.
محمد محمود ولد اميليد، الملّقب بـ اكليْهيدْ، هو فنان موريتاني معاصر، من مواليد عام ١٩٧٢ في مقاطعة الطينطان شرق موريتانيا. بدأ ولد اميليد بالاهتمام بالفنّ في فترةٍ مبكرة من حياته، آملاً في يومٍ ما أن يصبح فنانًا يحبه الناس. مارس الغناء بشكلٍ احترافيّ لأوّل مرة في نهاية التسعينات تقريبًا؛ ومنذ ذلك الحين استطاع أن يشكل نموذجًا فنيًا فريدًا عند كثيرٍ من الموريتانيين، نظرًا للمميّزات التي ينطوي عليها فنّه الشديد الصلة بالنموذج الغنائي الأصيل الموشك اليوم على الضياع.
أجرى المقابلة عالي الدمين وأحمد أبيه.
بدأتُ مساري الفني لأوّل مرةٍ بشكلٍ جديّ عام ١٩٩٨ ضمن جيل هولْ الهولْ في اللّهجة والثقافة الحسانيّة هو الطرب الغنائيّ الموسيقيّ، جماعة البيظان العفويّة في القرى المحيطة بالطينطان، ونظرًا إلى أنّ الجمهور كان قد احتضنني بقوّة كبيرة، فقد حفزني ذلك على التحّول من مجال الجماعة العفويّة إلى مجال إيكاوّن الاحترافيّ. في تلك الفترة لم أشهد معارضة عند ممارسة الفنّ لأني كنت في بداية مشواري الغنائي. لكن عندما تقّدمتُ وبدأتُ أنافسُ وأشارك الفنانين، بدأ بعضٌ منهم يشعرُ بالغيرة مني ويحسدني، وقد فاجأني ذلك كثيرًا. فمن الفنانين من يتقبّل ظهور مواهبٍ جديدة تستطيع ممارسة الفنّ، لكن منهم أيضاً في الوقت ذاته من يرفض مشاركة الآخرين – مشاركتي كفنانٍ مبدع جديد، وهذا على العكس تماماً من الجيل الفني القديم الذي كان يحتضنُ الفنّان ويشجّعه على الإبداع. واليوم قد تحولنا إلى حالةٍ جديدة، أصبح فيها الفنّ بمثابة تجارة.
موريتانيا القديمة قبل عدة قرون لم يكنْ فيها فنانين أصلييّن بالفطرة؛ فإمّا أن يكون الشخص ناشطاً في مجالٍ عمليّ ما، أو يتمتّع بموهبةٍ فنيّة ظهرت فيه كعزف الجيتار أو التيدينت آلة موسيقية كلاسيكيّة، خاصّة بالرجال في موريتانيا، تكسبه معنى الفنان. والفنانين استناداً لذلك كانوا من جميع تشكّلات المجتمع الفئوية والعرقية القائمة. وهذا ما دفع إلى أنّ أي شخصٍ ظهرت فيه موهبة فنيّة ما يتم احتضانه وتشجيعه على ممارسة الفنّ. وللأسف فبعض الجيل الجديد احتكاريٌ يشترط في ممارسة وامتهان الفنّ أنْ يكون الشخص فنانًا عن أبٍ وجدّ. وفي الحقيقة هذا أمرٌ في غاية السوء، لأنه يضيّق من معنى الهولْ أو الفن كحالة جمالية تستندُ على الموهبة في المقام الأوّل.
بالنسبة لي، أعتمدُ غالبًا على ثلاثة أنماطٍ فنيّة. أوّلها هو الدروس الفنيّة على آلة التدينيت، وقد ارتبطت التدينيت ببروز إيكاون التاريخيّ في المجال القديم. وثانيها موسيقى آلة الآدرين آلة موسيقة كلاسيكيّة خاصّة بالنساء في موريتانيا. أما ثالثها فموسيقى البيظان في أمبالّهَ، وهذا النّمط هو أول نمطٍ فنيّ وجدَ في موريتانيا القديمة. وقد نتج عن هذا النمط عادة المجلس التقليديّ، كما أنني الوحيد الذي لايزالُ اليوم متمسكًا بهذا النمط في الممارسة الفنيّة. هذه الأنماط هي الأكثر استخدامًا لديَّ، وأعتبرُ أنّها تشكلُ الميزة الخصوصيّة الأفضل بالنسبة للغناء والجمهور معًا في هذا المجال الجغرافي.
كانت إدارة التلفزة الموريتانية في تلك الفترة مقدرة لمكانتي عند الجمهور، فأتاحت أمامي منبرها بترحابٍ كبير. خرجتُ عليها مع الإعلامي محمد ولد ازمزام في بداية برنامج موريتانيا الأعماق، وكان البرنامج آنذاك لا يزال في بدايته. سجّلنا قربَ تامورت في افام لخذيرات، وفي بطحة الراظي شمال الطينطان. لذا فأنا أشعرُ أنني جزءٌ من هذه المؤسسة، لأني ساهمتُ بفني في تقدّمها.
قاطعتُ التلفزة الموريتانية استنادًا على جملةٍ من الأسباب التي أظهرت تحيّزها ضدي. من ذلك أني بدأتُ مع الأستاذ عتاك ولد السيد أوّل حلقةٍ من برنامج آزوان الذي شاع اليوم كثيراً، وتم احتكاره على الفنانين الذين يندرجون في التصنيف الفئوي الشائع للأسر الفنيّة. وقد تبيّن لي أنّ هذه الحلقة حذفت وغيّبت لاحقًا على نحوٍ غير لائق من الأرشيف، كما أني شاركتُ عام ٢٠٠٧ في حلقةٍ مع السيدة مريم بنت السباعي، وكان يعزف على الجيتار الشيخ ولد البشير صحبة العازف على الآردين ولد اعْلي. وقد حذفت هذه الحلقة أيضاً. كل هذه الأسباب جعلتني أقاطع التلفزة الموريتانية الذي أظهرتْ تحيّزاتٍ متمركزة ضدي منذ سنوات. لكن الفنّ عندي يبقى دائمًا أنبلَ من هذه الخصومات الرديئة. والجهات المسؤولة تساهم في قمع الفنّ ومعناه الحقيقيّ، وذلك بترسيمها له بشكلٍ فئويّ ضيّق. لذلك لا بدّ من معايير حياديّة في التعامل مع الفنانين بالتساوي، وعلى أساس الموهبة الفنيّة كشرطٍ أوّل.
لقد تواريتُ عن الأنظار إثر ذلك. فلا يليق بالتلفزة الموريتانية، كمؤسسةٍ وطنيّة لجميع الموريتانيين، أن تمارس مثل هذه السلوكيّات التي تقومُ بالتمييز في أوساط جماعةٍ من الشعب الموريتانيّ، هي جماعة الفنانين. فينبغي لكل فنانٍ موريتانيّ أن يجد فرصة لينقل صوته وفنّه عبرها، ويحق له ذلك كما يحقّ لأيّ فنانٍ آخر من أي شريحةٍ أو جهةٍ أو منطقة في موريتانيا.
نعم. لقد حاولتُ المشاركة في المسابقة حين كانت منّظمّة في ٢٠١٠. لكن اتضّح لي عند التقدّم بملف الترشّح أنّ هنالك موانع ضارّة سنّت ضدّ الفنانين أمثالي من طرف أولئك الذين ينظرون للفّن نظرة ضيقة على أساسٍ أسريّ وفئويّ. فبالنسبة لهؤلاء الأشخاص لا يحقّ لمن لا ينتسبُ لأسرةٍ فنيّة معروفة مثلهم أن يشارك في مسابقةٍ عمومية حول الغناء، كما لا يحقّ له في نظرهم أن يغني أو يحترفَ الغناءَ، لأنّه ما لم يكن سليل أسرةٍ فنيّة فإنه لن يكون فناناً أبداً. وليس صعباً كشف مدى الظلم في هذا التصوّر المُتجاوَز الذي يحوّل الفنّ إلى تجارةٍ محتكرة التوزيع في المجتمع، حيث أنه يصبح منحطاً إلى أقصى درجة، وذلك لأنّ معايير حقيقيّة كالموهبة والإتقان أزيحت منه واستبدلتْ بمعايير الانتماء الأسريّ والعلاقات الخاصّة فقط.
لطالما غنيتُ:
يا الناس الهول الِّ يبغيه .. لا يكثر دونو لخبارْ
ناقص الدنيا ماهُ فيه .. ولا أيجرْ املي للنارْ
في الحقيقة إن ممارسة الفنّ عندي هي شيءٌ غاية في الرّقة والبساطة والعفويّة، فالفنّ الذي لا يكون رقيقاً وبسيطاً وعفوياً هو فنٌّ مصطنع وفخم لا يستطيع أن ينفذ لأعماق الروح. ومهمة الفن في نظري هي النفاذ لأعماق الروح البعيدة حتّى يستطيع أن يؤثر في الإنسان، ولا يمكنه أن ينفذ لتلك الأعماق ما لم يكن أيضاً نابعاً من الأعماق الوجدانية للفنّان بالمقابل. في تلك الحالة فقط يمكن أن نقول أنّ الفنّ قد تحقق عندما تتحقّق مهمته الروحية.
وللأسف الشديد فجزءٌ كبير من الناس اليوم قد تغيّرت ذائقته وأوشكتْ على الضيّاع، كما يتضح من أساليب التعامل الجديدة مع الفنّ، والتي تجرمه وتشوّهه بشكلٍ خطير. ولعلّ أول تلك الأساليب الّنظر للفنّ نظرةً تحريميّة. فبعدما كان الناس قديماً، على الأقلّ في العقود القليلة الماضية، يحبّون الاستماعَ للفنّ ويرغبونه حتّى لأسبابٍ دينيّة متسامحة، ها هم اليوم ومع موجات التحوّل المفزع التي بدأت تكتسحُ حياتنا يتخوّفون من الفنّ لأسبابٍ غير مقنعة. وإن خفّ الأمرُ قليلاً، استمعوا للغناء فقط بدون عزفٍ أو موسيقى، كما حصلَ معي مراتٍ عديدة. كما أنّ من أساليب ذلك التعامل الذي يشوّه الفنّ تحويل الفنانين له إلى تجارةٍ استهلاكية، وهو ما يجعله سطحياً ويفقده معناه الجمالي والوجدانيّ الأهم. إضافة إلى ذلك اشتراطُ الانتساب لأسرةٍ فنيّة.
كل هذه الأمور تشوه الفن وتفقده معناه الحقيقيّ، الذي من شأنه أن يساهم في إضفاء روحٍ جميلة على حياتنا التي تشهدُ صعوباتٍ ومنعرجاتٍ عدّة، كما تستطيع أيضاً مساعدتنا في تجاوز هذه الصّعوبات / المنعرجات والتغلب عليها. وفي هذه الحالة يكون الفنّ قد حقق المطلوب الإنساني منه الذي هو عمادُ هويته الحقيقيّة. إذًن، كما قلتُ لكما، ممارسة الفنّ عندي هي ذات طبيعة وجدانية شفافة تعتمد المشاعر البسيطة الشفافة من حزنٍ وفرحٍ وشوقٍ وحنين. هذه الخاصيّة الوجدانية هي شيء كبير عندي، ولا يمكن أن تجد فني خاليًا منها على الإطلاق. هناك دائمًا سماتٌ وجدانية في ما أغنّيه، إنْ كان على مستوى اللّحن أو الأشوار والكيفان الكيفان جمع كاف، وهو أصغر وحدة غنائية في الشعر الحسانيّ، وتعتبر خاصّة بالرجال. فالعازفون الذين أصطحبُهم معي هم عازفين مقتدرين على إخراج تلك الطاقة الكامنة في أوتار الجيتار أو التدينيت، والأشوار والكيفان التي أغني هي أشوارٌ قديمة وكيفانٌ تنقل الشعور اليوميّ والبسيط للنّاس دون زيادةٍ أو نقصان، تنقله في وجعه وزهوه. هكذا يكون ما أغني مرآةً عاكسة لذوات الناس العادييّن، فيلجؤون إلى الاستماع إليه بشغفٍ واندفاع.
أنا أحبُّ الفنّ حبًا شديدًا، وأمارسه على ذلك الأساس أولًا، ففيه أجدُ ضالة روحي، وفيه أحقق ذاتي، وأشعرُ بالراحة والهدوء وأني لازلتُ على قيد الحياة. ذلك كله ولّد لديّ احترامًا شديدًا له لا يمكن أن يهتّز للحظة أبدًا. فمن لا يحترم الفنّ احترمًا كبيرًا لا يحق له في نظري ممارسته إطلاقًا، لأنه لن يتمكّن من الإبداع فيه. لهذا اعتبرُ أنّه ليس منقصة إطلاقًا أن نمارس الهوْل أو نسمعه. وإنمّا العكس تمامًا. فالرفعة الحقيقيّة، في المنزلة، هي أن نمارس الهول ونسمعه بتقدير شديد.
طبعاً، اعتقادي هو أنّ الغناء رسالة تسعى لبث قيّم عليا في نفوس المستمعين له، وذلك يعطيه بعداً قيمياً مهماً، يساهم بشكلٍ من الأشكال في إثراء حياة النّاس أياً كانت مستوياتهم الاجتماعية والثقافية. وضمن هذا الإطار هو يؤدي، بالنسبة لي، وظيفة روحيّة جسيمة، تتمثّل في القضاء على المشاكل النفسيّة للذين عايشوه في بيئتهم في فترةٍ زمنية ما.
فقد شاركتُ الولي محمد المختار ولد الصالحين قبل سنواتٍ عديدة في علاج بعض المرضى. كنتُ أشارك معه بالغناء فقط، الذي كان يناديني إلى مجلسه الطيّب من أجله خصيصًا. ففي مراتٍ عدّة عالجتُ أحد الشيوخ الكبار الذين كانوا يقصدونه للعلاج حين غنيّتُ: “بمدح النبي زمانك..”. وكان مرض ذلك الشيخ الكبير متمثلاً في أنّ قطراتٍ من الدموع تجمّدت في آخر دماغه. ومع الغناء بدأ تدريجيًا يجهشُ في البكاء دون توقف. وبعد ساعةٍ رجعَ صحيحًا مُعافىً كما كان من قبلُ كأنه لم يعاني من شيءٍ قطّ. والطريف أنّ ذلك الشيخ الفاضل قال لنا بعد ذلك أنّ التشكيك في أهميّة وجمال صوت الإنسان، استنادًا لقصّة مزامير داوود، يدخل في باب الردة والاستهتار بجمال خلق الله. وبالتالي فلا يجوز أن نهوّن من قيمة الفنّ أو جمال الصوت على أيّ أساس لأنه نعمة نادرة.
لقد أكّدت لي حادثة ذلك الشيخ أنّ الفنّ يستطيع إحداث فارقٍ عظيم في حياتنا اليوميّة. فالإنسان بدون الفنّ، خاصّة الغناء منه، لن يستطيع معرفة معنى الحياة الذي يحفّزه على السعادة فيها سعادة غامضة لا تنهزمُ أمام أيّ شيء مهما كان. كذلك فـ الهولْ أيضًا هو وحده القادر على إيقاظ خصائصنا الإنسانيّة من حبٍ وشوقٍ وتواضعٍ شديد. إنه من المُستحيل أن تجد إنسانًا ينصتُ لـ الهولْ إنصاتًا دائمًا بشكلٍ مقتدرْ ينطوي في داخل نفسه على إحدى الخصائل السيئة كالتكبّر والكره مثلًا. كلا. لن تجده كذلك أبدَا، لأنّ الهول قام بتنقية وجدانه وتنظيفه من كل الشوائب القبيحة.
صحيح. هذه الثنائيات بالنسبة لي شديدة الأهميّة، وهي أكثر تحفيزًا على الإبداع، بما تعطيه للفنّ من معاني التعاون والتشارك القائمة على تفهمٍ كاملٍ بين كلا الطرفين. وقد عرفتُ أوّل ما عرفتُ في أوساط الجمهور من خلال هذه الثنائيّات، التي كان احتكاكي بالنّاس يتم دائمًا وفقًا لها. فممارستي للفنّ مرتبطة بالعازف الذي يشكّل ثنائيًا معي. هكذا مثّل الأخ ولد عيسى جزءً من مشواري الفنيّ، كما مثّل اكويْلي أيضًا جزءً أكبر من ذلك الفنّ حتّى اللحظة. اكويلي صحبني في أغلب حالاتي، وهو صديقٌ شخصيّ مقرّب لي كثيرًا، فأنا وهو أبناء الخالات. وسيكون نافلًا إذا قلتُ أنه عازف حقيقيّ له قدرة عالية على مسّ مكامن الطرب فيَّ. ولعلّه الوحيد اليوم الذي يعزفُ الجيتار بشكلٍ إبداعيّ فاتن ونادر، ينتزعُ الاعتراف مباشرة من جميع القلوب قبل الآذان.
لا أتصوّر إبداعًا فنيًا بدون اكويْلي. يبدو ذلك بالنسبة لي مستحيلًا في الغالب. وينطبق هذا على غنائي شخصيًا، فهو يعتمدُ بشكلٍ كبير على اكويليْ. إذا كنتُ وحدي من يغني، فإنّ عزف اكويلي يظهر ويشارك معي بالقدر ذاته. ولعلَّ انطباع الجمهور أكثر صدقًا، فعندما يكون اكويْلي مصاحبًا لي، ينخرطُ الجمهور في موجة طربٍ هائلة.
لقد غنيتُ مع جميع فناني موريتانيا الكبار والمعروفين. ليس فقط الفنانتيْن المذكورتين. فقد سجّلتُ أيضًا مع الفنانة المرحومة ديمي منت آبا شريطًا غنائيًا عام ٢٠٠٤ في بطحة بنموره شمال الطينطان. كما سجّلت مع الفنانيْن سدوم ولد أيده ومحمد ولد حمباره، ومعهم ديمي أيضًا، في حملة ولد باب بأكني. وهذه الأشرطة موجودة ومتوفرة. وأجريتُ تسجيلات أخرى كثيرة مع غيرهم من الفنانين الموريتانيين الذين يقاسمونني ممارسة الهولْ. وهذه التسجيلات الفنيّة غالبًا ما ترتبط بمناسباتٍ أو ندواتٍ معيّنة، وحين تجري تكون مليئة بالود والعفويّة والتقدير الشخصيّ والفني المُشترك.
إنّ تلك التشاركيّة تضفي قيمةً كبرى على الهولْ الذي ينتجُ عنها، كما أنها أيضًا ترسخ نوعًا من التعاون ينبغي أن يسود علاقات الفنانين فيما بينهم، حتّى يكونوا أكثر انفتاحًا، وبالتالي أكثر استعدادًا للتجديد والتعلم والإضافة الفنيّة.
اعتقدُ أنّ هذا الوصف، من العادي إلى شبه الأسطوري، هو الوصف المناسب. فأنا أغني مثل الكيفان داخل سهراتٍ مفتوحة، وبالتالي فغنائي يعتمدُ على ما يبدعه الجمهور المُستمع في تلك اللحظة، والذي أغنيه تلقائيًا. وهذا الجمهور هو جمهورٌ شعبيّ بسيط، والتبريعات التبراع هو النمط الشعري اللهجي الخاصّ بالنساء في موريتانيا والصحراء والكيفان التي يُبدعُ لأغنيها له، هي دائمًا مرتبطة بحياته وعلاقاته وهمومه الخاصّة، وبالتالي هي شديدة الصلة بواقعه الشخصيّ. وهذا يجعلُ من تلك الكيفان والتبريعات عندمّا تُغنّى تُحاطُ بهالةٍ أسطوريّةٍ مثيرة ترغّب الآخرين في استخدامها والإنصات لها. إنّ اسويلكنَ مثلاً، هو شخصٌ بسيط يذهبُ إلى سوق مدبوكو، في أقصى الشرق الموريتانيّ، ليعرض تجارته ليومٍ واحد، وعندما يرجعُ منه تغني معشوقته فرحةً: “أصحباتي الفوْكو الفكو / اسويلكنَ جَ من مدبوكو”. والأمرُ نفسه مع السّلطانة، التي يُخاطبها حبيبها، متمنيًا عودة الليلة لبدايتها مجددًا، بعد أن تجاوزت الثانية عشرة. إنّ للذاكرة والذكريّات الشخصيّة الصغيرة مساهمة كبيرة في جعل الأغاني التي تتضمّن هذه التبريعات والكيفان محبوبة وشهيرة على نطاقٍ واسع. فالمُستمعين لها يسافرون عبرها إلى زمنٍ فائت بعوالمه وسهراته وأوجاعه وأفراحه الجميلة، والتي قدّمها هؤلاء الأشخاص، داخل هذه الأمكنة-الأزمنة، في صورةٍ مُصغّرة وشخصيّة لدرجةٍ جذّابّة.
https://soundcloud.com/alidemine/q7wurabbtamb
اعتقدُ أنّ الجوّ الذي يتم فيه إبداع هذه المقطوعات الغنائيّة جوٌ محفزّ على ذلك التحوّل من العاديّ إلى شبه الأسطوري. فتجمّع الناس من حولي وقت الغناء، وتعاطيهم المُحبّب والعفويّ، يساهم في نقل أحاسيسهم ومشاعرهم الرقيقة إلى مكانةٍ غير عاديّة، عندما يصبحُ الناس في كل مكانٍ يستعمون إليها مُضمّنة في أشرطةٍ موسيقية وغنائيّة شائعة. وتعدُّ خاصيّة السّهرة العفويّة التي تجري ممارستها في أوساط سكّان مدينة الطينطان ضامنًا لذلك. ففي كل سهرةٍ يبدي الناس تعاطيًا شديدًا مع الغناء، ليس فحسب طربًا ورقصًا، ولكن أيضًا من خلال مشاركتهم بكفيانٍ أو تبريعاتٍ تعبّر عن حالتهم العاطفية وما يشعرون به من شوقٍ وحنينٍ ورغبة جامحة. لكن عندما يتمُ إدراجها في الأغنية فإنهاّ تتحوّل مباشرةً مع مرور الوقت لنموذجٍ غنائيّ يغنّيه الجميع. كل ذلك بغضّ النظر عن تلك الشخصيّات الواقعيّة والعاديّة التي تشكّل المادة الحقيقيّة والأصليّة لذلك النموذج المثاليّ، الذي يأخذُ قيمته أيضًا من خلال السياق الذي يجري فيه، على صعيد المكان والزمّان معًا. فلكلِّ نموذجٍ من تلك النماذج الغنائيّة سياقه الخاصّ الذي تكوّن فيه.
لم أجرّب الغربة إطلاقًا، لأني شخصٌ شديد الارتباط بالمكان الذي يولد فيه. وقد ولدتُ في مدينة في الطينطان، ولم أغادرها بشكلٍ دائم أبدًا لا في داخل موريتانيا ولا خارجها. لكنني مع ذلك جرّبتُ كل تداعيات الغربة كالشوق والألم والعزلة وغير ذلك. ومن تلك التداعيات تكوّنت تجربتي الفنيّة وأخذت معناها الأهم، فأمورٌ كالحنين والألم هي عدّة فنيّة ضروريّة جدًا لأي فنان. بالإضافة إلى ذلك يشكُل المغتربين حاضنةً استماعيّة مهمة ضمن جمهوري العام، وجمهور الموسيقى والغناء في موريتانيا عمومًا. لهذا أرى أنّ ذلك الملاذ جاء نتيجةً لما تشكّله أشرطتي الغنائيّة من صلةٍ قويّة بذاكرة هؤلاء المغتربين الثقافية والجغرافيّة الشخصيّة. ولعلَّ هذا يُفسّر معرفتهم بي، في مرحلةٍ ما، أو معرفتهم حتّى بأحد أصدقائيّ المقربين على الأقل.
لاحظتُ ذلك باكرًا. فنظرًا إلى أنّ طبيعة فنيّ هي كلاسيكيّة غالبًا فإن ذلك اتضح لي سريعًا. شريط الكاسيت التقليديّ شكّل مرحلة رومانسيّة في تاريخ الاستماع لهذه الموسيقى، بوصفه الوسيلة الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت لتسجيل الموسيقى والإنصات لها. وقد شكّل خاصيّة فريدة بالنسبة لأجيالٍ من المستمعين، والفنانين أيضًا. فصيغة الكاسيت الذي يُسجّلُ فيه الهوْل وقت ممارسته هي صيغة طويلة ومتأنيّة، تتراوح بين ستين دقيقة أو تسعين دقيقة، وذلك ما حتمَّ أن يكون نمط الاستماعُ له بشكلٍ متأنٍ وبطيء، يناسب طبيعة الموسيقى الموريتانية التقليديّة التي تنقسمُ إلى مقاماتٍ غنائيّة متتاليّة. يقودُ الواحد منها تدريجيًا للآخر بعده.
لقد أنتجَ الكاسيت مجموعة عريضة من المستمعين الدؤوبين، الذين يستمعون للغناء من البداية وحتّى النهاية، بطربٍ شديد يتفاقم في كل مرّةٍ جديدة. وذلك على العكس تمامًا من بطاقة الذاكرة التي أضفت سرعة مشوّهة على الهولْ عندما قامت بدمجه بشكلٍ غير منظم في دوّامةٍ هائلة السرعة، بعيدًا عن التنظيم المقاماتي الصارم له. هذا التشغيل السريع أضرّ بفن الغناء كثيراً، وحوّله إلى ضجّةٍ سريعة ومربكة. وذلك ما يخالفُ أسس هذا الغناء الذي يُنصتُ له بهدوءٍ تامّ. مع ذلك يبدو لي أنّ الأجيال الجديدة لم تتدّرب كما ينبغي على الاستماع للغناء القديم، بشكلٍ جديّ. لهذا فإنه من الطبيعيّ أن يكون شكل الانصات السائد عندها هو الشكّل السريع غير المنظّم، والذي لا يراعي الفنّ المحليّ في أصوله وضروراته الأساسيّة. والآنَ، فكما ساهمَت بطاقة الذاكرة في إفساد كيفيّة الاستماع للفنّ المحليّ بشكلٍ كبير، فإنها كذلك ساهمت في الآن نفسه في القضاء على جماليّات شريط الكاسيت، الذي تربّت فئاتٌ عمرية كثيرة عليه، وعلمّها كيفية الإنصات للموسيقى إنصاتًا متقنًا لا يقلُّ فنيّة.
شخصيًا لم أغيّر أي شورٍ من الأشوار الفنيّة التقليديّة المُضمّنة في غنائي، والتي تعودُ تاريخيًا لما قبل قرنين أو ثلاثة أحيانًا. لكنني ألاحظ لجوء عددٍ من الفنانين إلى هذه الطريقة الكارثيّة في تأديّة هذه الأشوار وغيرها، حيث أنه تصبح فاقدةً لجاذبيّتها القديمة وما ينطوي تحتها من مخزونٍ ذكرياتي وجماليّ هائل. فلا ينبغي أن نعودُ إلى هذه الأشوار لنفسدها بهذه التعديلات المستحدثة، والتي نظنُّ أنها تجديدٌ فنيّ، بينما هي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا. فمن يريد أن يجدّد فنيًا عليه أن يبدع ما يريد تجديده، لا أن يلجأ لما قدّمه الآخرون قبل عقودٍ طويلة، ويحوّله إلى صيغةٍ جديدة مخالفة لصيغته الأدائيّة المعهودة.
وغالبًا ما يتمّ ذلك التحويل عبر البيانو مثلاً، عندما يتمّ عزفها على أشوارٍ قديمة جدًا. لذلك فأنا أرى أنه ينبغي تركُ البيانو في مجالها الجديد الخاصّ، وترك هذه الأشوار بعوالمها وصيغتها الخاصّة كما هي. ولا يحقُ لأحدٍ أن يمارسها إلاّ بالطريقة التي توافق صيغتها الأدائيّة المعروفة، وممّا لاشكَ فيه أن البيانو لا توافق تلك الصيغة، التي طالما ارتبطت بآلاتٍ كلاسيكيّة خاصّة.