.
من نيويورك، أطلقت الفنانة السودانيّة/ الأميركيّة السارة اسطوانتها الأولى بمصاحبة فرقتها النوباتونز بعنوانطمي (Silt)، وذلك بعد مشاركتها في عملين مشتركين كان الأول ضمن مشروع النيل الذي أُنتجت اسطوانته الأولى أسوان من تسجيل حفل تدشين المشروع في مصر كانون ثاني/ يناير ٢٠١٣. فيما جاءت مشاركتها الثانية مع المنتج الفرنسي ديبغيت في عمل الجوّال في كانون الأوّل/ ديسمبر من العام نفسه.
يأتي صدور العمل بعد أعوام طويلة قضتها السارة بحثاً عن مسارها الغنائي الخاص الذي استمدته، بشكل أساسي، من جذورها السودانيّة/ النوبيّة. تخصّصت السارة، والتي تفضّل تعريف نفسها بمغنية البوب الاستعادي (Retro Pop)- انطلاقاً من اشتغالها على أنماط الغناء الشعبي وإعادة إنتاجها في نسق معاصر، في علم الموسيقى العرقي (ethnomusicology) في جامعة ويزليان بالولايات المتحدة، وأخذتْ من الغناء الشعبي السوداني منهلاً لتكوين نَفَسها الموسيقي.
استعاضت السّارة، في إقامتها البعيدة عن جمهورها الأصلي، بوسائل الإعلام البديلة لنشر أغانيها، وأثارت الاهتمام للمرة الأولى عبر موقع يوتيوب، مبرزةً اهتماماً خاصاً بالغناء الشعبي السوداني، مبتعدةً عن محاولتها القديمة الأولى للاشتغال على الموسيقى الصوفيّة، ووضعه تحت طائلة البحث والاشتغال، إضافة إلى ولعها بجذورها النوبيّة. وهذا ما يظهر شكليّاً في ترديد اسم النوبة لفظيّاً وضمنيّاً خمسة مرات في عناوين اسطوانة طمي الإحدى عشر.
في الجوّال، تجربتها الثانية، خاضت السارة مغامرة أكثر راديكاليّة في تكسير القوالب التقليديّة للغناء السوداني الذي يندرج تحت السلم الخماسي، ومزجها مع تقنيات الموسيقى الحديثة بأسلوب شكّلت فيه اختياراتها من الموسيقى السودانيّة مادة دسمة لتنويعات ديبغيت، متنقلةً معه من التيكنو والهيب هوب والدَّب dub بشكل يكسر الرتابة التي قد تثيرها الموسيقى السودانيّة أحياناً بتكرار الجملة الموسيقيّة نفسها طوال الأغنية.
في طمي، تعود السارة خطوة إلى الوراء في محاولة لتقليل الصدمة على المتلقي السوداني الذي قد يتعامل معها بالتباس، في ثقافة تتعاطى مع الأغاني الكلاسيكيّة كمسلّمات لا يُستحسن اللعب بها. حتّى أن هناك مثلاً سودانياً يقول: “سَمِحْ الغُنا في خَشُم سِيدو”، أي أن الأغنية لا تكون جميلة إلا في فم من ألفّها وغنّاها أولاً. مع الأخذ في الاعتبار أن السارة لا تتوجه بمشروعها الموسيقي لبلدها الأم فقط – والذي استضاف في العاصمة الخرطوم حفل تدشين اسطوانتها في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي – رغم اعتمادها على موسيقاه الشعبيّة، فإذا ما تغاضينا عن اهتمامها بالتراث النوبي بحكم انتمائها العرقي، سنجد أن مشروعها يمتمحور بصورة كبيرة حول ما يعرف في السودان بـ أغاني البنات.
يشكّل “غُنا البنات” واحداً من أقدم أنماط الموسيقى الشعبيّة السودانيّة، والذي يقوم بالأصل على الارتجال في الجلسات المنزليّة أو الحفلات المقتصرة على الإناث. وذلك بسبب الحياة القرويّة والرعويّة المحافظة التي كانت لا تسمح للنساء بالتعبير عن أنفسهن على الملأ، لتمثّل أغاني البنات بذلك مُتنفساً يناقش مختلف المواضيع التي تهم المرأة، كالحب والزواج والسلطة الأبويّة، متجاوزةً ذلك أحياناً إلى الأوضاع السياسيّة والحروب.
يعتمد غُنا البنات في شقّه الموسيقي بشكل أساسي على إيقاع الدلوكة، وهي نوع من الطبول المصنوعة من الخامات المحليّة كثيراً ما يتم الاستعاضة عنها بـالجركانة- الجالون البلاستيكيّ، ما يضفي على هذا النمط الغنائي طابعاً من البساطة ليس فقط في اللحن، بل يتجاوزه إلى الكلمات التي تستخدم اللهجات المحلية والطارئ عليها من جديد، كماركات السلع التجاريّة مثلا، مؤديّاً بالتالي إلى جعل هذا النمط الغنائي تعبيراً صادقاً عن الحياة اليوميّة للمرأة.
دَفع الصدق والبساطة اللتان اتسم بهما غُنا البنات الكثير من المثقفين وأبناء الطبقات الاجتماعيّة الأعلى للتعاطي معه كنوع من الغناء الهابط، على الرغم من انتشارها في الأعراس والحفلات الغنائيّة وصولاً إلى الإذاعة والتلفزيون، في بلد يعتز بالكلمة الشعريّة وجمالياتها في الغناء. إذ تعتمد الأغنية السودانيّة الرسميّة – إذا جازت التسمية – على الشعر وتحتفي بشعرائه، فكثيراً ما تلحّن القصائد التي تكتب بغرض الكتابة الشعريّة البحتة، وتتحوّل إلى أغانٍ يتسابق فيها الملحنون في إبراز إمكانيّاتهم الموسيقيّة، مع التحدّي الذي تفرضه القصيدة في أوزانها المتعددة للانصياع إلى الغنائيّة، ما يجعل الأغنية مركّبة في لحنها وجملها الموسيقيّة. ومن ناحية أخرى، لا تُعرف “الشاعرة” الحقيقيّة لأغنية البنات عندما تنتقل الكلمات من مغنية إلى أخرى، فهو نمط غنائي قائم على الارتجال والتعديل في النص، والأهم: بساطة الإيقاع والكلمة. باستثناءات معيّنة في أغاني السْيرَة، وهي نوع متفرع من أغاني البنات يتمحور موضوعه الأساسي حول مديح قيم الرجولة متمثلةً في الأب والزوج والأخ، والذي انتشر في البداية مع الغزو التركي/ المصري في القرن التاسع عشر بغرض بث الحماسة في جنود القبائل وحثّهم على القتال، فيما يسمى أيضاً بأغاني الحماسة.
لكن، يتجاوز طمي، والذي لا يحمل أي أغنية أو جملة غنائيّة بهذا المعنى مكتفياً بدلالته البيئية/ النيليّة، أغنية البنات من المناطق غير النيليّة في السودان التي تعتمد على الإيقاع، وذلك عبر استخدام العود كركيزة موسيقيّة – عبر عازف العود الأرميني /الأميركي هايج مانوكيانو – والذي يبدو واضحاً في صورة الغلاف الخلفي للاسطوانة الذي اهتمت السارة بهويته البصريّة بشكل لافت ومثير، ممتلكةً ذوقاً متميّزاً في الأزياء والمظهر، لتؤكّد على هويّتها كموسيقية استعاديّة في إصدارها لاسطوانتها عبر ثلاث وسائط تقنيّة مختلفة، ليس فقط على هيئة اسطوانات مدمجة [CD] ولكن أيضاً في هيئة شرائط واسطوانات فونوغراف.
يمكن تقسيم مسارات العمل الإحدى عشر من ناحية النوع لأربعة أنماط: أغاني البنات: ٣ أغانٍ، أغاني النوبة: أغنيتان، أغاني السارة الخاصّة: ٤ أغانٍ، إضافة إلى مقطوعتين موسيقيتين.
ترتكز أغاني البنات في مشروع السارة في شقه الإثنو-موسيقي بشكل ضمني على ما يميل الكثير من المثقفين السودانيين بتسميته: “جدليّة المركز والهامش” في تقسيم جغرافي للسودان يجعل من حوض النيل مركزاً سياسيّاً وثقافيّاً، وما حوله إلى هامش، كأقاليم دارفور وكردفان التي تشهد منذ سنوات حرباً أهلية مستعرة، وانشغلت السارة بها كمضمون معرفي لمشروعها الموسيقي :
تعتبر هذه الأغنية، التي فضلت السارة أن تبدأ بها الاسطوانة، نموذجاً موفقاً لأغاني البنات ببساطتها الإيقاعيّة والشعريّة، لتبدأ بمذهب يقول:
“حبيبي تعال، تعال نتلم / مادام الريد* اختلط بالدم / مادام الريد اختلط بالدم / أنا ذنبي إيه شيلوني الهم؟/ يا حبيب”
*الريد: الحب
غنّت السارة ثلاث من الكوبليهات الأربعة المعروفة لهذه الأغنية الغرامية التي تعبّر فيها المغنية/ المؤلفة عن شوقها لحبيبها المسافر بشكل لا تتوانى فيه عن الاعتراف عن رغبتها، ليس فقط من ناحية الارتباط ولكن حتى في التعبير عن تطلعاتها الطبقية للهجرة إلى بيئة مختلفة عن واقعها الريفي :
“حبيبي تعال نبل الشوق / نسكن لندن عمارات فوق”
تتألف الكوبليهات في الأغنية من ثلاث جمل شعريّة تتكرر الثانية مرّة مشكلة كوبليهاً رباعيّاً تتميّز بالخفة والطرافة. وعلى الرغم من ثبات الوزن في هذه الأغنية، إلا أنه يتحرر جزئيّاً باعتماده على قافية مكسورة في حدود الكوبليه نفسه بشكل لا تنتهي فيه حروف جميع الكلمات بنفس الحرف :
“حبيبي المنقا والتفاح / حبيبي عسل والناس مساخ* / حبيبي عسل والناس مساخ / أهاجر ليك عشان أرتاح”
* مساخ: جمع مسيخ وهو النكهة المفتقرة للملح، وتستخدم للإشارة للشخص ثقيل الدم.
“حستناك عن طريق القاش* / حبيبي دهب والناس نحاس / حبيبي دهب والناس نحاس / الريدة** كده ولا بلاش”
* القاش: نهر موسمي في شرق السودان ينبع من أريتريا
** الريدة: المحبة
بوصفها أغنية شعبيّة، لم تغيّر السارة كثيراً في نسختها الموزعة على إيقاع المقسوم بشكل يخفف ولو قليلاً من وطأة لحنها السودانيّ. إضافة لاستخدامها لآلة العود التي لا تستخدم عادة في غُنا البنا. وبمقارنة مع نسخة الفنانة سميرة دنيا مثلاً، نجد أن نسخة السارة لم تغيّر كثيراً إلا في قفلة الأغنية التي انتهت بـكريشندو جملة لحنيّة متسارعة يكرر الجملة الأخيرة من الكوبليه الختامي: “الريدة كده ولا بلاش”، ويتصاعد عبر تسريع الإيقاع تدريجياً.
سميرة دنيا – حبيبي تعال
سبق للسارة أن أطلقت هذه الأغنية على اليوتيوب العام 2011 بتوزيع من فرقة ناس جوطة أهل الفوضى في فيديو كليب كارتوني حمل اسم “ما دام الريد اختلط بالدم – قصة تمساح“. رسم الفيديو وحركه شريك السارة حجوج كوكا الذي احتلت السارة حيزاً من فيلمه الوثائقي الأخير إيقاعات الأنتونوف الفائز بجائزة مهرجان تورنتو ٢٠١٤، وهو فيلم يستعرض الحياة اليوميّة لقبائل جبال النوبة والنيل الأزرق خلال الحرب الأهلية الدائرة هناك، مع اهتمام أكبر بالموسيقى والثقافة الشعبيّة الأفريقيّة لتلك المناطق النائية عن العاصمة الخرطوم. بدا أن اهتمام السارة واشتغالها على هذا الصراع السياسي/ الثقافي في بلد تسيطر عليه الثقافة العربية الإسلامية واضحاً في فيديو كلي “حبيبي تعال” في توزيعها الأول، والذي حمل مضامين آيدولوجيّة في شقه البصري: فتاة سمراء تطارد إسلاميّاً ملتحياً سرعان ما تقع في حب شاب جنوبي أسود خلال مظاهرة بلافتات كتب عليها: “أنا أفريقي ما عربي”، “لن ننساك يا جون قرنق“، وغيرها على الرغم من أن الأغنية بسيطة الكلمات لم تحمل في ذاتها أي مضامين سياسية بهذا العمق.
جاء الفيديو الثاني للأغنية بعد حفل تدشين العمل الذي قدمته على مسرح الجنينة في حديقة الأزهر بالقاهرة العام الماضي، متضمناً لقطات للسارة وفرقتها من الحفل متضمناً جماليات بصريّة قلما توافرت جودته الإخراجيّة في الأغنية السودانيّة المصورة.
تعتبر عبارة “يا ناس بريدو” لازمة لكثير من أغاني السْيرَة، ولم تختلف هذه الأغنية تحديداً في مضمونها كأغنية بنات، والتي جاءت على إيقاع التُم تُم الراقص، وهو إيقاع انتشر في السودان انطلاقاً من مدينة كوستي، بولاية النيل الأبيض، ليصبح واحداً من أكثر الإيقاعات الشعبية استخداماً في الأغاني الراقصة، وبالتأكيد في غُنا البنات الذي اعتمد لاحقاً وبشكل كبير على هذا الإيقاع. كما في هذا المسار الذي يشكل أغنية حب تتحدث عن فتاة تقع في هيام شاب من بلدة بارا بكردفان قام بتحيتها بقبعته بينما تسير في الطريق. تبدأ بمقطع من جملتين وتنتهي كل جملها بلازمة: “الزول ده”، أي: هذا الرجل.
مقطع 1، أساسي:
“زول يا ناس بريدو، زول ده / زول هالكني ريدو، زول ده”
مقطع 2:
“أنا سألت أصحابو، زول ده / شكرت الله الجابو، زول ده / أنا حياني بـ كابو*، زول ده / جميل الفات أحبابو، زول ده”
* كابو: قبعته
* الفات: الذي ترك / الذي سبق
انتهاء جميع جمل الأغنية الشعرية بلازمة واحدة في جميع كوبليهاتها سبب في حدوث رتابة في الإيقاع كسرتها السارة في الدقيقة 3:45 بقلب الإيقاع واستخدام لازمة لغويّة محلية بمصاحبة العود.
تم إدراج هذه الأغنية كآخر أغنية في الاسطوانة رغم أنها من أولى الأغاني التي تعرف الجمهور عبرها على السارة، فقد سبق لها أن أطلقتها عبر يوتيوب في دويتو مع شقيقتها ناهد حيث أديا الأغنية معاً باعتماد تقليدي ومقتصر على الحنجرة والإيقاع اليدوي: التصفيق والضرب على الجسد. لكنها أعادت توزيع نفس الأغنية في اسطوانة الرحال مع ديبغيت، لتعيد توزيعها مجدداً في طمي بشكل يتوسّط المسافة بين توزيع ديبغيت المشغول بأسلوب الـدَب، والنسخة التقليديّة الخالية من أي مؤثرات صوتية.
يمكن تقسيم هذا المسار/ الأغنية إلى شقين من ناحية الإيقاع الموسيقي والمضمون الغنائي: ففي البداية تتحدث الأغنية عن فتاة مشتاقة لحبيبها، مرة أخرى، سافر إلى جبال النوبا، وهنا يجب التنويه إلى أن جبال النوبا هي منطقة في جنوب كردفان مختلفة جغرافياً عن الصحراء النوبية الواصلة بين مصر والسودان شمالاً مستخدمةً إيقاع المردوم الذي يتشابه مع إيقاع الجراري المنتشر أيضاً في مناطق غرب السودان، كردفان ودارفور، وهو من الإيقاعات المرتبطة بأداء رقصة معيّنة لدى قبائل البقارة، بحيث يتم ارتداء كشاكيش، وهي اكسسوارات يتم ارتداءها لإصدار إيقاعات مع الرقصة التي تستخدم الضرب على الأرض بالقدم والتصفيق وضرب الجسد لعزف الإيقاع :
مذهب :
“حيّ يا قلبي / لا لي لا لي لي لا / سافر مني / لا لي لا لي لي لا”
كوبليه :
“بعت جواب لحبيبي البريدو / شباب بلدنا الغالية / ركب اللوري يا .. جبال النوبا / قالوا ماشي لـ جبال النوبا / كادوقلي* يا .. جبال النوبا”
* كادوقلي : عاصمة ولاية جنوب كردفان
في الشق الثاني من الأغنية تتحوّل المغنية للحديث عن صراعها مع أبيها وتمردها عليه خلال عملها كبائعة، بينما يتداخل المردوم في تشكيل إيقاعي مع إيقاع الصفقة، ليتشكل، هنا، كوبليه رباعي من ثلاث جمل تتكرر فيها عبارة “ما تبيعي”، و”أنا ببيع”، في حين تتكرر الكلمة المشيرة إلى السلعة المباعة للتوافق في القافية مع صفة الحبيب الذي ستباع إليه السلعة :
مذهب :
“النار يا الله سبب النار يا الله / النار يا الله أنا في النار يا الله”
كوبليه 1 :
“أبوي قال لي ما تبيعي الملح / وقال لي ما تبيعي الملح / أنا ببيع الملح عشان جميل السمح”
كوبليه 2:
“أبوي قال لي ما تبيعي الشطة / وقال لي ما تبيعي الشطة / أنا ببيع الشطة عشان جميل اللقطة”
ملاحظة : كثيراً ما يتم تبديل كلمة جميل في هذا المقطع باسم شخص معين عندما يكون حاضراً أثناء أداء الأغنية. قد يكون العريس في حفلات الزواج مثلاً، وهي عادة في غنا البنات.
القسم الثاني: أغاني النوبة
والنوبة المقصودة هنا هي المنطقة الجغرافية ما بين جنوب مصر وشمال السودان حيث تنتمي أصول السارة التي غنت عن موطنها الأصلي أغنيتين، الأولى باللغة النوبية نفسها “نوبة نوتو”، والثانية بالعربية “بلاد الدهب”.
نوبة نوتو وتعني: أهل النوبة هي أغنية قوميّة مجهولة الشاعر أُلفت باللغة النوبيّة، تحديداً بلهجة الفديجا، ووضعت على إيقاع فيجتْشي، والتي تعني غربلة الجسد لكونه مصاحباً لرقصة خاصة يهتز فيها الجسد من الكتفين وحتى الساقين، وهو إيقاع منتشر في منطقة ممتدة من الكنوز في صعيد مصر تحديداً قرية دبود – وحتى كرسكو وعند الفاديجا في السودان من دغيم وحتى فَرَس. ظهر هذا الإيقاع في خمسينيّات القرن العشرين وكان من رواده الفنان صالح ولوليّ.
يا أهل النوبة Wo nuban uttu
يا أهل الطيبة Wo maskin uttu
حافظوا على النوبة nuba wahingana
احملوها في عيونكم Manin tul udrana
ما شعار النوبة ؟ Nuban berag minni
هو رائحة البلح Fentin gattillinna
في سعف النخل الأخضر Fentin kossi dessilla
صورة بلح كري * Fenti kuren suralinna
قلوبنا هكذا كما اللبن . Adi aylungon sullinna
كري – Kure : البلح في مرحلة من نضجه عندما يحمّر أسفله ويلين، وهو حلو في هذه المرحلة. يستخدم كثيراً في الوصف في الشعر النوبي.
بلاد الذهب هي أغنية لفنان آخر من تلحين وغناء المصري/النوبي الراحل أحمد منيب، وكلمات مواطنه محي الدين شريف أُنتجت العام ١٩٩١ في اسطوانة حملت نفس الاسم يتمحور موضوعها حول الوطن، كما يتضح من اسمها وهو الترجمة الحرفية لكلمة نوبة، كغالبية الأغاني النوبية في القرن العشرين التي شكلت عمليات التهجير المتتالية لبناء سد أسوان، والسد العالي ونزوح آلاف النوبيين عن مناطقهم في وادي النيل بمصر والسودان، ثيمة أساسية للشعر والغناء النوبي في الفترات اللاحقة وحتى وقتنا الحالي، فيما يمكن تسميته بالتغربية النوبية.
ما يميز بلاد الدهب وما شابهها عن معظم الأغاني النوبية ليس فقط التقليل من المباشرة في تناول موضوع الهجرة، ولكن استخدام اللغة العربية من قبل شاعرها اللهجة المصرية تحديداً، والتخت الشرقي من قبل ملحنها – الذي قام ككثير من الفنانين النوبيين الآخرين كمحمد وردي وحمزة علاء الدين بالعزف على العود بدلاً من آلة الطنبور المنتشرة في النوبة – للحديث عن هذه الثقافة الأفريقية، فيما يمكن وصفه بانصهار العنصر النوبي في المكوّن العربي، ولكن للحديث عن النوبة :
“يا بحر هدي هدي / خليني أعدي أعدي / يا شط الأمان / يا حضن الحنان / أنا إنسان وعنواني / بلاد الدهب”
عبر الاستماع للنسخة الأصلية من الأغنية، لن نكتشف فقط التقارب العضوي بين السارة والنوباتونز من ناحية وأسلوب أحمد منيب في الاعتماد على آلة العود والإيقاع بشكل أساسي، ولكن سنجد أن أحمد منيب كان أكثر حداثة في أداء الأغنية من السارة التي فضلت أن تؤديها بشكل أكثر كلاسيكية، وإن بجودة تسجيل وصوت أعلى جعلت من سطوة الإيقاع تتضاءل أمام صوت العود على عكس الأغنية الأصلية. إذ جاءت سرعة الإيقاع في نسخة السارة أبطأ، ما جعل من أداء السارة أكثر حنيناً وحزناً، خصوصاً مع صوتها الأنثوي الأرق بكثير من صوت أحمد منيب الرخيم، والذي حاولت بقدر الإمكان تقليل المساحة الشاسعة في أدائها عنه بالاستعانة بكورس رجالي، يضاف إلى ذلك استطالة المسار في “طمي” إلى ما يقارب ضعف مدة الأغنية الأصلية، وذلك لتكرارها في أداء الكوبليهات صوتياً وآلياً مع عزف منفرد لآلة البيز التي لم يكن لها أي وجود في النسخة الأصليّة.
القسم الثالث: أغاني السارة
وهي الأغاني التي كتبت كلماتها السارة، إضافة إلى مشاركتها في تلحينها وتوزيعها مع فرقتها النوباتونز باستثناء الأغنية الأخيرة ود النوبة.
في هذه الأغنية لم تبتعد السارة كثيراً في تأليفها عن الثيمة الأساسية لأغاني البنات التقليدية في الحديث عن الحبيب المسافر، وإن أضفت على هذا الطرح عمقاً أكثر شاعرية عبر كوبليهين رباعيين يتكرر مقطعهما الأخيرين وجسر يصل بينهما بجملتين :
كوبليه 1 :
“لما السحابة تغيب / ونجوم الليل بتبين / أسرارنا تزيل وتدوب / من العيون بتؤوب”
جسر :
“الودع كشف المكتوب / ده حبيبنا مصيرو يعود”
كوبليه 2:
“بدون إذن وبدون / خجل ممنوع مرغوب / أسرارنا تزيل وتدوب / من العيون بتؤوب”
تتضّح محاولة السارة في إضفاء طابع العمق للأغنية مستعينة بأجواء الغموض التي قد تصبغها مفردات من قبيل: السحابة تغيب، أسرارنا، الليل) بل وحتى باستعانتها باسم غير دال مباشرة إلى محتواها “سوكورا”، والتي ترجمته مرتين إلى الإنجليزية في الغلاف الداخلي حتى في الشق العربي للعناوين (It’s late) أي: متأخراً.
موسيقيّاً، يبدو أن السارة مولعة بالمسارات الطويلة نسبياً حتى إذا لم يكن هنالك ما يكفي من الكلمات، فمع كوبليهين وجسر استطاعت أن تنتج مساراً يستمر لخمسة دقائق كاملة عبر تكرار غناء الكوبليهات صوتاً وعزفاً مع تنويع اللحن في شق الأغنية الأخير، فبعد عزف منفرد لآلات الإيقاع بسرعة ضئيلة ينطلق كريشندو تؤدّي فيه نفس الكلمات بإيقاع أسرع.
بإيقاع سريع وديناميكي وجمل قصيرة، تنتج السارة هذه الأغنية السياسية الصريحة مبتعدةً عن الرمزية والإشارات الخاطفة في فيديو حبيبي تعال الكارتوني بشكل بدت فيها أنها استوحتها من موجات التظاهرات المتتالية التي تشهدها السودان منذ وقت لآخر. تعتبر هذه الأغنية المحاولة الثانية للسارة التي تؤدي فيها أغنية سياسية بعد إعادتها لكتابة نشيد في حماك ربنا الجهادي الذي كان منتشراً عندما أخذت الحرب الأهلية السابقة مع جنوب السودان منحاً دينياً خلال حقبة التسعينيات من القرن العشرين :
“في حماك ربنا في سبيل ديننا / نرتكب كل الجرائم / بدون خجل ولا استحاء / دم الشعب على يداك”
السارة – في حماك ربنا :
لكن في طمي، تكتفي السارة بهذا المسار الذي لم يكن مباشراً في إشارته للظروف السياسية المحلية كالأغنية السابقة في كلماته :
مقطع 1، أساسي:
“أيّ.. الزمن جاكم (نعم، لقد حلت ساعتكم) / المفعول به فعّل بذاته”
لا تقتصر فوقوا في مضمونها على تناول الوضع السياسي في السودان فقط، بل تضفي بعداً أفريقياً لخطابها السياسي المباشر يذكّر بأسلوب الجامايكي بوب مارلي :
“من الكونغو لغاية صومال
أفريقيا نايمة وأولادها شهداء”
هذه المباشرة، مضافاً إليها الضيق الذي يشكّله الإيقاع السريع على الكلمات، سهّل من وقوع الأغنية في فخ السطحية عند تناول السياسيّ الذي دائماً ما يقلل من الفنيّ عندما يخلطهما الفنان في عمله، خصوصاً أننا لا تناول هنا أغنية راب، فالحلول البسيطة التي كانت أمام السارة اقتصرت على ترديد مفردات توحي بدلالاتها للواقع الذي تتناوله من دون أن تخوض فيما هو أعمق من رص الكلما. إضافة إلى وقوع بعض الأخطاء اللغوية المقصودة: كتنكير المعرّف كما في كلمة الصومال في المثال السابق، أو تأنيث المذكر لتصحيح وزن المقطع كما في التالي:
“شغل، واسطة، المهية، مواصلات
شباب عاطلة بيعدو الشهادات”
لا تستمر الأغنية بنفس الإيقاع حتى النهاية، ولكنها تهدئ من سرعة إيقاعها في منتصفها مع ترديد السارة للاسم الثاني الذي اختارته للأغنية “شمس الحرية، شروق”.
تقدم السارة هنا أغنية بلحن شرقي من ثلاثة مقاطع متصلة كقصيدة واحدة تتكرّر في مسار من خمسة دقائق تقريباً. تخاطب فيه عازفة ما، ممتدحةً بشكل شاعري موسيقاها بعيداً عن ثيمة الحبيب والاشتياق له، لكن الاختلاف الأكبر الذي يميز هذه الأغنية عن بقية أغاني الاسطوانة هو استعاضتها عن اللهجات المحلية واللغات الأفريقية الأخرى لتؤدى بالعربية الفصحى :
“رناتُ تقع / من يداكِ / كثرياتِ المطر
تضطربُ بها / بحيراتِ / سمعي وترقصُ للأبد
ذاهبة / قادمة / على إيقاع / غي القمر”
ثمّة خلل في أداء السارة يحول دون التعاطي مع رنات كأغنية فصيحة طالما أنها اختارت الفصحى للتعبير، فهي لم تلتزم بقواعد النحو في المقطعين الأولين، تحديداً في: “تضطربُ بها بحيراتُ سمعي” التي تنطقها السارة بالكسرة “بحيراتِ، كذلك في “من يداكِ”، التي جاءت مرفوعةً لا مجرورة بدلاً من “يديكِ”، الأمر الذي تكرّر سابقاً بنفس الطريقة في أغنيتها “في سبيل ديننا”، بشكل يحيلنا إلى ذلك المخرج الذي يبرر به الشعراء لأنفسهم باللعب بقواعد النحو في سبيل الوزن الموسيقي بالقول: “يحق للشاعر ما لا يحق لغيره”، إلا أن أي مستمع عربي على دراية بقواعد النحو قد لا يستقيم لسمعه أن يمرر هذه العثرات دون أن يشعر بالنشاز اللغوي حتى لو كانت مقصودة.
في هذا المسار تستعير السارة لحناً سواحيليّاً من فرقة Black Star وأغنيتها Chozi Lanitoka من نمط غناء جزيرة زنجبار التنزانية المعروف بـ”طرب” الذي نتج عن التمازج العُماني-السواحيلي في ساحل شرق أفريقيا :
تشوزي لانيتوكا: شاكيلا وبلاك ستار
يمزج المسار بعذوبة بين التخت الشرقي والأداء الغنائي الأفريقي الذي استبدلت فيه السارة كلماته السواحيلية بكلمات عربية من تأليفها، باستثناء لازمة صوتية واحدة بالسواحيليّة “وايي”، إلا أنها لم تبتعد من ناحية المضمون هنا عن نفس ثيمة الحبيب، والذي لم يكن هذه المرة مسافراً في تماهي مع أجواء أغاني “السْيرَة” في وصف حبيب بصفات إثنية وقبلية محددة كما يتضح من اسم الأغنية الجديد ود النوبة:
“عيونو غريبة / كحيلة وشقية / جمالو وسوادو / الأصالة سلاحو / من الشمس نازل / وفي النوبة واصل”
توافق هذا الإبدال الذي حققته السارة بتعريب الأغنية بشكل تام مع الموسيقى الزنجبارية ذات الحس العربي الطاغي، لكنها لم توفق تماماً في تحقيق قصيدة غنائية مختلفة عن السياق الذي تلعب فيه عادةً، إذ جاءت الكلمات عادية ومصطنعة في إضفاء عبق تاريخي على “ود النوبة”:
“وزحزح رمالي / أرويلي تراثي / ورافع شعارو / الحب واحترامو”
وسرعان ما تجد نفسها خالية الوفاض في الإتيان بكلمات متوافقة مع اللحن فتلجأ للتكرار وإضافة حروف مد زائدة على الكلمات:
“حتى الطير يغني / يغني السلامو”
مع هذا، يبقى هذا المسار واحداً من أكثر الأغاني تميزاً واختلافاً من الناحية الموسيقية في العمل لاستعانته بآلات الكمان والأوكورديون في فرقة Sounds of Tarab.
جعل قلّة عدد أعضاء فرقة السارة خياراتها في التوزيع الموسيقي محدودة طالما أن الأمر غير مرتبط بالمؤثرات التقنية، التي سهلت من التقليل إلى حدٍ ما من كلاسيكية موسيقاها الاستعادية، وهو ما دفعها للاستعانة بفرقة أصوات الطرب في أداء ود النوبة مثلاً. إلا أن الكم لم يؤثر هنا بشكل كبير على الكيف. طالما أن الموسيقيين الذين يصاحبون غناء السارة يتميزون بالموهبة والمهارة والقدرة على التنقل من نمط موسيقي إلى آخر ، خاصة عازف العود هايج مانوكيان الذي شكلت آلته مركزية موسيقية في أغاني العمل – باستثناء المسارين الآخيرين – تنقل فيها بسلاسة من غناء البنات الإيقاعي إلى النوبي، سلم خماسي) وصولاً للعزف الشرقي الصرف (سلم سباعي:
في هذا المسار الذي يستمر لأقل من ثلاث دقائق، يستعرض هايج مانوكيان مهاراته في عزف منفرد للعود بشكل شجيّ ومثير للشجن في قسيم مألوف مؤدى بحرفية حالية.
هنا يقدم عازف الإيقاع رامي الأعسر عرضاً منفرداً بآلات الدف والبنقز على إيقاعات منتشرة في النوبة وحتى شمالاً في مصر – خصوصاً إيقاع العشرة بلدي – في مسار من دقيقة ونص. يدفع المرء للتساؤل حول انعدام الاختلاف بين البنية الإيقاعية للأغنية النوبية والأغنية الشعبية المصرية.
قدمت السارة في طمي نماذجاً مختلفة لأنماط الموسيقى والغناء في شرق أفريقيا أكدت بها تصنيفها كمؤدية استعاديّة محققةً إنجازاً مركباً على صعيدين مختلفين:
الأول: تسليط الضوء على الغناء الشعبي في هذه المنطقة الجغرافية – الثرية والمتعددة عرقياً وثقافياً، وبالتالي موسيقياً – على جمهور واسع يتعدّى الحدود، فرغم ما قد تمثله إقامتها في نيويورك من انفصال عن ثقافتها الأصلية وجعل العثرات التي قد يقع فيها مضمون أغانيها المعرفي/الشعري مطموساً أمام متلقي لا يجيد اللغات التي تتغنى بها مأخوذاً فقط بموسيقاها واختلافها، إلا أنها وعلى الجانب الآخر تعمل على إعادة تعريف أبناء هذه المناطق ببعضهم البعض موسيقياً. فعلى تقاربهم، جعلت الاختلافات اللغوية وضيق أفق المراكز الجغرافية، العواصم، من تآلف شعوب هذه المنطقة والتعرف على بعضهم أمراً صعباً، خصوصاً مع انحسار اهتمام وسائل الإعلام فيها على قوالب ثقافية/ موسيقية محددة ومستهلكة.
الثاني: تشكيل نموذج لمؤدية ومؤلفة موسيقية سودانية تشتغل على مشروعها الفني بشكل متميز ومتكامل لا ينحصر على الموسيقى والصوت فقط، بل ويتعداهما للمظهر والزي والهوية البصرية لمنتجاتها، وبشكل قلّما يتوفر لثقافة وموسيقى نادراً ما تسعى للخروج عن عزلتها الجغرافية وتقديم نفسها لجيرانها التي تتميز عنهم بتنوع منتوجها الفني والتراثي بشكل فريد.
شكر خاص للموسيقي الصافي مهدي، وأستاذ اللغويات ميرغني ديشاب لمساعدتهما لي في إنجاز هذا المقال.