.
احتدت أزمة هوية في تونس إثر الثورة، وأصاب الكثير جوع الإنتماء. تكاثرت الأسئلة والتعريفات وأصبح السؤال “كيف أصبح التونسيون تونسيين؟” مُلحّاً. ما هي التركيبة الجينية للثقافة التي مزجت ألواناً متوسطية وإفريقية وعربية ومغاربية؟ وأي رياح تحديث مرت لتصهر الأقليات داخل المجتمع التونسي وتعيد فرز سلّم الترتيب وفق المعتقد واللون والجنس؟ طُرِح السؤال سياسياً، ونحاول بدورنا طرحه موسيقياً من خلال تسليط الضوء على موسيقى المهمشين في تونس. في المقال الماضي تعرضنا لدور اليهود في تشكيل الموروث الموسيقي التونسي، وفي هذا المقال سنبحث في موسيقى الزنوج وهويتها اللحنية والإيقاعية في تونس.
لموسيقى الزنوج حول العالم سيرة تُكتب بنفس حروف الألم. من البلوز الذي أرّخ لحنيا لمعاناة الإفريقي في “العالم الجديد”، توسعت خارطة الأثر لتشمل الجاز بدلتا المسيسبي والريغي بجزر الكاريبي والتانغو الذي سكن شوارع الأرجنتين، وصولاً إلى الغناوة في المغرب والسطمبالي في تونس.
جاء ميلاد السطمبالي تطهيراً روحياً من قرقعة سلاسل العبودية التي رافقت رحلة السود والأحباش القادمين من جنوب شرق إفريقيا وبحيرة التشاد إلى أسواق النخاسة. كان هؤلاء يطرقون سلاسل الحديد ويرافقون الإيقاع بهمهمات تكتنز ألماً وغضباً.
المكوّن التاريخي لتوطين هذه الموسيقى في تونس لا يعود فقط إلى جذور استعبادية، بل استقر جزءٌ منها نتيجة التجارة وأغراضها بين القوافل العابرة لصحارى إفريقيا وبلدان المغرب، والتي ازدهرت في تونس خاصة بعد إلغاء الرق رسمياً سنة ١٨٤٦. نُسبت موسيقى السطمبالي خطأ إلى الباشا آغا السطمبولي الذي ينحدر من مدينة إسطنبول التركية ولعل في ذلك وجه من أوجه 'التتركة” التي أريد بها زيادة التأثير العثماني على الثقافة المحلية وطمس أبعادها المتعددة،، بينما تعود طرق العزف التي نراها في السطمبالي التونسي إلى جماعة سعد الشوشان أو بوسعدية، والذي يعتبر أحد “الأولياء الصالحين”. قد تكون إرهاصات هذه الموسيقى صوفية في بداياتها، إلا أنها انفتحت فيما بعد على عوالم الطبيعة وتجاوزت لازمة التصوف ومعالجة الأرواح.
أخبرني الينّا الينّا هو مرادف لقب 'المعلم' في موسيقى الغناوة، الذي يطلق على المتمرسين والأساتذة الكبار صالح الورغلي ذات مرة أن السطمبالي قائم على التوريث الفني، فأنت تولد ينا ولا تستطيع كسب اللقب دون بركات السابقين. في الفيديو أدناه، يظهر الينّا حافظ حداد في نوبة سعد الشوشان، والنوبة هي سلوكية موسيقية لها طابعها الخاص و هويتها اللحنية والإيقاعية التي تمتاز بها تجدر الإشارة هنا إلى أن النوبة المتعارف عليها في الموسيقى الكلاسيكية التونسية هي غير النوبة الشعبية. فالنوبة الأولى تعرف باسم مقاماتها الموسيقية وطبوعها (مقامتها) كنوبة السيكاه أو نوبة الحسين، وأما النوبة الشعبية فتنسب إلى 'الولي الصالح' كنوبة سيدي منصور مثلاً ، ويتم تخصيص كل علامة صوفية أو “ولي صالح” بنوبة تشمله.
تتميز هذه الموسيقى بآلاتها وإيقاعاتها. هناك الشقاشق مثلاً، وهي صفائح معدنية ذات جرس نحاسي تشير إلى صوت الأغلال وطَرق الحديد الذي رافق رحلة العبيد الزنوج إلى شمال إفريقيا. الجمبري، هو آلة وترية وإيقاعية، وهو تاج الينّا الذي يُرشد السامعين إلى بوابات اللحن الإفريقي ويطهرهم من النشازات الخانقة. وأما الطبلة، فهي حاضرة لكي تشحن الأرواح الراقصة في تحرر من الوعي بثقل العالم وفوضاه.
أغلب أناشيد السطمبالي تُقدم بلهجة غريبة عن العربية تسمى بالعجمي، وهي لا تعني الانتساب إلى العجم، بل تشير إلى قوى حاضرة في المكون الروحي لعالم السطمبالي.
للسطمبالي أيضاً وظيفة علاجية تظهر من خلال حالات التخميرة، وهي انتشاء روحاني بالموسيقى نتيجة الجذب التي تمارسه آلات الجمبري والشقاشق والطبلة والرقص المرافق. في كتابه حول السطمبالي، يشير المستشرق ريتشارد ينكوفسكي إلى أن هذه الموسيقى لا تقدم وصفة سحرية للشفاء الكلي، بل أنها تفتح مساحة تفاعل بين الإنسان والأرواح التي تسكنه عبر وساطة إيقاعية، فتتكلم هذه الأرواح على لسان “العريفة” التي تُشخّص حالة المريض وتحدد أي من الأرواح تسكنه، ليعزف بعدها الينّا الموسيقى الكفيلة بتأدية الوظيفة العلاجية المناسبة. يَجدُر بالذكر أن ثقافة الأرواح في موسيقى السطمبالي مختلفة تماماً عن ثقافة الجن في الموروث الإسلامي. فالجن سليل تفكير شرقي، فيما الأرواح التي هي محور الجلسات العلاجية في السطمبالي تنحدر من ثقافة إفريقية.
بقي السطمبالي مهمشاً ومحصوراً على ذوي الأصول الإفريقية في تونس، ليتحول فيما بعد من موسيقى طقوسية ومناسباتية إلى منهل لحني وإيقاعي غذى ألواناً موسيقية أخرى. فالراحل حافظ حداد، أحد العلامات الفارقة في موسيقى السطمبالي، كان حاضرا في عرض في صيف ٢٠٠٤، عندما عزف إلى جانب الهادي دنيا مغني المزود موسيقى شعبية تونسية مهمشة أيضاً سُميت نسبة إلى الآلة الرئيسية فيها وهي المزود، والتي هي آلة رعوية مصنوعة من قربة من الجلد ينفخ فيها بواسطة مزمار عرضاً فيه مزج مدروس بين السطمبالي والجاز – اللذان يتقاسمان نفس الأصول الإفريقية – تتخلله مفاصل موسيقية من العوالم الصوفية للحضرة.
شكّل حافظ حداد، أحد المعلمين الكبار في السطمبالي الذين رحلوا لينفرط عقد آخر من المحاربين القدامى، علامة فارقة إلى جانب صالح الورغلي تلميذ الراحل الينّا عبد المجيد ميهوب، وسليل سطمبالي دار برنو التي تشير إلى موطن هذه الموسيقى الأصلي في مملكة برنو ببحيرة التشاد. يعرف عن الورغلي صناعته لآلاته بيده، محاولا في ذلك خلق هوية لحنية جديدة تحفظ تفاصيل الذاكرة السطمبالية بينما تؤسس لشكل بحثي جديد عبر دفعها إلى الانفتاح على عوالم إيقاعية جديدة.
خلال زيارتي له، حدثني الينّا صالح الورغلي عن المخاطر التي قد تؤدي بالسطمبالي إلى الإندثار. فهناك عزوف الأجيال الجديدة عنها، والغياب التام للدعم المؤسساتي، فليس هناك مهرجان يُعنى بالسطمبالي في تونس أسوة بمهرجانات الغناوة في الصويرة أو فاس في المغرب، أو المهرجانات الأخرى في الجزائر التي تهتم بموسيقى الديوان.
بوسعدية أو مجنون سعدية، شخصية تراثية تشير إلى أحد ملوك إفريقيا الذي اختُطفت ابنته سعدية وقيدت إلى سوق العبيد. فهام في المدن البعيدة مرتدياً ذلك القناع
حتى لا يكشف عن هويته، بحثاً عن ابنته ومردداً لأغانيها علّها تتعرف إليه عبرها. هذه الشخصية ما زالت حاضرة في الألعاب الشعبية بتونس وليبيا، حيث يركض الأطفال وراء الرجل الحامل للقناع متسائلين “وين حوش بوسعدية” (أين هو بيت بوسعدية) فيجيبهم “مازال القدام شوية” (لا يزال إلى الأمام ). لعلنا نجد في صورة سعدية، سليلة الملوك التي اختطفت و صارت عبدة في أسواق الرق، ترميزاً لرحلة البحث عن الهوية وسط ذوبان الذات داخل العدد الجمعي الحامل للاختلافات العرقية واللونية.
في الاسطمبالي، يتقمص رجل أسود شخصية بوسعدية يذكرنا بوسعدية بللاميمونة في المغربي، وهي شخصية يوجد ضريحها بضواحي مدينة العرائش بإقليم القناطر بالمغرب، على مقربة من منطقة مولاي بوسلهام الساحلية. تقول الأسطورة أن للاميمونة وقعت في حب مولاي بوسلهام، ورَجَتْ الله أن يحولها إلى 'سوداء' حتى تشتغل عند حبيبها ولا ينتبه إلى جمالها. فكانت في النهار سمراء البشرة وفي الليل تعود إلى طبيعتها. تذهب الأسطورة إلى القول بأن ميمونة كانت جاهلة بشعائر العبادة، فعند كل صلاة تتوجه إلى القبلة بقولها 'ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة' وكأن ذلك يغنيها عن إتمام الفرائض والعبادة. تعتبر من ملكات طوائف الغناوة. عندما توفي بوسلهام، طلبت أن تدفن إلى جانبه. ليكون محور الإحتفال الراقص الذي يستعيد رقصات الزنوج الأفارقة. يرتدي غالباً قناعا من الأصداف البحرية وفوقه رأس طير كبير و حزام حول الوسط مكون من عظام الكلاب والثعالب وأصداف أخرى عند الكاحلين أو المعصمين. لربما توحي أصداف البحر إلى الوجه الآخر لمعاناة الرجل الأسود الذي خُطف من موطنه ليعبر البحار نحو العالم الجديد. أما عظام الثعالب والكلاب، فلعلها تُشير إلى عوالم الصحراء القاحلة، الحاضنة التاريخية للزنوج الأفارقة. في نفس الوقت، يُصرّ صالح الورغلي أن موسيقى السطمبالي لم تظل سجينة العالم الروحاني الطقوسي، بل تجاوزت أطر مدح الأنبياء والأولياء إلى الغوص في الملاحم الصحراوية والإنفتاح على الطبيعة بكل مشهديتها بما تحمله من معان وجودية.
الديوان في الجزائر، الغناوة في المغرب والسطمبالي في تونس، موسيقات ظلت جميعها دون توثيق. ففي عهد الإستعمار الفرنسي دُمرت معظم المخطوطات والوثائق التاريخية التي تشير إلى جذور هذه الموسيقى وتنويعاتها الضاربة في القدم منذ أكثر من تسعة قرون من التواجد في منطقة المغرب العربي.
من الشائع في مراجع كثيرة مثل كتاب المستشرق ريشارد ينكوفسكي، بالإضافة إلى المنطوق المتوارث عن عازفي السطمبالي، إرجاع جذور هذه الموسيقى إلى بلال بن رباح مؤذن محمد نبي الإسلام، حتى وصل الأمر إلى حد اعتبار عازفي الاسطمبالي أتباع “طريقة بلالية” في التداوي عبر الموسيقى وطرد الأرواح الشريرة.
إحاطة الأصول بهالة من التقديس الديني هي محاولة للحصول على شرعية داخل مجتمع تمت أسلمته بالقوة من خلال الغزوات والحروب، فكانت الإشارة إلى نسب من داخل رحم المعتَقَد كعربون انتماء، خوفا لا تملقاً. سكان جزر الأنتيل مثلاً، التي كانت بوابة كريستوف كولومبس لاكتشاف أمريكا، سارعوا باعتناق المسيحية كضريبة حماية حتى يحافظون على وجودهم تحت سيطرة الرجل الأبيض.
موسيقياً، تُعتبر نوبة سيدي منصور نقطة تقاطع بين إيقاعات السطمبالي وملامح العالم اللحني لموسيقى الحضرة الصوفية. في هذا المقطع لفرقة لطروش، يمكننا أن نستمع إلى طبلة السطمبالي ورنين الشقاشق مع إيقاعات الحضرة الصوفية وآلة الزكرة آلة موسيقية نفخية تونسية، تعرف عند المشارقة بالزرنة أو الغيطة، يعود ظهورها إلى القرن الثامن عشر حسب ما وثق إلى ذلك متحف الآلات الموسيقية بالنجمة الزهراء بضاحية سيدي بوسعيد التونسية..
الرقصة المصاحبة لهذه النوبة تقترب كثيرا من رقصة السطمبالي و تخميرته. في الفيديو أدناه لنوبة البحرية، يظهر لحن اسطمبالي دون إضافات الحضرة:
تقام نوبة سيدي منصور بغرض التبرك للولي الصالح الذي سُميت منطقة كاملة بإسمه في صفاقس، بالجنوب التونسي، نسبة إلى منصور، “الغلام ذو الكرامات المشهورة والفضائل المأثورة” والذي تقول الأسطورة المحلية أنه كان عبداً يرغمه سيده على العمل ليلاً في غزل الصوف، وعندما يأتي في الصباح ليتفقده، يجده قد استوفى كل المهام التي أوكلها إليه. عجب السيد لأمر عبده، فقرر أن يراقبه في أحد الليالي، ليجد أن منصور كان ينهمك في الصلاة والابتهال حتى انبلاج الفجر، ليجد فيما بعد أن كل العمل قد تم دون أن يقوم به الغلام. عَظُمت سيرة الصبي، وروي أنه اعتزل الناس لما طلب الجميع في أمره، إلى أن وُجد ميتاً في نفس المنطقة التي ظلت حاملة لإسمه لا تظهر تأثيرات السطمبالي من خلال الآلات والمنابع التاريخية فحسب، فنَص الأغنية التراثي فيه تلقيب لشخصية منصور بـ 'ولد العجمية'. و'العجمي' كما ذكرنا سابقاً تشير إلى قوى روحية في السطمبالي. أما عن تلقيبه برايس الأبحار، فتلك إشكالية تراثية أخرى. ذات اللقب يُطلق على بوسعيد الباجي بجهة سيدي بوسعيد التونسية المطلة على البحر، الذي كانت له مساهمة فعالة في الذود عن سواحل تونس من هجمات الأوروبيين، فكان حامي البحارة والمدافع عن الساحل الشرقي للمدينة. تلقيب سيدي منصور بلقب كان يخص بوسعيد الباجي لربما تكون رغبة في نوع خلق هوية ساحلية أخرى لتونس غير تلك التي حملتها مدن الشمال. الأمر يمكن أن يكون مجازاً شعرياً في ذكر شخصية حاضرة في أذهان ساكني منطقة سيدي منصور، كونه يحرس رمزية الساحل الشرقي للمدينة أيضا. هنالك أساطير أخرى يتناقلها سكان المنطقة عن هذه الشخصية تقول إن مجموعة من البحارة أرادوا الانتقام من رجل هرع للإختباء بمقام 'الولي الصالح'، فلما دخلوا إلى المكان بغاية النيل منه، نزلت عليهم 'لعنة' ما وقضوا نحبهم بشكل مريب..
بالرغم عن الموجة التجارية التي عصفت بالموسيقى التونسية وما تبعها من تفسخ لمعالم الهوية اللحنية والإيقاعية لكثير من الأغاني التراثية، إلا أن هذه النوبة ظلت حاضرة في المناسبات الخاصة بتلك المنطقة، بعيدة عن النشازات التي أرادت إعادة توزيع الأغنية وتجريدها من تراثها اللحني الثمين.
سُميت نسبة إلى منطقة ميدون بجزيرة جربة. لفظ “شوشانة” يعني المرأة الزنجية التي أعتقت وبقيت خادمة بالمنزل لتعتني بالشؤون اليومية. شوشانات ميدون فرقة نسائية دائمة الحضور في أفراح الجهة ومناسبتها. تقترب الفرقة في غنائها من فقيرات عنابة في الجزائر، الأمر الذي يذكرنا بأهمية أغاني الأفراح والمناسبات عند الفئات المهمشة طبقياً ولونياً:
تتواجد طائفة غبنتن بالجنوب التونسي وتحديداً مدنين مدينة تقع في جنوب شرق تونس في أغانيهم نجد احتجاجاً وتمرداً على الوضع المتردي والفقر الذي لا لون له. خرقت هذه الموسيقى الإنعزال الروحي الذي يعيشه الزنجي داخل الأقفاص المجتمعية المشيدة بالناموس الأخلاقي والتحيز العرقي. ففي أغاني طائفة غبنتن نجد ملامح فن ملتزم بقضايا المجتمع ككل، إذ كانت الكثير من أشعارهم صرخة ضد السلطة وتدهور العيش، كهذه الأغنية التي تشير إلى مضامين العدالة الإجتماعية لكي تؤكد على أن الصراع طبقي وليس لوني:
طائفة غبنتن حطمت اللازمة الطقوسية التي رافقت موسيقى الزنوج وأسست لجملة فنية متحررة من مرويات التاريخ المتحيزة، فانتصرت للعدالة الإجتماعية وقضايا التحرر في تونس والعالم. في هذه الأغنية مثلاً، نجد التحرر الوطني والحديث عن الإستقلال:
علاوة على الإرث الثقافي الذي أرّخ لحنياً لموسيقى الزنوج وجعل لها هويتها اللحنية والإيقاعية، فإن الزنجي ظل حاضراً في المدونة الغنائية التونسية كموضوع وذات شعرية أو قصصية، سواء في موسيقى المالوف أو الغناء الشعبي أو الصوفي. هناك الفوندو معروف بـ ؤ مثلاً من ذاكرة المالوف التونسي، الذي يتغنى بالليالي الحمراء التي استرقها السيد مع شوشانته بعيداً عن تربص الزوجة للا:
“يا شوشانة ماني سيدك و اليوم يا شوشانة حكمي في إيدك
يا شوشانة وآش خبرت للاك عالملقانا”
تعتبر هذه الأغنية من المحظورات التي تروي القصص الخفية لمنازل الأعيان والأغنياء في تونس، حيث ينقلب السيد إلى عبد بفعل سلطان الشهوة، فتتربع الشوشانة على العرش الليلي لهذه القصور المشيدة بالتقاليد الصلبة والأخلاقيات الأرستقراطية المتزمتة.
يشير المؤرخ التونسي عبد الواحد المكني إلى أن الشوشانة اشتهرت “بالبراعة في العمل المنزلي وخاصة خدمة غرفة الحريم وشؤونها من تطبيب وتدليك وتجميل، وقد كانت الشوشانة تكد في النهار، وتكون رهن إشارة سيدها في الليل وطوعاً لرغباته. وقد شبهها المثل الشعبي في المغرب بالدواب: في النهار دابة و في الليل شابة”.
في مقامات أخرى، حضرت صورة السمراء الجميلة التي تداعب خيال الآخرين، فهذا الهادي الجويني أحد علامات مجموعة تحت السور يتغنى بحبيبته السمراء وجمالها المتفرد في أغنية سمراء يا سمراء:
“يمة لسمر دوني” في عرض النوبة التونسية لفاضل الجزيري سنة ١٩٩١ بأداء صلاح مصباح، حيث يتغنى الفنان الأسمر بوجعه من النظرة الدونية التي يوجهها المجتمع ضده، فكان إيقاع الأغنية غاضباً متفجراً:
و في هذه الأغنية نجد لطفي بوشناق في عرض الحضرة و هو يؤدي “نمدح الأقطاب” حيث يتغنى بسعد الشوشان “كسار الحدة”:
ههنا يؤدي عم قدور الجزيري الذي عرفه التونسيون من خلال مقطوعاته العزفية التي تخللت مشاهدة مسرحية “كلام الليل”، لأغنية من التراث الزنجي التونسي ألا وهي “عدوها زي كازا كيكي”:
تشير الدراسات التي اعتنت بموسيقى المالوف ومقاماتها إلى أن السطمبالي كانت السبب في وجود مقام موسيقي تونسي يدعى طبع الرصد عبيدي الطبع هو المقام. من الملفت في التسمية استخدام كلمة “عبيدي” التي تحيل إلى إشارات عبودية لا تزال حاضرة في مطويات الإستعمال المتكرر لمفردات المنطوق اليومي في تونس. هذا المقام خال من بعض الدرجات بهدف التوجيه الإيقاعي، ليقترب من الذائقة الإفريقية الراقصة، ويشكّل بذلك ضرباً من الاغتراب اللحني في البيئة المقامية لموسيقى المالوف.
موسيقى المهمشين إذاً، وإن بقيت مهمشة، لها دور في إجابة تساؤلاتنا عن كيفية تشكل الهوية التونسية، وكيف أصبح التونسيون تونسيين، بعيداً عن عنف التاريخ الرسمي الذي يُلزم قارئه بتحديد ملامح الماضي وفق سردية معينة. تحرير العبيد في تونس عام ١٨٤٦ كان مجرد واجهة شكلية استمرت خلفها ثقافة الاستعباد، ولكن كان هناك تحرر آخر وانصهار عبر الموسيقى والإيقاع والطابع اللحني، كما رأينا مثلاً في طوائف غبنتن وفي طبع الرصد “عبيدي”.
رسخت موسيقى الاسطمبالي كأحد أعمدة المشهدية التونسية، خالقة بذلك عالمها المتفرد الذي كان تقاطعا لعوالم التصوف التونسي والمصبات اللحنية المتوسطية وأرواح إفريقيا الراقصة. موسيقى مترحلة، حملت على جسد اللحن ندوب السوط ووشم الصحراء، واستقرت في أراض الشمال لتفتح أبواب المساءلة التاريخية بين ساكن تلك الأراضي والزنجي الحامل لشجرة الإنتماء فوق كتفيه، عما إن كانت الهوية هي ما نَرِثُ أم ما نورّث.