.
كتب النص الفيلسوف والمؤرخ الفني سيلاني الأصل أناندا كوماراسوامي. يُعزى إليه الكثير من الفضل في التعريف بالفنون التقليدية الهندية في الغرب وتجلية الكثير من أبعادها الرمزية ومعانيها الميتافيزيقية ويعد من أهم رموز المدرسة التقليدية Perennialist philosophy في الفلسفة. ترجم النص إلى العربية عبد الرحمن علي.
نشر هذا النص بعنوان الموسيقى الهندية في العدد الثاني من الفصلية الموسيقية، المجلد الثالث، نيسان، ١٩١٧.
يعود تاريخ الاعتناء بفن الموسيقى في الهند إلى ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة. فالإنشاد عنصر أساسي في الشعائر الفيدية أقدم فترات الهندوسية، كتبت فيها نصوص الـ vedas وهي أقدم نصوص الهندوسية وقد تكون أقدم أعمال الأدب السانسكريتي. تعتبر هذه الحقبة الطاعنة في القدم موطن جذور الهندوسية. موسيقياً يقولون إن أصل الموسيقى الهندية الكلاسيكية هو امتداد للترانيم الفيدية، وهي شكل قديم جداً من الإنشاد الديني لنصوص الفيدا.، والإشارات في الأدب الفيدي المتأخر والنصوص المقدسة البوذية والملاحم البراهمانية تظهر أنه قد بلغ بالفعل درجة عالية من التطور كفنًّ دنيوي في القرون السابقة لبداية الحقبة المسيحية. ولعله يصح القول بأنه قد بلغ ذروته في عهد إمبراطورية جوبتا الممتد من القرن الرابع إلى السادس للميلاد. كانت هذه هي الفترة الكلاسيكية للأدب السنسكريتي الذي بلغ أوجه في دراما كاليداسا، وهي نفس الفترة التي شهدت تأليف رسالة بهاراتا الضخمة في نظرية الموسيقى والدراما.
والموسيقى الهندية الفصيحة في زمننا المعاصر هي سليلة تلك المدارس القديمة، التي ظل كل جيل من طوائف الحرفيين الموسيقيين المتوارِثة يورث تقاليدها للجيل اللاحق، مع إسهامه بالتعليق عليها والإضافة إليها. وبينما قد تكون كلمات أغنية ما كتبت في أي زمن، فإن الجُمل الموسيقية التي تلقن مشافهةً من الشيخ للمريد هي في جوهرها ضاربة في القدم. تقدم لنا الهند هنا كما هو الحال في فنون أخرى وفي نمط الحياة مشهدًا بديعًا لوعي العالم القديم وهو لا يزال حيًا، بمدىً من التجربة العاطفية يندر أن يتاح لأولئك الذين تشغل بالهم مناشط الإنتاج الفائض عن الحاجة، ويوجلهم غياب الأمن الاقتصادي لنظام اجتماعي قائم على المنافسة.
لا توجد الموسيقى الهندية الفصيحة إلا تحت كنف الرعاية العنيّة في بيئتها الحميمة الخاصة، ينطبق عليها في ذلك ما ينطبق على كل ما هو كلاسيكي خالص في التقاليد الأوروبية. هي موسيقى الصالون للمجتمع الأرستقراطي، حيث يستبقي الراعي الثري الموسيقيين لمتعته الخاصة وإمتاع جلسائه؛ أو هي موسيقى المعبد، حيث يكون الموسيقي خادمًا للآلهة. لا تُعرف الحفلات العامة، ولا تعتمد لقمة عيش الفنان على قدرته ورغبته في تسلية الجمهور. بعبارة أخرى فالموسيقي محمي، لا يقع في هذه الظروف تحت أي إغراء لكي يصبح أي شيء غير كونه موسيقيًّا؛ يبدأ تعليمه في طفولته، ويبقى الفن مهنة حياته. لا تمنح حضارات آسيا الهاوي غير الكفؤ تلك الفرص المقدّرة كثيرًا في أوروبا وأمريكا للتعبير عن النفس. لا يتم تعليم الفنون مطلقًا كإنجاز اجتماعي؛ هناك من ناحية المحترف المتمكن من أحد الفنون التقليدية، ومن الناحية الأخرى العوام. ولا يكمن التثقف الموسيقي بالنسبة للعامة في أن “يمارسها الجميع” ولكن مكمنه التقدير والتبجيل.
لقد سمعت بالفعل الاعتراض الغريب القائل بأن على من يغني الموسيقى الهندية أن يكون فنانًا؛ ويبدو أن هذا الاعتراض إنما يعبر عن رفض ديمقراطي معتاد للتفاضل. ولكن يمكن أيضًا القول على نحو الصواب بأن المستمع إنما يستجيب لما يسمعه بفن خاص به، وهذا القول يتوافق تمامًا مع النظريات الجمالية الهندية. يجد الموسيقي في الهند جمهورًا نموذجيًّا: ناقد فنيًا، ولكنه بشكل ما غير مبالٍ بإنتاج الصوت. يستمع الجمهور الهندي إلى الأغنية عوضًا عن الاستماع لغناء الأغنية؛ وأولئك الذين لديهم الحس الموسيقي يكمّلون أداء الأغنية بقوة خيالهم وعاطفتهم الخاصة. تحت هذه الشروط تُسمَع الموسيقى نفسُها بشكل أفضل مما لو عومل الكمال الحسي للصوت كشرط لا غنى عنه؛ تمامًا كما أن أفضل النحت هو البدائي لا المصقول، وكما أننا نفضل الاقتناع الراسخ على المنظر الحسن – “مثل الفقر الظاهري للرب هامش من المؤلف: الإله ماهيسفارا، الذي يجول العالم متنسكًا معدمًا وعاريًا، حيث يتجلى مجده سافرًا”. ومع ذلك فإن لصوت المغني الهندي أحيانًا قدر عظيم من الجمال المتأصل، كما أنه يُستخدم أحيانًا بذكاء حساس ومهارة. غير أن الصوت لا يصنع المغني، كما يحدث غالبًا في أوروبا. لعلنا نشير هنا إلى تعليق الباحث والمؤرخ الفني الهندي كالامبور شيفارامامورتي على هذه الفقرة من كلام كوماراسوامي في كتابه The Painter in Ancient India إذ يقول: معرفة (كوماراسوامي) العميقة بالموسيقى الهندية والموسيقى الغربية مكنته من تناول المواضيع الموسيقية باقتدار عز نظيره. أولئك الذين استمعوا منذ بضعة عقود إلى الموسيقي الشهير فاراداتشاري Varadachary، الملقب بـ النمر، ورأوا مدى هيجان الجمهور على غنائه وهو يدمدم بصوته عوض أن يغني بحلاوة، سيدركون تمامًا فهم كوماراسوامي النادر للعقل الهندي.
بما أن الموسيقى الهندية ليست مدونة بالرغم من أن الهنود طوروا نظامًا خاصًّا للتدوين الموسيقي منذ مئات السنين إلا أن استخدامه ظل في نطاق ضيق لأغراض الحفظ والتوثيق والتعلم ولم يؤثر في شكل الممارسة الموسيقية المعتمدة بشكل كبير على الارتجال ولا يمكن تعلمها من الكتب باستثناء الجانب النظري، فإنه من الواضح أن الطريقة الوحيدة لكي يتعلمها الأجنبي هي أن ينشئ بين نفسه ومعلميه من الهنود تلك العلاقة الخاصة بين المريد وشيخه، التي تنتمي إلى نمط التعليم الهندي بكل مراحله. يجب عليه أن يلجّ إلى الروح الباطنة ويتطبع بالعديد من العادات الظاهرية للحياة الهندية، ويجب أن تستمر دراسته حتى يتمكن من ارتجال الأغاني وفقًا للشروط الهندية ويحوز استحسان السميعة المحترفين من الهنود. ويجب أيضًا ألا يكتفي بامتلاك خيال فنان بل يتجاوزه إلى امتلاك ذاكرة حادة وأذن حساسة للتغيرات الدقيقة في النغمات microtonal inflections.
حيثما طبقت نظرية السلالم الموسيقية فهي تعميم من حقائق الغناء. فقد اختُزل السلم الفني الأوروبي في اثنتي عشرة درجة مثبتة عن طريق دمج الأبعاد intervals التي تكاد تتطابق مثل المي بيمول والري دييز، كما سويت الأبعاد أيضًا لتسهيل الانتقال النغمي modulation وتغيير المفاتيح بحرية. بعبارة أخرى فإن البيانو غير مدوزن نظريًّا. فقط عن طريق هذا التنازل الذي استلزمه تطور التناغم harmony، أصبحت الإنجازات الباهرة للتوزيع الأوركسترالي الحديث ممكنة. ولكن مع ذلك فإنه من الممكن لفن موسيقي لحني صِرف ألا يقل ثراءً وعمقًا، مع احتفاظه بمزايا الدوزان الطبيعي pure intonation والتلوين المقامي.
قلما يوجد سلم ثابت تمامًا بعيدًا عن الآلات الموسيقية المعدلة لأوروبا الحديثة. أما في موسيقى الهند فإن الثابت هو مجموعة من الأبعاد، بينما تعتمد القيمة الدقيقة لتردد نغمة ما على موضعها ضمن تتابع معين، لا على علاقتها بنغمة قرار السلم tonic. فسلم الموسيقى الهندية ذو الاثنتين والعشرين نغمة هو ببساطة جمع لكل النغمات المستخدمة في جميع الألحان. ولا يوجد موسيقي يغني سلمًا كروماتيًّا كاملًا من الدو إلى الدو باثنين وعشرين موضعًا للوقف، لأن هذا لن يكون سوى مجرد استعراض عضلات.
أما ما يسمى بربع النغمة أو الشروتي Sruti فهو البعد النغمي الدقيق microtonal interval بين درجتين متتابعتين من السلم. ولكن بما أنه من النادر استخدام درجتين متتابعتين – وينعدم وجود ثلاثٍ متتابعات - في الجملة الموسيقية، فإن البعد النغمي الدقيق لا يبرز بشكل عام إلا في الزخرفة.
توصف كل أغنية هندية بأنها من راغا معين أو راغيني – والراغيني هي مؤنث الراغا، وتشير إلى صيغة موجزة أو محوّرة من نغم الراغا الرئيسي. يشابه الراغا المقام الإغريقي والكنسي القديم ما يسمى بالـ ecclesiastical modes وهي تشكل الأساس القديم الذي بنيت عليه الموسيقى الأوروبية. كما لا يختلف مفهوم الراغا كثيرًا عن ما نسميه المقام في الموسيقى العربية في كونه مكونًا من خمس أو ست أو سبع نغمات تشكل سلمًا قام الموسيقار الهندي الكبير م. بالاموراليكريشنا لاحقًا بابتكار راغات تستخدم سلالم مكونة من ثلاث أو أربع درجات فقط. ولكن الراغا أكثر تخصيصًا من ذلك، حيث أن لكل راغا مسارات نغمية مميزة ونغمة رئيسة يعود إليها المغني باستمرار. ولا يحتوي أي راغا على أكثر من سبع نغمات محققة وليس هناك انتقال بين الراغات. أما الطابع النغمي tonality الغريب للأغنية الهندية فهو ناتج عن استخدام أبعاد غير مألوفة، وليس عن استخدام الكثير من النغمات المتتابعة متقاربة المسافات.
لعل أفضل طريقة لتعريف الراغا هي تشبيهه بالقالب الذي يشكل اللحن، أو بمخطط للأغنية. هذا المخطط هو ما يعلمه الأستاذ لتلميذه أولًا، والغناء إنما يكون بالارتجال على الجملة الموسيقية بناء عليه. عدد الراغات الممكن تصورها كبير جدًّا، ولكن أغلب نظم التصنيف تردها إلى ستة وثلاثين منها ستة راغات لكل واحد منها خمس راغينيات. تتنوع أصول الراغات، فمنها ماهو مشتق من الغناء الشعبي المحلي، مثل راغا باهاري Raag Pahari؛ وأخرى، مثل راغا جوغ Raag Jog، مأخوذة من أغاني النساك المتجولين، وهناك أيضًا راغات من ابتكار موسيقيين عظماء أصبحت تعرف بأسمائهم. ورد ذكر أكثر من ستين راغا في المصطلحات السنسكريتية-التبتية للقرن السابع، بأسماء من قبيل ‘ذو صوت كسحابة رعد’، ‘شبيه الإله إندرا’، و‘بهجة الفؤاد’. أما أسماء الراغات المستخدمة حاليًا فنذكر منها ما معناه ‘الربيع’، ‘جمال المساء’، ‘حلاوة العسل’، ‘الأرجوحة’، و‘الانتشاء’.
عندما تتبادر كلمة راغا – وهي تعني التلوين أو الشغف - إلى الأذن الهندية فإنها تستدعي في الذهن معنى المزاج. ونعني بهذا أنه تمامًا كما هو الحال في اليونان قديمًا، فإن للمقام الموسيقي روحية محددة. ليس الغرض من الغناء تكرار تشويش الحياة، ولكن إثارة عواطف محددة في الطبيعة وفي جسد وروح المرء والتعبير عنها. يرتبط كل راغا بساعة من النهار أو الليل يكون من الملائم حينها غناؤه، وترتبط بعض الراغات بمواسم محددة أو تنسب إليها تأثيرات سحرية معينة. ولهذا ما زال العديد يصدقون القصة المعروفة التي تحكي أن موسيقيًّا أصر عليه ولي نعمته أن يسمعه أغنية على راغا ديباك التي تُنشئ النار. أطاع الموسيقي الأمر على مضض، وبينما هو مستغرق في الغناء إذ اشتعل جسده نارًا لم يقدر على إطفائها حتى بالقفز في مياه نهر جمنا أطول نهر في شمال الهند. نتيجةً لحضور عنصر السحر هذا، وارتباط الراغات بالطقوس المتكررة للحياة اليومية والموسمية، فإن الملامح الواضحة للراغات لا ينبغي تغبيشها بالانتقال النغمي modulation. ويعبَّر عن هذا، في تجسيد حي للراغات كما لو كانت ضربًا من الجان الموسيقي، بقولهم إن الخروج عن الراغا في الغناء يعني كسر أطراف تلك الملائكة الموسيقية. تروى في هذا السياق قصة معروفة عن النبي نارادا، وهي أنه عندما كان لا يزال متعلمًا، ظن أنه قد حاز فن الموسيقى من أطرافه، ولكن الإله فيشنو بحكمته البالغة أراد أن يكبح خيلاءه، فكشف له عن مبنى فسيح في عالم الآلهة فيه رجال ونساء مستلقون يبكون على أيديهم وأرجلهم؛ كان أولئك هم الراغات والراغينيات، وكانوا يقولون إن حكيمًا يدعى نارادا أساء في غنائهم لجهله بالموسيقى وضعف مهارته في الأداء. ولهذا فقد شوّهت ملامحهم وكسرت أطرافهم، ولن يكون لهم من شفاء إلا أن يغنَّوا كما ينبغي. عندها اتضع نارادا، وانحنى راكعًا أمام فيشنو يدعوه أن يعلمه فن الموسيقى على نحو أكمل؛ وعندما حان الميعاد أصبح الكاهن الموسيقي العظيم للآلهة.
الموسيقى الهندية فن لحني خالص، يخلو من أي مصاحبة هارمونية ما عدا طنين ثابت drone. أما في الفن الأوروبي الحديث فإن معنى كل نغمة من الجملة الموسيقية تبرزه أساسًا نغمات الكورد المزامن لها؛ وحتى في اللحن غير المصاحَب فإن الموسيقي يسمع تناغمًا ضمنيًّا. أما الأغنية الشعبية غير المصاحَبة فلا تشبع أذن مرتاد الحفلات الموسيقية، فهي بصفتها لحنًا خالصًا لا تصلح إلا للفلاح أو الباحث المختص. يعود سبب هذا جزئيًّا إلى أن اللحن الشعبي عندما يعزف على البيانو أو يكتب النوتة إنما يزوَّر فعليًّا؛ ولكن السبب الأهم هو أنه في ظل شروط الفن الأوروبي لم يعد للحن وجود مستقل وأضحت الموسيقى نتاج مقايضة بين الحرية اللحنية والضرورة الهارمونية. لكي يسمع المرء موسيقى الهند كما يسمعها الهنود فإنه يحتاج لاستعادة الحس بالتنغيم الصافي pure intonation وينسى أي تناغمات مضمنة. يشبه هذا تمامًا الجهد الذي نضطر لبذله عندما نحاول لأول مرة، بعد أن اعتدنا على الفن الحديث، قراءة لغة الرسم الإيطالي أو الصيني القديم، حيث يتم الإفصاح بإقلال مماثل عن كل تلك الكثافة في التجربة التي اعتدنا هذه الأيام على فهمها حصرًا عبر أسلوب أكثر تعقيدًا.
ومما يميز الغناء والعزف المنفرد الهندي التوسع في الزخرفة. فمن الطبيعي في أوروبا، حيث تُسمع العديد من النغمات متزامنةً، أن تبدو الزخرفة النغمية تفصيلًا زائدًا عن اللزوم يضاف إلى النغمة عوضًا عن كونها عاملًا إنشائيًّا. ولكن في الهند تشكل النغمة مع الحلية النغمية الدقيقة وحدة أكثر التحامًا، حيث تؤدي الزخرفة نفس الوظيفة المتمثلة في إضافة الضوء والظل، والتي تتحقق في الموسيقى المتناغمة المهرمنة باستخدام مستويات متعددة من السجع الموسيقي. بدون الزخرفة سيبدو الغناء الهندي للأذن الهندية أجردًا كحال الغناء الكلاسيكي الأوروبي مجردًا من المصاحبة الموسيقية التي يستلزمها.
تتميز الموسيقى الهندية أيضًا بالانزلاق portamento المستمر بين النغمات، حيث يمكننا القول بأن البعد الفاصل بين نغمتين هو ما يغنى أو يعزف أكثر من النغمة بحد ذاتها، وبذلك نلاحظ اتصالًا في الصوت. في المقابل نجد الغناء الأوروبي المقسم رأسيًّا لفائدة الهارمونية وطبيعة الآلات المصاحبة للصوت المغني ذات المفاتيح الثابتة؛ لذلك يبدو هذا الغناء للأذن الهندية التي لم تعتد سماعه ‘مليئًا بالثقوب’.
وتتبع كل أشكال الغناء، باستثناء ‘الألاب’ قالب هندي مرتجل مرسل منفرد يكون غناء أو عزفًا. وهو يشابه ما يعرف في الموسيقى العربية بالتقسيم عزفًا والليالي والموال غناء، موازين إيقاعية صارمة. تصعب متابعة هذه الموازين للوهلة الأولى لأن الإيقاعات الهندية مبنية على المغايرة بين الوحدات الزمنية الطويلة والقصيرة، كما في عَروض الشعر، بينما تبنى الإيقاعات الأوروبية على التشديد، كما في في الرقص والسير العسكري. لا يحدد الموسيقي الهندي بداية المقياس الزمني Bar بالتوكيد. فوحدته الثابتة هي مقطع أو مجموعة من المقاييس التي لا تتشابه بالضرورة، بينما الوحدة الثابتة عند الأوروبي هي عادةً المقياس الواحد، ثم يتكون المقطع من عدد متغير من تلك المقاييس. بينما يُحسب الإيقاع الأوروبي بمضاعفات الاثنين أو الثلاثة، فإن الهندي يحسب بمجاميع الاثنين والثلاثة. بعض العدّات مركبة للغاية، فعلى سبيل المثال تُحسب تالا tala بمعنى إيقاع وتقابل ما يعرف في الموسيقى العربية بالموازين أو الضروب أو الأصول ‘أتا’ بالمجموع ٥+٥+٢+٢. كما يزيد الاستخدام المتكرر للإيقاعات المتقاطعة cross rhythms من تعقيد التكوين الإيقاعي. الموسيقى الهندية مقامية في الزمن كما هي في اللحن. لكل هذه الأسباب يصعب للوهلة الأولى الإمساك باللحظة التي يبدأ وينتهي عندها الإيقاع، بالرغم من سهولة هذا الأمر على الجمهور الهندي المعتاد على الإلقاء الشعري العروضي. أفضل طريقة لمقاربة الإيقاع الهندي هي الاهتمام بتقطيع الجمل وتجاهل النبض.
تصاحب آلات الإيقاع أو الآلة المسماة بالطمبورة أو كلاهما الغناء الهندي الكلاسيكي. الطنبورة هي آلة من فصيلة اللوت lute إلا أنها بلا دساتين frets. تدوزَن الأوتار الأربعة بالغة الطول بدءًا بدرجة الغماز للوتر الأول يليه وتران على درجة جواب السلم فالوترُ الرابع على قرار السلم بفارق ديوان كامل، حيث تشترك جميع الراغات في وجود هذه الدرجات؛ أما الطبقة فتعدل وفقًا لطبقة صوت المغني. وتزوّد الأوتار الأربعة برنانات بسيطة مكونة من خيوط من الصوف تُجعل بين الأوتار والجسر، وهي ما يبث ‘الحياة’ في صوت الأوتار. تُضرب الأوتار بشكل مستمر لتشكل خلفية صوتية ثابتة النغمة تخلق تناغمات غنية للغاية، وتبرز الأغنية مثل تطريز دقيق على صفحة هذه الأرضية القاتمة من الاحتمالية اللانهائية. لا يجب اعتبار الطمبورة آلة عزف منفرد ولا موضع اهتمام منفصل كالبيانو عندما يصاحب أغنية حديثة؛ ولكن صوتها بالأحرى هو المحيط الذي تعيش فيه الأغنية وتتحرك وتحقق كينونتها.
لدى الهند العديد من الآلات المنفردة بجانب الطمبورة، وتتفرد آلة الفينا vina or veena بكونها أهم تلك الآلات لعل هذه العبارة متأثرة إلى حد كبير بزمن المؤلف أو بنطاق خاص كمناطق الجنوب الهندي التي يمارَس فيها التقليد الكرناتيكي Carnatic الذي يولي اهتمامًا كبيرًا لآلة الفينا. والمراقب للمشهد الموسيقي الكلاسيكي الهندي يجد العديد من الآلات التي نالت حظها من الاهتمام الذي قد يوازي أو يفوق الفينا في بعض الأحيان مثل السيتار والسارود والسارنغي والشهناي والبانسوري وحتى الكمان والسنطور. وهذه الآلة الكلاسيكية، التي هي بمرتبة الكمان في أوروبا والكوتو في اليابان ولا يفوقها في حساسية الاستجابة إلا الصوت البشري، تختلف عن الطمبورة بشكل أساسي في احتوائها للدساتين، حيث تشكَّل النغمة باليد اليسرى ويضرب الوتر باليمنى. تنتج التفاصيل النغمية الدقيقة بثني الأوتار، إذ تعزف جمل كاملة على هذا النحو بالاعتماد المجرد على الحركة الجانبية لليد اليسرى بدون تجديد الضرب على الوتر. وبينما تكمن الصعوبة الوحيدة في عزف الطمبورة في الحفاظ على إيقاع ثابت مقابل تنوع إيقاع الأغنية، فإن الفينا تحمل كل الصعوبات التقنية التي يمكن تخيلها، ويقال إن المرء بحاجة إلى ما لا يقل عن اثنتي عشرة سنة لإتقانها.
والمغني الهندي شاعر، والشاعر مغنٍّ. والموضوع المهيمن على كلام الأغاني هو الحب البشري أو الإلهي بكل جوانبه، أو المديح الإلهي الخالص. وتكون الكلمات دائمًا صادقة ومفعمة بالعاطفة. لكن كلما اقترب المغني في جوهره من كونه موسيقيًّا ازداد اعتبار الكلمات مجرد أداة للموسيقى. فالكلمات في الغناء الكلاسيكي دائمًا موجزة، تعبر عن مزاج عوضًا عن أن تروي قصة، وتستخدم لإسناد النغم مع قلة الاكتراث لمنطقها الخاص؛ تمامًا كما نجد العنصر التمثيلي representative في لوحة حديثة حاضرًا لا لأكثر من كونه الأساس لانتظامٍ من الأشكال المجردة أو الألوان. وفي القالب الموسيقي المسمى بال’ألاب’ -وهو ارتجال على مذهب الراغا- يؤخذ هذا التفوق للنغم على الكلم إلى حد أن المنطوق ينحصر في ألفاظ بلا معنى. يصبح الصوت البشري بحد ذاته آلة موسيقية، وتتجاوز الأغنية كلماتها. يجد هذا القالب تفضيلًا خاصًّا عند الفنان الهندي المقتدر الذي يجد في نفسه بشكل عفوي نوعًا من الازدراء لأولئك الذين ينصب اهتمامهم من الأغنية في المقام الأول على الكلمات. بهذا فإن للصوت في الهند مكانة أعلى منها في أوروبا إذ أن الموسيقى توجد لذاتها، لا لمجرد التعبير عن الكلام. كتب رابيندراناث طاغور في هذا:
عندما كنت طفلًا سمعت الأغنية القائلة “من ألبسك لباس الأجانب؟”، ورسم هذا الشطر الوحيد من الأغنية صورة بالغة الغرابة في مخيلتي حتى أنها لا زالت إلى الآن تتردد في ذاكرتي. حاولت ذات مرة أن أؤلف بنفسي أغنية تحت سحر هذا الشطر. وبينما كنت أدندن باللحن، كتبت الشطر الأول من الأغنية: “أعرفك، أيتها الغريبة”، ولو لم يكن له لحن فلا أعرف أيُّ معنى سيبقى للأغنية. ولكن بقوة سحر اللحن استُحضر الطيف الغامض لتلك الغريبة في ذهني. بدأ قلبي يقول: “هناك غريبة تجيء وتغدو في عالمنا هذا / بيتها في الشاطئ الأبعد لمحيط من الغموض / تُرى تارةً في صباح الخريف، وتارةً في نصف الليل المزهر / تارةً نتلقى إيحاءً منها في أعماق قلوبنا / وتارةً أسمع صوتها عندما أصيخ بسمعي للسماء”. قادني لحن أغنيتي إلى أعتاب باب تلك الغريبة التي توقع بالكون وتظهر فيه، وقلت:
”هائمًا حول العالم
أجيء إلى أرضك:
أنا الضيف الواقف ببابك، أيتها الغريبة”
ثم ذات يوم بعد أيام عديدة، كان شخص يسير في الطريق يغني:
“كيف لذلك الطائر المجهول أن يذهب إلى القفص ويبتعد عنه؟
لو أنني أمسك به، لأوثقت حول قدميه سلسلة عقلي!”
وجدت أن تلك الأغنية الشعبية أيضًا تقول الشيء نفسه! أحيانًا يجيء الطائر المجهول إلى القفص المغلق وينطق بكلمة من المجهول الذي لا حد له، يود العقل أن يحتفظ بها للأبد ولكنه لا يقدر. أي شيء غير لحن أغنية يمكنه أن ينقل مجيء وذهاب ذلك الطائر المجهول؟ لهذا السبب دائمًا أتردد في نشر كتاب أغانٍ، ففي كتاب كهذا يظل الشيء الأساسي غائبًا.
هذه الموسيقى الهندية هي في جوهرها غير شخصية؛ فهي تعكس عاطفة وتجربة أعمق وأعرض وأقدم من عاطفة وحكمة أي فرد واحد. أساها بلا دموع، وبهجتها بلا جذل، وتملؤها العاطفة دون أن يهتز صفاؤها. وهي بهذا غاية في البشرية بأعمق ما تعنيه الكلمة. ولكن عندما يتحدث النبي الهندي عن الإلهام فإنه يعني القول بأن نصوص الفيدا أقدم النصوص الهندية المقدسة المحفوظة. وهي النصوص التي قامت عليها الديانة الفيدية القديمة التي شكلت لاحقًا الأساس للهندوسية أزلية، وكل ما يتحقق للشاعر من تفانيه هو أن يرى أو يسمع؛ وعندها فإن ساراسواتي، إلهة النطق والتعلم، أو نارادا، الذي إليه أمر نثر المعرفة الباطنية في صوت أوتار فيناه الآلة المشار إليها سابقًا، أو كريشنا أحد الآلهة الهندوسية، الذي يدعونا مزماره للأبد إلى ترك واجبات العالم واتباعه، هم عوضًا عن أي فرد بشري، من ينطقون من خلال صوت المغني، ويُرون في حركات الراقصة.
أو يمكننا القول بأن هذه محاكاة لموسيقى الجنة. فدائمًا ما ترسم صورة فطاحلة الموسيقيين في الهند تلاميذًا لإله، أو زائرين للعالم العلوي لكي يتعلموا موسيقى الأفلاك؛ بمعنى أن معرفتهم تنبع من مصدر غائر جدًّا عن سطح النشاط الحسي للوعي المستيقظ. هذا الرابط هو ما يشرح السبب الذي يجعل من الفنون الإنسانية مجالًا يدرس ولا يتماهى مع محض محاكاة سلوكنا اليومي. عندما يعلم شيفا تقنيات الدراما لبهاراتا -المؤلف الشهير لكتاب ناتيا شاشترا Natya Sastra – فإنه يعلن أن الفن الإنساني يجب أن يخضع للقانون، لأن الحياتين الظاهرة والباطنة لا تزالان تصطرعان في الإنسان. لم يجد الإنسان نفسه بعد، ولكن كل نشاطاته تنطلق من العمل الجهيد للعقل، وكل فضيلة له يتملكها الوعي بذاته. ما ندعوه حياتنا هو مجرد اصطناع بعيد كل البعد عن انسجام الفن الذي يتسامى فوق الخير والشر. يختلف الأمر مع الآلهة، إذ تعكس كل إيماءة منهم على الفور حالة الحياة الباطنة. الفن محاكاة لتلك العفوية المثالية، هوية الحدس والتعبير عند أولئك المنتمين لمملكة السماء الكامنة في دواخلنا. ولهذا فإن الفن يقترب من الحياة أكثر مما يمكن لأي حقيقة مجردة؛ ولدى السيد ييتس W. B. Yeats الشاعر الأيرلندي الشهير سبب وجيه لقوله بأن الموسيقى الهندية، بالرغم من مدى تعقيد نظرياتها وشدة صعوبة تقنياتها، ليست فنًّا، بل هي الحياة بحد ذاتها.
فالمغني إنما ينطق بالحقيقة الباطنة للأشياء، لا بأي تجربة جزئية أو عابرة. “أولئك الذين يغنون هنا”، يقول سانكاراكاريا Sankaracarya، “يغنون الرب”. ويضيف الفيشنو بورانا Vishnu Purana، نص هندوسي قديم: “كل الأغاني جزء منه، هو الذي يتشكل بهيئة الصوت”. يمكننا أن نستنبط من هذا تأويلًا ميتافيزيقيًّا للتقنية. ففي كل الفنون توجد عناصر ضخمة وأخرى تفصيلية، وعوامل ذكورية وأخرى أنثوية تتحد مع بعضها في شكل تام. لدينا هنا صوت الطمبورة الذي يسمع قبل الأغنية وأثناء الأغنية ويستمر بعدها؛ ذلك هو المطلق الأزلي، الذي هو الآن كما كان في البدء وكما سيكون للأبد. من الناحية الأخرى هناك الأغنية نفسها التي هي الطبيعة في تغيرها، تنبثق عن مصدرها وتعود إليه عند انتهاء دورتها. التناغم في تلك الأرضية غير المجزأة مع هذا النقش المعقد هو وحدة الروح والمادة. من هذا نرى السبب في تعذر تحسين هذه الموسيقى باستخدام الهارموني، حتى لو كانت الهرمنة ممكنة بدون تدمير الأساسات المقامية لها. إذ أننا بتفكيك الأرضية إلى مصاحبة طلقة، إنما ننشئ لحنًا ثانيًا، كونًا آخر ينافس حرية الأغنية نفسها، وندمر بذلك سلام الهوةالتي تتكئ عليها الأغنية.
سينافي هذا غرض المغني. نحن معرضون للموت في هذا العالم المطبوع بالوعي بالأنا. ولكن هذا الموت وهم، وكل حقائقه نسبية. في مقابل هذا العالم المحكوم بالتغير والافتراق هناك سلام لا–زماني ولا–مكاني هو المصدر والغاية لوجودنا برمته. “تلك اللؤلؤة النفيسة”، كما يقول بيهمن، “التي تبدو لا شيء بالنسبة للعالَم، ولكنها لأطفال الحكمة هي كل الأشياء”. يعرض علينا كل معلم ديني تلك المياه الحية. لكن الطريق شاق وطويل؛ ندعى لترك الديار والأراضي، والآباء والأمهات والزوجات، لتحقيق غاية لا يمكن أن نصفها بلغتنا القاصرة سوى بلفظة الفناء. لدى الكثيرين منا ممتلكات عظيمة، وأصعب ما يُتخلى عنه منها هي إرادتنا وهويتنا الخاصة. ما الذي يضمن لنا أن الثواب سيكون على قدر المشقة؟
تصرح النظرية الهندية بأننا نتلقى بالفعل في نشوات الحب والفن إيحاء لذلك الخلاص. هذا هو أيضًا مفهوم التطهير Katharsis عند الإغريق، ونجده في الفكر الجمالي الأوروبي الحديث في قول غوته Goethe الشاعر الألماني الشهير:
والجمال الذي نشدوه في كل عصر
قد وجد من يراه عتقه من نفسه
وجد عتقه من نفسه. تؤكد لنا تجربة التأمل الجمالي أن الجنة حق. بعبارة أخرى يمكننا القول إن التأثيرات السحرية لأغنية في اجتراح معجزات محضة تتصاغر أمام تأثيراتها على وجودنا الباطن. لا زال المغني ساحرًا، والأغنية طقسًا سحريًا، احتفالًا مقدسًا، امتحانًا صمم لكي يبطئ حركة عجلة التخيلات والحواس التي تعيقنا عن الاتصال بالواقع. ولكن لتحقيق شرط هذا الامتحان ينبغي على الخاضع له أن يتعاون مع الموسيقي بتسليم إرادته، وبجمع أطراف تفكيره الحثيث إلى نقطة واحدة من التركيز. ليس هذا الوقت أو المكان المناسب للفضول أو الإعجاب. يجب أن يبتعد تجاوبنا مع فن مجهول لدينا عن المرهف أو الرومانسي، إذ لا يمكنه منحنا شيئًا لا نملكه معنا في قلوبنا مسبقًا. سكون الهاوية المخبوءة في كل الفنون هو نفسه أينما وجدناه، سواء في أوروبا أو آسيا.