.
في النصف الأوّل من القرن الماضي، مرّت الموسيقى بإحدى أكبر تطوّراتها بفضل ثورة تكنولوجيّة. ظهرت آلات مثل الثيريمين والتيلهارمونيوم والهاموند أورجن، وقدّمت أصواتًا إلكترونيّة غير تقليديّة مقارنةً بالآلات الكلاسيكية. عقب الحرب العالمية الثانية وبعد اختراع الشرائط، فتحت القفزة التكنولوجية في علم الحاسبات آفاقًا جديدة في التأليف وتوليد الأصوات والعروض الأدائية، ومهّدت الطريق لصعود موسيقى الحاسب (computer music) التي خلقت تحديًا في استكشاف أفكار جديدة ودفع الموسيقى إلى الأمام.
تعدّ الموسيقى الموّلدة ذاتيًا من أهم مناحي استخدام الكمبيوتر في هذا المجال، وهي موسيقى (إلكترونيّة على الأغلب) تؤلّف وتنتج من خلال منظومة (حوسبة)، وتتبِع مجموعة قواعد خوارزمية يدخلها الموسيقيون أو مصممو الصوت ويتلاعبون بها.
باتت أدوات الموسيقى المولدة ذاتيًا اليوم منتشرة بشكلٍ واسع في مشاهد الموسيقى الإلكترونية والبوب، مع حرص المصنعين والمطورين على تضمينها في برامج الصوت. نجدها في تطبيقات صناعة الموسيقى والبلاج إنز والسنثات، كما يسهل تطويرها في البرامج مفتوحة المصدر، ما يتيح مجالًا واسعًا من الاحتمالات تصدر عنه نتائج غير تقليدية أو متوقّعة. كلّما زادت القواعد والبيانات المدخلة في المنظومة، كلّما خرجت النتيجة عن التوقعات؛ وهكذا تنشأ حلقة من المدخلات والنتائج (feedback loop) بين الفنانين والمنظومات.
صكّ الموسيقي والفنان البصري براين إينو مصطلح الموسيقى ذاتيّة التوليد عام ١٩٩٦، وصار بعدها من أهم منتجي هذا النوع. على كلٍ، يعود تاريخ الموسيقى المولّدة بواسطة الحاسب إلى أوائل الخمسينات، ويعتمد بشكلٍ كبير على أعمال رائد الموسيقى التجريبيّة والخوارزميّة، جون كيج.
بدأ التجريب والتطوير في الموسيقى خلال بداية القرن العشرين على أيدي مجموعة من المؤلفين، بدأت بتوسعة آفاق الموسيقى الكلاسيكيّة وهزّ أساساتها. نجد أمثلةً على ذلك في أعمال إيجور سترافينسكي وبيلا بارتوك، التي تأثرت بالموسيقى الفلكلورية وأضافت إليها أفكارًا على مستوى ميزان الإيقاع والسلالم. طرح آخرون مثل لويجي روسولو ومن بعده إدجار فاريز استخدام أصوات الضوضاء والبيئة المحيطة، كما شاع استخدام أسلوب أرنولد شونبرج التسلسلي في التأليف لسنوات، والذي يتميز بطريقة الاثنتي عشرة نغمة.
إن كان هؤلاء المؤلفون قد تحدّوا الموسيقى الكلاسيكية بأفكارٍ جديدة، فقد جاء كيج ليحرّرها من هيمنة الإرث الأوروبي، إذ لطالما اتّبعت الموسيقى هيراركية مستحكمة في التأليف والأداء تعكس جمالياتٍ غربيّة خالصة. في تناول كيج لأحد أعماله، ميوزك ويذ تشينجز، استنكر شكل العلاقة بين المؤلف والمؤدي الذي يتبع القطعة المكتوبة، وشبّهها بخضوع الأفراد لتحكمات دكتاتور، ما “يضفي على العمل منحًى مخيفًا أشبه بوحش فرانكنشتاين.” في موضعٍ آخر، شبّه كيج العلاقة بين المؤلف وقائد الأوركسترا والمؤدي بالعلاقة بين المهندس والمقاول والعامل.
انحرف كيج، الممارس لمذهب بوذيّة الزين، عن التراث الغربي. سعى إلى كسر علاقات الهيمنة عبر تهميش دور الإنسان وغرور المؤلف، ودعى الأخير إلى إعطاء المؤدِّين قدرًا كبيرًا من الحريّة في إخراج مقطوعاته، متجاوزًا دور قائد الأوركسترا. علاوة على ذلك، تحدّى كيج البنية الأساسيّة وتسلسلها ومنظور الزمن فيها، مجردًا الموسيقى من مفهوم البداية والنهاية. نتج عن هذا الأسلوب علاقة جديدة بين المؤدّين والجمهور ومكان العرض، ما عزّز دور عامل الصدفة والمنظومات المرتدة (feedback systems)، ولاحقًا برامج الكمبيوتر والبحث عن بيئات إنتاج جديدة. وضعت كل هذه المشاريع أساس علاقاتٍ اجتماعية مختلفة عن التراث الكلاسيكي وما ترتّب عليه.
يمكن تعريف هذا الأسلوب في خلق أعمالٍ غير مكتملة من خلال مصطلح العمل المفتوح لأومبرتو إيكو، حيث تتحول الموسيقى إلى عملية متفاعلة بدلًا من شيء جامد لا يتغيّر. يرى إيكو أنّ “ذلك يطرح العمل الفني مجردًا من الخواتيم اللازمة والمتوقعة، حيث تلعب حريّة المؤدّي دورها كانقطاع ضمن ظاهرة الانقطاعات التي تقرّها قوانين الفيزياء المعاصرة.”
يأخذنا العمل المفتوح إلى مبدأ انعدام التحديد، وهو حسب تعريف كيج “إمكانية أداء القطعة بطرق مختلفة اختلافًا جوهريًا”، بحيث يتغيّر صوت القطعة مع كلِّ أداءٍ جديد. في سبيل تطبيق هذا المفهوم قبل إتاحة الكمبيوتر، اعتمد كيج على خوارزميات بسيطة وعامل الصدفة، فكان يرمي زهر النرد أو يحتكم إلى عملة معدنية أو أوراق التاروت. حدّدت نتائج القرعة وحدها اختيار النوتات ومدّتها وديناميكيتها وإيقاعها، دون استبعادٍ أو تلاعب، لتتجاوز بذلك قرار المؤلّف.
نجد في مقطوعة كيج الصامتة الشهيرة ٣٣’٤، التي استلهمها من لوحة روبرت راوشنبرج البيضاء، تجسيدًا لهذه العشوائية، حيث يقف المؤدّي ساكنًا أمام الآلات على مدار ٤ دقائق و٣٣ ثانية تتخللها ثلاث حركات صامتة. تصدر أثناء العرض أصوات عشوائيّة من البيئة المحيطة، ويُعدّ الجمهور عنصر الصوت الرئيسي في المقطوعة.
بدأ كيج بتطبيق مفهوم انعدام التحديد في عمله إيماجنري لاندسكايب #٤، حيث أمدّ المؤدّين بمجموعة من الإرشادات للتحكم بمستوى صوت اثني عشر جهاز راديو، وضبط مدى ومدّة تشغيل محطاتها، على أن يلعب اثنان من المؤدّين على كل جهاز. كانت النتيجة تنويعة كبيرة من الأصوات والأنسجة، تختلف مع كل أداء للمقطوعة؛ فيما تتولى قرعة بعملة معدنيّة تحديد الإرشادات والبنى المتكررة.
لجأ كيج عند تأليف المقطوعة إلى جداول نظام تنبؤ الـ آي تشينج (بوك أوف تشينجز)، والتابع لبوذية الزين. تكوّنت المنظومة المعدلة التي استخدمها من ٦٤ شكلًا سداسيًا، مقسمين على ثماني خانات طوليّة وثمانٍ عرضية. تنوعت الجداول ما بين خصائص الصوت ومدة التشغيل وديناميكيات اللعب، أما الحركة عبر الجداول فكانت تحكمها حالات الحركة والسكون. وضّح كيج في مقابلة مع إينو أنّ الأجوبة على أسئلته من خلال خوارزمية آي تشينج كانت نابعة من الصدفة، ما فتح أمامه احتمالات لم تخطر له من قبل.
مع ذلك، كان كيج يرى أن هذه الأعمال وأعماله الأخرى من الخمسينات لم تكن متحرِّرةً بالقدرِ الكافي من التحديد، إذ كانت مقطوعاتٍ ثابتة ومحددة من حيث إخراجها الأدائي. ليوضّح قصده بذلك، أعطى بعض الأمثلة على أعمال ينعدم فيها التحديد تمامًا؛ مثل فور سيستمز لإيرل براون، حيث تأخد النوت المكتوبة أشكالًا مستطيلة مختلفة الحجم: يشير الوضع الرأسي للمستطيل إلى الزمن النسبي، ويشير عرض المستطيل إما إلى المدّة أو المدى. يمكن أن يؤدي هذه المقطوعة أي عدد من المؤدّين، كما يمكن إخراجها بترتيبٍ ومسافاتٍ زمنية غير محددة. نجد مثالًا آخر على ذلك في مقطوعة ديو فور تو بيانيستس من تأليف كريستيان فولف. بمجرد أن يبدأ أحد عازفي البيانو بأداء المقطوعة، يترقّب عازفٌ آخر صوتًا أو حالة سكون بعينها كإشارة، ليبدأ الجواب بحركة يختارها ضمن إطارٍ زمني ومجموعة من الاحتمالات.
ساهمت إتاحة الكمبيوتر على مستوًى جماهيري في انتشار مفهوم انعدام التحدد بين المؤلّفين بشكلٍ واسع. كانت إيلياك سترينج كوارتيت للمؤلفين ليجارن هيلر وليونارد آيزاكسن واحدة من أولى المقطوعات المولدة باستخدام الكمبيوتر (غير محددة من حيث التأليف فقط، وليس الأداء)، والتي اتبعت نظام برمجة كمبيوتر إيلياك الخاص بهما.
عمل المؤلفان على تصفيّة نتائج مولّد أرقام عشوائية، طبقًا لمجموعة من قواعد نظرية عامة لأسلوب موسيقي بعينه. عندما تولّدت الموسيقى عن الأرقام العشوائيّة، جرى تعديلها وفق مؤشّرات مختلفة وفق أسلوب مونت كارلو، ثم وقع اختيار البرنامج على أفضل النتائج طبقًا لمجموعة أخرى من القواعد.
تعتبر عملية التوليد / التعديل / الاختيار هذه النموذج الأساسي الذي جرى تبنيه لاحقًا في العديد من أنظمة التوليد. اعتمد المؤلّفان في إحدى تجاربهما على البرنامج على عمليات سلسلة ماركوف، حيث يعتمد تسلسل أي حدث جديد على سابقه، أو كما يشرح هيلر الموضوع بلغة الموسيقى: “يعتمد اختيار كل نوتة أو فاصل جديد في السطر اللحني على ما سبقه من نوتات أو فواصل في نفس السطر اللحني […] كتبنا برامج كمبيوتر بغرض توليد سلسلة من النماذج الصوتية لما نطلق عليه سلسلة ماركوف الموسيقية.”
بينما اعتمدت خوارزمية هيلر وآيزاكسن على تصفية بيانات عشوائية، لجأ يانيس زيناكس إلى تشكيل بيانات عشوائية بطرق لا تعتمد على نماذج مستخدمة من قبل، بل على خيال المؤلف أو رؤيته. في عمله بيثوبراكتا (١٩٥٦، ترجمته: أفعال بواسطة احتمالات)، استلهم زيناكس أفكاره من نظرية حركية الغازات لماكسويل وبولتسمان، حيث ركز اهتمامه على خلق أنسجة صوتية كثيفة ومعقدة من وحدات دقيقة يستحيل تبينها ضمن الأنسجة الصوتية الكلية. تتكون هذه الخامات بالأساس من ٤٦ آلة وترية وآلتي ترومبون وسيلوفون وكتلة خشبية.
طبّق زيناكيس هذا النموذج في برنامج الموسيقى العشوائية (Stochastic Music Programme) واستخدم فيه دالات عشوائية لتنظيم خاماته الكثيفة. علاوةً على هذا البرنامج، كان زيناكيس أول من بحث في مجال التخليق العشوائي (Stochastic Synthesis) أواخر الستينات، والذي يعتمد على تخليق أصوات دقيقة باستخدام توزيع الاحتمالات للتلاعب بنماذج صوتية رقمية دقيقة. كما كان أوّل من استخدم الأصوات المخلقة رقميًا في فرنسا، وهذا في مقطوعته ذات الست دقائق، بوليتوب دو كلوني.
أواخر الستينات، وبالاشتراك مع ليجارين هيلّر، أنتج كيج أول مقطوعة غير محددة بواسطة جهاز كمبيوتر، بعنوان هبسكرد. بلغ طول المقطوعة نحو عشرين دقيقة وكان يمكن لعبها لمدّة أطول. تكوّنت من أصواتٍ مولّدة عبر الكمبيوتر على واحدٍ وخمسين شريطًا ونوتة، ولَدها الكمبيوتر لسبع آلات هاربسيكورد تُعزف جميعها بتزامن. تنبأ كيج بتوليد أصوات غير تقليدية بواسطة الكمبيوتر عام ١٩٣٧، عندما كتب نصه الشهير مستقبل الموسيقى: مذهب، وقال معبرًا عن اختزال الآلات الإلكترونية لمحاكاة أصوات الآلات الكلاسيكية وطرق عزفها: “ستتيح الوظائف الخاصة بالآلات الإلكترونية التحكم الكامل في بنيات النغمات التوافقية (على العكس من الضوضاء) وإتاحة هذه النغمات في أي تردّد أو مدى أو مدّة.”
طوّر ماكس ماثيوز في معامل بيل تيليفون محوّلًا رقميًا / قياسيًا لتسجيل الأصوات على الشرائط، وكان أوّل من اخترع نظام تحويل التمثيل الحسابي للمتغيّرات الموسيقيّة. قام كل من هيلّر وماثيوز بحلّ عملياتٍ حسابية لموجات ساين وسوتوث وغيرها، ثم خزّنا نقاط المنحنيات المتتابعة على هيئة أرقام منفصلة على كمبيوتر إيلياك ٢، الذي يستخدم تيّارًا كهربائيًا متقلّبًا لمعالجة الأرقام وفق عدّة حسابات. استخدم هيلّر لغة التجميع، سكاتر (SCATRE)، لينتج طيفًا عريضًا من الأصوات، بما في ذلك النغمات الدقيقة.
إلى جانب الشرائط، ضم العمل سبع تخريجات (interpretations) لسبع قطع من تأليف موتسارت وبيتهوفن وشومان وجوتشالك وبوسوني وشونبرج. إمعانًا في غياب التحديد، تُرِكَ للمؤدّين اختيار قطعة البداية، وعند الانتهاء منها كان يمكنهم البدء بجزء آخر أو تكرار جزء سابق، وهكذا تزيد احتمالية أن يلعب عازفون مختلفون نفس القطعة في الوقت ذاته، ما ينتج عنه ظاهرة آسرة للحواس. افتتح العرض عام ١٩٦٩ في جامعة إلينوي، حيث عرضت ٦٤٠٠ صورة على شرائح بواسطة مجموعة من أجهزة العرض، وفّرت وكالة ناسا العديد منها، وعرض كذلك ٤٠ فيلمًا على شاشات مستطيلة وأخرى دائرية بعرض ٣٤٠ قدمًا.
بالنظر إلى الاختلافات بين منهجيّة هيلر / آيزاكسن ومنهجيّة زيناكيس، نتبين نموذجين من الموسيقى المولدة ذاتيًا: العشوائي والمشروط. يولّد الأوّل نتائجًا أكثر عشوائية ويترك مجالًا كبيرًا للصدفة، أمّا الثاني فتعتمد كل نتيجة فيه على ما سبقها، وتتبع مجموعة من القواعد يمكن إعادة تصميمها، أو تتبع بيانات مجموعة منها إلى تقنيات تأليف موجودة مسبقًا. لذا، ووفقًا لتعريف كيج لانعدام التحديد، نجد أن نموذج زيناكيس في التوليد غير محدد كليًّا بينما نموذج هيلر غير محدد جزئيًا فقط.
“لنا أن نتصوّر منظومة أو مجموعة من القواعد تنطلق لتصنع لك الموسيقى بمجرد دفعها للبدء … والرائع في ذلك أنّها تبدأ في صنع موسيقى لم تسمع بها من قبل.” – إينو.
كان لمدرسة الموسيقى التقليلية التي ظهرت في الستينات تأثيرٌ كبيرٌ على إينو، خصوصًا أعمال ستيف رايش. تختلف المواد الأولية التي يستخدمها إينو كأساسٍ لأعماله عن المدرسة التقليلية، إلا أن موسيقى إينو، على العكس من كيج، تعتمد على ترشيد الأصوات المستخدمة وعنصر التكرار، لينتج عن ذلك قطع أكثر تنظيمًا، لا تخضع بالكامل لعامل الصدفة. لا يتعارض ذلك مع تأثّر إينو بالتوجّهات المعاصرة التي قادها كيج. قال إينو لكيج في مقابلة معه عام ١٩٨٥ إنه “أكثر المفكرين المؤثرين […] ومن الساعين إلى التحرر التام.”
عمل إينو على تطوير الموسيقى المحيطة كجنرا مستقلّة، أنتج في إطارها أعماله في الموسيقى المولدة ذاتيًا. يقوم هذا الجنرا على طرح الموسيقى كجزء من بيئتنا، ويعتمد على تطوير أنسجة الصوت كعامل محوري في التأليف، وعلى خلق مساحات صوتية افتراضية من خلال تقنيّات الاستوديو. لذا يلعب تقدّم تكنولوجيا الأصوات دورًا كبيرًا في تطور هذه الجنرا تحديدًا. كتب إينو في حواشي ألبوم ميوزيك فور إيربورتس موضّحًا: “تعرّف البيئة المحيطة بأنها الجو العام، أو التأثير المحيط […] تسعى الموسيقى المحيطة إلى خلق حالة من الهدوء ومساحة للتفكير […] وينبغي للموسيقى المحيطة أن تستوعب عدّة مستويات من الانتباه أثناء الاستماع دون أن تفرض مستوًى واحدًا بعينه؛ عليها أن تكون قابلة للتجاهل ومثيرة للاهتمام على حد سواء.”
تحدّت موسيقى إينو المولّدة نظيرتها الكلاسيكية من نواحٍ عدة، فالكلاسيكية جامدة وعالية التحديد، تسعى إلى إعادة نفسها مع كل أداء، وتتبع هيراركية صارمة؛ أما المولدة فتخرج عن السيطرة والتحديد بدرجات متفاوتة (حسب الشروط المدخلة)، غير متوقعة وغير مكتملة في مسارها اللانهائي، وإذا تكررت اختلفت. علاوةً على ذلك، هي موسيقى تُهمش سيطرة المؤلّف (إينو) إلى حدٍّ ما، وإن كان يظل وسيطًا في عدة مراحل، من تصميم البرنامج إلى تعديل متغيرات الصوت أثناء عملية التوليد. يصنِّف إينو هذا الأسلوب كبديلٍ هجين يجمع ما بين الموسيقى الحية والمسجلة، يقول: “هي دائمة التغير مثل الموسيقى الحية، ومتحررة من قيود الزمان والمكان مثل الموسيقى المسجلة.”
في مقاله توليد وتنظيم التنويع في الفن، اقتبس إينو مصطلح التنويع من عالِم التحكّم الآلي ويليام روس آشبي، واستخدمه في تعريف منظومة التوليد العضوي التي صممها. يعرِّف آشبي التنويع في المنظومة بأنّه “النطاق الكلي لمخرجاتها والنطاق الكلي لسلوكها.”
مثلها مثل الطبيعة، تسير المنظومات العضوية وفق الاحتمالات وتتسم بالمرونة من حيث توليد مخرجاتها، لكن البيئة لها دور أيضًا في استبعاد مخرج بعينه أو السماح لآخر بالاستمرار. يقول إينو: “قد ثبت أن أي كائن سيولِّد (بطبيعته المادية) تنويعًا بالضرورة (من أجل البقاء)، لكن الأكيد أيضًا أن هذا التنويع يكون محدودًا بشكلٍ ما.” لو طبّقنا ذلك على مستوًى أوّلي، من حيث اختيار طبقة الصوت مثلًا، سنجد أنه عندما نختار سلمًا معينًا في المنظومة فإننا نستبعد النوتات الخارجة عن نطاقه، وينطبق الأمر ذاته على سائر المتغيرات، مثل المدى والمدّة والديناميكيات.
يسعى إينو إذًا إلى تحديد نطاق المخرجات، ويميل إلى تحديد مجموعة من الأهداف بدلًا من سلوك بلا هدف. لتحقيق ذلك، استعان إينو بنموذج الاستكشاف لعالِم التحكّم الآلي ستافورد بير، وهو “مجموعة من الإرشادات للبحث عن هدف غير معلوم عن طريق الاستكشاف، تستمر في مسارها أو تعيد تقييمه وفق شروطٍ معلومة.”
شهدت الستينات توجهًا جديدًا في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة، وظهرت المدرسة التقليلية احتجاجًا على سريالية مدرسة فيينا لشونبرج ومفهوم كيج عن انعدام التحديد. لذا نجد أعمال فنانين مثل ستيف رايش وفيليب جلاس ولامونت يانج وتيري رايلي قائمة على تكرار أجزاء قصيرة، إضافةً إلى النغميّة والطنين (drone) واستخدام الطباق اللحني الذي يعود إلى عصر الباروك. ظهرت أيضًا درجات من الارتجال وانعدام التحديد في بداية هذا التوجه. مع صعود المدرسة التقليلية، صار إينو أقرب إلى أسلوب رايش وأكثر تأثرًا به من أسلوب كيج.
كشف إينو في عدة لقاءات بأن الفضل في اعتماده الأسلوب التقليلي في موسيقاه المولّدة يعود إلى مقطوعة ستيف رايش، إتس جونا راين. تتكون المقطوعة ذات الـ ١٧ دقيقة من مقطع متكرر لقسٍّ يصيح بعبارة “it’s gonna rain” مسجّل على شريطين متطابقين، يُلعب كل منهما بسرعة متفاوتة قليلًا. هكذا يبدأ الشريطان بدايةً موحّدة ويفترقان تدريجيًا لاختلاف السرعات، فينشأ في تلك الأثناء صوت معقّد من فكرة بسيطة.
تأثّر إينو بالتحوّل التدريجي في موسيقى رايش، وبدأ بتصميم أنظمة توليد قياسيّة تعتمد بالأساس على الشرائط. في مقطوعة ديسكريت ميوزك، برمج إينو خطّين لحنيين بأطوال متفاوتة على منظّم التعاقب بالسنث EMS Synthi AKS، ثم غذّى بيانات الخطين بموازن صوت بصري (graphic equalizer) لتغيير خامة الصوت من حينٍ إلى آخر. يسافر الصوت عبر غرفةٍ ترجع صداه، ليولد مسارًا آخرًا متأخِّرًا زمنيًا. تسجّل الموسيقى بعدها على شريطٍ متّصلٍ بمسجلٍ ثانٍ مضبوط على وضع التشغيل. ينتج عن ذلك صوت متأخر يشتغل على السماعات، يلتقطه مسجّل ثالث ويعيد توجيهه إلى المسجّل الثاني. تنسج هذه العملية حزمةً متشابكةً من الجمل اللحنيّة، يمكن أن يستمر توليدها ولعبها بلا نهاية.
تعد ميوزك فور إيربورتس (١٩٧٨) كذلك من الأعمال الشهيرة التي اتّبع فيها إينو تقنيّة التوليد القياسي، وقد تأثر فيها بمنطق جون كونواي في لعبة الـ cellular automaton، لايف، حيث طبّق فيها إينو عملية أكثر بساطة. في إحدى تراكات الألبوم، سجّل إينو صوته مع ثلاث مغنّيات يرددن ست نوتات على ستة شرائط متكررة. تتكرر النوتة الأولى كل ٢٣ ثانية ونصف، والثانية كل ٢٥ ثانية و٧/٨، وهكذا تلعب النوتات وتتكرر في دورات يصعب تزامنها، وتخلق مع تقدم الموسيقى تكويناتٍ متباينة؛ يقول إينو: “ببساطة، يستحيل أن تعيد نفس التكوين مرتين. هي موسيقى مجانية بشكل ما؛ وهكذا ينصب اهتمامنا على كيفية عمل المنظومة، والأهم من ذلك، ما تتغذى عليه.”
كان توليد الموسيقى عبر الكمبيوتر مستخدمًا بالفعل في نطاق التجريب والأوساط الأكاديمية والنخبويّة، إلى أن صمم بعض مطوري البرامج بيئة خاصة للتأليف على أجهزة الكمبيوتر المنزلية، ما دفع موسيقى الكمبيوتر إلى الانتشار بشكلٍ متسارع في أواخر الثمانينات. اخترع باري فيركو عام ١٩٨٥ لغة برمجة تتيح خواص الزمن الفعلي، اسمها سي ساوند. بعد ثلاثة أعوام كتب ميلر بوكيت برنامجًا لجدولة الزمن الفعلي، سمّاه ماكس تيمنًا بـ ماكس ماثيوز. بعد ذلك جاء التعاون بين ديفيد زيكاريلي وبوكيت في تطوير بيئة إم إس بي لتخليق الصوت والتأليف باستخدام الخوارزميات ومعالجة الإشارات الرقمية. صمم بوكيت بالتوازي نسخةً مفتوحة المصدر من ماكس / إم إس بي، أطلق عليها بيور داتا (Pd).
اعتمد إينو مصطلح الموسيقى المولدة في مشروعه الذي حمل نفس العنوان، جِنِريتيف ميوزك ١ (١٩٩٦)؛ ومنذ منتصف التسعينات، بدأت إصداراته في موسيقى الكمبيوتر بتحقيق نجاحٍ في السوق السائدة، وصارت سمةً أساسيّة في ألبوماته ومشاريعه متعددة الوسائط، ألهمت أعمال فنانين كثر منذ بداية الألفينات حتّى اليوم.
من وحي أعمال إينو في الموسيقى المحيطة، أقدمت شركة SSEYO على تصميم برنامج كوان (Koan) الذي يعمل على نظام ويندوز. يتصل البرنامج بكارت صوت يرسل الإرشادات التي تحدّد الأصوات والأنماط المطلوب إنتاجها. سمحت هذه المجموعة من الإرشادات لإينو بالتحكّم بـ ١٥٠ متغيّرًا صوتيًا؛ كالخامة والسلّم ونَظْم الإيقاع وسرعته والديناميكية والتناغم وتهديج الصوت (الفايبراتو) والنوتات. اعتمدت كل قواعد البرنامج على الاحتمالات، نقلًا عن فكرة إينو “بدلًا من إعطاء أمر بفعل شيء محدد (وهو ما يفعله منظم التعاقب الموسيقي)، يُعطى أمر باختيار فعل ضمن نطاق محدد من الاحتمالات […] يمكنك اختيار تأليف قطعة موسيقية محكمة إذا أردت، لكن غالبًا سيكون هذا الاستخدام الأقل جاذبية.”
تعاون إينو أيضًا مع مهندس الكمبيوتر داني هيليس، ضمن مشروع ذ كلوك (لونج ناو فاونديشن)، على تصميم ساعةٍ تسمح للزوار بمعايشة الوقت بشكلٍ مختلف، مشدّدًا على مبدأ لانهائية الزمن. اقتضت الفكرة الأصلية على أن “تدق [الساعة] مرة كل عام، وترن أجراسها مرة كل قرن، ويخرج منها طائر كلّ ألفية”، ثم استبدلوا ذلك بعشرة أجراس ترن متآلفةً بتتابعٍ خاص كل يوم، دون أن تتكرّر أي من التتابعات. كان تصميم احتمالات التتابعات بسيطًا: ثلاثة أجراس تحتمل ستّة تغيرات، خمسة أجراس تحتمل ١٢٠ تغيّرًا، وسبعة أجراس تحتمل ٧٢٠. يؤدي استخدام ١٠ أجراس بالتالي إلى ٣٬٦٢٨٬٨٠٠ تتابعٍ محتمل، “إذا دقيت واحدًا منها كل يوم لن تفرغ منها لمدة تقرب من ١٠ آلاف عام، وهو العمر المفترض للساعة.”
استخدم هيليس نصّ بيرل لتصميم برنامجٍ يخلق تنوّعات مختلفة في تتابعات الساعة. في العام ذاته، قرر إينو استخدام نفس البرنامج في ألبومه Bell Studies for the Clock of Long Now. في التراك الذي يحمل اسم الألبوم، يبرز إينو نقطةً زمنية تصل فيها الأجراس إلى منتصف عمرها المفترض، عندما تلعب تتابعات شهر كانون الثاني / يناير لعام ٧٠٠٣، وبذلك يمكن الاستماع إلى أي نقطة زمنية بشكلٍ منفصل، فيما يستغرق سماع كل التتابعات متواصلةً عامًا وتسعة أشهر.
عام ٢٠٠٦، تعاون إينو مع الموسيقي ومصمم البرامج بيتر تشيلفرز على برنامجٍ يعرض ٧٧ مليون تجميعة لأكثر من ٣٠٠ لوحة رسمها إينو بنفسه يدويًا أو رقميًا، عُرضت في معارض متعدّدة الوسائط بعنوان ٧٧ مليون لوحة. يتغير ترتيب اللوحات بأقل سرعة ممكنة وبشكلٍ عشوائي، ويمكن للتجميعات أن تتغيّر دون تكرار نفسها لعشرة آلاف عام حسب إينو. تكرّر عرض المعرض باستخدام تجهيزاتٍ مختلفة، من شاشة مسطّحة ضخمة إلى ٢٤ شاشة تعكس الصور على مجسمٍ هرمي. كما عاد إينو إلى استخدم برنامج لوجيك برو لإنتاج مقطوعة موسيقى محيطة مصاحبة للعرض، لا تكرّر نفسها.
تقدّم معارض إينو مثالًا على الموسيقى المولّدة ذاتيًا بلا نهاية، وهذا الهدف الأساسي من وراء موسيقاه نظريًا. يتجاوز إينو في المعارض مشكلة التسجيل، الذي يشكّل عائقًا أمام اللانهائيّة، فبمجرّد انتهاء التسجيل تنتهي فرص توليد تجارب جديدة ويبقى الوسيط ثابتًا عبر الزمن. رغم ذلك، تظّل المعارض تجربة محدودة زمنيًا؛ فبينما تتغير الموسيقى، تبقى مقيّدةً بمكان العرض.
تحرر إينو من القيود الزمنية والمكانية في عملٍ آخر مع تشيلفرز، حيث أراد إتاحة الموسيقى المولدة ذاتيًا للجمهور عبر برنامج توليدٍ ذاتي، مثل بلوم لآجهزة آيفون وسكايب لآجهزة آيباد. يوضّح إينو ما تمكّن من تحقيقه بفضل هذه البرامج: “اشتغلت على أعمال مشابهة لفترة، مثل ميوزك فور إيربورتس وديسكريت ميوزك، لكنها كانت بمثابة تسجيلات لسير هذه العملية. ما كنت أسعى إلى تحقيقه بالأساس هو أن أنجح في بيع العملية نفسها للأفراد، وليس النتيجة التي خرجت بها وحسب […] وفجأة صار من الممكن أن يتملك الأفراد العملية نفسها بدلًا من نتائج العملية.” صدر مشروع إينو الأخير، ريفلِكشين، في نسختين؛ نسخة موسيقى مولّدة ذاتيًا تعمل على نظام IOS ونسخة مسجّلة صدرت كألبوم تقليدي. يقول تشلفرز عن الأولى: “قد تتغير القواعد نفسها على مدار اليوم. يكون التناغم أكثر توهجًا في الصبح، ويتحول تدريجيًا عبر الظهيرة ليصل إلى النغمة الأصلية بحلول المساء؛ وفي الساعات الأولى من اليوم تدخل شروط جديدة تخفت بفعلها النوتات وتكبح سرعة كل شيء.”
مع بداية القرن الجديد، بدأت الموسيقى المولّدة تشهد تبنيًا شعبيًا واسعًا، خاصةً وسط المشاهد الإلكترونيّة. أصدرت شركات البرامج مثل آيبلتن ونايتف إنسترومنتس أدوات ملحقة (plugins) عديدة لتوليد الموسيقى ذاتيًا، فيما اعتمدت شركة إلكترون نظرية الاحتمالات في أجهزة التعاقب والتحكم في عشوائية المتغيرات؛ نجد ذلك في تصميماتهم المستوحاة من حزم الأصوات في ماكس / إم إس بي ورياكتور. بالتوازي، أصبح الفنانون أكثر قدرة على تطوير موسيقاهم المولّدة بشكلٍ فردي، بفضل عودة السنثات المعياريّة (modular synth).
في الألفينات أيضًا، بدأ العديد من فناني الصوت والموسيقيين باستخدام الجليتش الرقمي كمصدر صوت، كما ركز البعض على مصادر بدائية مثل موجات ساين والضجيج الأبيض (white noise). من بين هؤلاء الثنائي أوتكر، اللذان صمّما حزمًا صوتيّة على ماكس / إم إس بي، وكذلك ريوجي إيكيدا الذي اعتمد بشكلٍ أساسي على بيور داتا في أعماله المكوّنة من أصواتٍ إلكترونيّة أولية. كما سمح انتشار المنصّات مفتوحة المصدر للموسيقيين من حول العالم بتطوير مجتمعات على الإنترنت، مثل مجموعة ألجورايف التي تعتمد في أعمالها على البرمجة الحية باستخدام منصّات مثل سوبركولايدر وتايدلسايكلز وماكس / إم إس بي وسونيك باي وفلاكسس وسيريل وبيور داتا وغيرها.
تفتح الموسيقى المولدة ذاتيًا أبوابًا كانت مغلقة في وجه مفاهيم ثابتة في الموسيقى، إذ تفسح المجال للتفكير في التكوينات والصوت بشكلٍ مختلف، وتتحدى هياكل المنظومات وهرميّتها. يستعين إينو في مقابلاته بتشبيه البستاني ليصف عمله، ويشبّه الموسيقى المولدة ببذرة تنمو بتنويعاتٍ وأشكالٍ مختلفة. يدفعنا هذا التشبيه، وأعمال إينو على العموم، إلى إعادة النظر في العلاقة الثنائية بين الإنسان والصوت كشيء، وتخيلها كشبكة تتفاعل فيها أطراف نشطة، مفتوحة أمام احتمالاتٍ جديدة في عالم دائم التغير.