fbpx .
في شي لإلنا بهالشوارع لازم ناخده المعارك خوف وعود الراس معازف مازن السيد بيروت لبنان ثورة

كيف بنسحسح للعمالقة؟ | الراس من الهزيمة إلى الثورة

زينة الحلبي ۲۰۱۹/۱۱/۱۸

كان صيف ٢٠١٥ نتنًا. ضاعف الحرّ في بيروت من روائح تحلّل النفايات المرمية في الشوارع، والتي لطالما تصارع على احتكار تصريفها أركان السلطة. انتفض الشارع آنذاك وواجه آلة القمع الأمنية السياسية بـ”طلعت ريحتكن”، شعار يرى في حاسة الشمّ منطلقًا لفضح النتن السياسي. خرج الراس وبوناصر الطفار آنذاك بتراك نحنا والزبل جيران (٢٠١٥) الذي وضعا فيه إطارًا لاستهداف رموز الفساد. كانت مطالب التراك معيشية في إشارتها إلى الماء والكهرباء وتصريف النفايات كشرط للحياة في المدينة. أمّا الخطاب السياسي، فجاء حادًّا لكن مموّهًا ومليئًا بالكنايات والإشارات المبطّنة إلى رموز الطبقة الحاكمة آنذاك (“العمامة مش لألله إذا حبلها بإيد الغير”، و”ابريق الشاي”، “سيجارك بدنا ندخنه”) دون تسمية أركانها، وكأنّ الإيحاءات وحدها كانت فعل تحدٍّ لمردّديها.

وفيما كان اللبنانيون يترنّحون بين نتن النفايات وثنائية الخطاب المذهبي (سني / شيعي) التي يصل امتدادها إلى العراق مرورًا بسوريا، أعلن الراس في نهاية التراك ما قد يكون بداية الخلاص: “عن الطايفة انشقيت، عن الطايفة انشقيت”. وقف ذاك الفرد المنشقّ وحيدًا آنذاك أمام ماكينة السلطة التي قوّضت الحراك دون تحقيق أي من المطالب المعيشية، فكانت الهزيمة.

كصيف ٢٠١٥، كان خريف ٢٠١٩ حارقًا. اشتعلت الغابات فاحتار حكام البلاد بالهوية الطائفية للأشجار المتفحّمة، فيما بركت طوافات إخماد الحرائق في مطار بيروت عاجزةً. تلتها ضريبة الواتس آب التي ذكّرت اللبنانيين بخساراتهم المتلاحقة. بدأ الاحتجاج صغيرًا ثمَّ تحوّل خلال بضع ساعات إلى موجة غضب غامرة فاجأت المشاركين فيها كما المتفرجين عليها. بعد ثلاثة أسابيع على بداية الاحتجاجات، تجمّع مئات الناس في ساحة في وسط بيروت. كانت الاضاءة خافتة لولا الشعلة الحمراء التي أطلقت، فأنارت وجوهًا ردّدت مع الراس كلمات شوف (٢٠١٩) التي أطلقها الراس في الأيام الأولى بعد اندلاع الثورة.

هنا أيضًا، استخدم الراس الحواس منطلقًا لنقده السياسي. فكان التحّول من رائحة الزبل التي هزمت المتظاهرين في ٢٠١٥ إلى الفم الذي يبصق الأوليغارشية: “شوف البلد كيف بصقتكن، بطَّل إلكن مطرح”. ليس البصق ممارسة في التطهّر من سموم الطبقة الحاكمة فحسب، بل هو تحدٍّ أيضًا لمنظومة ثقافية وأمنية ترفع رايتَيْ الأدب والتأديب للحدّ من أي قول مناهض لها. فبعد بصق ما هو نتن ووسخ وكريه، يأتي القضاء على الأيقونة، الصنم السياسي الذي تُحرَّم الإشارة إليه أو حتى لفظ اسمه. أعلن الراس أن تجربة الذلّ المشتركة حوّلت الأفراد إلى شعب موحّد: “وحّدونا في العذاب، صرنا شعب فانتصرنا”.

ما كان لهذا الشعب الذي تشكّل من خلال رفضه الظلم إلا أن يشهر إلحاده. فأعلن الراس أن شعبه “مكسّر أصنامه”، أسقط الكناية وعلّق الإيحاء. أعيد الاستيلاء على إصبع حسن نصرالله للتصويب على أركان النظام اللبناني بوضوح، فسمّاهم الراس باسمهم هذه المرة: سمّى قياداتهم (جبران) وسمّى كفيلهم (بن سلمان) وسمّى المؤسسات الأمنية التي تحميهم (الأجهزة، العملاء) والإعلامية التي تسوّق لهم (تلفزة)، كما سمّى كل من يحاول استغلال موجة الغضب والتغيير ليحسّن موقعه (وليد، سمير، سامي). عرّف الراس عن الاحتجاجات باسمها أيضًا، ثورة لم يحتَر في تسميتها لحظة.

كيف توقّفنا عن استدخال النفايات وشرعنا إلى بصقها؟ كيف انتقلنا من الإيحاء للصنم إلى تحطيمه؟ كيف تحوّلنا من أفرادٍ منشقّين عن طوائفهم إلى شعب؟ بمعنى أوضح، كيف بتنا، وفقًا لتعبير للراس، نسحسح للعمالقة؟

في البدء كانت الهزيمة

على غلاف ألبوم الرياضة والأدب (٢٠١٧) يقف رجل مقنّع على شرفة، ويبدو خلفه رهائن إسرائيليون وأمامه العالم أجمع. يستهلّ الراس الألبوم بتراك ميونخ، عن فدائي ينظر حوله متسائلًا كيف وصل به الأمر إلى لحظة الحصار والعزلة. فتبدأ رحلته إلى الذات مستشرفًا مستقبل قضيته، ومعددًّا رفاقه الذين سقطوا واحدًا تلو الآخر. منهم من استسلم للعبثية، ومنهم من تناسى ماضيه، ومنهم من تماهى مع راديكالية مفلسة. منهم من جاع، ومنهم من انزلق إلى حنين فارغ وهو يستذكر رفاقًا سابقين ينظّرون للاكتئاب، ساخرين وشامتين. يقف الفدائي على تلك الشرفة، الآن وهنا، وحيدًا ومهزومًا. من خلال هذه الصورة، تجلّت للراس كلّ الهزائم المعاصرة، من استحكام العسكر إلى استفحال الظلم بعد ٢٠١١ إلى سقوط الحراك اللبناني على أيدي حرّاس النظام الطائفي الزبائني. الهزيمة موجعة، وهي امتداد لتسلسل تاريخي من الهزائم التي استوطنت الذاكرة.

في الهزيمة، كما في المواجهة، يعود الراس إلى الجسد. فيقوم في Seizure Salad (بعد الهزيمة، ٢٠١٨) بتقفّي أثر الهزيمة التاريخية على جسده، وتحديدًا داء الصرع الذي أصابه. يبدأ بتعداد سلسلة من التواريخ المفصلية التي شكّلت وعيًا جماعيًا يرث الهزيمة جيلًا بعد جيل. بعيدًا من الميلانكوليا ورومنسيتها، يبدأ الراس بـ ٢٠١١ ويعود إلى الوراء، إلى سنوات الـ “٢٠ و٤٨ و،٦٧، و٧٣ و٨٢ و٩١ و٩٦ و٢٠٠٣ و٢٠١٥” متوقفًا عند لحظات تاريخية مكرَّسة كالنكبة والنكسة، وأخرى ليست جزءًا من التأريخ الرسمي للهزائم، كانهيار الخلافة عام ١٩٢٠، وأخرى لم يُنظّر إليها بعد كحدثٍ مفصلي محمّل بالأوجاع كحراك ٢٠١٥. تتلاحق سنوات الهزائم على صورة جنائز تسير أمام المهزوم، ذلك الميت الذي يشهد على موته ويحدّ على نفسه. فتتجلّى الهزيمة برتابتها ومشهدية الذات التي ما زالت تشهد على فقدها: “جنائز، جنائز، والميت حامل النعش”، يعود الراس في هات (٢٠١٨) ليتأمّل من جديد الخسارات المتلاحقة، هذه المرّة من باب نشاز الخطابات السياسية وتناقضات الثقافة السائدة وتهافتها. يبدو متأرجحًا بين إعلان اليأس والسخرية من الهزيمة، فيطلب المزيد منها: “شو بعد عندك؟ جيب، هات”.

فأزيح البطل

وقف الراس على أنقاض الهزائم المتلاحقة يحصي خسارته. كان خاسرًا لكنه بقي ملحدًا في رفضه للصنم قبلةً. في لا أمير لي (إدارة التوحش، ٢٠١٦) يتساءل الراس “كيف بنسحسح للعمالقة؟”. يفضح العملاق بما هو صورة مركّبة، قائمة على تراصف جزئيات من الخوف. فليس العملاق إلا “قزم فوق قزم فوق قزم فوق قزم”. لكنّ تحطيم الصنم لم يكن كافيًا، فانتقل الراس إلى البطل الدجّال الداعي للخلاص. هكذا خرج تراك بطلكن مات (٢٠١٩) الذي يذكّر مجدّدًا بالخسارات الجماعية في “بلد فايت بالحيط / الكل راكع تحت سقف الثبات”. يواجه الراس البطل الأيقونة مؤكّدًا على وحدة نون الجماعة التي يعيد لها كلمتها:

“بطلكن مات. بطلكن مات

أبطالنا بعدها فكرة ببطون الأمهات

بطلكن مات. بطل سراق، بطل قواد، بطل كذاب

بطلكن مات، فصلّوا عليه صلاة غفران من التواب”

من الهامش نحن …

بعد تحطيم الصنم والإشهار بقتل حارس النظام اللبناني، يعود الراس إلى الهامش. يشهر التزامه به لا كموقع مادي ينتجه انتماءٌ لمدينة أو طبقة فحسب، بل كحيز تتجلّى فيه تناقضات النظام وكمنطلق للقول السياسي. فحين يتناول الراس إشكالية موقعه الهامشي في النظامين المحلي والعالمي، يقول إنه “منفتح على التعاون مع سرديات هامش المركز ولكن لا أنسى أنني هامش العالم”.

يغوص الراس في الهامش فيفضح العنصرية اللبنانية في الأخ من وين (٢٠١٥) تارةً ويحاكي مدنًا مشرقية تلاقت في عزلتها كما  في ميناء حمص (٢٠١٢). تحضر طرابلس أيضًا في أعمال الراس، إن كان في لهجته الشمالية أو أغنياته كـ من كوكب الفيحاء (٢٠١٣) التي تتقاطع فيها سيرة الفرد مع سيرة المدينة التي ينقل خساراتها معيدًا إليها سرديتها. إذ يستذكر الراس في طرابلس ٩٧ (بعد الهزيمة، ٢٠١٨) حقبة التسعينيات وبداية تشكّل وعيه في مدينة يحرسها ضباط الأمن البعثيون من جهة، والحريرية الحاكمة من جهة أخرى.

في الهامش أيضًا شخصيات تحوم في الحيز الأخير المتبقي لها. يتناول الراس في جاري يا حمودة (بعد الهزيمة، ٢٠١٨) شخصية حمودة، الشاب الطرابلسي المنقطع عن الواقع والمتوجّس من الآخر. يكشف الراس في حواره العبثي مع حموّدة آمال أولئك الذين حلموا ببيروت ذات مرة ولم يتمكّنوا من الخروج من هامشيتهم إليها.

… وإلى الشارع نعود

انطلاقًا من الهامش الذي يعنّف ساكنيه ويقّوّض ذاكرتهم، يدعو الراس إلى العودة إلى الشارع.

يستهلّ الراس تراك أشهد (٢٠١٧) بالهزائم الفردية ومحاولاته الخجولة لتخطيها، لكنه لا يلبث أن ينتقل من الذات الفردية إلى ذات الجماعة التي فقدت ثقتها بنفسها جرّاء الهزائم. يتوجّه إليها متفهمًا، معزيًا، داعيًا إياها للخروج من الميلانكوليا واسترجاع وعيها التاريخي الذي سيعيد لها قدرتها على القول والفعل:

“أيامنا سنين مما يعُدّون

ذاكرتنا أصلب مما يُعِدّون”

هكذا يصبح الوعي التاريخي شرطًا لخلع الكآبة والعودة إلى الشارع بما هو مساحة عامة لطالما كانت مُستملكة، مخصخصة، ومهيمنة:

“في شي لإلنا بهالشوارع لازم ناخده

في شي لإلنا بهالمعارك لازم ناخده”

ويلي الإشارة إلى الشارع كمكمن للسياسة حثٌ لا لبس فيه على انتزاع الحق بالحياة:

“في لألنا غير الخوف .. غير الوعود

ما بينعطى هيدا نحن لازم ناخده”

في ليلة تشرينية، وقف الراس في مرآب للسيارات حوّله المتظاهرون إلى مسرح دائري صغير. تربّع المستمعون على الأرض كما لو أنهم فهموا أن ما تجرأوا على تخيّله يوم ١٧ تشرين جعلهم قادرين على خلع الهزيمة من داخلهم. وقف الراس متغنيًا بالجماعة الجديدة الخارجة عن طورها، وهي في طريق تعافيها من ذاكرة هزائمها السابقة:

“نحنا النيران الصديقة

لما الذخيرة تشحّ

فينا كل أمراض الثورة

وبنقول بدنا الثورة تصحّ”

كانت عين الراس على الثورة، وعينه الأخرى على الجسد الذي أنهكته الهزيمة. ذاك الجسد الذي تنشّق رائحة النفايات، وعاد ليبصق أبطاله دفعةً واحدة.

المزيـــد علــى معـــازف