.
عَرف تاريخ الموسيقى السيمفونية الكثير من المؤلفين، والقليل من قادة الأوركسترا، برغم أنه لا سيمفونية بلا أوركسترا سيمفوني، ولا أوركسترا بلا قائد. يتخطَّى دور المايسترو عادةً ما يظنه غير المتخصص، أو المستمع غير المخضرم. الفكرة هي أن من قواعد التأليف السيمفوني نفسها ترك مساحة للقائد؛ لكي يُخرج العمل بما يتناسب مع رؤيته، مع ما يراه مناسبًا للعمل.
بقدر أصالة المايسترو من جهة، وفهمه لروح العمل من جهة ثانية، وفهمه لصوت كل آلة على حدة، وفي مجموع، من جهة ثالثة، بقدر ما تبرز شخصيته، حتى لتطغى – عند المستمعين المخلصين للموسيقى – على شخصية المؤلف نفسه أحيانًا؛ وأحيانًا ما نبحث عن عمل معين بسبب قيادة معينة لقائد بعينه، ويصير دور المؤلف ثانويًا في اعتبارنا.
كان عدد من المؤلفين من عظام قادة الأوركسترا، لكن أدوارهم كمؤلفين طغت على شهرتهم كقادة. لقد قاد بيتهوفن مثلًا سيمفونيته التاسعة في أول عرض لها وهو أصمّ تقريبًا، لكننا عادة نلتفت إلى بيتهوفن المؤلف. مع ذلك وُجد من المؤلفين من اشتُهروا بالقيادة أكثر مما عُرفوا بالتأليف، ومنهم المايسترو الشهير، الأمريكي من أصل أوكراني، ليونارد برنشتاين (١٩١٨-١٩٩٠)، الذي ربما هو المنافس الأشهر، لكنه ليس الأوحد، للمايسترو العظيم هربرت فون كارايان.
بينما يركز برنشتاين في قيادته على إبراز اللحن، وإيقاع المقطوعة، فإن كارايان يصبّ كل جهده لإظهار ديناميكا العمل ككل. برنشتاين مقارنةً بكارايان ثابت، ومستقرّ، وكارايان مقارنة به متحرك، ومتدافع. يقدم برنشتاين قيادة شارحة، ميتا-موسيقَى meta-music، هي أنسب للمستمع غير الخبير، بينما يحاول كارايان تقديم العمل على نحو احترافي، كخبرة لا يمكن تفكيكها إلى لحن، وإيقاع.
قبل أن نتطرق إلى أشهر أعماله، علينا أن نضع نصب أعيننا أنه يهودي صهيوني مخلص ليهوديته وصهيونيته، وكان له دور محوري في الدعاية لدولة الكيان الصهيوني، وكان من أبرز أصواتها المؤيدة في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. لا يمكنني – كمستمع للموسيقى الكلاسيكية – أن أفصل بين صوت برنشتاين في أعماله، التي كان قدرٌ معتبَر منها مأخوذًا من التراث اليهودي، كما سنرى، وبين صوت الدعاية الصهيونية في الغرب. مع ذلك سنحاول تحليل أعماله بموضوعية، لنكشف قَدْرَ ما فيها من صوت الموسيقى، وما شابَها من صوت البروباجندا. بعد ذلك يمكننا أن نتساءل: هل استحقَّ فعلًا أن تقدم السينما مؤخرًا حياته في فيلم، يصوره في هيئة الفنان المغرم بفنه، راهب الجمال، دون كشف علاقته بالصهيونية؟
قد سبق أن قدّم المفكر والناقد المصري الراحل فؤاد زكريا (ت ٢٠١٠ م) نقدًا له في كتابه مع الموسيقى، لكنه نقد سريع؛ ولا يوحي بأن الكاتب توقف عنده مليًّا. في هذه الحالة من الاستقطاب الأيديولوجي، وحيث إن زكريا نفسه أقرب إلى جناح أستاذه عبد الرحمن بدوي (ت ٢٠٠٢ م) القيادي السابق في حزب مصر الفتاة الفاشي، الذي دعم النازي، وهتلر، على نحو مباشر، لا يسع القارئ إلا أن يستمع إلى صوت زكريا مشحونًا بالأيديولوجيا، وخاصة في وقت الصراع العربي-الصهيوني. بالتالي لن يستمع إلى صوت العقل، والتقييم الموضوعي، أو بالقدر الممكن من الموضوعية في مجالات العلوم الإنسانية كالنقد الفني.
مثلًا يقول زكريا إنه يقود الأوركسترا “بطريقة تحسده عليها عوالم (أي راقصات) محمد علي”، وإن اسمه يُنطَق عند الأمريكان “بِرْنِسْطين” – إشارة إلى الطين – في الموضع نفسه، الذي فيه يمدح المايسترو الألماني، عضو الحزب النازي هربرت فون كارايان زكريا: مع الموسيقى، ص ٢٧-٢٨. بل إن زكريا قد خصص لفاجنر، موسيقار النازيين المفضَّل – حتى اليوم – كتابًا كاملًا، هو الكتاب الوحيد الذي خصصه زكريا لمؤلف واحد. يمكن في مسألة فاجنر ببساطة مطالعة حلقتين أعدتهما دويتش فيله القناة الإخبارية الأولَى في ألمانيا عن علاقة النازيين، القدامَى والجُدد، بفاجنر.
بما أن كل هذا كذلك فإن قارئ زكريا، بعد السباب، والسخرية من اسمه، وسمته، وفي سياق هذه القطبية، لن يعتد كثيرًا بما كتب، إذا كان يبحث عن الموضوعية. لذا علينا أن نحلل بمبضع النقد العقلاني مكانة هذا المؤلف، والمايسترو، وهل كان فعلًا أسطورة صهيونية-أمريكية بها الكثير من الفراغ والفقاقيع الملونة، أم كان حقًا مؤلفًا ثقيلًا يعتد به؟
نحن – في هذا المقام – لسنا في معرض الحديث عن برنشتاين كقائد، وجهه المعروف، الذي قدمه الفيلم حديث الإطلاق مايسترو (٢٠٢٣)، والذي يقدم – في رأينا – صورة أقرب للحقيقة لشخصية برنشتاين، وحياته الشخصية المفعمة بالنشاط، والحب، والجنس، والفن. نحن في محل الكلام عنه كمؤلف، أيًا ما كان رأينا في النهاية بصدده، خصص جزءًا من عمره لإثبات نفسه كصاحب أسلوب، وبصمة خاصة في الألحان، وقنطرة للربط بين الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية والثقافة الشعبية الأمريكية؛ وذلك بحيث يمكننا في الختام أن نقترب من الموضوعية المنشودة.
مع ذلك فإنه جدير بالذكر أن برنشتاين كان أولَ مايسترو أمريكي المولد، مبرهِنًا من البداية على براعةً شبه فطرية، إن كان شيء كذلك جائزًا في حالة قيادة أوركسترا سيمفوني. على كل حال تقول الأخبار المنقولة عن النيويورك تايمز بشأن بداية حياته المهنية كقائد أوركسترا في نوفمبر عام ١٩٤٣ إنه اضطر ليحل محل قائد أوركسترا نيويورك الفيلهارموني الزائر، برونو والتر، الذي اشتدتْ عليه أعراض الأنفلونزا فجأة، فقاد بدلًا منه أعمالًا لشومان، وفاجنر، وريتشارد شتراوس، ومِكْلُوش روجا Miklós Rózsa، دون تحضير مسبق، بنجاحٍ اعتُبِر في الصحافة الأمريكية وقتها إنجازًا قوميًا، وكسرًا لاحتكار أوروبا للقادة المحترفين. كأننا بصدد أماديوس، طفل إلهي جديد في مجال القيادة، بعد أن كان موتسارت طفلًا إلهيًا، موهوبًا بالفطرة في مجال التأليف.
لكن هل هذا الاحتفاء في محله؟ هل يوجَد ما يُسمَّى “موهبة فطرية” في قيادة الأوركسترا؟ وما دور قائد الأوركسترا بالضبط، إذا كان أعضاء الأوركسترا فعلًا قد تدربوا على العمل مرارًا وتكرارًا، قبيل وعكة القائد الأساسي الصحية المفاجئة سابقة الذكر؟ تحدثنا أعلاه عن دور قائد الأوركسترا في تقديم العمل، ولكنْ يجب ملاحظة كونه دورًا فنيًا، تأويليًا، كمن يعيد سرد قصة بأسلوبه الخاص، وهذا في أحسن الأحوال، لكن الأوركسترا نفسه يستطيع بجهد بسيط من المايسترو تقديم العمل على وجه سليم، أي من دون أخطاء جوهرية. وكل ما قيل عن قيادة برنشتاين المذكورة، التاريخية، يشير إلى كونها قيادة سليمة، ولا يشير إلى تأويل معين.
منذ عام ١٩٤٧ ارتبط اسم برنشتاين باسم إسرائيل كقائد أوركسترا إسرائيل الفيلهارموني، أوركسترا فلسطين الفيلهارموني سابقًا. بل إنه قاد ذلك الأوركسترا تحت أصوات القصف، والقصف المضاد في حرب ١٩٤٨، التي أدت إلى تقسيم فلسطين عمليًا، وفرض سيطرة العصابات الصهيونية، قبل تكوين جيش الدفاع كجيش منظم. حين نعرف هذه المعلومة، نتذكر معلومة موازية، هي أن المؤلف السوفييتي ديمتري شوستاكوفيتش قد وضع جزءًا من سيمفونيته ليننجراد أثناء حصار النازيين الفاشل لمدينة ليننجراد، كنوع من الدعم المعنوي، والكفاح الحقيقي، ولنا أن نقارن أيهما كان مكافحًا حقيقيًا ضد الاستعمار والإبادة؟
لنا كذلك أن نقدم للقارئ معلومة إحصائية أشد إثارة: ففي كل حرب بين الصهاينة والعرب قاد برنشتاين بالتوازي أعمالًا في قاعات تل أبيب السيمفونية. فبالإضافة إلى هذه السيمفونية (الثانية)، وما ذكرناه بشأن قيادته لأوركسترا تل أبيب في حرب ١٩٤٨، قدم برنشتاين كذلك أعمالًا في عام ١٩٥٧ بعد حرب العدوان الثلاثي (المعروفة في الأدبيات الغربية بحرب السويس) على مصر مباشرة، بعيد تأميم القناة عام ١٩٥٦، وكذلك قدم أعمالًا في دولة الكيان الصهيوني عام ١٩٦٧. لا يوحي هذا التزامُن بكونه مصادفة، والحكم هنا للقارئ. يمكن القول إن برنشتاين كان نشطًا في كل هذه السنوات، وما بينها، عمومًا، بحيث تصير الصورة العامة غير مقصورة على سنوات الصراع العربي-الإسرائيلي، لكنْ يتدخل هنا محور المكان، ليتقاطع مع محور الزمان: أداء تلك الأعمال، في تلك السنوات تحديدًا، في أرض الدولة الصهيونية.
لا ريب أن برنشتاين صار فيما بعد قائدًا محترفًا، ولكن الطريق كان ممهدًا له من قبل أن يخطو فيه. لا ريب كذلك في أن إظهار قيادته الأولى، وكأنها قيادة أسطورية، فيه الكثير جدًا من الأسطرة المتعمَّدة. قد كان الوسط الموسيقيّ الأمريكي معدًا مسبقًا لاستقبال هذه الأسطرة، وإعادة إنتاجها، وهو ما يتضح في تعريف برنشتاين العملي لنفسه، منذ سيمفونيته الأولى، التي أعربت عن يهوديته، كقومية لا كمجرد ديانة، في خطواته الأولى كمؤلف.
عرّف برنشتاين نفسه منذ عمله السيمفوني الأول: السيمفونية رقم ١ بعنوان إرميا كيهودي معتز بتراثه القومي، أحد روافد إلهامه الدرامي. إرميا، الذي يعتقَد أنه توفي عام ٥٧٠ ق.م، أحد أبرز أنبياء العهد القديم، المعروف بالنبي الباكي، الذي وَصفتْ الأسفارُ المنسوبة إليه مشاهدَ سقوط القدس، في مراثيَ، تُعد من قبَل بعض النقاد من أبلغ ما قيل في رثاء المدن. لهذا لم يتوقف التأثر عند حد الدراما؛ فقد اقتبس برنشتاين نصوصًا من مراثي إرميا لتغنيها متسوسوبرانو في الحركة الثالثة.
ربما قرر برنشتاين مسبقًا أن تكون سيمفونيته الأولى عملًا دينيًا بصورة مباشرة، في وقت اضطهاد النازيين لليهود، وغير اليهود، في أوروبا. تتكون السيمفونية من ثلاث حركات بحسب برنامج من ثلاثة فصول: الحركة الأولى: النبوءة، تليها الحركة الثانية: التدنيس، وأخيرًا تنتهي السيمفونية بـ مراثي إرميا سابقة الذكر. قدمت السيمفونية للمرة الأولى عام ١٩٤٤ في بيتسبرج بالولايات المتحدة، بأداء أوركسترا بيتسبرج السيمفوني، وقيادة المؤلف؛ وقد حصلت في العام نفسه على جائزة جمعية نقاد الموسيقى بنيويورك عن أفضل عمل أمريكي.
حقيقي أن الأوروبيين، وخاصة الألمان، قد اضطهدوا اليهود، وهناك مئات الأدلة على ذلك. لكن هناك مئات الأدلة في المقابل على المبالغة في تصوير هذا الاضطهاد، وكأن النازية قد خُلقت لإبادة اليهود. في الواقع، وكما أفاد أشهر فلاسفة العالم اليوم، السلوفيني سلافوي جيجيك، اضطهد النازيونَ اليهودَ المُصِرّين على البقاء في أوروبا، لا المهاجرين إلى أرض فلسطين، وذلك في حوار له بعد أحداث غزة الأخيرة مباشرة.
على كلٍّ عدد قتلَى السوفييت أكثر بعشرات الملايين – بلا مبالغة – من عدد قتلى اليهود في أوروبا على أيدي النازيين. من حق اليهود أن يتعاطفوا مع قتلاهم على أيدي النازيين، لكنهم فشلوا في عولمة قضيتهم. هذا خطأ كل أقلية تركز على قضيتها الفئوية الضيقة، ولا تتجه إلى عولمتها بما هي قضية الجميع: قضية رفض الآخَر بالإبادة بصورة عامة.
في عام ١٩٤٤ لم تكن دولة الاحتلال قد أعلن قيامها بعد، لكن الهجرات إلى أرض فلسطين كانت على أشدها تحت الرعاية البريطانية الاستعمارية. كيف غفل برنشتاين – وجمهوره – عن هذه الحقيقة؟ فهل الاستعمار حلال للبعض وحرام على الجميع؟ إذًا لم يفشل اليهود فقط في عولمة القضية، بل أيدوا قضية الخصم. يفيد جيجيك في حوار آخَر حقيقة معروفة، هي أن النازية نفسها قدمت نفسها كبديل عن الاستعمار والرأسمالية الغربية، وهي حقيقة غريبة، تحمل مفارقة أصيلة، لكنها حقيقية. هي ليست مفارقة نازية فحسب، فقد ورثت الصهيونية هذه المفارقة ذاتها من النازية، فهي أقرب في نظرنا إلى نازية مضادة، وابنة شرعية لهتلر وهملر وهيس وجورنج.
أما العمل التالي فهو السيمفونية الثانية بعنوان عصر القلق، وهي عمل بروجرامي كالسيمفونية الأولى. وقد وضعها برنشتاين بين عامي ١٩٤٨ و ١٩٤٩. يقدم العمل خبرة سمعية هي خبرة برنشتاين وجيل برنشتاين عمومًا بكتاب بالعنوان نفسه، وضعه و. هـ. أودن (ت ١٩٧٣ م) W. H. Auden عام ١٩٤٧، في مطلع الحرب الباردة، حين أوشك العالَم ككل أن ينتهي بحرب عالمية ثالثة أكثر من مرة، وحيث ظهرت قوة العلم الحقيقية، واستعبدت الآلةُ صانعها. كنا قد قدمنا على معازف في مقالة ما وراء الموسيقَى خبرة أخرى أكثر تفصيلًا، استغرقت مشروعًا موسيقيًا كاملًا، ربما هو الأكثر تركيزًا على الإطلاق في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية على هذه الإشكالية، صراع الآلة والإنسان، هو مشروع ديمتري شوستاكوفيتش. لكن تركيز برنشتاين على هذه المسألة، حيرة الإنسان المعاصر، وإحساسه بالضياع، والعدمية، كان أبسط، وربما كان أقرب إلى تأثره بخبرة جيله ككل بصدد هذا الكتاب.
تتكون السيمفونية من قسمين، يشتمل كل منهما على حركات قصيرة، أغلبها تنويعات. يتضمن القسم الأول المؤدَّى بالأوركسترا أربع عشرة حركة، بينما يتضمن القسم الثاني المؤدى بالبيانو المنفرد ثلاث حركات. قدم العمل للمرة الأولى عام ١٩٤٩ بأداء أوركسترا بوسطن السيمفوني، وقيادة سيرجي كوسفتسكي (المُهدَى إليه العمل)، وعزْف برنشتاين على البيانو.
يظهر هنا تجديد برنشتاين في تخصيص حركة للبيانو، إضافة إلى بنية العمل غير التقليدية. على أن ذلك العصر كان عهد التجديد بحق في الموسيقى الكلاسيكية، وربما كان هذا هو السبب في وفاتها الإكلينيكية مع مطلع السبعينيات تقريبًا من القرن العشرين؛ حيث أدّى التجديد غير المحدود في تلك الحقبة إلى انهيار الصيغة عمومًا كمفهوم عام يتحرك في إطاره الموسيقيون ليطوّروا تفاصيله، ومن العسير تصور الموسيقى الكلاسيكية من دون صِيَغ عامة. لا ريب أن تجديدًا محدودًا مثل هذا لبرنشتاين قد ضاع وسط هرطقات سترافنسكي، وشطحات شوستاكوفيتش، وغيرهما من عظماء الموسيقى المعاصرة.
قد يبدو للقارئ أن العمل بعيد في موضوعه عن التراث اليهودي، وعن الدعاية الصهيونية، لتبدد الحقيقة التاريخية هذا الظن، إذ وضع برنشتاين جزءًا من العمل في فلسطين نفسها، أثناء “كفاحه” في تأسيس دولة الكيان بين عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩. لا مبالغة في نظرنا في القول بأن برنشتاين كان من أعمدة الأساس لقيام هذه الدولة من حيث البروباجندا، حتى وإن كان العمل لا يحمل تيمة صهيونية أو يهودية مباشرة.
ثالث أعماله الكلاسيكية الهامة هو سيرينادا عن محاورة المأدبة لأفلاطون الموضوعة للكمان المنفرد، والوتريات، والهارْب، والآلات الإيقاعية. ألفها برنشتاين بين عامي ١٩٥٣ و١٩٥٤. تدور المحاورة حول السؤال عن معنى الحب، والشهوة، ولذلك لفتت نظر مؤلفها، وتتكون من خمس حركات، تمثل أصوات الشخصيات الأساسية في المحاورة: فايدروس وبوزانياس في الحركة الأولى، أرسطوفانيس في الثانية، إركسماخوس في الثالثة، وأجاثون في الرابعة، وسقراط وألقبيادس في الخامسة. هي غير ذات برنامج بالمعنى الدقيق، لكنها تحاول نقل أجواء المحاورة، بالأحرى الأجواء، التي اعترت المؤلف حين قرأها. كما نرى مثّل الأدب، بما فيه الأدب الديني، مصدر أفكار برنشتاين، وسيستمر هذا في الأعمال التالية.
يقول برنشتاين، نقلًا عن الموقع المخصَّص له، إن الموسيقى هي نفسها محاورة، محاورة بين آلات موسيقية وجمل لحنية. هذا صحيح كوصف عام جدًا لجانب من ماهية الموسيقى، لكنه ليس الجانب الجوهري، ولا يفسر بذاته سبب اختيار المؤلف لهذا الموضوع. ربما كان السبب كما قلنا هو تأثره الشخصي بالنص من حيث محتواه، علاوة على رغبة محتملة في العثور على موضوع جادّ، يجعل له موطئ قدم في عالم المؤلفين الكبار. حاول برنشتاين أن ينسب إلى جدل أفلاطون الطبيعة الاشتقاقية للعمل في معالجة الألحان، بيد أن هذه خاصية للموسيقى الكلاسيكية عمومًا.
العمل الرابع هو السيمفونية الثالثة قادش وعزفت للمرة الأولى عام ١٩٦٣، مهداة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق كيندي، الذي اغتِيل قبل عرضها الأول بأسابيع. قادش اسم صلاة يهودية، ولذلك هو عمل آخَر من سلسلة أعمال استلهم فيها برنشتاين تراثه الخاص. وقد استعمل فيها الصوت البشري كذلك على هيئة الكورال وكذلك كراوٍ منفرد، قام برنشتاين بنفسه بكتابه النص، الذي يرويه.
يدور موضوع السيمفونية حول عتاب، وتساؤل من جهة أحد البشر (الراوي) للإله، وذلك في سياق مشكلة الشر الشهيرة: لماذا يسمح الله بالشر في العالم؟ نظرًا للانتقادات الفنية، التي واجهها العمل بعد عرضه في الولايات المتحدة، انتهى تفكير مؤلفه في عام ١٩٧٧ بعمل نسخة معدلة منه، قام فيها باختصار ما رآه حشوًا فيه. كما نرى، فإن سؤال الشر في حد ذاته عالمي، وهامّ، وأحد أهم أسئلة الفلسفة إلى الآن، لكن سؤالنا هنا هو: لماذا قدمه في السياق اليهودي بالذات؟ وهو أحد جوانب الفشل المقصود في عولمة القضايا الإنسانية عند ذوي الميول الصهيونية.
يكشف التحليل، الذي يتغيّا الموضوعية قدر الممكن، عن أن برنشتاين لم يخصص كل مشروعه الموسيقي، على الأقل قائمة أعماله الشهيرة ذات الشعبية، لاستلهام التراث اليهودي، أو الدعاية للصهيونية بشكل مباشر؛ وهو ما يبدو في العمل الخامس معنا، وهو أوبريت من فصلين بعنوان كانديد عن الرواية القصيرة الشهيرة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير. كانديد على نحو عام نقد أدبي ساخر من فكرة التفاؤل، التي دعا إليها لايبنتس، بينما أوروبا تجتاز عددًا من أسوأ حروبها، وتَنافُسها على المستعمرات. صدرت طبعتها الأولى عام ١٧٥٩. وقد وضع برنشتاين موسيقى العمل ليؤدَّى على مسرح برودواي للمرة الأولى عام ١٩٥٩ بعد مئتي عام بالضبط من تاريخ نشر الرواية.
تلقى العمل العديد من الانتقادات، وإن كانت تلك الانتقادات تكشف لنا عن أن أفضل عناصر العمل كان الموسيقى. كما فعل برنشتاين في حالة السيمفونية الثالثة، فقد أعاد كتابة العمل، وأنتج نسخة منقحة منه عام ١٩٨٩.
أما العمل السادس فهو باليه وهمُ الحرية ترجمة بتصرف لـ Fancy Free، الذي قدم عرضه الأول عام ١٩٤٤، وهو من أعمال برنشتاين ذات الشعبية من جهة الموسيقى. يرمز العمل إلى حالة السعي العبثي الدائم نحو الحرية، ذلك السعي الذي يثبت فشله كلما أوشك على التحقق. تدور قصة العمل حول ثلاثة من البحارة في زمن الحرب العالمية الثانية، يدخلون إحدى الحانات، ويتناولون الشراب، ويتحدثون عن الفتيات؛ وحين تدخل إلى المكان فتاة حسناء يسارعون إلى كسب ودها. تهرب الفتاة منهم، فيتبعها اثنان، تاركَين الثالث وحيدًا. لكن حظ هذا الثالث يبتسم، إذ تمر به فتاة أخرى، وحين يعود البحاران، اللذين غادرا مع الفتاة الأولى، إلى الحانة مع الفتاة، يتضح لهم أن الفتاتين صديقتان. يشرع كل زوجين في الرقص، تاركين دائمًا بحارًا ثالثًا ليرقص وحيدًا، ما يتسبب في شجار آخَر بين البحارة. يستفيق الثلاثة من الشجار على واقع الحال، فقد هربت الفتاتان بلا عودة. وتعود القصة تكرر نفسها حين تمر بهم حسناء ثالثة، وهكذا. تعبر النهاية المفتوحة عن الرمز السيزيفي، الذي يعبر في أسطورة سيزيف الأصلية عن خلو الحياة من المعنَى، كونها سعيًا نحو هدف يتباعد عن الساعي طيلة العمر. بطبيعة الحال يعبر اختيار الأبطال بين بحارة الحرب خاصة عن عبثية الحرب نفسها، وعن أن أهدافها متحركة على الدوام نحو الأفق كالسراب. بعد عامين من العرض الأول أصدر برنشتاين متتالية مقتبسة من الباليه عام ١٩٤٦.
ربما وصل برنشتاين في الخمسينيات إلى مرحلة أرقى من النضج الفني، حيث بدأ للمرة الأولى التعبير عن ذاته، دون ارتباط صريح بالأيديولوجيا، وهو ما يظهر في العملين التاليين. وهما أوبرا من جزئين. كان المخطط الأصلي أن يكون الجزء الأول مستقلًا، ورطة في تاهيتي عام ١٩٥٢، الذي قرر المؤلف بعد أعوام طوال إنتاج جزء ثانٍ له هو مكان هادئ عام ١٩٨٣.
تدور أحداث ورطة في تاهيتي في فصل واحد يناسب كون أحداثه تقع في يوم واحد حول جانب من حياة برنشتاين الشخصية، ولهذا فالعمل أقرب إلى المتلقي بشكل عام من تلك الأعمال “الجادة أكثر من الحدّ” التي اقتُبسَت من محاورات لأفلاطون أو كتب فولتير. يرسم العمل صورة زوجين، هما في الحقيقة والدا برنشتاين، غير سعيدين، لكنهما مرتبطان بقيود الزواج، ونرى في حياتهما المزيج المتناقض من كراهية هذه الحياة، والتوق إلى الشعور بالحب، مع الشعور بتأنيب الضمير المستمر تجاه الطرف الآخَر، ومحاولة كل منهما إسعاد الآخَر برغم كل شيء.
وضع برنشتاين جزءًا ثانيًا لهذه القصة كما سبق ذكره، بحيث يتم عرض الجزأين معًا مع فاصل موسيقي (إنترمتسو). نظرًا لطول الفترة بين الجزأين من حيث التأليف، لم يأتِ الجزء الثاني، مكان هادئ، متناسبًا مع سابقه من حيث الأسلوب، والطابع العام للألحان، ما استثار الانتقادات، ودفع المؤلف لسحب العمل من دور العرض، وإنتاج نسخة منقحة منه، كحال العديد من أعماله.
يأتي المقام الآن إلى أشهر أعمال برنشتاين المسرحية الموسيقية، قصة الحي الغربي (١٩٥٧)، ربما أنضج أعمال برنشتاين التي ظلت محتفظة برشاقتها وشبابها؛ وهي في صورتها الحالية بعيدة عن أن تكون جزءًا من البروباجندا الصهيونية. يخيب هذا الظن كثيرًا، حين نعرف أن قصة الحي الغربي كانت في الأصل قصة عن اليهود الناجين من محرقة أوروبا، وكيف ربط الحب بين فردين من عائلتين، إحداهما من أصول يهودية، والأخرى ذات ميول معادية للسامية، وذلك في إعادة كتابة لمسرحية روميو وجولييت لشكسبير. بيد أن العمل تعرض لعمليات تعديل، وإلغاء، ثم تعديل، معقدة، يطول شرحها، ما أنتج في النهاية القصة المعروفة عن عصابتين من المراهقين في الحي الغربي لمدينة مانهاتن، ينتمون لأسر من العمال، تنحدر أصولهم من خلفيات عرقية مختلفة، بحيث تسير الأحداث نفسها مع تبديل الأطراف، وكيف يؤدي الحب إلى تجاوز خلافات عميقة، وتناقضات عدائية. كان قرار برنشتاين فيما يبدو صائبًا، حين حرص على التركيز على تأليف الموسيقى بدلًا من المشاركة في كتابة السيناريو؛ ما أدى إلى كون موسيقى العمل الأكثر شعبية بين أعماله.
في ختام هذا العرض النقدي يمكن القول إن برنشتاين كان شخصية فنية هامة في محيطه الجغرافي، والتاريخي، عاش حياة مليئة بالنجاح والشهرة، يتمناها كل فنان، وربما كان أجمل ما فيها هو متعته الشخصية بعمله في هذه الرحلة الفنية الطويلة. مع ذلك تحضرني كلمة له، في الفيلم المذكور بصدارة المقال، وهو يميز بين المبدع والمؤدِّي، فيفرق بينهما على أساس أن الأول يتميز عادة بشخصية انطوائية، تتمتع بالتركيز على الداخل، وبشجاعة الاختلاف مع السائد، بينما تتمتع الثانية، خاصة في حالة قائد الفرقة، بشخصية انبساطية، قادرة على التعامل مع مختلف أنماط الشخصية، واستغلال نقاط قوتها، لأداء عمل جماعي. ربما كان برنشتاين أميل إلى النوع الثاني الانبساطي.
من الواضح أن برنشتاين لم ينتج مشروعًا موسيقيًا مسهبًا، ملحميًا، كمعاصريه من أعلام الموسيقى الكلاسيكية، وربما لم يسع إلى ذلك؛ لأنه وزّع جهده كما راق له على جانبَي التأليف والقيادة. وبينما ظهرت موهبته في القيادة على نحو لافت للنظر، فإن غالبية أعماله الإبداعية تعرضت لمراجعات من جهته بعد انتقادات النقاد. إذا لم تحظَ موسيقى برنشتاين بإعجاب المستمع، فلا ريب أن قيادته للأوركسترا، وحياته نفسها، قادرة على إثارة حسد أغلب أهل الفن.
أزعم هنا أنني أشد حرصًا على الموضوعية من أستاذنا فؤاد زكريا بصدد تقييم برنشتاين. لا أسخر من اسمه، ولا من وضعيته وهو يقود الأوركسترا بانفعال زائد. لا أسخر منه أصلًا، ولا أستاء من كونه يهوديًا على الإطلاق. مشكلته في رأيي أنه سخّر نفسه، وعددًا من أهم أعماله، كما رأينا أعلاه، واستغلّ موهبته في قيادة الأوركسترا للدعاية للاستعمار، وللمحارق التي أعدت لعرب فلسطين، وللمشاركة في حرب العصابات الصهيونية. كان لبرنشتاين – كما علينا أن نذكر – دورًا في مناهضة انتشار الأسلحة النووية، ورعاية مرضَى الإيدز في وقت كان الناس فيه يتخوفون من مجرد ملامسة أحدهم، لكن هذا لا يغفر عند التاريخ إصراره على صهيونيته حتى النهاية.
ربما لا نجد موسيقيًا في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية يقف موقف المُدان بجرائم حرب حقيقية على هذا المستوى سوى نظيره على الجانب الآخَر: كارل أورف، موسيقار النازية الحي، بخلاف فاجنر الميت، الذي كان عمله الأشهر كارمينا بورانا أغنية النازيين، ووقع أقدامهم الثقيلة، ونبض قلوبهم الغليظة. لو أن هناك مكانًا مفضَّلًا للموسيقيين في الجحيم، لوقف على بابه كارل أورف من جهة، وبرنشتاين من الجهة الأخرى.