fbpx .
قسّموا النوايب | فنون تخليد الموت في الصعيد

قسّموا النوايب | فنون تخليد الموت في الصعيد

مهاب محمد ۲۰۲۵/۰٦/۰۷

أمضيت عقدًا كاملًا في الجلوس عند إحدى أكشاك شارع رمسيس، وخلق علاقات متشابكة مع أصحاب الكشك وأخرى عابرة مع المسافرين المارين عليه طوال العام من بوابة القاهرة، محطة مصر. هذا إلى جانب اختلاط لا بد منه مع المجاذيب على طول الشارع، وعلاقات أخرى، تقام على شد الانتباه من العازفين والمداحين المترجلين الذين يعتادهم سكان ضواحي القاهرة القديمة لكثرة الأضرحة الصوفية

في أيام متفرقة وبعد منتصف الليل تأتي سكينة شارع رمسيس، ولا يبقى سوانا نحن والمجاذيب المتجولون، ومحمد صاحب الوردية المسائية في الكشك الذي يلتفت إلينا في ساعة صفا، مقترحًا موسيقى جديدة من محافظته في جنوب الصعيد، أو موسيقى من جنوب اليونان أحيانًا، لا أعلم من أين يحصل عليها. في كلا الحالتين لم نسمع بها من قبل، ساردًا قصصها ومعانيها الخفية وظروف نشأتها، والأهم تأثيرها على أبناء جلدته في أسيوط في الموالد والمآتم.

في تلك القصص المترامية على مدار عقد من الزمن، تترابط نغمات المرتجلين مع قصص موسيقاهم وأنتبه أخيرًا لملاحظة الموت كقيمة يلتف حولها أهل الصعيد، وذلك في الأمثال الشعبية والحِكم وحل المشاكل، حتى في الاحتفاء والتضامن وإن كان بالإشارة؛ حتى أن محمد طلب مازحًا وضع صورته مع طبنجة ٩ ملي في مقال للموافقة على نقل سيرة الصعيد الموسيقية.

تنتشر في القراءات النقدية عمومًا قاعدة عرفية بأن كل ما يتغنى به مجموعة من الناس ويخلقون حوله قصصًا يكون هو الأكثر تأثيرًا بهم، وهو الأمر الذي يؤكده الصعيد في تغنيه بالموت، الذي ألبست به كل مناحي الحياة من الدين والقيم والفرح. بالنتيجة، استقر تصالح متجذر وملموس في ثقافة الصعيد مع حتمية الموت، وبالتالي يٌقبل أي تحدٍّ جديد ما دام ذلك الجزء الغامض من حياتنا مألوفًا وشاخصًا أمام أعيننا. لذا عرف عن الصعايدة أخذ الأمور في “حموتها” دون فصال. 

إذًا، كيف شَخّص الصعيد الموت بالموسيقى؟

حساب النفس | أولاد جاد المولى

قد يتغنى الصعيد بأسى عن جانب الشجاعة وبحر الدماء في سبيل الشرف مع سيرة شفيقة ومتولي، التي تعتبر رغم قسوتها من القصص الدارجة في الصعيد قديمًا، لكن حديثًا لا يكف الصعيد عن محاسبة نفسه وإدراك وحشة الموت واتضاح ملامحه الجوهرية لما يأخذه من الأبناء والرجال في قصة أولاد جاد المولى، فيأخذ مكرم المنياوي يتغنى بها في كل مناسبة لتلاصق مسيرته واسمه، وتصبح من أهم قصص الصعيد في ليالي السهر.

تبدأ القصة بذكر الانتخابات النيابية عام ١٩٣٦ بخلافات بين حزبَي الوفد والدستور، وتدور أحداثها حول صراع سياسي في إحدى القرى الصعيدية بمصر يتحول إلى العائلات الممثلة للحزبين، وهم جاد المولى ولَملُوم. يتصاعد التوتر بين الطرفين، ويبرز في أحداث القصة صالح لَملُوم الذي يُهين معوض جاد المولى في إحدى الخطب العامة، ما يثير غضب الإخوة أحمد وخليل أولاد جاد المولى.

تتصاعد الأحداث عندما يلتقون بأمهم سارة، وتقرر العائلة الثأر لكرامتها، وتظهر الأم سارة كامرأة قوية تشجع أبناءها على الدفاع عن شرف العائلة، وينطلق أحمد وخليل للثأر ويحدث اشتباك مسلح بين العائلتين، ما يؤدي إلى مقتل صالح وعبد الرحمن أبناء لَملُوم، ثم يقتل أحمد وخليل لاحقًا. 

تمنحنا القصة رؤية مباشرة لمكانة الموت في الصعيد، كقيمة تضاف على حياة كل مولود مقابل الحفاظ على قيم العائلة والقرية، فتكون الحياة دائمًا محملة بهذا الإرث، أو يكون الموت هو ما يُدفع مقابلها:

“خَليل بِقول يا أمي الانتخابات كان مَا لْنَا بنها رَبِّي نَاعْمِ علينا بنعمة / كان من الواجب نراعيها قالتله / كلمة الخصم فِ جسم الحُر زَيَّ النار تراعيها سارة قالتله: كان نَهَار شُومْ يوم مَا دَفَعْنا يا خليل بَدَلَكْ يا وَادْ هات الطربُوش وخُدْ الطَّرحة / وأنا أطْلعْ وَارُوحْ بَدَلَكْ علشان يقولوا البلد مَنْهَاشُ وَلا راجِلْ / مَرَة جَيَّة فِي الحروب بَدَلَكْ / سارة تقول يا وَادْ يا أحمد غِيْرَكَ انت مَخَلَّفناش أنا عايزة تطفُولي نار صالح ونتقابل على التربه وبَعْزَنِّي مخلفناش لَو جِيْتُو أَلْفِينْ مبروكَ / ولو مُتُو مَخلَّفْنَاشْ نتقابل على القبر وبعزننا غير معوض مخلفناش سارة تقول يا واد يا أحمد تعالى / أنا أخْدَكْ بِالبَاطْ عَلَى جِيَّة دَانَا مِنْ عَشِيْة وأَنَا بَحَشَّرْ لَكَ الرُّصَاصُ عِلَى جِيَّة إن جِيْتْ يا مرحبا / وان مُت يبقَى يوم عِيدٌ / وهات تَار أبوك لما أخدك على الغسل بإيديا.”

تصف القصة عواقب الموت والثأر، إذ عندما تعود جثتا أحمد وخليل إلى القرية، تواجه سارة الموقف بشجاعة رافضة البكاء أو إظهار الضعف “وكيل النيابة وصل وسارة أما تضحك وقاعدة على الْبَرْقِي قام قال لها مش حزينة؟ قالت له عِيبٌ مَدَامْ جَابولي التار.” حتى حين تُنصب سرادق العزاء، يحضر معوض جاد المولى، للتعزية، لكن ترفض سارة الدخول وتؤكد أن العائلة لم تُهزم: “سارة تقول انْصُبُوْا الصَّوَانْ وأَقَفْ حِلَّوْ يا معوض واتْلَقَّى العزا عيب / مَتِبقَاش هزيل يا معوض مَدَامْ خليل مِخَلَّف حسن هيبقى بدل أبوه / يا معوض مَتْشمِّتش فِيْنَا لِخْصَامَ واحنا ملُوك يا معوض / قام قال لها عيب يامّه / كداب اللي يقول الأخ بتعوض.”

الموت في الصعيد هو السيرة الأبدية الباقية التي يتغنى بها الرواة. أيضًا، إلى جانب الكلمات، يكمن الشعور الوجداني بالموت في إيقاع تراجيدي يُخلق بالتكرار، وفي الصورة التي تختزل حياة بأكملها في عدة مشاهد. هي أكثر من مجرد حكاية للثأر بالنسبة لهم، بل نص يعكس فلسفة كاملة عن الحياة والموت، حيث الشرف أغلى من النفس، والثأر واجب مقدس، والنساء هن حارسات هذه القيم حتى في أحلك اللحظات، معطيًا المستمع دور كلٍّ منهم ومحذرًا من عواقب الثأر.

إيقاع الحرب ونواظر الموت

تُعرف كلمة نواظر في معاجم اللغة العربية بعروق في الرأس تتّصل بالعينين وفيها ماء البصر. في حالة الصعيد يمكن اعتبار المشارب المختلفة لثقافة الموت نواظرًا صبّت في ذلك الإرث، وفي تلك الإيقاعات الرتيبة أو المشابهة لإعلان الحرب من المترجلين في شوارع القاهرة.

التجلي الأول عند المصريين القدماء والمسيحية

شهد الصعيد منذ الحضارة المصرية القديمة أشكالًا مختلفة من الطقوس والاحتفالات، على رأسها مراسم الموت والعبادة المليئة باللون التراجيدي، وخاصةً موسيقاها الجنائزية التي تمثلت في موسيقى الصعيد الحديثة. كان للناي والطبل حضور خاص في تلك الموسيقى إذ كانت الآلات الأكثر شعبية وتعبيرًا.

مع دخول العصر المسيحي، نقل الصعيد عبادته من إيزيس إلى المسيح متمسكًا بتلك الطقوس الموسيقية، فأبدع ألحانًا كنائسية من ثقافته وظلت بعض الطقوس المصرية القديمة حاضرة، مثل التوجه نحو الغرب، أماكن دفن الموتى قديمًا، أثناء أداء الطقوس الجنائزية. مُجّد المسيح بتلك الألحان في أسبوع الآلام في الكنائس المصرية في ألحان مثل لحن غولغوثا الحزين وبيك أثرونوس. أشبع انغماس المسيحية في الطقس الجنائزي – خاصةً في احتفالية أسبوع الآلام – المخيال الصعيدي.

مع دخول الحضارة الإسلامية المليئة بالموالد والموسيقى الإيقاعية قليلة الألحان، وجد أهل الصعيد رافدًا أخر يصب في صورة الموت الشاخصة في ثقافتهم، بنمط في الطبل تضافر وتطور مع الرؤية الإسلامية، المائلة بطبعها لـ صوت الدق أكثر من الألحان الشائعة في الديانة المسيحية.

أتت أولى مراحل تشرب المدائح الإسلامية هذا الحس الأصولي للموت مع تثبيت شكل المدائح النبوية في حالة الرثاء، التي تجاوزها الشعر العربي تاريخيًا. كان قبل ذلك قد أخذ المديح النبوي مكانة جدلية وسط ألوان الموسيقى والشعر؛ حيث كان الرثاء هو ما يقال بعد موت الشخص المعني، بينما الحال مختلف في وضع النبي محمد حيث يعامل من قبل المسلمين بأنه حي في السماء كما عيسى، فلا يقبل الرثاء له.

أيضًا، جاءت تسمية مديح للتفرقة بين الشعر الموضوع قبيل موت الرسول وبعده عند المعاصرين له، لذا يعد كل إنشاد بعد موته مديح لأنه لا حاجة للتفرقة الزمنية التي كانت تقاس بموته. هو مدح على دون فصل، طالما وجه إلى نبي أو صاحب مقام، لكن ذلك لم يؤخذ في عين الاعتبار داخل التراث الصعيدي الذي توقف عند الطابع الرثائي.

نزهة المشتاق إلى تراجيديا الموت | المديح النبوي

دخل الرثاء الصعيدي للنبي في الذكر والمديح، متجاهلين تجاوز هذا اللون تاريخيًا للتعبير عن الاشتياق، ولما تدل عليه مظاهر الحزن من الاحترام والتبجيل في الثقافة العربية أكثر من الفرح.

تنصب الشوادر وينضبط الحاضرون في مجالسهم في صورة أقرب للعزاء المصري، دون حركات أو إيماءات، ويأخذ الشيخ أحمد العطواني – أشهر الذاكرين – يُنشد البُردة للإمام البوصيري ويسبح بنظم الأذكار الواردة، ويردد الحاضرون وراءه تلك الأبيات التي حملت منذ كتابتها تلك السمات المهيبة والمحافظة؛ إذ جاءت على يد البوصيري طلبًا للشفاعة في مرضه.

يأتي المديح بعد الذكر في صعيد مصر، آخذًا الصورة الصوفية المنطلقة في الذكر والتجلي، وإن كان المادحون ليسوا من أهل الصوفية دائمًا. يعود الخلط بسبب تلك الحالة الوجدانية التي تشكل حلقات المدح بشكل ما، ويعود أيضًا إلى تطور النظم الشعري نفسه، إذ تخلى المديح الصوفي عن الصورة الجاهلية في المديح القديم عند كعب بن زهير وحسان بن ثابت شاعر الرسول، التي حفلت بالمغالاة في وصف أيام ما قبل الإسلام كـ الخمر والنساء.

دخل الصعيد المذهب الصوفي على يد الإمام عبد الرحيم القنائي (القناوي) في قنا بصعيد مصر، وكان شيخ المحافظة حينها وأكثر علماء المسلمين الصوفية تأثيرًا وتأصيلًا في أهل الصعيد. للمفارقة التاريخية ينتهي نسب عبد الرحيم القناوي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ثالث الأئمة عند الشيعة ورمزهم الأكبر، إلا أنه بعد انهيار الدولة الفاطمية الشيعية، عُين عبد الرحيم القنائي من قبل الدولة الأيوبية لإرساء قواعد الدين الإسلامي على المذهب السني المحمدي، لذا أصبح أهم رموزها وأحد أولياء الله الصالحين بين أهل الصعيد.

كان كما يروي جلال الدين السيوطي في كتابه حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة “واجبه الإسلامي يدعوه إلى الإقامة في قوص أو قنا ليرفع راية الإسلام وليعلم المسلمين أصول دينهم وليجعل منهم دعاة للحق وجنودًا لدين الله.” ذلك ما فسر تمسك أهل الصعيد بالطرق الصوفية أكثر من سائر أقاليم مصر، وذلك مع ما خلفته الدولة الفاطمية من إرث شيعي؛ وإن لم تشهد مصر تاريخًا طويلًا من المذهب الشيعي، إلا إن مراسم النواح على مقتل الحسين ملأت القاهرة في قرون قريبة كما تخللت خطب يوم الجمعة وظل لها أثر شعبي في الاحتفال بيوم عاشوراء.

مع تلك الخلفية التاريخية أخذ مديح النبي وآل البيت من التراث الموسيقي الصعيدي الفرعوني ذاك النمط الموسيقي أيضًا، والتف به ليظهر بصورة مغايرة لكل طرق الإنشاد في الوطن العربي وكل مريدي الصوفية حول العالم. ذلك ما ذهب إليه أيضًا آلان فيبر الباحث في الموسيقى الإثنية والمقيم مع آل متقال من أشهر مداحي الصعيد.

أُخذ الأرغول المصري القديم بنفس مقاماته الخماسية يعزز الحس الصوفي في الإنشاد، ويقال إنه تطور إلى الناي الصوفي الذي بدأ الاشتغال به مع مرور الزمن منذ نشأة مدرسة عبد الرحيم القنائي إلى الحكم العثماني، حيث دخل اللون الكامل من الحضرة العثمانية آنذاك. يمكن الشعور بذلك الحس المصري الأصولي في المديح والتقارب مع النغم الكنسي أكثر من ذاك العثماني مثلًا.

اندمج الطابع الجنائزي لأهل الصعيد مع البقايا الشيعية وشكّلا الصيغة الصعيدية الدرامية للمديح، فمع ابتعاد قرى جنوب الصعيد عن الحراك الثقافي في القاهرة تظل بعض العادات على أصلها، بينما تتوازن مع الطابع الجاد للمذهب السني، دون الوصول للون العثماني المثالي أو المغالاة الكربلائية، إنما منطقة رمادية مليئة بالآلام ومواجهة الحياة في آن، بشكل أقرب للتماهي وحالات السُكر.

كان الذِكر أو المديح في البداية يأخذ شكلًا جماعيًا وعادةً لا تصاحبه آلات موسيقية، لكنه تجاوز هذا النمط البسيط المشابه للتسبيح الجاري على اللسان وأخذ مقام العبادة عندهم، حيث ينزه الذاكر الله عن الصفات المحدثات، وينفي عنه كل عيب ونقص، كما يتأمل في نفسه وما اقترفه من ذنوب وآثام، وفي الحمد والثناء يتذكر الذاكر ما أنعم الله به عليه من النعم، ويطهر ذنوبه.

بنتيجة هذه الإرث والحالة الصعيدية الخاصة يصبح الرتم الإيقاعي الموحد والرتيب وكذلك حركات الإمالة ذات ضرورة وجدانية، فهي تصاحب حركة نفسية من الحمد والثناء على الله ونبيه من جانب، كما تواجه نفس صاحبها بما مالت إليه من شرور، لذا نجد الايقاع دائمًا بين التروي وما شابه إيقاع المعارك الجارية، ما يجعله عملًا تراجيديًا مطهرًا مشبعًا للخيال الصعيدي، ومتوجًا بموسيقاه التراثية التي تحاكيه، والذي ما زال يمتد في شوارع القاهرة ومع أشهر المداحين في الصعيد.

ملامح الموت في السير والمديح الأصولي

كانت سيرة الشيخ أحمد برين كثيرًا ما تتردد من محمد في ليالي الكشك تلك، لكن قليلًا ما أسمع صوته من مكبر الصوت. كان دائمًا ما يستبدله بأصوات أكثر أُنسًا كـ التهامي وغيره، لكن حين يحضر يخطف آذان الموجودين بتلك الحالة الرثائية والبعد الخفي للصوت الشجي، الذي يذكرنا بالعازفين المترجلين في شوارع القاهرة نهارًا.

كما قادنا شعورنا، كان القوام الأساسي لغناء الشيخ برين يعود إلى طائفة خاصة من ممارسي الموسيقى الدينيّة، هي طائفة الصييتة أو مداحي الطار، الذين يعتمدون على الموروث الشفهي في المدح والرثاء، سواء كان دينيًا أو دنيويًا، ويخلطون بينهما في كثير من الأحيان؛ وهم من يجوبون شوارع القاهرة بهذا الإرث حتى الآن.

لم يتجاوز برين هذا النمط الأصولي كثيرًا، انطلاقًا من البردة للبوصيري إلى أسلوبه الإنشادي لمداحي الطار، وإن فتح سبل التطور بشكل آخر. عكس أحمد برين بمرآة نقية ذلك المزيج الفريد للصعيد، هو الذي سلب الصعيد سره ورثى كل شيء، بصوت مليء بروح الموت. لعل ذلك يعود إلى تسلّيه على إيقاعات جرة الماء في طريقة للكُتّاب بعدما أصابه العمى في الصغر، والتي تنذر بالشؤم في طابعها الصوتي.

الأهم لنا هو خروجه على جمهور أوسع؛ فذلك قد أعطى دلالة أكثر تأصيلًا عن روح الصعيد ونظرته إلى الموت، ما مكننا من رؤيتها برؤية نقدية أوسع. إذ يُعتبر برين أحد أبرز الظواهر الفنية في تاريخ الإنشاد الديني والصوفي في مصر، وقد استطاع أن يخلق لنفسه مكانة فريدة من خلال أسلوبه المميز في الأداء الذي يعتمد بشكل كبير على الارتجال، والذي يمكن وضعه كنموذج يمثل حالة المديح كلها لاعتمادهم على نفس التقنيات تقريبًا.

كان هذا الارتجال تعبيرًا عن تفاعل اجتماعي عميق مع جمهوره، ما جعل أداءه مؤثرًا ومميزًا، وهي سمات يمكن قياسها بسهولة على مفاهيم تحليلية حول الارتجال والتفاعل الاجتماعي كما عند ألفريد شوتز، عالم الاجتماع النمساوي. وفقًا لنظرية شوتز، العالم الحيوي هو الإطار الذي يحدث فيه التفاعل الاجتماعي، وهو مليء بالمعاني والممارسات التي يعتبرها الأفراد بديهية.

بالنسبة لـ برين، كان العالم الحيوي هو المساحة التي يلتقي فيها مع جمهوره خاصةً بالحاسة التي انعم عليه الله بثقلها بعد فقدان بصره، والتي تفسر بشكل ما طابعة الحزين أو مشاعر الذاتية الأقرب للتوحد مع الصوت. توج الارتجال موسيقاه، كون الارتجال يعد مساحة تعمل على الفهم المشترك، كما يسمح أيضًا بالمرونة والإبداع عاكسًا حالته الآنية مع كل مرة يخرج بها للجمهور. يتطلب هذا التفاعل قدرة على “وضع النفس في مكان الآخر” (أي التفكير من منظور الآخر)، وهو ما كان يفعله برين ببراعة. 

وفقًا لـ شوتز، يتضمن التفاعل الاجتماعي تنسيقًا زمنيًا بين الأفراد، حيث يجب أن تكون أفعالهم متزامنة ومتناسقة، و برين وسائر رواة الصعيد يستخدمون الزمنية بشكل فعال في أدائهم، حيث يعيش في الآن لكنه أيضًا يتذكر الماضي ويتوقع المستقبل، ما جعل أداءه أكثر تأثيرًا.

كان يستخدم قصص الأنبياء والحكايات الدينية كوسيلة للتواصل معهم، وكان يصيغ هذه القصص من منظور إنساني و رثائي، ما أنار ميل المستمعين لها، فـ عكس هذا النهج فهمًا عميقًا للعالم الحيوي لجمهوره، حيث استطاع أن يخلق مساحة تأويلية جديدة تفتقر إليها الموسيقى الدينية والشعبية آنذاك والجمهور ايضًا. 

كان يزداد هذا الطابع التشاؤمي المميز مع استخدام الإيقاعات البسيطة على الدف والنقرزاد، وكذلك صوته لخلق جو روحاني مؤثر. أعطى هذا التجاوز الموسيقي المعتمد على الأدوات البسيطة والصوت القوي لأداء برين طابعًا عفويًا وشعبيًا، جعله قريبًا من الجمهور البسيط، وحسهم الخفي بالتشاؤم.

يمكن قراءة استخدام أساليب الرواة والمادحين لتوصيل رسالته الروحية والعاطفية وطابعة الرثائي أيضًا في إنشاده قصة يوسف وزليخة أو الخليل إبراهيم. كان الارتكاز على الجوانب العاطفية للحكاية وجعلها أكثر مأساوية عاذرًا الفتيات في حبهم لجمال يوسف، عكس الميل المعتاد لذم أخلاقهم، خالقًا بذلك جوًّا جديدًا من الطرب والسُكر الصوفي، معززًا هذا بالانتقال بين المقامات الموسيقية بسلاسة، مع التقلبات العاطفية في القصة، وتعزيزها بـ آهات طويلة لتوصيل المشاعر والأحاسيس، وكل ذلك تناوبًا مع البطانة أو الكورال الذي يتناوب معه على كل جملة موسيقية، خالقًا مساحة ضيقة ومشبعة بين كل قرارٍ وجوابٍ في الجملة.

أيضًا، كان هناك مسار آخر يعزز هذا الحس بالموت عند برين، فبجانب تعلمه الإنشاد الديني، نشأ برين في منطقة بين شمال أسوان وجنوب قنا المشهورة بفن الواو، والذي يعتبر فن العجائز لما يستند عليه من تفسير إشكالات الحياة وتكثيف الحكمة في أربع شطرات، فمرر برين شعوره بالشؤم والحالة الرثائية المحددة سلفًا بنظم المديح وشعر الواو.

ليه يا حمام بتنوح ليه / فكرت عليا الحبايب / أنا قلبي مكوي ومجروح على فراق الحبايب / هجروني مع المجاريح في هواهم قلبى دايب / سجنونى وأخدوا المفاتيح / قالوا سجانك غايب / رقوا انظروا حالي / جسمي صبح بالي / على فراق الحبايب.”

تكاملت حالة الشيخ أحمد برين الصوفية مع نشأته متجاوزًا الطابع التشاؤمي، ليصل لأعلى المراتب الوجدانية بتمنيه الموت في رحاب أحبائه من أولياء الله وآل البيت والله ونبيه؛ فيأخذ قصيدة أبن الفارض نسخت بحبي آية العشق من قبلي، محوّرًا بعض أبياتها ومشددًا على قيمه الموت فيها في حبه لهم ومتغنيًا بالسكر في معرفته بهم وقربه لهم. كما يحذر المحبين من جهة أخرى إن هجروا محبة الله بأن يلحقهم الموت ككارثة، وينهي مقطوعته بتمني الموت بين أولياء الله موصٍّ بتغسيل جثمانه بدموع اشتياقه لهم خلال حياته.

من خلال إدخال الحس الإنساني في الموسيقى الدينية، أخرج برين من بطانته مسارين جديدين؛ وذلك من خلال رحلة ارتجالية قصيرة بينه وبين محمد العجوز في فرش وغطا. رغم أن تلك المشاركة لم تستمر كثيرًا، لميل العجوز للموسيقى الشعبية الدنيوية التي لا يميل لها برين، إلا أنها أفاضت من هذا الحس المتشائم أيضًا على العمل المشترك ومسيرة العجوز الفردية.

كانت إضافة محمد العجوز لما أسسه برين امتدادًا لفن الواو، لكنه تجاوز ذاك الحس الصوفي عند برين ليؤسس مدرسته الخاصة في القوال، وفتح طريقًا جديدًا أمام المنشدين الجدد لاستخراج التراث الصعيدي المليء بالتداخلات الثقافية. تخطى العجوز منجاة برين لله، وأحدث نقلة نوعية في الزخرفة الموسيقية والمواضيع المختارة ليخرج من عباءة الإنشاد الى المواويل الصريحة؛ وإن أبقى على ذاك السر الصعيدي في الرثاء والتشاؤم، لكن بصورة أكثر طربية، فقد شبع الموال والغناء الشعبي بتلك التراجيديا الصعيدية في معالجة الأمور حتى العاطفية منها.

“آه آه سبب عيايا وسلسال المرض إنتي قالوا نجيب البديل انا قلت لا

إنتي عملتلك قلبي جناين ومفاتيح الجناين إنتي حبك سباني وخلاني

على الدوام مطروح والجسم مني انسلى أطبا تيجي وأطبا تروح

والفكر مشغول والقلب كله جروح وفي طلعة الروح هيفيد بإيه دواكي.”

العديد | هجاء الموت 

لم يكن غريبًا مع إرث كهذا أن يكون العديد أهم فنون الصعيد. فن يعدد صفات ومآثر الشخص في حياته. إذ بعد المواربة والرثاء وتقديس سيرة الموت، يقف الصعيد أمام الموت بحس إنساني كحقيقة، يغني أمامه نازعًا عنه هالته الصوفية ليصبح حاضرًا كعدو، ويُلعن دون خجل “يا موت يا عرص يا معرّص خدت المليح.”

يعد العديد فنًا شفاهيًا تختص به النساء حصرًا، توارثته دون تدوين، فهو يعتبر كل مشاعر اللحظة مقفاه، في بيتين أو “أربعة أغصان كل غصنين منهما بحرف روي متشابه، تبدأ النائحة بالغصن الأول وتكاد تصل إلى منتصفه حتى يكملن النساء وراءها باقي الأغصان بمصاحبتها.” وذلك بحسب ورقة الدكتور سعيد جريو البحثية عن العدودة، والذي يكمل ليوضح أن العديد يمر عادةً بأربع مراحل:

تبدأ المرأة رثاء ذاتها “قالوا حزينة / أنا قلت من يومي / قسموا النوايب / طلع الكبير كومي” ثم إلقاء أبيات شعر رثائي: “صبرك عليّ / لما أقول قولي / ميلتك رقبتك / حرمتني من نومي”، ثم تنخرط في حديثً مع نفسها (المونولوج): “خلفت الطريق ومشيت بالعاني خلف الطريق الوعد لقاني خلفت الطريق ومشيت على مهلي خلف الطريق الوعد نده لي.”

بعد ذلك تذهب المرأة إلى الديالوج فتجري حوارًا مع النساء من حولها: “وعملت إيه ساعتين طلوع روحي؟” ليجيبوا: “بقيت أسف الحمضلة بلوحي.” كما برزت أخرى للأقباط “مات الحبيب وفي يده إنجيله / شاف المسيح ساند ومديله” حتى تناجي الأم دود الارض “يا دود حلفتك بداوود / لا تأكل أبو عيون سود.”

كذلك يُصنَّف طقس العديدة أو العدودات في الموروث المصري وفقًا للمراحل المختلفة لمراسم الجنازة، حيث ينقسم إلى عدة أنواع: عديد الغسل، عديد الكفن، عديد القبر، وعديد النصبة (المناحة) ويُعتبر الأكثر انتشارًا؛ وفيه تجتمع النساء في بيت المتوفى لترديد المراثي، مع اختلاف أشعاره تبعًا لجنس الميت وعمره ووضعيته الاجتماعية وسبب الوفاة.

أما طقس الندب، فهو تعبير عن الحزن عبر أفعال رمزية كلطم الخدود وتمزيق الثياب ووضع التراب على الرأس، وقد يتطور إلى غناء جماعي يرافق هذه الممارسات، خاصة في حالات وفاة الشخصيات البارزة، حيث يمتد لعدة أيام بعد الدفن، ويتحول إلى موكب حزين يجوب أحياء القرية مع رقصة الحجلة.

ساعدت ممارسة هذه الطقوس في تخفيف مشاعر القلق وتحسين الحالة النفسية لدى المرأة المفجوعة، لا سيما في مجتمعٍ كان يُقيِّد حقها في إظهار مشاعرها تجاه العديد من جوانب الحياة. كما لفت سعد جريو إلى أن العدودة، رغم كونها أغنية حزينة كغيرها من الأغاني المُهدِّئة، إلا أنها تمنح النساء إحساسًا جمعيًّا بالدعم والتضامن، ما يعزز قدرتهن على مواجهة الصدمات والتحديات الصعبة في الحياة. هذا بينما يجتاز الرجال تلك الصدمات بالحركات المتكررة في حلقات الذكر، عبر مشاركة الألم وتحويله إلى قوة مشتركة يغرق فيها الجميع للحظات. 

خاتمة

بقي الموت حقيقة مطلقة لم يلتفت عنها الصعيد لحظة واحدة، بتلك الحالة الجدلية مع المنشد والراوي إلى التطهير النفسي من خلال العديد، إلى إلقاء حمل حقيقة الموت من خلال صراخ منغم ومطعم بكلمات شعرية وتضامن من كل النساء للمواساة والتجاوز، ليكون فعل التطهر النفسي في أوج مراحله. ذلك ما ذهب إليه سعد جريو أيضًا من حيث المكون الثقافي للعديد في أبعاده الاجتماعية، حيث مثل شكلًا من أشكال العلاج النفسي للمرأة، خاصة في العصور التي انتشرت فيها بشكل واسع، حيث كانت تُعتبر مَتنفَّسًا للتعبير عن حالة الكبت التي عانت منها المرأة، سواء في الريف أو الحضر.

بهذا الإرث مد الصعيد من موسيقاه وشعره سُلّمًا، يتنقل عليه بين السماء والأرض يحمل عليه رفات الأجداد، ودماء الأحياء، وصلاة العاشقين لله ونبيه، خالقًا من الموت حضورًا لا ينتهي به، بل يتماهى مع كل دين وعرف جديد يخلد الموت ويخلد أرواحهم التي تؤخذ كقيمة تبادلية مع قيم الأرض.


مراجع

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة

المدائح النبوية في الأدب العربي، زكي مبارك 

الطرق الصوفية في مصر، عامر النجار 

التصوف، أبو العلا عفيفي

المزيـــد علــى معـــازف