإلزام الصوتي وسيلة النساء المثلى لامتحان رجولة أبناء قبائلهن؛ وفي سياق صوفي، يمتد ذلك لامتحان أوليائهن. كتلك الليلة من صيف عام ٢٠٢٣، أثناء أمسية من أماسي زردة سيدي علي بن عون، أحد آخر أكبر الاحتفالات الصوفية البدوية في الوسط والجنوب، تجمّع عدد من المداحين الهواة أمام مقام الولي، حملوا الدفوف وشرعوا في المدح وشكوى الحال، وبسرعة تجمّع حولهم العشرات من الزيّار – ومنهم كاتب المقال – وقامت الحضرة عفويًا. وصلة تلو أخرى ذكر المدّاحون غير المستعدون علي بن عون وغيره من الأولياء، وعندما طغا عليهم الإرهاق، أرادوا التوقف، ارتفعت أصوات النسوة بالزغاريد ومن ورائهم صوت ذكوري أجش: “النساء تزغرد عليكم وأنتم تريدون التوقف، عيب ما يجيش!” وتحت السطوة المعنوية لذلك الفعل، استأنف المدّاحون الذكر مرغمين.
في الصيف الموالي وفي نفس الزردة، وتحديدًا آخر يوم فيها، حين يبلغ عادة احتشاد الزيّار في المقام أوجه، وكذلك عاطفتهم، لأداء زيارتهم الأخيرة للولي والراقدين معه، انسل من وسط الصفوف كهل أسمر ملتحف بعمامة بيضاء، وفي هدوء رفع بالصوت الرخيم “جدّي وما نشمت فيك” أو يا جدي لا تشمّت فيك، وفينا، الآخرين. كان هذا المطلع من الموال كافيًا لإثارة زوبعة عنيفة من الزغاريد العفوية ودون سابق تنسيق، إذ كان المشهد كافيًا لفرض نفسه على الجميع. حالت خصوصية المقام وتلقائية الحدث دون القدرة على توثيقه، باستثناء ثوان قليلة أظنها كافية لنقل بعض من الجو العاطفي المشحون، والذي يصل منتهاه عند مقام الولي، وبذلك يكتمل المشهد.
آخر العناصر الفرجوية، هي المقام نفسه وتحديدًا عند قاعته الرئيسية، التي تختلف حسب بنية المقام المعمارية وطبيعته من مجرد خلوة بسيطة وصولًا إلى الزوايا الكبرى. حيث يوجد عادة ضريح الوليّ الرئيس، وقد ارتفع فوقه تابوت خشبي. تظهر أهمية المكان هنا في كونه آخر ملجأ يرتجيه المريد طلبًا للغوث والمدد، وداخله تتخذ المدائح وقصائد اللوم طابعًا مؤثرًا وصادقًا، خاصة النسائية منها. إذ يُعد وجود منشدة وقد وضعت على رأسها عمامة رجالية خضراء، عند رأس تابوت الولي وهي بصدد أداء لحن شكوى وعتاب، أمرًا مألوفًا في المقامات الكبرى كسيدي تليل وسيدي علي بن عون وسيدي بوعلي.
عندما أدّت مجموعة سامي اللجمي في عرض الزيارة عام ٢٠١٧ نوبة سيدي بوعلي، بمسقط رأسه مدينة نفطة، خلت النوبة وتحديدًا مقاطعها الاحتجاجية من أي شحنة عاطفية. صحيح أن اللجمي لم يبتر السماع الصوفي من أجوائه الفرجوية، لكنه اختار تأثيث الفضاء بعناصر نافرة: رقص لا علاقة له بالشطحات الصوفية وتصوير نمطي سطحي للزاهد الجريدي و”تخميرات” مصطنعة. مع ذلك، للفنّان حقه الكامل في تحديث رؤيته وتأثيث مسرحه مثلما يريد. ربما تعكس هذه النقطة بالذات الانفصال النهائي بين الفن والإيمان الشعبي.
هنا نعود مرة أخرى لأهمية ما تبقى من تسجيلات وتوثيقات بدوية، ذلك أنها تصدر عن رؤية مختلفة لا تتعامل مع السماع كتراث فني بل هو لحظة وجدانية خالصة، تصدر عن إيمان راسخ بمعتقدات الأولياء وبركاتهم وعن رغبة صادقة في طلب المدد والرجاء. من باب أولى وأحرى، فإن النصوص الاحتجاجية أكثر من غيرها، هي تمام تلك التعبيرات وأجلاها. يكفينا مثالًا على ذلك أن نعود لذلك التسجيل القديم والنادر لفريدة صالحي في اجتماع عائلي موسع، وهي بصدد أداء نا دمعي سكّاب، واحدة من أكثر قصائد الهمامة الصوفية حزنًا وعتابًا، وتحديدًا عندما يبلغ الانكسار منتهاه: “ناديتهم ماجوش / ظراهم ما سمعوش” أي ناديتهم ولم يأتوا، أظنهم لم يسمعوا.. هنا وبين مجموعة النساء اللواتي تتوسطهن المنشدة، نلمح عجوزًا تمسح عن خديّها الدموع. ربما أبكاها شجى الصوت الرخيم، أو ردّتها كلمات الانكسار والعتاب، لذكرى خيبات شموع أوقدتها في مقامات كثيرة ودعوات ووعدات وهبتها مرات عديدة دون جدوى، وربما كلّ ما سبق. ما يهم في جميع الحالات، أن الدموع اقترنت صادقةً بالسماع.