.
الثورة أم الموسيقى أولاً؟
لم تُخرج ثورة الشباب اليمنية الناس إلى شوارع المدن وساحاتها فقط؛ فإلى جانب هذا أخرجت أشياء كثيرة ومنها الأغنيات والموسيقى.
أدرك الثوّار هناك أن لا استقامة لثورة من غير أغنيات وموسيقى تصويريّة مصاحبة لها. من غيرهما ستظهر الثورة ناقصة وبحاجة لدعامة قوية تستند عليها في الطريق الطويل. لا يعني هذا بالضرورة أن الثوّار خلقوا لأنفسهم أو اخترعوا موسيقى من الفراغ، أنهم أدخلوا أيديهم في جيوبهم لتخرج بموسيقى وأغنيات. ليس الأمر بهذا التبسيط الذي أظهرته وسائل إعلامية عربية وعالمية انجذبت لليمن بدافع من الثورة التي اشتعلت على أرضها ولفتت انتباه العالم لهذا الركن المقصي من العالم.
وسائل الإعلام تلك انتبهت إلى الموسيقى اليمنيّة مع مولد الثورة، وهذا أمر مجحف للغاية في حقهما معاً. ففي اليمن، يمن ماقبل الثورة، كان هناك موسيقى وأغنيات. أهل اليمن لديهم مقدرة على صنع لحظتهم الخاصة وفرحهم الضروري على الرغم من كل السواد الذي يلوّن أيامهم.
العالمون بتراث الموسيقى العربية يعرفون جيداً أي كنز موسيقي يملكه اليمنيون منذ زمن، وهو التراث الذي نهل وينهل منه آخرون اليوم، وعلى وجه الخصوص جيرانهم الذين تخصصوا في “خلجنة” الموسيقى اليمنية وإدراجها في حسابهم الخاص. حدث ذلك في ظل سلطة يمنية كان كل همّها قمع الفرد اليمني، وإبقائه على الدوام مذلاً ومهاناً لا يملك القدرة ولا ترف الوقت كي يدافع عن موسيقاه.
وعليه، يمكننا هنا إضافة سبب أخر لأسباب الثورة: خروج الناس إلى الشوارع كان من أجل استعادة كرامتهم الفرديّة والجمعيّة المفتقدة والمصادرة والمنهوبة. ومنها الموسيقى.
خرج الناس لاستعادة موسيقاهم وأغنياتهم، لإخراجها من الأرشيف وعرضها في النور وعلى خشبة مسرح كبيرة بعرض الوطن اليمنيّ الكبير.
من الاختلاط المحرّم في الغرف المغلقة، إلى الاختلاط الثوري في ساحة التغيير
الثورة إذا لم تخترع موسيقى وأغنيات، هي أخرجتها إلى الشارع والساحات التي اعتصم فيها مئات الآلاف من الشباب. خرج الشباب من الأمكنة المغلقة التي كانوا يفعلون بداخلها موسيقاهم الخاصة، ويحدثون التراث ويعصرنوه، وجعله مواكباً للوقت واللحظة الحاضرة وللنمط الذي يساير تلك الأنماط التي نشؤوا عليها. أمسكوا بتراثهم وغربلوه وعرّضوه للضوء، علّموا فيه تحديثاً كي يظهر طازجاً وصحيّاً.
ونتيجة لكل هذا الشغل ظهر “راب” يمني وموسيقى “هيب هوب” من أحضان حفلات شبه منتظمة كان الشباب يقيمونها في أماكن مغلقة محاطة بسرية تامة خشية تعرضهم لمضايقات أمنية من قبل من يعتبرون أنفسهم حراساً على الأخلاق. هناك حيث تهمة “الاختلاط” تكفي للاتهام بجريمة.
وفي هذا السياق يتحدث أحد شباب الراب اليمني خالد بازرعة (17 عاماً) وهو مؤسس فرقة “جوبانجي” اليمنيّة أن هذا التضييق الذي كان ممارساً عليهم لم يكن دافعه على غالبيته الغيرة على الدين أو المحافظة على الآداب العامة فقط، وإنما كان أحياناً يأتي من قبل بعض رجال أمن كمدخل لمرور هؤلاء على مساومات للخروج من عملية الابتزاز بمبلغ مالي ما.
يمكن إضافة هذا التصرف السلطويّ– الأمنيّ إلى جملة الأسباب التي دفعت هؤلاء الشباب إلى الثورة. فعندما تقوم جهة ما بالاعتداء على حق شخصيّ لك، لا يمكنك أن تقف متفرجاً طيلة الوقت، عليك القيام بشيء ما، ولو كان هذا على شكل ثورة، وهو ما كان.
خرجت الثورة وخرجت معها الأغنيات والموسيقى والرقص الحديث إلى الشوارع والساحات. ولم يعد أولئك الشباب محاصرين في أمكنة مغلقة بعد أن تمّ خنق موسيقاهم ورقصهم وقتاً طويلاً. خرجت إلى الشارع حيث ولدت وحيث تليق بها أن تكون.
يكتمل المشهد هناك ويصير مثالياً.
الشباب، شباب الشوارع الخلفية والأماكن المغلقة البعيدة عن العيون المتلصصة الباحثة عن أي أذيّة يعرضون الآن موسيقاهم ورقصهم في شوارعهم الأصلية: مكانهم ومكانها الطبيعي. لكنه ليس أي شارع؛ إنه شارع الثورة، حيث المؤثرات الطبيعية والجمهور الكثير الذي يبقى مداوماً على الجلوس أمام منصة الساحة ببرنامجها اليوميّ الذي يتم افتتاحه الساعة الرابعة من عصر كل يوم ويستمر لغاية منتصف الليل.
يحتوي هذا البرنامج على محاضرات وندوات سياسيّة وموسيقى. ويحدث أن يملّ الجمهور من الكلام السياسي وتنظيراته، يجدونه ثقيلاً مهما كانت قيمته. عندها يتجاوز الطبيعي فيهربون إلى الموسيقى والرقص.
لكن هم لا يهربون إليها هنا، إذ تأتي هي إليهم. تصعد الفرق الموسيقية إلى المنصة بعد أن ينتهي السياسيون من خطبهم والناشطون من تلاوة بياناتهم الثورية الجميلة. ينسحب كل هؤلاء لتتقدم الموسيقى وشبابها الحديث إلى المنصة المرتفعة في “ساحة التغيير” أمام جامعة صنعاء. حيث آلاف من البشر يفترشون الأرض في انتظار منصتهم الخاصة: مكافأة نهاية اليوم المليء بالكلام والتنظير السياسي واحتمالات الفوز والخسارة الواقعة في طريق الثورة.
لا يحب الشباب مثل هذا الكلام المتشائم، إنهم واثقون من قضيتهم ومن أسباب خروجهم إلى الشوارع. هم واثقون تماماً، ولهذا أقاموا في الساحة لأكثر من عام.
لا يعجبهم مثل هذا الكلام المتشائم، ووحدها الموسيقى والرقص تمنحهم ثقة يملؤون بها ماكينة ثورتهم. ولهذا سنرى الرقص الذي سيكون بعد قليل على المنصة يقابله رقص أخر أسفلها، حيث يقوم الشباب بتفريغ المساحة المواجهة للمنصة من الجمهور الكثير المتواجد ليصنعوا دائرة كبيرة نسبياً تكفي للرقص عليها بحرية تامة. تشتعل الموسيقى في الأعلى والرقص معها ليحدث رقص مواز في الأسفل.
الثورة ليست كلاماً ونضالاً ورصاصاً وموتاً. الثورة أغنيات ورقص أيضاً. وأجاد الشباب اليمنيّ صناعة هذه المعادلة بشكل متين ومدهش. فعندما تراهم، كما رأيتهم، تزداد يقيناً من أن الثورة تأخذ معناها الإنساني الممجّد للحياة والمناهض للموت.
الرقص باعتباره معادل موضوعي للحياة
اليمني محبٌّ كبير لهذه الحياة الحلوة المشاكسة بطبعه، وذلك على عكس تلك الصورة النمطية التي ساعد علي عبد الله صالح في تعميمها على العالم. والتي أوصت بإظهار اليمنيّين على أنهم مجموعة من الهمج وقاطعي طرق وخاطفي سيّاح أجانب، ومن نجى منهم ينضم إلى تنظيم قاعدة. وذلك كي يقول لناس الكرة الأرضية أنه الوحيد القادر على كبح ماكينة العنف بداخل مواطنيه. لقد كان الرجل طوال 33 عاماً يتاجر بشعبه.
اليمني محبٌّ كبير للحياة. من خلق تلك الموسيقى والأغنيات منذ آلاف السنين لابد وأن يكون محبّاً للحياة. من خلق تلك البنايات العملاقة، ناطحات السحاب الطينيّة في زمن لم يكن فيه لا مصاعد ولا سلالم كهربائية لابد وأن يكون محبّاً للحياة، وباحثاً عن الخلود عبر موسيقاه الذاتية. هذه الحياة التي نعتبرها هنا رقصاً دائماً يبعث الدماء في العرق والجسد كي يكون قادراً على الصعود إلى السماء.
لا توجد منطقة يمنية لا تمتلك رقصتها الخاصة، وتتفاوت طبيعة إيقاعات هذه الرقصات بحسب التضاريس الجغرافية لتلك المنطقة. فرقصة أهالي الجبل تختلف عن رقصة أهالي السهول أو أهالي الأودية والصحاري وهكذا. إذ ساعد التنوّع الجغرافي الباذخ في هذه البلاد القديمة على خلق هذا التنوّع الموجود في الرقص، والمرأة جزء من كل هذا.
فإلى ما قبل سنوات قليلة، كان هناك رقص مختلط إلى حين جاء الغزو الوهابيّ السلفيّ منذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي. حينها انتشر التحريم والعيب والـ” لا يجوز” لتعيد الرقص والغناء إلى الكواليس والغرف المغلقة. لكن الرقص لم يمُت ولم يندثر، والموسيقى كذلك. بل انتظرا دافئين وطازجين في غرف مغلقة وفي الظل إلى أن جاءت الثورة.
فُتحت الأبواب وخرج الغناء والرقص إلى الشوارع. في مشهد يشبه إعادة اعتبار إلى الحياة ذاتها. لأن الرقص حياة بذاتها ومرتبط بها. هما توأمان لا يمكن فصلهما. واليمني يعرف هذا جيداً، ويرقص حتى في ألمه من أجل إيجاد مخرج له منه. الرقص كدواء هنا، يرقص ليؤكد حبه للحياة أكثر وأكثر وليبقى على تعلقه بها أكثر وأكثر. إنه يرقص حتى في مواجهة الموت وأمام رصاص منهمر في اتجاهه.
على موقع يوتيوب الشهير مقطع مسجل لشاب من شباب الثورة وهو يؤدي رقصة يمنيّة شهيرة في مواجهة جنود يحاولون إعاقة مسيرة احتجاجية في أحد شوارع صنعاء الهامة التي ليس مسموحاً تجاوزها.
يرفع يده ملوّحاً في الهواء، واليد هنا معادل للخنجر اليمني المعروف (الجنبية) التي يضعها الناس هنا على خصرهم ويرفعونها أثناء تأديتهم لطقوس رقصتهم الشهيرة (البرع).
لكن أين الموسيقى والإيقاع هنا؟ إنها هناك تأتي إلى مسامعنا من فوهة بندقيات الجنود الواقفين على الضفة الأخرى من الشارع الطويل. كثيرون علّقوا على عنف المشهد محتجين على أمر تعريض ذلك الفتى حياته للخطر. وقد يكونوا على صواب. لكنهم لا شيء يمنع اليمنيّ عن الرقص. يفعله تحت أي ظرف كان، كأنما يتناول منشطاً يعينه على إكمال طريقه وثورته. هذه الثورة التي صارت تغني وترقص اليوم “هيب هوب” و“راب“، في الوقت الذي لا تنسى تراثها المؤدى الآن بطريقة قام الشباب بعصرنتها.
الثورة ترقص، والشباب يرقصون على إيقاع أغنياتهم.
الثورة والصمود بالرقص والغناء خلعا علي عبد الله صالح وأتت برئيس غيره.
أبعد كل هذا يسألون: كيف انتصرت ثورة شباب اليمن؟ لا إجابة من عندي هنا. سأترك قلمي والكتابة الآن.
لقد حان وقت الرقص.