.
وقف عبد الحليم حافظ في حفل عيد الفطر ليلة ١٩ نوفمبر ١٩٧١ ليغني أغنيته الجديدة مداح القمر. قدم الأغنية بذكر مصدر اقتباسها “مداح القمر متاخدة من الفولكلور الحلبي السوري القديم” على غير عادته في أغانيه المتشبهة بالغناء الشعبي، ذاكرًا أن “قدك المياس كلنا عارفينها لإن احنا عملنا عليها الحمد لرب مقتدر” مغفلًا أن محرم فؤاد سبقه لغناء أغنية مأخوذة عن نفس القد الحلبي قبل حفله بعام واحد، وفي التقديم منح ملحنها بليغ حمدي لقب “أمل مصر في الموسيقى.”
كان مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥) الذين تربوا في ظل نظام يوليو ١٩٥٢ قد صاروا شباب جمهور مطرب الجيل الصاعد، أكبرهم كان يبلغ السابعة من عمره وقت قيام الحركة المباركة على يد الضباط (سميت ثورة فيما بعد) ولم يكن أغلبهم على اتصال بموسيقى العهد الملكي البائد (١٩٢٣–١٩٥٢) ليتصلوا بما قبله من موسيقى النهضة وبخاصة تراث الموشحات.
كان قد مر عام وبضعة أسابيع على وفاة جمال عبد الناصر و٦ شهور على ثورة تصحيح السادات في ١٥ مايو ١٩٧١ ومضى عام الحسم الذي أعلنه الرئيس للحرب دون حسم. لم يكترث الجمهور سوى بالحالة الاحتفالية الشبيهة بالمولد ولم يضرب اللقب الممنوح لبليغ أوتار قلوب رافضة. ما قاله عبد الحليم حافظ صار لقبًا سائرًا لم يعارضه أيٌ من الجمهور، ومنح بليغ هالة استمرت حتى اليوم.
في خلفية المشهد كان هناك خلاف مع مجدي نجيب كاتب كلمات أغنيته كامل اﻷوصاف وأغنية محرم فؤاد قدك المياس (من ألحان محمد سلطان) وكان هذا بداية الخلاف بينه وبين حليم الذي كان يرغب أن يحتفظ لنفسه بالموشحات الشعبية (كما سماها نجيب) له فقط، “ومن عناده طلب من محمد حمزة أن يعيد اﻻستفاد من قدك المياس ليقوم بتلحينه بليغ حمدي“ مجدي نجيب، من صندوق الموسيقى زمن الغناء الجميل، مكتبة اﻷسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠١..
لم يمر اللقب مر الكرام في أوساط المشتغلين بالموسيقىMADEO is awesome!، فعبر محمود الشريف عن نقده بقسوة قائلًا “إذا كان صانع هذه الموسيقى هو اﻷمل فأنا أؤكد أنه ﻻ أمل وﻻ مستقبل للغناء وﻻ يحزنون” واكتفى الموجي بنقده للأغنية التي لم تأتِ بجديد، وكان نجيب أشد النقاد لبليغ حمدي فكتب مقالًا لاذعًا بعنوان السيد أمل مصر في الموسيقى مجدي نجيب، أهل المغنى، تأملات في حال اﻷغنية المصرية، كتاب الإذاعة والتلفزيون، مارس ١٩٧٣.
في المقابل لم يبادر محمد عبد الوهاب أستاذ حليم وشريكه في صوت الفن بتصريح أو تلميح، وبعد ٣ سنوات من مداح القمر قدمه حليم لجمهوره بجانبه على المسرح قبل غناء فاتت جنبنا للمرة الأولى، في مشهد ربما مثل إعلان انتساب لمدرسة قائمة بذاتها، “راجل حمل على عاتقه عبء الموسيقى العربية طول عمره، في الواقع مش لاقي كلام أقدر أوصفه، أستاذي محمد عبد الوهاب.“
ما بين “أمل مصر في الموسيقى” و“الراجل الحامل على عاتقه عبء الموسيقى العربية” قطبا تنسيب وانتساب. يتمثل التنسيب في إضفاء هالة اﻷمل على بليغ، هالة سبق أن حملها حليم نفسه في بداية الزمن الجميل (العهد الناصري مقابل العهد البائد)، التنسيب من النسب ولكي يحدث التنسيب يجب أن يحدث على يد منتسب لنسل ما من مسيرة موسيقية متخيلة، مسيرة التبسيط اللحني والخروج عن اﻷلحان المركبة (التي عبر اﻷستاذ أكثر من مرة عن نقده لتعقيدها) مقابل تقديم ألحان بسيطة في متناول المستمع العادي، ولكي يحدث التنسيب يجب أن يقوم المُنسب بإعلان انتساب وهذا ما فعله حليم في حفل فاتت جنبنا مع عبد الوهاب، أعلن انتسابه ليصبح من حقه بأثر رجعي تنسيب غيره.
مشهد حليم سبقه بأربعين عامًا مشهد تمثيلي لأستاذه عبد الوهاب في فيلمه اﻷول الوردة البيضاء ١٩٣٣، حين يمر بصور أسلافه الموسيقيين، الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش ثم تنتقل الكاميرا لوجهه كأنها تضعه في برواز مُكمل للسلسلة، “عن طريق إعلان الولاء والطاعة لسلفه الموسيقي استطاع عبد الوهاب أن يخلق تراثًا موسيقيًا ممتدًًا وحالة متصلة من الإسناد“ وولتر أرمبرست، الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر، ترجمة: محمد الشرقاوي، مكتبة اﻷسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٢.، وكأي تلميذ نجيب يقلد حليم أستاذه عبد الوهاب فيُنسب نفسه لهذا الإسناد بعد أن زاد عليه خطوة جديدة قبل ثلاثة أعوام من إعلان الانتساب بتنسيب ملحن آخر لهذه المدرسة، حالة تشبه إعلان الخليفة في الطرق الصوفية. يمسك الشيخ بخليفته في يدٍ ويمسك بشيخه في يدٍ أخرى ليعلن استمرار الطريقة أمام المريدين.
لم يهتم حليم سوى بالمصدر اﻷقرب جدًا لأغنيته، القد الحلبي الذي أحال الحمد لرب مقتدر إليه، فحليم ليس موسيقولوجيًا من اﻷساس ليبحث في أنساب لحن ما، لكن القد بنص مقارب “قدك المياس يا بدري لغصون اﻵس قد يزري” مذكور في الوصلة الحادية والعشرين ومقامها الحجاز في كتاب سفينة الملك لمحمد شهاب الدين محمد شهاب الدين، نفيسة الملك ونفيسة الفُلك، عن نسخة مرقمة ومفهرسة بخط مرقص، تمت في ١٦ يونية ٤ تموز ١٨٨٩، من موقع hathitrust. الذي أتمه في أربعينيات القرن التاسع عشر. لكن الموشح يسقط بعد ذلك من الوصلة المصرية فيغفله كامل الخلعي في فصل بدائع الموشحات العربية في كتابه الموسيقي الشرقي (١٩٠٤) ويغفله أيضًا محمود البولاقي في وصلة الحجاز في كتابه المغنى المصري (١٩٠٣).
لم يشغل حليم باله بقضية الأنساب في علم الموسيقى، فلا معنى لذكر لحن أصل واحد ووحيد في عصر سابق على عصر التسجيل واحتكار الشركات للتراث الغنائي وسجنه داخل قوانين الملكية الفكرية. النص المذكور في سفينة شهاب التي جمع فيها صاحبها وصلات الموشحات في النصف اﻷول من القرن التاسع عشر، يمكن اعتباره أبًا معروفًا تناسل إلى أشقاء كُثُر، أحدها هو القد الحلبي الذي يؤديه صباح فخري من بين آخرين، واﻵخر دور قده المياس زود وجدي من ألحان محمد عثمان وكلمات محمد الدرويش من مقام قريب للحجاز هو البياتي، الذي سجله سلامة حجازي وعبد الحي حلمي على أسطوانات أوديون في العقد اﻷول من القرن العشرين. أما الشقيق اﻷكثر شهرة لقدك المياس، فهو لحن بكلمات مغايرة اقتبسه اﻷستاذ عبد الوهاب في مضناك جفاه مرقده، من لحن يا ليل الصب متى غده بأداء الشيخ أحمد إدريس، ومثلما كانت مضناك لشوقي معارضة شعرية لقصيدة الحصري يا ليل الصب يمكن اعتبار اقتباس عبد الوهاب تأدبًا معارضة لحنية ليا ليل الصب.
يبقى القالب الجديد الذي اعتمده بليغ في كامل اﻷوصاف، وهو شكل توفيقي تلفيقي – بلغة الفقه – ابتكره مجدي نجيب حسب روايته، لصنع أغنية جديدة ملتمسة جذورها في التراث وطبقه في كامل اﻷوصاف (غناء حليم ولحن الموجي) في عام ١٩٦٧، وعاد له في العيون الكواحل ويا هلالًا (غناء فايزة أحمد ولحن محمد سلطان) وقدك المياس (غناء محرم فؤاد ولحن محمد سلطان) وخليك معانا يا قمر (غناء ضحى ولحن إبراهيم رجب) قبل أن يستعيره عبد الفتاح مصطفى في يا عيوني ليه تداري (غناء وردة لحن الموجي).
ربما كانت المقارنة بين مداح القمر وخليك معانا يا قمر هي مفتاح تفكيك القالب المبتكر وكشف توفيقه التلفيقي. يكبرُ إبراهيم رجب بليغ حمدي بعام واحد لكنه لم يحظَ بشهرته واعتُمد في الإذاعة بعده بعقد كامل حتى يمكن اعتباره من الجيل الفني التالي له رغم تقارب سنهما. اعتمد مجدي نجيب في كتابته على موشح أنت المدلل يا قمر من مقام الصَبا وهو موشح إشكالي بدوره وله أنساب عديدة ما بين فصيح وشعبي حتى دخل في دور ضمة بورسعيدي على يد الصهبجية وهو ما سأعود له في مقال لاحق، واعتمد إبراهيم رجب على التضاد ما بين وقار إيقاع الموشح السماعي وصخب إيقاع المقسوم.
يتضح إذًا أن الموشح الشعبي كما صاغه نجيب ليس موشحًا وليس شعبيًا أيضًًا، فهو أغنية تقليدية قائمة على تعدد الكوبليهات مثله مثل اﻷغاني اﻷخرى السائدة التي نشأت من الطقطوقة المتطورة متعددة اﻷغصان، يعتمد في جملة منه فقط على نص موشح معروف بعد تبسيطه ليُكمل بكلمات أخرى، ويعتمد لحنه على التضاد الفني ما بين وقار إيقاعات الموشحات الثقيلة وخفة الإيقاعات البلدية مثل الواحدة والمقسوم. والقالب رغم تلفيقه الواضح يصلح ﻷغنية قصيرة مثل خليك معانا يا قمر، رغم عنف الانتقال الإيقاعي في “آه آه آه ياللاللي” مما ينفر أذن المستمع.
عنف الانتقال الإيقاعي هو كلمة السر عند بليغ حمدي، فهو زخمجي الإيقاعات اﻷول وحشدها عنده ما بين كوبليه وآخر أوضح ما يكون في مداح القمر. يعتبر البعض هذا الحشد الإيقاعي وزخمه تجديدًا وابتكارًا. هو تجديد لو كان التجديد مجرد رص إيقاعات متجاورة متعاقبة مثل مداح القمر، فالتتالي بين المرسل في “عاشق ليالي الصبر” مقابل الموقع في “قدك المياس يا عمري” اﻷولى بصوت حليم تتالٍ جميل وإن لم يكن مبتكرًا، فهو موجود في كثير من اﻷغاني اﻷقدم وتعتمد الوصلة التقليدية على الجدل ما بين المُرسل والموقع في اﻷساس. بينما التتالي بين قدك المياس بصوت حليم وبصوت الكورس النسائي بتغيير الإيقاع أكثر من مرة تتالٍ صاخب منفر، يشعر معه المستمع بالحالة الموالدية الموالدية هي ترجمة لـ festive باعتبار إن المولد هو الحالة المصرية المقاربة للمهرجان festival فيدخل في حالة من التصفيق والتنطيط مثل زوار أي مولد شعبي. لكنه مولد وصاحبه غائب، فصانعه ﻻ يهتم بربط الكوبليهات ببعضها البعض، وتتابع الإيقاعات وعنفها ﻻ يستفيد منه المستمع إلا بالدخول في حالة المولد الموسيقي وبغيابها ﻻ يشعر أن “يا شعر ليل” ترتبط بـ “موال عاشق بقيت موال” بأي صورة من الصور سوى مذهب موضوع كترقيع “قدك المياس يا عمري.“
ربما كان المولد هو مفتاح فهم تجديد بليغ حمدي الذي يعتبره حليم “أمل مصر في الموسيقى“. فبليغ أعلن ذات مرة إنه درس التراث الشعبي كله ليخرج بألحان جديدة مجدي نجيب، من صندوق الموسيقى. لكن هذه الدراسة المزعومة ﻻ تبدو متعمقة عند دراسة ما صنعه في ألحان سماها محمد رشدي “الشعبي الشيك“ الحكيم، بليغ حمدي، مذكرات شخصية وشهادات مثيرة لرفاق رحلة، دار ميريت، ٢٠٠١.، ورشدي نفسه يعتبرها أغنية عاطفية جديدة لكنها تخاطب الطبقات الشعبية أو ولاد البلد بتعبير آخر، وهو مولد مودرن مثلما جسده بليغ حمدي في أغاني فيلم مولد يا دنيا (١٩٧٦).
يعتمد هذا الشكل الشعبي الشيك أو المودرن على الاقتباس المباشر في جملة غالبًا ما تكون المذهب وبناء نص جديد وهو ما يعترف به بليغ حمدي في حواره مع عبد الحليم حافظ حين واجهه باتهام النقاد له بتمييع الفولكلور عليها يكون موافقًا لذوق عصره، مثلما فعل اﻷبنودي في “صياد ورحت أصطاد وصادوني” في أغنية عدوية لمحمد رشدي، اعتمادًا على جملة من طقطوقة زورني كل سنة مرة بصوت زكي مراد، و“أنا كل ما قول التوبة” في التوبة لعبد الحليم حافظ، المقتبسة من تسجيل محمد العربي كل ما قول التوبة، وعبد الرحيم منصور في “ما على العاشق ملام“، المتناصة مع تسجيل محمد الصغير كل من نامت عيونه. اﻷمثلة كثيرة في حركة عصر اعتبر أن الغناء البلدي غير صالح للاستماع في صورته البكر، ويجب اقتباسه وتعديله وإعادة تقديمه في حلة جديدة. لم يكن بليغ وألحانه لعبد الحليم وغيره بعيدًا عن ذاك التيار وﻻ مبتدعًا له، تيار تمدين الشعب وصنع “تماثيل رخام عـ الترعة وأوبرا في كل قرية عربية“، وهو ما ساد المرحلة التي ادعت مناصرة الشعب لكنها لم تستطع تقبل الشعبي كما هو “بعبله” كما يقول المصريون، فكان لزامًا عليها تنقيته باقتباسه في مشروع أكثر حداثة وتقليم أظافره الفنية.
كان بليغ حمدي التعبير الفني اﻷمثل عن هذا التيار المجتمعي السائد لذا يعتبره البعض رائد الثورة الموسيقية الثانية بعد سيد درويش محمد نوح ومحمد رشدي وآخرون في كتاب أيمن الحكيم.، وهي عملية تنسيب مشابهة لما فعله عبد الحليم حافظ، فإذا كان سيد درويش هو أبو الموسيقى المصرية كما يتصورها التيار المجتمعي السائد بعد يوليو ١٩٥٢، وهو سيد درويش مُعدل ومُنقح مثال على عملية تنقيح أغاني درويش، انظر فريدريك ﻻغرانج، على قد الليل ما يتأول http://ma3azef.com/%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%B4-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D8%A9/ فلا بُد إذًا أن يكون بليغ هو اﻻبن الثاني لهذا الإسناد العائلي الطُرقي الطُرقي نسبة لطريقة، بالمعنى الصوفي المستعار في ترتيب طرق الحرف في مصر ما قبل الحداثة.
وقف عبد الحليم حافظ في تلك الليلة آملًا في وراثة اﻷم (الست أم كلثوم) التي كان الجميع يشعر باقتراب أجلها وانتهاء زمنها برحيل عبد الناصر ووراثة اﻷب (محمد عبد الوهاب) الذي تبناه منذ بداياته وأنتج له فيلم أيام وليالي (١٩٥٥) ثم شاركه بعد سنوات في شركة صوت الفن ولم يتوقف أبدًا عن نصحه وتوجيهه. قام حليم بوصفه الروح القدس لموسيقى العصر بصخبها وزحمة إيقاعاتها وحشد اﻵﻻت الكهربية في فرقها بسبب وبلا سبب، بمباركة حواريٍ جديد سماه أمل مصر في الموسيقى.
لكن عبد الحليم لم يعمّر طويلًا بعد رحيل اﻷم، بعد سنتين وافاه أجله وودعه المصريون في مسيرة دموع طويلة واحتجب اﻷب مكتفيًا بألحانٍ قليلة ﻻ طعم لها بين الحين واﻵخر، أما القديس الذي كرسه حليم الروح القدس فقد تاه في تجارب كثيرة لم تثمر تطوير الأغنية الطويلة التي حاول حليم وراثتها وانتهت بوفاة أم كلثوم ووفاته. منذ وفاة عبد الحليم حافظ في ١٩٧٧ حتى قضية سميرة مليان في عام ١٩٨٥ التي اضطر بليغ حمدي بعدها للجوء إلى منفى اختياري في باريس، انقضت ثمانية أعوام لم يستطع بليغ فيها تقديم مشروع متكامل ومقنع قائم على التراث أو غيره، واستمر الصخب الإيقاعي واﻻنتقالات العنيفة غير المبررة علامة مميزة له، مولد يا دنيا بليغ وألحانه.
كان بليغ العضو اﻷبرز في مسيرة التبسيط النغمي، وحسب شهادة ابن أخيه هيثم “كان يسمعه أغاني مسلسل أوراق الورد فإذا ردد اللحن من أول مرة اقتنع به“ كتاب أيمن الحكيم، مصدر سابق. معيار تبسيطي ﻷبعد حد ربح بليغ حمدي به الشارع دون شك بجمل سهلة الحفظ سارقة للأذن غير المختصة أو الدارسة، لكنه خسّر الموسيقى ألحانًا مُركبة متطورة ممكنة، فضّل صاحب اللمحات العبقرية مثل فلاش الكاميرا أن يمر سريعًا.
حين عاد إلى مصر في سبتمبر ١٩٩١ بعد تبرئة في قضية سميرة مليان كانت الغربة قد أنهكته والمشهد الموسيقي قد تغير أثناء غيابه، كان عقله لم يزل يرى مصر مثلما تركها فلم تأتِ ألحان مسلسل بوابة الحلواني أفضل من ألحان عمار الشريعي الذي سيطر على سوق الدراما التلفزيونية أثناء غيابه.
يتم استدعاء بليغ حمدي في المشهد الحالي بعد يناير ٢٠١١ في مصر ﻷسباب عديدة بعضها غير موسيقي من الاستدعاءات الدالة في اﻷسابيع اﻷولى للثورة أغنية أنا باحبك يا بلادي لعزيز الشافعي ورامي جمال وهي مقتبسة عن لحن لبليغ حمدي من كلمات فؤاد حداد من فيلم العمر لحظة، فهو المظلوم في قضية ينتابها الغموض في بداية عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك من ناحية، وتنطبق عليه صورة الشاب البوهيمي غير المكترث العائش حياته طولًا وعرضًا في محيط جيل يقدر عدم المسؤولية من ناحية أخرى، وهو الحبّيب الذي يمكن صياغة رواية درامية من قصة حبه لوردة وزواجه لها الذي انتهى بعد ٧ أعوام. “ربما يعود الأمر إلى “استشهاديّة الحب” كما قدّمته وردة مع بليغ” كما يكتب هاني درويش في مقال ﻻ يقل إشكالية عن مقاله اﻵخر الذي أعاد فيه تحقيب التاريخ الغنائي المصري “النقلة الأولى كانت لمبدع أول موسيقى مصرية خالصة الشيخ سيد درويش، والثانية كانت في اكتشاف الجذور الشعبية للموسيقى المصرية على يد سلطان الشجن بليغ حمدي، والثالثة كانت نقلة تقنية ومزاجية لما يمكن تسميته بموسيقى الجيل.“
يُعاد اليوم تقديم بليغ حمدي بوصفه العبقري الواحد اﻷحد وسط أبناء جيله والسابقين عليه وبخاصة بعد رواية بليغ لطلال فيصل التي تعامل معها البعض بوصفها سيرة حقيقية وليست مجرد خيال روائي مبجل لشخص.، يُقدم بوصفه اﻷمل الراحل لجيلين كان أكبرهم طفلًا عند سفره لمنفاه الاختياري بعد قضية سميرة مليان، تمامًا مثلما أعاد عبد الحليم حافظ توظيف قد حلبي قديم متناص مع موشح ودور لجيل منقطع عن الزمن السابق عليه، وهو نفسه الذي سخر قبل ذلك من التراث الغنائي والموشحات في يا سيدي أمرك، مثله يصنع بعض النقاد حين يقدمون بليغ حمدي بوصفه العبقري اﻷوحد ويمدحون حشده للإيقاعات وهم منقطعون تمامًا عن كنوز الإيقاعات المركبة في الموشحات.
بالنسبة للجمهور اﻷعم يحتل بليغ حمدي مكانة أجمل السائد القبيح، فهو أسهل ملحني الزمن الجميل وأقربهم عهدًا، وهو مركب بالنسبة للبسيط حتى لو كان تركيبه مجرد تتالٍ لنتف قماش مثل الكليم سجادة شعبية مصرية مصنوعة من نتف بواقي اﻷقمشة. المفروش في خيمة مولد.