.
تتجاذب صورة بليغ حمدي نزعتان، تراه الأولى عبقرياً لا يطال سماء عبقريته أحد، مجددًا مثريًا للموسيقى المصرية وباعثًا لموسيقاها الشعبية على خُطى سيد درويش، وتراه الثانية، الغالبة لدى المثقفين والكتاب، مجرد ملحن ناجح تجارياً صاخب الإيقاعات فقير المضمون.
لن يعدم أصحاب الرأي الأول الحجج، فهو أصغر من لحن لأم كلثوم ووصلها بالجيل الشاب، وهو من صنع شهرة محمد رشدي ومحمد العزبي بالأغاني الشعبية التي قدمها، واكتشف سميرة سعيد وعفاف راضي وغيرهما وغنى معه عبد الحليم بعض أشهر أغانيه. وهو من طبع غناء حرب ٧٣ وما تلاها بأغانيه الوطنية بما في ذلك مع شادية وشكل مع وردة دويتو في الحياة وفي الغناء جعل منها نجمة ساطعة.
كما لن يعدم أصحاب الرأي الثاني من الحجج، فأردأ ألحان غنتها أم كلثوم كانت على الأرجح حب ايه وحكم علينا الهوى، وهو اقتفى أثر محمود الشريف وعبد العظيم عبد الحق وغيرهما في الغناء الشعبي، واستقى كثيراً من جمله من الفولكلور مشوهًا إياه. أغنياته الوطنية ليس فيها ابتكار يذكر خارج مناسبتها، كما أنه قدم مئات من الأغاني التي لا يذكرها أحد لعشرات من المغنين والمغنيات المغمورات دون أي نجاح.
كالعادة، يكون الواقع بعيدًا عن التطرف في النظر إليه. لكن سؤال بليغ حمدي وموقعه هو أولًا سؤال عن الظلم الذي وقع عليه من كلا الرأيين ومن ظروف حياته (ولا أعني هنا القضية الجنائية التي تعرض لها فحسب)، وسؤال منجزه الحقيقي وعلاقته الموسيقية بزمنه، وأخيرًا هو سؤال عن المعايير التي تسمح بالحكم على هذا المنجز وعلى النظر في جدواه ووظيفته وأهميته بما يتجاوز الذائقة الفردية التي قد تتعلق بجملة موسيقية أو بأغنية لألفتها أو لغرابتها أو فقط لموافقتها ذكرى شخصية عزيزة.
عديدة هي أوجه الظلم اللاحقة ببليغ حمدي، بدءًا بوصفه بالملحن الشاب لأم كلثوم (في وصفه نقيضًا في هذا للسنباطي والقصبجي والشيخ زكريا) وكان يومها في التاسعة والعشرين من العمر، في حين أن سيد درويش توفي عن واحد وثلاثين عامًا لا أكثر، إذا ما ضربنا مثالًا قريبًا إلينا، وأن عبد الوهاب كان قد أنجز مجمل أعماله الكبيرة في ثلاثينيات القرن الماضي أي عندما كان في عقده الثالث أو الرابع على الأكثر. أي أن بليغ كان أصلًا رجلًا وملحنًا راشدًا عندما لحن حب إيه التي، برغم الحكم النقدي السيئ عليها وخفة كلماتها، لا تزال من أكثر أغنيات أم كلثوم شعبية، وعلى الرغم من أن أعماله لا تصمد للمقارنة بشوامخ القصبجي معقدة التركيب أو بطربيات زكريا أحمد رغم استلهامه لهما في أكثر من موضع (مثل أنساك أو الحب كله).
من الظلم أيضاً مقارنة بليغ حمدي بعبد الوهاب أو حتى فريد الأطرش، اللذين كانا ملحنين ومغنيين ونجمي سينما ومسرح، في حين كان بليغ حمدي مقصوراً على التلحين فقط وإن عجز فيه عن التنوّع الذي يدل عليه إرث عبد الوهاب والأطرش. من الظلم أيضًا مقاربته كمؤلف موسيقي، أي كمبتكرٍ لموسيقى جديدة تراكيبًا أو جملةً أو مزاجًا، في حين أنه كان ملحن كلماتٍ لأغاني زمنه. ففي الوقت الذي يدهش المرء فيه من حيوية الأطرش فيما بين الأغنيات الخفيفة والدويتو والأغنية العاطفية الطويلة والأوبريت السينمائية، وكذلك من تنوع وغزارة الأساليب الموسيقية التي لا يكاد يشملها حصر تلك التي استعملها عبد الوهاب في مسيرته الفنية الطويلة جدًا (الموال والقصائد والمونولوجات والمحاورات والمسرح الغنائي والأغاني السينمائية الفكاهية والقطع الموسيقية البحتة) ومن رغبته في العمل مع موزعين مجتهدين ومجددين لإنتاج صوت جديد للفرق المصاحبة، فإن بليغ حمدي محصور موسيقيًا ـ مع استثناءات قليلة ـ في الأغاني العاطفية والطويلة سواء كان موضوعها الحبيبة أو كان الوطن، ولئن كان بالإمكان لمس تشابه بين أعماله وأعمال عبد الوهاب (مثل لولا الملامة ومالي لوردة، أو فات المعاد وإنت عمري لأم كلثوم) فإن المقارنة تدل غالبًا، بخلاف الانطباع السائد، على أن عبد الوهاب كان أسبق في عمله وفي قدرته على أن يُري الملحنين الآخرين آخر الطريق الذي وضعوا أقدامهم على أوله.
ومن الظلم أيضًا اعتبار بليغ حمدي “ماكينة تفريخ” للمطربين الناجحين، فمقابل سميرة سعيد وعفاف راضي ومحمد رشدي (الذي كان قد أصاب نصف نجاح مع قولوا لمأذون البلد) ومحمد العزبي، فشل بليغ في تقديم عشرات آخرين، كما فشل أيضًا في تقديم أغانٍ ناجحة وباقية لكثير من المطربين الناجحين في وقتهم. من يذكر مثلًا أغنياته لهاني شاكر أو أحمد عدوية أو محمد منير أو عماد عبد الحليم، كي لا نذكر آخرين مثل جلال حمدي وتوفيق فريد وسماح الاسكندرانية وروح الفؤاد. عن حقٍ أحاط النسيان مئات الأغنيات تلك وليس عن عبث.
من الظلم أخيرًا أن وقع كل ذلك على بليغ حمدي دون أن يكون قد درس الموسيقى دراسة جدية تتجاوز أبجديات العزف (التي ظل ضعيفًا فيها) وقراءة النوطة، وأن يكون قد وضع تحت وطأة أن يقال إنه “أمل مصر“، وأن يترافق ذلك مع مرحلة الستينيات والسبعينيات التي شكّلت وعيه وصورة الفنان في الخيال الشعبي والسينمائي المصري التي شجعت بوهيمية موسيقية وشخصية انفعالية وغير مستقرة، بخلاف كل ما كان في وسعه أن يتعلمه من شخصيات وسلوكيات أم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطي والقصبجي في الحياة كما في الموسيقى. غياب الدراسة والاستقرار في التعامل مع الموسيقى أدى إلى ما يتجاوز النكات عن سفره وحياته الخاصة، أعني أنه أدى إلى عجز عن التعامل مع العمل الموسيقي كعمل شرطه التماسك والبناء والصقل والاقتصاد في الأدوات، إذ قلما نتذكر له ما يتجاوز المطلع من الأغاني (كمطلع عاشقة وغلبانة أو وسع للنور) وربما، في بعض الأحيان، الكوبليه الأول.
ليس ظلمًا آخر الأمر ما قاله عنه عبد الوهاب في “أوراقه الخاصة جداً” إن لديه “ومضات من الألماس على تراكيب من صفيح“، بل ربما كان هذا رأي الجواهرجي البارع عبد الوهاب أكثر مما كان صادرًا عن غيرته.
تأخر نضج بليغ حمدي الحقيقي. صحيح أنه كان أصلًا قد حقق قبل مرحلة الغربة معظم نجاحاته مع وردة وعبد الحليم ورشدي والعزبي وشادية (في الغناء الوطني) وغيرهم، إلا أنه كان لا يزال يمزج كل ذلك بتجارب شديدة التهافت كمثل “الجيرك” الذي لحنه لمحمد عبد المطلب مثلاً (بالمقارنة، فإن ملحناً موصوفاً بالفرنجة مثل كمال الطويل وضع لهذا الأخير لحناً بديعاً) أو مثل موضع استيحاء أغنيات قديمة مثل ما على العاشق ملام، وقدك المياس، وتركيب تنويعات سهلة وسطحية عليها.
كلن بليغ أيضًا، قبل الغربة، قد التقط مع محمد رشدي التوقيت الاجتماعي المناسب الذي انتقل فيه من ألحان رومنسية مثل تخونوه إلى المانجة طابت عالشجر وأنا كل ما قول التوبة وعلى حسب وداد قلبي، في مرحلة كان الغناء الشعبي فيها ضرورة شبه سياسية. وهو ما أشار إليه محمد رشدي في حواره التلفزيوني مع عمار الشريعي من أن عددًا من المثقفين النافذين (ذكر منهم رجائي النقاش وإحسان عبد القدوس وصلاح حافظ) كانوا يعدّونه ليكون مطرب المرحلة التي تتطلب الانتقال إلى الغناء الشعبي، فتعامل مع الأبنودي ثم درس رشدي المواويل الشعبية حتى أتقنها تحضيرًا لملحمة أدهم الشرقاوي بعد أن كان قادمًا من مدارس الغناء الطربي الكلاسيكي الكلثومي والوهابي عاشقًا لليلى مراد وأناقة أدائها. هكذا تم التحضير، لأسباب أيديولوجية وسياسية تسمح بالانتقال من صوت الطبقة الأرستقراطية إلى صوت الشعب بالتوازي مع صوت عبد الناصر ممثلًا لهذا الشعب، ومن ثم صوت عمدة البلد أنور السادات، لخلق نمط شعبي جديد يستعير من التراث كلماتٍ وجملًا وإيقاعات دون أن يكون فعلًا استمرارًا بحتًا لهذا التراث الذي تتكرر جمله دون تنويع وتغيير، وبإيقاعات ثابتة، وبتحليات تقليدية لا زخرفات كروماتية فيها ولا قفزات كبيرة في الأبعاد، بخلاف شغل بليغ حمدي وقبله عبد العظيم عبد الحق ملحن تحت الشجر يا وهيبة وسحب رمشه.
حقق بليغ حمدي شهرة ضخمة في تلك الفترة، معتمداً على حس إيقاعي ورغبة في إدخال الإيقاعات بمختلف الآلات، وليس فقط تلك الإيقاعية تقليديًا، وحتى من خلال شذرات قصيرة لها وظيفة إيقاعية بحتة وجرأة في استخدام الأورغ والغيتار والساكسفون (من ينسى الجملة البديعة التي عزفها سمير سرور في فات المعاد؟) ما جعل صوت أغاني بليغ حمدي متميزًا عن الصوت المعتاد في الأغاني الشرقية في أيامه. كما استعار بعضاً من تقنيات زكريا أحمد (كتكرار “وسع” في وسع للنور) أو الحس المسرحي (“أنساك؟ ده كلام!” أو “أي دمعة حزن لا“)، واستعار من عبد الوهاب وأكثر من النقلات المقامية والتلوينات الكروماتية الكثيرة. كما طغى لديه تركيب الجمل من تكرارين أو ثلاثة تكرارات للموتيف يليها كسر له بخاتمة أطول للجملة (افتتاحية جانا الهوى مبنية على المثال الأول وهو كثير في أعماله كما في الجملة الراقصة من مقدمة يا حبيبتي يا مصر، وتقدم جملة النكريز التي تسبق مقطع “افتكرلي لحظة حلوة” في بعيد عنك المثال الثاني. أما مقدمة زي الهوا فتحوي نماذج على المثال الثاني في أولها وتنتقل إلى المثال الأول بعد ذلك ممزوجة بشذرات ذات وظيفة إيقاعية. تكرار الموتيف تقنية مطردة لديه يستخدمها لمنح الجمل حيوية كما في الجملة الراقصة من مقدمة سواح). كما جعل بليغ من تقنيات أخرى دلالة واضحة عليه، هما بناء الجمل على تكسير الائتلافات الهارمونية إلى تتابع نغمي (كما في مقدمة أي دمعة حزن لا) ما يسمح ببناء أبعاد غير معتادة في الموسيقى الشرقية وملائمة للساكسفون والأورغ والغيتار، والسؤال والجواب (كما في الجملة الراقصة الشهيرة في مقدمة على رمش عيونها) وأحيانًا يتكون السؤال من تكرار النوطة نفسها بدل أن يكون السؤال مركبًا (كما في مطلع طاير يا هوا أو يا ليلة ما جاني الغالي)، وأخيرًا أن الجملة قد تتكون من شقين متماثلين يختلفان فقط في النهاية (مثل مطلع حب إيه أو كالجملة الراقصة في مقدمة جانا الهوى).
في مرحلة متأخرة عاد بليغ إلى اكتشاف العود (مع د. ممدوح الجبالي في بوابة الحلواني) والقانون (في بودعك) وأدخل الطاقة المتوترة العالية لشذرات الكمنجات الحادة في العملين وقدم حوارًا بديعًا بين الآلات المختلفة في بودعك مذكّرًا باستخدام الكمنجات كآلات إيقاعية أيضاً بالقوس لا بالنقر Pizzicato. في بوابة الحلواني، رغم سذاجة مقاربة غناء القرن التاسع عشر بهذه الطريقة، إلا أنه حاول الإبقاء على نوع من التماسك والترابط بين الأغنيات المقترحة في صيغة شرقية مبسطة.
في كل ما سبق، تلوح الموتيفات الشذرية (أليست الشذرات أيضًا من مميزات الفن المعاصر في الأدب والفكر وليس فقط في الموسيقى؟) ويلوح تكرارها أساسيين في ألحان بليغ حمدي الكثيرة حيث يعوض التكرار بالحيوية الإيقاعية عن قصر نفس الموتيف وانسيابية الجمل، وربما كان هذا هو السر الأساسي في السهولة المعجزة لحفظ جمله الراقصة والتي توازي سهولة حفظ سيد درويش، المعتمد أيضاً على تكرار بصيغة أخرى.
قد يكون هذا ظلمًا آخر تعرض له بليغ، وآخرون، حين يقتصر الحكم على عملهم في الجانب التقني البحت لابتكاراتهم. لا أقول بإهمال هذا الجانب ولا بالتماس الأعذار فيه، لكنه عنصر ينبغي إضافته إلى عناصر أخرى لتكتمل صورة فن بليغ حمدي وغيره كي يكون بالمستطاع النظر فيها والحكم عليها.
بليغ حمدي شهد عددًا من التحولات في حياته، منتقلاً من تخونوه الرومانسية وخسارة التي تذكر بشغل الطويل والموجي الأول وأنساك التي تذكر بالشيخ زكريا، إلى الأغنيات الشعبية مثل بهية وعدوية ويا ليلة ما جاني الغالي والوطنية مثل عدّى النهار ومعظم أغاني مرحلة ١٩٧٣، ثم أغاني الغربة والوداع والمسلسلات. ومنتقلًا من كونه ممثل الإيقاعات والأغاني الغربية إلى العود والقانون والناي، ومنتقلاً من كونه “أمل مصر” إلى المطرود منها. في كل هذه المسيرة تماهت معه ناس غفيرة، في الحب والفراق والأمل والحماس والعزيمة والانكسار، فعشقت وحاربت وحزنت وفرحت وعثرت في كل هذا على أنغامه معينًا للتنفيس عن مشاعرها أو لإيصالها إلى آخرين، عشاقًا وأقارب ومغتربين. وكما رشدي، كان بليغ “الشعبي” ثم “الوطني” حاجة سياسية واجتماعية في وقته، كما كانت نجاحاته عاملًا اقتصاديًا هامًا في الإنتاج والتجريب وشراء آلات جديدة وإطلاق أصوات ومواهب جديدة (فضلًا عن الكثير من الملحنين المقلدين الذين ساروا على خطاه بموهبة أقل، مثل محمد سلطان وخالد الأمير وحلمي بكر وغيرهم وصولاً إلى جيل حميد الشاعري).
ليس بالإمكان ولا ينبغي لنا إهمال هذا الجانب أيضًا من صورة بليغ، أي حيوات الجماعة التي عاشت مع أغنياته، وسير المجتمع من حوله سياسةً واقتصادًا. كما لا ينبغي لنا إغفال أنه كان مستحيلًا على بليغ ومجايليه أن يصيغوا موسيقاهم على غرار موسيقى القرن التاسع عشر، مثلما أن من يقلّد باخ أو بيتهوفن اليوم في كتابتهما لن يعدو أن يكون مزيِّفًا كمزيّفي اللوحات أو كهواة يوم الأحد يعمل من خارج التاريخ، أي من خارج النسق الملائم لقول الزمان الحاضر (ولا يعني ذلك أن كل من كتب موسيقى معاصرة يقوله بالضرورة، لكن ما من قصيد سيمفوني يستطيع قوله اليوم).
الأنساق، وحيوات الناس وعواطفهم الكثيرة والمتقلبة، والاقتصاد والسياسة وسير المجتمع: ليست الموسيقى جماليات فقط، بل هي أيضًا وظيفة اجتماعية، ولا نزال أقرب عهدًا بهذه الوظيفة في فن القرن العشرين الذي لم نخرج منه بعد من أن نقدر على تجريدها وإقامة حكم جمالي خالص. من يستطيع اليوم إنزال حكم بمثل هذه النزاهة بمحمود درويش أو نزار قباني، بميشال شيحا أو بإدوارد سعيد، بالرحابنة أو بفيلمون وهبي الساخر من زعماء الحرب الأهلية أجمعين؟