.
[تنشر هذه المادة ضمن إتفاقية شراكة وتعاون بين “جدلية” و”معازف”]
مساء الأحد، 1 أيّار/ مايو، 2005، عشيّة عيد شمّ النسيم، احتفلت 5 فرق مصريّة مستقلة بالمناسبة المصريّة الموغلة في القدم، أمام ما يقرب من 500 متفرج بين أفراد وشلل وأسر جاء أغلبهم من مدن القناة والعاصمة، وفي غياب واضح لوسائل الإعلام الرسميّة – لم يكن هناك سوانا ومصوّر من جريدة بورسعيديّة محلية.
مثل الجماعات المذهبيّة التي تحيي تقاليد وأفكاراً منبوذة، ومثل أقليّة إثنيّة متبقيّة من سلالة مبادة اجتمعت لتحضير أرواح أسلافها، انسحب المحتفلون بالمهرجان الشعبي السنوي من نهار وشوارع بورسعيد إلى ليل بورفؤاد في كافيتيريا النجمة، على الضفة الأخرى من القناة. كان المهرجان الذي أقيم لأول مرة في 1994 باسم مهرجان السويس الشعبي الأوّل للسمسميّة في شارع أبو الحسن الشهير، بحي العرب – معقل فن الضَّمَّة، قد حوصر من الجهات الأمنيّة على مدار السنوات السابقة، بحجة منع اندلاع الحرائق المحتملة من طقس إحراق أللنبي، وألغي رسميّاً سنة 2000 مع عيد النصر (23 كانون أوّل/ ديسمبر)، لكن مركز المصطبة للموسيقى الشعبيّة المصريّة احتفل بالعيدين طيلة الأعوام السابقة مخالفاً القرار.
كنت ومن معي مأخوذين تماماً بما نراه ونسمعه. فبالرغم من هندسة الصوت البدائيّة والسمّاعات الكبيرة المستهلكة منخفضة الجودة، كانت الحفلة أشبه بماراثون أوليمبي. كل واحد ممّن يرقصون ويمثّلون ويعزفون ويغنون لوحة وشخصيّة حيّة قائمة بذاتها، لكنها ملتحمة تماماً مع الآخرين، ليندمج التنافس بالتعاون من ناحية، ومن ناحية أخرى الأداء والخلق الذين يساهم فيهما مظهر المجلبب والمعمّم والمطربش والمبرنط والمعتمر لبيريه وعاري الرأس في القميص والبنطلون غير المواكبين للموضة في أحيان كثيرة – وبعضها (بعضها فقط) ليست ملابس المؤدّين في حياتهم اليوميّة، ولكنها توحي بتناسخاتهم في زمان أسبق – بالخلفيّة الشخصيّة خارج وقت ممارسة الفن لسبَّاك (سمكريّ) أو قارئ عدّادات مياه أو صيّاد. وكان الجمهور الأقرب إلى حلبة الرقص ومقتحماً لها كثيراً ليذوب وسط مؤدّيها بعفويّة، وإنْ أيضا بنظام وآداب، فاعلاً ومشاركاً بالرد والتصفيق والرقص. خيّل إليَّ أن مصر، بشكل عابر للزمان والمكان، تلخّصت، بإتحاف، في المنظر، دونما ادّعاء أو تعسّف، بل خيّل لي أن القزم بِس – إله الفرفشة في مصر القديمة – كان حاضرا بكِنَّارته (أصل الهارْپ والسمسميّة) يوزّع الجعّة ضاحكاً ومتقافزاً.
سألت شوقي الريدي، عازف الطنبورة والسمسميّة والجندوه، عن تلك الآلات الكبيرة (مجموعة الكوراتيت أو الرباعي الوتري)، فقال إن المجال لا يتسع لها كلها الليلة. في القاهرة، كنا نحضّر حفلات الطنبورة المنقسمة إلى مسرح وجمهور؛ وهنا لم تكن ثمة خشبة مسرح، هناك مستوى واحد ونظام يدخل به الصُّحْبَجي تلو الآخر بدعوة من الريّس زكريا، دون تلبية لرغبات الجمهور، الذي لا يصفّر ولا يصرّخ كشباب القاهرة، وبالكاد يصفق، لكنه يقول “يا عيني” ويربت على كتف من أحسن، والسجائر في أيدي المغنين والعازفين المتزاحمين، وميمي، عازف السمسميّة والمغني، يحيّي في مواله “المعلم سيّد رحّال، عشان كل ناس لاسماعيليّة”. الفرق الجوهري إذن يكمن في طلوع الغناء والموسيقى والرقص من بيئته الأصليّة.
يرتجل صحبجي سويسي موّالاً كمدخل لأغنية: “من بعد السلام بالإيد / صبح السلام بالموبيِّل من بعيد لبعيد / والليلة حلوة عشانك يا بورسعيد“. وهكذا، ففي النصوص، وإنْ بجرأة تجريبيّة أقل كثيراً مما في الموسيقى نفسها، ما زال الصحبجيّة يمارسون التأليف والإضافة والتطوير مع الريپرتوار الواسع المتوارث. وقبلها بسنوات، عندما أغارت الولايات المتحدة على بغداد وبدأت تعبئة قوّاتها في الخليج، قام سائق شاحنة مصري يعمل في الكويت بصدم جنود أميركيين في قاعدة عسكريّة، لتخرج الطنبورة بأول نصّ جديد يؤلّف بالكامل منذ سنوات طويلة: “المصري الفدائي لطفي البربري“. بل وتحتوي كل من أسطوانتي الطنبورة مقطوعة موسيقيّة خالصة من تأليف أعضاء الفرقة، والمفاجأة أن هذا الاتجاه في عدم الاكتفاء بالتراث أثمر تسجيلات أسطوانة تحت الطبع (آنذاك) كله مقطوعات موسيقيّة خاصّة بالفرقة، التي لم يزد عمرها عن عمر مراهق.
يدخل قومٌ زنوج بالريش وآلة خشبيّة كالإكسليفون (اسمها رانجو) والطبول المرتفعة، ويحزم أحدهم (تسمى وظيفته “سُتَرِيْ” في الزّار) وسطه بمَنْجُور يشخلل مع حركته (مكوّن من حوافر أو أظلاف)، ويعيش هؤلاء (يسميهم أهل القنال “اللُّون”: وهي كلمة حديثة أصبحت تعني في بقيّة مصر بشكل عام ذوي السمرة الداكنة من ذوي الأصول الجنوبيّة العليا بالذات) في عرايشيّة العبيد بالإسماعيليّة، وهو اسم مكان مثقل بالتاريخ والعنصريّة الباقية. كانت آلاتهم قد انقرضت تماماً، ووجد بعضها طريقه إلى دقّات الزار، إلى جوار الطنبورة الخماسيّة التي كانت هناك تعزف للجان، قبل أن يخرجها زكريا ويعيدها إلى الحياة. ولن تصدمك الغرابة بقدر ما ستلمس تنوّعاً غنيّاً متصالحاً عندما تخرج الحاجّة شادية لتمدح الحبيب طه الرسول. فعلتْ ذلك بمصاحبة السمسميّة – لأوّل مرة أرى ذلك من تلك المدّاحة وليس لإنشادها علاقة بالضمّة صوفيّة النشأة – مع صولوهات درابوكة ودهلة وصاجات. إنها، لكل المتشدّقين بالتجريب، حالة تجريب أصيّلة جهنميّة، لأنها اعتمدت في الأساس على طبخ مكوّنات طبيعيّة، وليست منقطعة الصلة وصناعيّة وشكليّة.
ما إن نزل حسن الوزيري، ريّس صحبجية الإسماعيليّة، ضارباً أوتار سمسميّته الخمسة بقوّة مصدراً رنيناً حادّاً وجملاً مقتضبة، ثم اقتحم سوايسة فرقة حنّة الساحة، حتى لفت عرضهما انتباهي إلى أنه حتى السمسميّة وحدها ليست الشيء نفسه، لا من حيث طبقات الصوت وتنوّعه، ولا بناء النصوص ولا طرائق الغناء، حتى أنّ النصوص المشتركة تغنّى بألحان وإيقاعات مختلفة. وقد صدرت دراسات أكاديميّة قليلة عن هذا القالب الموسيقي.
غنّى صحبجي سويسي في ملابس فلاح مدلياً حجر جلبابه على حزام: “دار الشادوف اللي ف داير الناحية/ شفت الحليوة أبو جلابيّة لموني/ نظر لي نظرة من عيونه الساحرة/ خلاني أقول يا صيادين دلّوني” على اللحن الذي سرقه الملحن وليد سعد وتامر حسني، أيْ استخدماه دون إشارة لكونه تراثاً، وركّبا عليه كلمات مبتذلة، وفي فيديو كليب يرقص فيه تامر بريك دانس ويقود درّاجة ناريّة حديثة. وكان محمد منير قد مسخ قبل ذلك إيقاع وجماعيّة “يا لاللي” واستبعد منها السمسميّة نفسها، وقلّمت مؤلّفته كوثر مصطفى الصور الحسّية الصريحة لنقنع بـ “حبيبي والفؤاد يرتاح” بدلاً من “حبيبي ع الفراش يرتاح”، رغم أنه كان بإمكانهما اختيار “بنوك استلاف” (مقاطع) أخرى.
تلك مقارنة أخرى جوهريّة، بين ما يسمى بالغناء الشعبي (الذي يُهمَّش بشكل متحفيّ كفقرة ثانويّة جانبيّة بوصفه “فلكلوراً” ويختلف عن الشعبي القاهري والمديني الشمالي السائد) وغناء نجوم الإذاعة والتليفزيون وشركات الإنتاج الكبرى، نجوم الموسيقى السائدة أو الپوپ المصري، وهو أن الأول برّي و”بشوكه”، ومعبّر عن البسطاء وعواطفهم وأفكارهم ووعيهم الجمعي، فيفجّر مسعد باغة ضحكنا ويكسب تعاطفنا الذكوري الطبقي عندما يحتج بالغناء على نصيبه من النساء ويدعو علي “بتاع الزيت” إلى التخلّص من زوجته معدّداً عيوبها بشكل فاضح ومن دون تزيّين، تماماً كما لا يخجل ورفاقه من ذكر “المحششة” و”صافي المُدام”. وجدير بالذكر هنا أن الرقابة المصريّة حذفت من شريط نوح الحمام بنكاً (مقطعاً) إيروتيكيًا من أغنية “شفت القمر” من أقدم ما تحفظه النساء والرجال في مصر ويردّدونه في ليالي الدُّخلة: “قومي العبي يا حلاوة على لوز/ يا عازبة ولا ليكيش جوز/ بيعي الحلق وهاتي لك جوز/ يلعب معاكي ع الناموسية”.
يعود طقس إحراق أللنبي إلى ثورة 1919 أو حقبة ما بعد الثورة، حين صنع المتظاهرون عروسة تمثل الّلورد أللنبي، المندوب السامي، وأحرقوها في وقت تزامن مع احتفالات شم النسيم، فكان من الطبيعي أن تؤدّى خلال الاحتفال، إحياء للذكرى، أغاني المقاومة التي ظهرت وازدهرت في مدن القناة (التي غدت “الجبهة“) ومدن مهجر سكانها إبّان حربي 1956 و1967، على آلات وإيقاعات السمسميّة ومع رقص البمبوطي، تراث القنال الموسيقي الفريد. وكانت الإسماعيليّة قد شهدت فترة مهمة من الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإنجليزي الذي رد بمجزرة في 25 يناير 1952، الذي أصبح، للمفارقة، عيد الشرطة المصرية. وكانت عروسة أللنبي قد صارت، بعد الجلاء، مجرّد رمز لا يرتبط بصاحب الاسم، لكل ظالم ومعتد، فتارة تُلبَس عصابة لتكون موشي ديّان، وتارةً تمثّل آرييل شارون أو جورج بوش وهكذا، وليس مؤكّداً إن كانت قد مثّلت قبل تاريخ الحفل مسئولاً محليّاً.
من ناحية أخرى، يحدث ما يجعلنا نظن أن المكافحة مزدوجة. فقد رفضت مديريّة الثقافة بالإسماعيليّة اشتراك أيّ من الفرق سالفة الذكر، وعلى رأسها فرقة الطنبورة، في مهرجان الإسماعيليّة الدولي للفنون الشعبيّة. وذلك على الرّغم من النّجاح الطاغي لفرقة الطنبورة في حفلاتها بالأقاليم والقاهرة والأردن وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا والسويد ومالي وغيرها، وحصولها على الجائزة الأولى في مهرجان للموسيقى الشعبيّة بكندا، وإصدار معهد العالم العربي مبكّراً في 1999 لاسطوانة بيعت بعشرين يورو تحوي تسجيلاً حيّاً لها. وفي الوقت الذي كانت الطنبورة وأخواتها تبدعن هذا الفن الاحتفالي العبقري، كانت القناة الخامسة مشغولة باحتفال المحافظة الذي أحياه اثنان أو ثلاثة من نجوم القاهرة.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”647″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
ويبدو أن أساليب الدولة في تنميط المصريين، ورياح العولمة الخارجيّة، قد اجتثّت جذور انتشار الموسيقى المحليّة. ففي طريقنا إلى المدينة، طلبت من سائق الأتوبيس البورسعيدي الكهل مازحاً أن يشغّل أي شريط سمسميّة بدلاً من أم كلثوم، فأجابني من دون تردّد بأن “السمسميّة بِطْلت، ما عادتش السواقين بتشيلها“. وردّاً على سؤال لماذا، قال: “شبعنا منها“. وفي المدينة نفسها لا يوجد محل كاسيت متخصّص في بيع تسجيلات السمسميّة، وستجد بالكاد بضعة أشرطة لدى بعضها، لا تشغل ركناً كاملاً أو رفوفاً.
لعل هذا يثير استغرابنا، لأنّه في بقيّة أقاليم مصر لا تزال الموسيقى المحليّة تنعم بقدر من الرواج، سواء في المناسبات الخاصّة والعامّة أو تجارة الكاسيت، وهناك شركات صغيرة في قنا وأسوان مثلاً ينحصر نشاطها في إنتاج أشرطة النميم والكف. بل ويوجد في القاهرة، التي تنزح إليها شتى الثقافات، موزعون ومحلات متخصصة لتلك الموسيقى، إلى جانب الإنشاد الصوفي وقوالب محليّة يلمع بعض مؤدّيها في أوساط النّخب الثقافيّة في القاهرة والإسكندريّة. وربما تدهور الأمر في بورسعيد بصورة أسرع منذ تحويلها منطقة تجارة حرّة، ومساهمة جوّ الانفتاح في الهبوط بمستوى السمسميّة، لحساب رجال الأعمال الذين أملوا شروطاً رقابيّة على المؤدّين لإضفاء طابع “سياحيّ” تجاريّ، وتفريغ الفن من مضمون ينفّر البورجوازيّة وقصور الثقافة والفنادق.
“بورسعيد مالهاش نهاية“
لفت نظري بالمناسبة حب البورسعيديين لأنور السّادات، الذي يرون أنّه أعاد السّلام وفتح القناة وأنعش المدينة اقتصاديّاً، وربما أصبح عبد الناصر مرتبطاً في الأذهان بحربين وتهجيرين، ومعه أغاني المقاومة وفرقة “ولاد الأرض”. وقد رأيت ملصقاً دعائيّاً للحزب الناصري يعلن عن حفلة لـ”شاعر الشعب” أحمد فؤاد نجم بمصاحبة “مغنّي مصر الثورة” أحمد إسماعيل. يبدو أنّ المعارضة والإنتلجنسيا تساهمان أيضاً في الانقطاع الثقافي – في سبيل ما هو سياسي ونخبوي أيضاً؛ وقد سبق أن واجهت الطنبورة والمصطبة هجوماً عاتياً من “مناهضي الإمبرياليّة” بسبب تلقّيهما دعما من مؤسسة فورد، بعد إهمال وزارة الثقافة للفرقة.
لكنّنا قابلنا وسمعنا في الحفل الريّس حسن العشري، الذي كوَّن فرقة سمسميّة في أواخر السبعينيّات، وأصدر سلسلة أسطوانات سنويّة من شركة عالم الفن، وقد حضر دون الشباب الذين يلبسون طاقيّة الصيّادين والزيّ الموحّد – كما بدوا قبلها بربع قرن على أغلفة تلك الأسطوانات. وها هو ابنه محسن العشري عازف الطنبورة ومؤلّفها الموسيقي الفذّ، وها هو حفيده محمد العشري ينضم للصَّهبة مغنيّاً وراقصاً ولمّا يكمل العشر سنوات. لم تقتلع الرياح والأيدي العابثة كل الجذور إذن.
وإذا كنا نخلص إلى كون سمسميّة القنال تواجه خطراً، فقد كان مصير أحد القوالب البورسعيديّة، وأحد روافد موسيقى الطنبورة، هو الفناء تقريباً. فقد كان آخر عهد علي أبو عوف (راقص وعازف ومغني الطنبورة) بضمّة، هو عام 1987، وكانت تلك أول وآخر ضمّة يحضرها وهو بعد طالب في المرحلة الثانويّة.
نشأ علي في بيت أحد أقطاب الضمة الكبار وهو الريس إمبابي عبد الله، ومن دون أن يرى ضمّة واحدة في حياته، حفظ عن إمبابي عشرات الأدوار، وكان الفن قد اختفى تماماً بعد التهجير الثاني. وهو يذكر باعتزاز أنّه أدّى دور “خلّ عنك اليوم” في تلك الضمّة الاستثنائيّة التي كانت أشبه بمباراة اعتزال لجيل من الصحبجيّة القدامى. توفي إمبابي في 2001، بعد أن سجل مع أعضاء الطنبورة ثلاثة أرباع ما تحفظه الآن من الضمة، وتولّى الباقي الريس وليم والريس الدّاشن والأسطى القط الذين توفّوا في مطلع التسعينيّات، وغيرهم. وهكذا نجى فن الضمّة في شكله المطوّر، مولَّفاً مع السمسميّة والطنبورة والكَوَلة، بعد أن كان يقتصر على الدفوف والكاسات مع الجلوس في دائرة وصفوف متأثّرة بالإنشاد الصوفي. وكانت المدائح النبويّة وأغاني الحجيج والعشق الإلهي قد اندمجت عبر تاريخه، ثم دخلت إليها أدوار عشق وفكاهة أيضاً في مزيج بقي مميّزاً عن قالب السمسميّة الأحدث، ابن الدنيا ومواقع العمل والقتال والمناسبات الاجتماعيّة وأماكن السمر والشرب والتدخين.
غاب الأوروبيّون أيضاً وهم يشكّلون قطاعاً أساسيّاً في جمهور فرقة الطنبورة، أُمّ الفرق التي أحيت الحفل، واعتاد بعضهم كما قيل لنا المجيء إلى النجمة رأساً من الخارج، وهو غياب لم أعلم إن كانت له صلة بهجمات القاهرة. وقد صار زكريا إبراهيم مقتنعاً تماماً بعد هذه التجربة الطويلة، أن وجود فرقِه في مصر ستظل غايته الوحيد، وهي مكسب غير قليل إن تحقّقت، حياة فنّها وفنّانيها، أيْ “الحظ” و“الانبساط” و“الصحبة” و“الضمّة“. أما الدعم المادي والوعي الثقافي فلن يأتي إلا من الغرب السعيد. وسيكون الإصدار التالي لفرقة الطنبورة أسطوانة “روحنة” بإنتاج وتوزيع أجنبي يسعى إليه زكريا، بعد أسطوانتين صدرتا في القاهرة والإسطوانة الأولى – الأجنبيّة الإنتاج والتوزيع أيضاً لكن دون سعي أو أستوديو، حيث سجّلت في حفلتين بباريس.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_large”,”fid”:”653″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
ومهما يكن من أمر، فللصحبجيّة الذين أبهجونا وأشعلونا اعتزاز لا يصدق، وهو ما حدا بكثير منهم خلال الثمانينيّات والتسعينيّات إلى مقاطعة الأداء نهائيّاً. يقول طارق السني طبال فرقة الصحبجيّة الإسماعيلاويّة أن من لم يشتغل في السمسميّة معرفته بالإيقاع ناقصة. وطارق لا يؤدّي “في الشارع“، ولا يصاحب ’فرقة أورج‘ ولا يقبل وجود “النقطة“. وكان حوارنا قد تلى انتهاءه من فقرة فرقة الصحبجيّة بقيادة الوزيري، والتي استهلّوها بغناء ساخر ماكر مطلعه “كل الشعوب جاية تغني/ ف مهرجان لاسماعيليّة/ والكل هيقدم فنه/ من الفنون الشعبيّة/ ف مهرجان/ ف مهرجان/ ف مهرجان لاسماعيليّة“. ثم يزيدون على ذلك “بابا جاي إمتى/ جاي الساعة ستّة/ راكب ولا ماشي/ راكب بسكلتّة“، ضمن استعارات أخرى من هنا وهناك ويختمونها بـ“هات لنا ريري/ هات لنا ريري/ هات لنا منه باكو واتنين“.
بورسعيد “تعيش وتنام كالمدن، ولكنها تصحو في أيّ ساعة من الليل لدى وصول أيّ سفينة، وسرعان ما تخلق فيها الحياة بقوة وسرعة فتدب الحركة وتشعّ الأنوار وترتفع الحرارة. وفي الأماسي، تترامى من جنبات الميناء أغان شعبيّة غاية في الفتنة“، هكذا يخبرنا بطل “الحب تحت المطر“، رواية نجيب محفوظ، عن بورسعيد ما قبل النكسة. عائدين من بورفؤاد على معدية الرسوة 12، قرب الفجر، كانت البواخر والسنابيك والصنادل والفلايك والشخاطير وكان القلفطيّة والبمبوطيّة، ولم تكن هناك أيّ أغانٍ شعبية. لكني رأيت في تلك الليلة بورسعيد الصامدة الحيّة، ما قبل النكسة، بورسعيد التي لم تُهجَّر، وكنت أردّد ما صدحت به الحنجرة النحاسيّة للسيدة ذات الأصول الأفريقية: “تعالوا غنوا ويّايا/ هيلا هوبّا/ بورسعيد مالهاش نهاية/ هيلا هوبّا“.
روابط:
سرد تاريخي للسنوات من 2006 إلى 2013: