.
لطالما ذَكَّرَ الخريف بتراجيديا الوجود البشري: مرور العُمر وموت الحب. في الخريف المنصرم، نادى وجدانَنا صوتُ فيروز في الذكرى السنوية الثانية والثلاثين لرحيلِ عاصي الرحباني. وكما يهل القمر، هلَّت علينا، لكن قمر فيروز الثمانينية، ألبوم ببالي، يستحق أكثر من مجرد إطراءات متكلفة أو ملامات سطحية، يستحق نقدًا جديًّا بدءًا من واقع الاقتباس الفاقع في الألبوم وصولاً إلى تحليل التحوّلات الراهنة للذائقة الموسيقية عندما يتعلّق الأمر بفيروز.
إذا كان من أمر يميّز ألبوم ببالي فهو أن كل أغاني الألبوم مقتبسة (مستعادة)، تمت إعادة توزيعها وتعريب كلماتها بحيث أصبحت تتحدث عن ذكريات فيروز ومسيرتها وزوجها وحبها لوطنها. لذا وفي محاولة منّا لتقييم هذا العمل نسأل: هل أدَّت إعادة التوزيع وظيفتها في جعل الأغاني الأصليَّة جميلة بطريقة جديدة؟ ثم، كيف قَيَّمَ الناس الألبوم ولماذا؟
لسنا بصدد المقارنة بين الثنائي “فيروز/ريما” والثلاثي “فيروز/الأخوين الرحباني” بل نكتفي بتحليل عمل “فيروز/ريما” بحد ذاته، إذ أن الفارق بينه وبين الأعمال التي تقع تحت خانة “فيروز/الأخوين رحباني” كبير لدرجة لا تسمح بعقد مقارنة بينهما. كذلك لسنا بصدد المقارنة بينه وبين الثنائي “فيروز/زياد“، فنظرًا لخبرة زياد المتعمقة في الموسيقى ونجاحاته العديدة من السهل جدًا أن تحسم المقارنة لصالحه. لكن، لا يعني ذلك عدم جدوى مراجعة ألبوم لمين بجدية، على العكس، فهذا العمل يستدعي أن نفحصه كما هو، بنقاط ضعفه وقوته، خصوصًا وقد أثار جدلاً كبيرًا بين المستمعين.
عندما نقول “مشروعًا موسيقيًا“ نقصد رؤيةً متماسكة للعمل الموسيقي من البداية حتى النهاية، بحيث يكون التأليف ذا توجُّه/أسلوب معين تكون فيه أغاني الألبوم متّسقة كمجموعة، يعبّر كل من اللحن والكلمة عن بعضهما البعض وأن يضع المؤدي بَصَماته على الأغنية من خلال أدائه لها. لعل وجود مشروع موسيقي عند الثلاثي الأخوين الرحباني وفيروز إنّما هو سبب لمعان نجمهم مقارنة بالفنانين الآخرين الذين زامنوهم. يجدر الذكر في هذا السياق، تمامًا كما قد يكون عليه الأمر في مسرحيّة غنائية أو في أوبرا: في الوقت الذي يتمّ فيه تخطّي مركزيّة المغني في العمل الموسيقي يتمّ كذلك نحت أسلوب أدائي يتميّز به هذا الأخير بما يخدم العمل. لقد بلور الأخوان الرحباني مشروعهما الموسيقي على مدى سنين من خلال مراكمة نتاج المعاينة والتجريب، كما يشرح المفكّر والناقد الراحل نزار مروِة في كتاباته التي تناولتْ أعمال الأخوين الرحباني بالتفصيل.
المشروع الموسيقي هو تصور مجرّد يختلف عن المكونات الصلبة للعمل الموسيقي، لذا نلقي نظرة على مكونات ألبوم لمين. بدءًا بالمغنية وهي فيروز الغنيّة عن التعريف، التي بدا أداؤها في الألبوم ممتازاً بالنظر إلى سنِّها. أمّا على صعيد التوزيع، فموزع أغاني الألبوم ستيف سيدويل موسيقيٌّ عالميُّ الشهرة سبق له أن تعاون مع مغنّين عالميّين وأنتج موسيقى لدعاياتٍ ومسرحيّاتٍ غنائيةٍ ذائعة الصيت. إذا ما عاينّا كلمات الألبوم المعرَّبة، نرى أنها كانت بحدّ ذاتها جيدة وقد وضعتها ريما الرحباني المُلِمّة بالشعر. وفيما نعاينها، نلاحظ أيضًا بأنَّ التعريب موجود بدرجات مختلفة، فمثلاً أغنيتا بغير دني وأنا وِيّاك هما الأقل شبهًا بالنصّ الأصليّ وهما مقتبستان عن Seul sur son etoile وBesame mucho بالتوالي أما الأغاني الأصليّة التي اقتُبست عنها أغاني الألبوم فيمكن وصفها بالكلاسيكية أو القياسيّة. ويمكن القول إن بعض هذه الأغاني كان علامة في مسيرة نجاح مؤلفيها الأصليين مثل Imagine للمؤلف جون لينون وDon’t cry for me Argentina تأليف أندرو لويد ويبير وكتابة تِم رايس.
البعض الآخر كان أعمالاً فنّية أقل شهرة مثل Pour qui veille l’etoile وهي تأليف وكتابة الفرنسي جيلبير بيكو، وكانت جزءًا من موسيقى فيلم I am twenty (١٩٦٥). هذا كله بالإضافة إلى أنّ مبدأ الاقتباس، كما نعلم، ليس جديداً في عالم الموسيقى ولا هو كذلك في مسيرة فيروز فعلى سبيل المثال لحن أغنية يا أنا يا أنا من ألبوم ناس من ورق (١٩٧٢) المقتبس عن السمفونية رقم ٤٠ لموزارت، كما أن لحن أغنية لبيروت من ألبوم معرفتي فيك (١٩٩٩) مقتبس عن موسيقى Concierto de Aranjuez للموسيقار الأسباني خواكين رودريجيث ولحن أغنية بيذكر بالخريف من ألبوم ولا كيف (٢٠٠٢) مقتبس عن لحن للهولندي جوزيف كوزما، أما كلماتها فمستوحاة من كلمات الشاعر جاك بريفير. لكن بالرغم من أن المكّونات الصّلبة للألبوم ممتازة، بدا الألبوم غير مقنع، والسبب برأيي عدم وجود مشروع موسيقي شَكَّلَ أساسًا لألبوم ببالي.
أول ما يشير إلى ضعف ببالي أن أغاني الألبوم العشرة غير متسقة فيما بينها من حيث تسلسلها، فقد استفتح الألبوم بأغنية وداع وهي راح نرجع نتلاقى، أمّا آخر أغنية فكانت بيت زغير بكندا المقتبسة عن أغنية Ma cabane au Canada والتي أُصدِرَت عام ١٩٨٠. كذلك فأغاني الألبوم غير متسقة فيما بينها من حيث كونها مجموعة، فالمسألة لا تكمن في ترتيب الأغاني ببساطة، وإنما في التصوّر الموسيقي للألبوم. أن تكون أغنية ما مقتبسة، فهذا يطرح السؤال حول سبب اختيارها دون سواها. أما في ألبوم لمين، ولكون كل الأغاني مقتبسة، يبدو لنا أن اختيار الأغاني لم يتم بدقة كافية، كما أن بعض الأغاني المختارة، كالأغنيتين السابقتين، قد تم إعادة توزيعهما بأساليب مختلفة تمامًا.
وعندما نقول عدم دقة نقصد عدم الأخذ بعين الاعتبار مسألة موثوقيّة الأغاني، بمعنى أصالتها Authenticity ، بعبارة أخرى: هل يصلنا انطباع أنها تقليد أغنية أخرى أم أننا أخذنا انطباعًا عنها كما لو كانت أصلية؟ في الإجابة عن هذا الشقّ، نتحدث عن أغنية ما تزعل مني يا وطني المقتبسة عن Don’t cry for me Argentina التي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٧٦.
في هذه الأغنية، تتوجَّه إيفا بيرون، زوجة الرئيس خوان بيرون، إلى وطنها الأرجنتين بلسان المغنية جولي كوفينغتون Julie Covington. وبما أن بيرون قد توفّيت عام ١٩٥٢، فهذه الأغنية قد استحضرت هذه الشخصية المهمة في التاريخ الحديث وأتاحت لها الفرصة لأن تخاطب وطنها بنبرة وجدانية. صدرت الأغنية ضمن ألبوم بعنوان ايفيتا، عملٌ موسيقيٌ ضخمٌ من حيث التأليف والتوزيع، شبيه بالمسرحية الغنائية، ولاقت الأغنية حينها نجاحًا باهرًا. وبما أن هذه الأغنية استثنائية بحد ذاتها فإشكالية الموثوقية تطرح نفسها بقوة في إعادة التوزيع.
كيف يمكن إعادة توزيع الأغنية بحيث تحافظ على “ذاتها” بنفس القدر الذي كانت تبدو عليه في الأصل، لكن بطريقة مغايرة بحيث يكون لفيروز كذلك شخصيتها المغايرة في الأغنية؟ في إعادة توزيعها في ألبوم ببالي، بدت أغنية ما تزعل مني مُفرَغة من محتواها التاريخي ولم تستطع أن تُعَوّض عنه. ربما أراد من اختار هذه الأغنية المماثَلة ما بين علاقة إيفا بيرون والأرجنتين من جهة وبين فيروز ولبنان من جهة. وعلى الرغم من أن فيروز هي بالفعل رمزٌ وطنيٌّ يضاهي إيفا بيرون، إلا أن ذلك بحد ذاته لا يكفي من أجل بلورة فكرة الأغنية. فعلى هذه الفكرة أن تُترجم بفكرة موسيقية تتواءم معها وهو ما لم يَتم أبداً، بل إنّ أغنية ما تزعل مني كانت ضعيفة موسيقياً.
العلاقة التوافقيّة بين الموسيقى والكلمة تعزز فكرة الأغنية، إلا أنه في ألبوم ببالي لم تفلح إعادة التوزيع أحيانًا في الإبقاء على هذه العلاقة، ما جعل الأغاني تبدو هجينة. بدا ذلك جليًّا في أغنية ما تزعل مني حيث الكلمة والموسيقى غير متوافقين، فالمعاني جدّية رزينة بينما الموسيقى فرحة وراقصة. إلى جانب ذلك، بدا الكلام فيها متراصًّا، ربما بسبب عدم وجود فواصل موسيقيّة حقيقية بين مقاطع الأغنية، فجل ما نسمعه الإيقاع الراقص في الخلفيّة الذي يبدو كأنه محرِّك دائر لا نرتاح منه إلّا في آخر الأغنية بفضل مقطعين عزفيّين. في سياق الحديث عن الفواصل الموسيقية، أدى الإبقاء على الخلفيّة الإيقاعيّة منذ المقطع الأول مرورًا بصلب الأغنية، إلى انعدام وجود شكل بمعنى بناء مفهوم للأغنية: فالمقطع الأول بعد التمهيد هو “ما في شي بيعنيلي” ويعزّزه بروز خلفيّة إيقاعيّة. ينتهي هذا المقطع بجملة صغيرة للإيقاع وبتحوّل فيروز لنغمة أكثر ارتفاعًا عند غنائها “ما تزعل مني يا وطني“. حاولت جملتا الإيقاع والنغمة المرتفعة الانتقال بنا إلى “صُلب” الأغنية، وصُلب الأغنية يمكن تحديده بمقطع “ما تزعل مني يا وطني“، إلّا أنّ هذا الانتقال كان مُحيرًا والسبب هو تلك الخلفية الإيقاعية الرتيبة. أمّا العودة إلى المقطع الهادئ مع “بزعل عحالي بزعل عليك” فقد تمّت في لحظة بدت كسقوط غير محسوب.
أمور مشابهة يمكن أن تقال عن أغنية يمكن حيث هناك جملة مرتعشة Trill للفلوت تنتهي بطريقة مبتورة نشعر أنها غير متسقة مع ما يلحق بها. هذا في حين أنه عندما تنتهي الأغنية، نسمع الرعشة نفسها لكن بشكل أكثر تبلورًا وجمالًا بحيث يكون توجّهها متزايدًا في الصعود. بعد ما عاينّا الرعشة في حلّتيها، خلال الأغنية وفي آخرها، يبدو لنا أن بروزها في كل مقطع من “يمكن أنا عم أحلم” ما كان سوى حجة غير موفقة من أجل تبرير الختام، علمًا أن الختام نفسه كان جميلًا.
كلّ هذا لا يعني أن الألبوم لم يَخلُ من التجارب الجيدة. ففي إعادة توزيع أغنية بغير دني، تم تعزيز العلاقة بين الكلمة والأغنية. من حيث الشكل، لدينا مقطع بطيء (سيّار) – مقطع سريع (راقص)، يتكرران أربع مرات. هناك أيضًا نبرة على الجزء الضعيف من العلامة الإيقاعية ٤/٤، وهو بالضبط ما يعطينا الإحساس (سَيَّار/راقص) في كلٍّ من النسخة الأصلية كما في تلك المعاد توزيعها. وقد تم توزيع الآلات الإيقاعية بحيث يكون جو المقطع البطيء أشبه بالمشية العسكرية ما يتماشى مع الكلمات التي تقول “لحظة دخولي عالمسرح الوجوه غرقانة بالعتمة العيون مسمّرة عليي وهدير الخوف حوالي” لتصلنا رهبة المسرح ونشعر بها. لكن مع المقطع التالي الراقص وكلمات “بغنّي وبصير بغير دني بغير زمان وبغير مكان وحيدة وبعيدة“، يصلنا شعور بالانشراح. السبب في هذا الاتساق لا يكمن حصرًا في أن كلمات بغير دني مختلفة تمامًا عن كلمات النص الأصلي Seul sur mon etoile، بل في أن هذا الاختلاف في النص سهَّلَ إعادة بلورة فكرة جديدة للأغنية الأصليّة، إذ نلاحظ أنه في إعادة التوزيع، تم زيادة حدة الفصل بين جو المقطعين بطيء/سريع وهو ما لم يكن موجودًا بهذه الحدّة في الأغنية الأصليّة. تكامل العلاقة ما بين التوزيع والكلمات واللحن أعطى للأغنية صدق وأصالة، جعلانا ندرك فيروز بشكل أصدق مما أدركناه في أغنية لمين أو أنا وياك، فبدت وكأنها تؤدي عملاً أصلياً بالفعل وليس مقتبساً.
لننتقل إلى أغنية لمين التي بفضل سرعتها وخلفيّتها الإيقاعيّة تبدو راقصة أكثر من الأغنية الأًصليّة الأبطأ وهي Pour qui veille l’etoile. تبدو النسخة المعاد توزيعها حميمة مع صوت الساكسفون الشاعري الذي يتناوب مع فيروزعلى الصوت الرئيسي في الأغنية. بدل أن يتأمل الحبيبان وجودهما في ظل الليل الساكن كما في الأغنية الأصلية، يبدو كما لو أنّهما يتراقصان بحميميّة في أغنية لمين. هنا أيضًا أصبح للأغنية شخصيّة جديدة. يجدر الإشارة إلى أن في هذه الأغنية، كما يؤكد مسار لمين – بيانو، كانت هناك مساحة لفيروز لأن تطبع الأغنية بطريقة أدائها للجمل وهذا هو أبرز ما يعرِّف فيروز المؤلفة/المغنية. والصوت في هذا المسار، بدا يافعًا كما لو كان صوت ريما الرحباني، إلا أننا في جميع الأحوال، نميل إلى أن ننسب هندسة الجمل بشكل أساسي إلى فيروز.
أمّا أغنية أنا وِيّاك، فهي تبدأ بجملة لآلة نفخ مصاحبة لإيقاع برازيلي، عاملان يضعانا في جو فتنة الحب. في نسختها الأصلية Besame mucho كانت الأغنية تعكس جوًّا شهوانيًّا. أما في النسخة الجديدة فهناك إعلان لاستمرار الحب الأوحد رغم ما مرّ عليه من سنين. في الفاصل الموسيقي في منتصف الأغنية بالتمام، تتقدم الفلوت بتنويعٍ وزخرفة على الجملة التي كانت قد تقدمت في أول الأغنية.
يمكن القول إن ألبوم ببالي بمثابة اختبار تجربة الإنتاج الموسيقي مع فيروز أو مسوَدَّة يُمكن البناء عليها ومراجعتها من أجل التأسيس لأعمال موسيقية أكثر نجاحًا بين ريما وفيروز. ونظرًا للعلاقة العائلية بينهما، قد تكون فيروز الأم قد أحبَّت هي أيضًا خوض هذه التجربة وإهداء هذا العمل لابنتها. لكن لو أنّ ريما الرحباني وضعت نفس الكلمات مع بضع من الألحان الجديدة لنفس الموزع ستيف سيدويل، ربما لكانت اختلفت التجربة.
أمّا على صعيد تلقي الألبوم من قبل المستمعين، فالإشكالية تختلف، إذ أول ما يلاحظ هو الانقسام الحاد حول الألبوم. سنحاول تبيُن سبب هذا الانقسام، آخذين بعين الاعتبار أن استساغة أغنية ما أمر يحدث على مستوى إدراكي سريع، فليس متَوَقَّع من المستمِع، حتى ذلك العارف بالتقنية الموسيقية أن يقوم بالتحليل الموسيقي التقني لأغنية ما من أجل أن يُقرِّر ما إذا كانت تُعجبه أم لا. وسوف نأخذ بعين الاعتبار كذلك أن هناك أسباب أخرى غير موسيقية تَتَدَخَّل في تكوين رأي المستمع وذائقتِه الموسيقيَّة (كتوقيت الإنتاج الموسيقي أو المناخ السياسي أو رمزية الفنان الاجتماعية–التاريخية أو وضع الإنتاج الثقافي الوطني).
أطروحتنا هي أنه في ظلّ همود الإنتاج الموسيقي وتراجع تعقيد sophistication الذائقة العامة الموسيقيّة من جهة، وفي ظل الشرعيّة القويّة لفيروز من جهة أخرى والتي يتَّفِق عليها “الجميع” (لمعان نجمها لحوالي ٥٠ سنة والاعتراف العام بعبقرية أدائها)، بات المستمع يفقدُ صِلته العضويَّة بها. إذ نقول هذا، نفترض مثلًا أن هنالك فرقًا بين تذوُّقِ مستمِع سَمِعَ في عام ١٩٦١ أغنية سهار لأول مرة، في جو أقل فرضًا لشرعية فيروز، وبين تَذَوُّقِ مستمِع سَمِعَ اليوم نفس الأغنية، في ظل شرعية فيروز التامّة. هل يستطيع مستمِع اليوم تَفسير تقديره لفيروز بسبب غير كونها فيروز؟
في هذه الحالة سيكون من المثالي القيام بدراسةٍ كاملةٍ حولَ الذَّوق الموسيقي اللبناني وفيروز وذلك لتوخّي الدقّة أكثر، لكن ما يمكن أن يلاحَظ بشكل أوّلي هو أن مستمعي فيروز في لبنان اليوم يمكن تقسيمهم إلى قسمين عامين، يتداخلان فيما بينهما في الواقع، وفي كل منهما نسبة عالية من عدم الانسجام. لكن من أجل التَجريد المُبَسَّط العملي، سوف نُبقي على كُليّة كلٍّ منهما وعلى الحدودِ بينهما. يجدر الإشارة أيضًا بأن هذا التصنيف لا ينطوي على أي حُكمٍ أخلاقيٍ على المستمع. فنحن لا نقصد الانتقاص من أو الحكم على ذكاء المستمعين، نحن نحاول فقط فهم الذائقة الموسيقية في لبنان اليوم. هناك قسمٌ من المستمعين تعاطوا بحمائيّة مع فيروز وقسم آخر لم يَعنِ لهم الألبوم شيئاً يُذكَر حيث أنهم لا يأخذون بشرعيَّةِ فيروز ولا يستمعون إليها ربما. وبرأينا فإنّه رغم انقسام هؤلاء حول ألبوم فيروز، إلا أنهم يشتركون معًا بالمجمل في ذائقتهم الموسيقية.
قبل التحدث عن الذائقة الموسيقيَّة، نوضِّح قِسمي المستمِعين. لدينا القسم الأول، الحمائي، تجاه فيروز، فهو يُقدِّسها وهي بالنسبة إليه أيقونة، بحيث أنه لا يأخُذ بَشَريَّة فيروز في الحسبان، ويغفل أنها قد شَقّت طريقها بالاختبار الموسيقي مع جمهورٍ كان يتذوَّق كل عمل فنيٍّ لها بغير حُكمٍ مُسبَق أو تقديس، بالتالي، كان جزءًا لا يتجزَّأ من مشوارِها المحفوف بالتجريب. ومرور تَجربة فيروز في التاريخ اللبناني انطوى على فترات تاريخية مُختلفة وعلى أجيالٍ متوالية. ومن بين المتغيرات الأساسية في تلك الفترات التاريخية كان التغيُّر الاجتماعي والتغيُّر في المناخ الموسيقي وكذلك عدم إنتاج معرفة عِلميَّة موسيقيَّة حول الأسباب العقلانيَّة المعطاة لشرعية فيروز. اختلاف أحوال هذه المتغيِّرات بالنسبة إلى تجربة فيروز، أدَّى إلى أن يفقدَ المستمِع اليوم صلته العضويَّة بها، حتى وإن كان يَجُلّها. فسببه الوحيد لإجلالها هو “أنها فيروز“. أمّا فيما يخص ألبوم لمين، فهناك من الحمائييّنَ من حمَّل عن غير حق ريما الرحباني مسؤولية “ضياع الأصالة” ومنهم من اعتبر أن صوت فيروز حجَّةٌ كافية لأن يكون الألبوم رائعًا، وهو أمر غير عقلاني.
في الطرف الآخر لدينا الرأي العام المُحطِّم للشرعية، الذي تستفزه وتقلقه شرعية فيروز في الأصل. في أحسن الأحوال، يقولُ هذا المستمِع إنه تم المبالغة في تقدير فيروز وأن هناك من هم “أحسن منها” لكن الحظ حالفها لسببٍ ما. في أسوأ الأحوال، يرفض سماع فيروز أصلًا. وبرأينا أنّ “محطمي الشرعية” يمزِجون ما بين ذَوقِهم الحالي في الموسيقى وبين رفضِهم لشرعية فيروز بوصفها أيقونة للغناء اللبناني، وفرض وافتراض الجميع بأن لفيروز شرعيَّة تامَّة.
لماذا لا يستطيع المتذوّق الحمائي أن يلتقط حبل صلته بفيروز ولماذا هناك من يحطم شرعيتها؟ بعبارة أخرى، لماذا تم تحنيطها في أحسن الأحوال وذمها في أسوأ الأحوال؟ في الإجابة على هذين السؤالين، برأينا أن كلا الفئتين تتذوقان العمل الفني بكيفية معينة مرتبطة عضويًّا بالمناخ الموسيقي السائد لدينا. هذه الكيفية تركز على الصوت وحده وتفهم العمل الموسيقي كلما كان أكثر مباشرة في التعبير عن نفسه. سوف نأخذ مثالاً بسيطًا على ذلك: مقارنة بين أول أول جملة موسيقية من أغنية يبكي و يضحك بنسختها الأصلية بغناء فيروز وكتابة بشارة الخوري (الأخطل الصغير) وتلحين الأخوين الرحباني (١٩٩٩) وبين نسختها المعاد توزيعها والتي أبقت على عنوان يبكي و يضحك والمؤداة من قبل زين محمود في فيلم باب الشمس (٢٠٠٤).
تغني فيروز “يبكي ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا” – (ثم برهة صمت موسيقي) بمثابة الفاصلة في اللغة أو النَّفَس في الكلام – “كعاشق خط سطرًا في الهوى ومحا.” إذًا لا حزن واضح بل مشاعر تتصارع في قلب العاشق. يُلاحظ الانطباع “المسطَّح” للجملة اللحنية أو بعبارة أخرى أنها أحادية النغمة تقريبًا. يُلاحظ أيضًا عدم وجود نبرات على الكلمات. تقول فيروز مع بداية خجلة في الصعود الموسيقي “من بسمة النجم همس في قصائده ومن مخالسة الظبي الذي سنح” أي أن هذا السطر الذي خطّه العاشق على صفحة الحب هادئ كما لو أنه أتى من وحي النجم، وفي الوقت ذاته منفعل كما ينفعل المرء عند رؤية الظبي. ترابط معنى البيوت الشعرية الأربعة التي مرّت واضح حتى الآن. ثم يأتي في الموسيقى مقطع عزفي صغير ليُحضّرنا من أجل لحظة إعلان صادح عن أن العاشق استغرق في أحاسيسه إلى أن عبثت به رياح اللذة من أثر رؤية المحبوب. هذا الإعلان يتبلور في طول الجملة اللحنية وفي صعودها مع “قلب تمرّس في اللذّات” وكذلك في التشديد على كلمة “اللذات” عبر مدِّها أو بعبارة أخرى عبر إعطائها قيمة إيقاعية كبيرة. نشير إلى أن هذه اللحظة هي ذروة الجملة التي سرعان ما تنتهي بهبوط مع “كبُرعم لمسته الريح فانفتح” (هذه الكادِنزا أو الجملة الختامية بمثابة النقطة في اللغة). وكل هذا جملة موسيقية واحدة.
أما في نسخة زين محمود، فلا بناء موسيقي، بل هناك ما يبدو لنا ترتيبًا مشهديّ الطابع: بدل البناء الموسيقي لدينا الجملة في كسرات صاعدة وهابطة، رغم أنّ الأعم هو الصعود المتزايد بدعم من صخب الجيتار الكهربائي. مناخ النسخة يشدّد على الجانب المأساوي من الشعر: الغناء أنينيّ، فهناك نبرات على الكلمات “يبكي ويضحك” و“خط سطرًا في الهوى ومحا” وهناك آهات متكررة في آخر الأغنية. لكن فلنتذكر الشعر، فهو بأساسه يتحدث عن مشاعر الحب المتناقضة ويذكر فروقاتها بدقة. لكن في نسخة زين محمود، بدا وكأنه شعر حزين وحسب. هذا هو الانطباع الذي نحمله من الأغنية إذ تم تحوير النص من خلال الموسيقى. الكلمة المفتاح هنا هي المباشَرَة، فالأداء يعلن عن نفسه: حزن ولا شيء غير الحزن. أما الفروقات الصغيرة التي بشّرت بالصعود في نسخة فيروز “من بسمة النجم … الظبي الذي سنح” فقد تم تخطيها، وتم حذف بيتي الشعر، فاقتصرت على أربعة أبيات من القصيدة. أما في نسخة فيروز السابقة فلدينا “قصة العاشق” كاملة مع أحداثها وتفاصيلها ونهايتها ببناء موسيقي هندسي مُحكَم.
يجدر بنا الذكر في النهاية أنّ الغرض من المقارنة هنا ليس تعيير النسخة المعاد توزيعها على أنّها ليست بموسيقى جدّية. فمن الطبيعي أن يكون للموسيقى أشكالٌ عدّة ولا بأس أن تكون مباشرة. فجلّ مرادنا هنا هو شرح الذائقة الموسيقية المهيمنة في المناخ الموسيقي اليوم بحيث أنّنا اليوم بتنا نميل إلى أن نستسيغ بسهولة أعمالًا موسيقية تشبه النسخة المعاد توزيعها من يبكي ويضحك التي قد تبدو مليئة بالتعبير مقارنة بالأغنية الأًصلية التي قد تبدو بطيئة ومملة على نحو غير مفهوم. بعبارة أخرى، تقف حساسية المستمع اليوم عند حد المباشَرة وتستصعب تعقيد البناء الموسيقي.
عرض ألبوم ببالي نفسه فقط كصوت وتم تلقيه كصوت. للمفارقة فإن المستمع الذي كان أكثر ما يصله من أغاني الرحباني هو صوت فيروز، صُدم باﻷلبوم لأنه استطاع رغم سلبيته أو هموده إزاء الإنتاج الفني العام وتقبّله للأمر نسبيًا عندما يأتي ذلك من أي مغني على الراديو، أن يحس أن فيروز تؤدي عملًا قريبًا مما يسمعه يوميًّا في دكاكين بيع الأسطوانات الموسيقية والأعراس والراديو، وهو لم يتقبل ذلك. وها هي ازدواجية الذائقة الموسيقية تتوضّح لنا، فما كان يتوقع المستمع أن يجد نفسه في موقف مماثل في يوم ما. لهذا السبب، يحسب للألبوم أنه صدم الوعي الموسيقي الاجتماعي ليس فقط فيما يخص علاقة المستمع بفيروز، بل فيما يخص الذائقة الموسيقية العامة. فقد عرّفنا أن ذائقتنا الموسيقية “ضيقة” تكتفي بمشاعر قليلة وبأداء مباشَر وبآلة واحدة: الصوت.