.
لا تكتشف ثقافة شعب إلا بآدابه وفنونه.
ولا يمكن أن تصغي إلى “فن الصوت” دون أهله
ولا أجمل من أهله سوى حنجرة محمد المسباح.
إذا كانت حضارة النفط أورثتنا “العار الثقافي“، بحسب المفكر عبد الله القصيمي (1907-1996)، فهي أتاحت “الوفرة الاقتصاديّة“، أو ثقافة “الطفرة والمكرمات“، ودفعت إلى الخروج من نظام اقتصادي إلى آخر أفقدت به إنسان المنطقة بعض مكاسبه الحضاريّة السابقة، وأظهرت مكاسب أخرى له منها نصيب ضئيل.
وأثمن مكسب هو هذا التراث المعنوي المستمر. فإذا كان التراث المادي متغيّر بحسب تغيّر الموارد والمواد الطبيعيّة والصناعيّة، فإن حواس الإنسان وعقله وذائقته ومواهبه وقدراته يمكن أن تفاجئنا بما لا نتوقع كل مرحلة حضاريّة.
أو ربما يكون تراث الإنسان محاولة للتكفير عن حضارة تحمل العار والعيب والجهل في صور مستحدثة، وهي ما أطلق عليها القصيمي “أمية العيون العربيّة” التي تعلّم الأميّة (القصيمي، 2001، 470).
وبرغم مكاسب الغناء في الجزيرة العربيّة بمدارسه الثلاث: المدرسة الخليجيّة (النجديّة الجذور)، والحجازيّة واليمنيّة خلال القرن العشرين، إلا أن مدرسة الغناء الخليجيّة برزت لأسباب حضاريّة رفعتها إلى مصاف “مراكز الغناء العربي” المسؤولة عن تحوّلات الغناء العربي في القرن العشرين نفسه: القاهرة وبغداد، وبيروت والكويت (الواصل، 2013، 23-33). ولم تكن لها هذه النقلات الحضاريّة لولا تراكم المنعرجات الزمانيّة والمكانيّة في الجغرافيا والتاريخ والإنسان في كل المناطق منذ مراحل التحضّر الإنساني فيها.
وتمثل حنجرة محمد المسباح إحدى تجليات حضارة القرن العشرين والواحد والعشرين.
دأب صاحب الصوت الرخيم، الذي انطلق العام ١٩٨٧ في أوّل مجموعاته الغنائيّة اشتهرت منها أغنية تمون، على تقديم مختارات نفيسة من ذخائر التراث الكويتي منذ مجموعة على خدي (١٩٩٦) والتالية عديل الروح (٢٠٠٤) بالانتقاء من أرشيف الغناء الكويتي بين القرن التاسع عشر والعشرين.
تمون، شعر: ساهر، لحن : مرزوق المرزوق، أداء: محمد المسباح
قدّم المسباح مجموعة كبيرة من هذه المختارات، ضمن برنامج “سهرة خاصة” (٢٠١١) لإذاعة صوت الخليج، من “تراث الكويت المعنوي” لفن السامري والخماري والصوت، كما انتقى من أغنيات شرقيّة (بلهجة كويتيّة وتعتمد إيقاع الوحدة) أنتجت في القرن العشرين.
تواعدني ، شعر: ساير الساير، لحن: عبد الله بوغيث، أداء: محمد المسباح
وضع بعض تلك الأغنيات الشرقيّة ملحنون وشعراء كويتيون على حرف أغنيات مصريّة مثل: حمد الرجيب ويوسف المهنا وعبد الرحمن البعيجان وعبد الله بو غيث. ولحّن بعضها الآخر مصريون من فرقة الإذاعة والتلفزيون في الكويت مثل: نجيب رزق الله ومحمد البنا وحمدي الحريري.
ولم تكن هذه الأعمال مجرد إعادات عابرة، فهي تتصل بالمحاولات المستمرّة لقراءة هذه الفنون مجدّداً حيث تنوقلت بعض أساساتها من ابن لعبون الذي أسس مدرسة فن السامري (البيئة القرويّة– الريفيّة) بفنونها اللعبونيّة والخماريّة، وعبد الله الفرج المسؤول عن مدرسة فن الصوت المنتمية إلى (البيئة الحضريّة – البحريّة).
لذلك، أخصّص هذه المقالة لفن الصوت، لما له أكثر من دلالة في ذاكرة الخليج العربي باعتباره ذي جذور ضاربة في الغناء العربي المتقن، والتي تتّصل تقاليده المشتركة من العناصر والخواص في الحواضر العربية المتمثلة في مناطق جغرافية أربعة أنتجت وزاولت فنوناً حضريّة: المقام العراقي والقدود الحلبيّة والدور المصري والمالوف التونسي والصنعة في الجزائر والطرب في المغرب (قطاط، 1991،148-149).
يمكن أن نعرّف فن الصوت على أنّه: نمط أدائي يمثّل البيئة الحضريّة (الواصل، 2006، 108)، ويعتمد على مختارات شعريّة من عيون الشعر العربي، وطريقة تلحين مرتبطة بثلاثة إيقاعات سداسيّة ورباعيّة (العربي والشّامي والخيالي)، ويتكون من ألوان مرافقة إما تسبقه أو تختم به مثل استماع (الشامي والعربي)، وآلي (التحريرة)، ونمط راقص (الخيالي)، والختام (أغنية سريعة).
لفن الصوت تاريخ تخفّى في جوف الأسطورة، وهو ما سأشير إليه لاحقاً، برغم أنه يكشف مزايا حضاريّة تغطّي أكثر من مجال اجتماعي واقتصادي وثقافي. وذلك لأن فن الصوت يعبّر عن حالة اجتماعيّة لدور ووظيفة الفن في حياة المجتمع، ونشأة الدور (جمع: دار) المخصصة لمزاولة هذا الفن (دور البحارة ودور الزقرت)، [الزقرت: طبقة من الفرسان العراقيين في القرن التاسع عشر، والكلمة تعني في الخليج الشخص المتأنّق] (الإسماعيل، 2000، 223)، وتحديد زمن مزاولة هذا الفن ليلاً، ونوع الندامى والحضور، والموقف الاجتماعي منه كظاهرة ذهنيّة وسلوكيّة ثقافيّة بغض عن النظر عن غايتها الترفيهيّة أو الوظيفيّة (العماري، 1991، 48).
فقد نشأت “السّمرة“، أو مجالس الطرب بوصفها ظاهرة اجتماعيّة ترفيهيّة تحمل بقايا طقسيّة قديمة ومنها الموتيف الأشهر بتمجيد إله الحب والخمرة، والحالة التشاركيّة في النذر له بالصلاة أو الغناء والشرب تعزيزاً لروح التضامن، وفرصة للتسرية عن النفس. وقد تناولتها في كتاب “سحارة الخليج” (2006) تحت عنوان ” دور الطرب أو موسيقى الحجرة الخليجيّة“ (الواصل، 2006، 124-130).
ففي الخليج العربي تقام السمرات لكل طبقة بحسب إمكانياتها وغاياتها. وتقيمها نخبة القوم في المدن من الطبقات البورجوازيّة والتجار. كما يقيمها البحّارة أيضاً، ولكن في إطار أقل تواضعاً (مطر، 19791، 29). ولم يقف أداء الصوت عند فئة واحدة يحضر لها وينصت، بل شارك في أدائه أبناء الأسر الحاكمة وأثرياء بيوت التجارة، وهو في الآخر جزء من مجتمعاتهم، وفي هذه الدور تزول الفوارق في مشاركة متع الحياة كالغناء والشرب.
وتنطبع في ذاكرة القرن العشرين في الخليج العربي صورة المغني محمد بن فارس آل خليفة (١٨٩٥-١٩٤٧) أحد من زاولوا هذا الفن وتعلمه من أخيه: عبد اللطيف (١٨٨٧-١٩٦١)، وعلمه أخاه: صقر (١٩٠٢-١٩٤٨) بالإضافة إلى تلمذة شخصيتين أخريين على يديه: ضاحي بن وليد ومحمد زويد.
صوت على دمع عيني (شعر حسام الدين الحاجري، لحن وأداء: محمد بن فارس، ١٩٣٨)
تعرّض بن فارس لموقفين بسبب الاستهانة بالضوابط الاجتماعيّة ومواجهة التقاليد بالرّفض، الأول: إبلاغ والد أحد الشباب الذين شارك بن فارس السهر والقصف في الرفاع الشرقي وتعرّض للسجن بسببها حين اعترض على الحكم عام 1923. والثاني: حين ذهب إلى الصيد في جزيرة أم النعسان ونتيجة التهديد هرب إلى مسقط حتى عفي عنه عام ١٩٢٤ (العامري، 1991، 97-99). نتيجة هذه المواقف حرمته عائلته من الميراث عام ١٩٢٥ بحسب أحد الباحثين نقلاً عن الرواة (مطر، 1979، 30).
يتّصل ظهور حالة محمد بن فارس مغنياً وعازف عود، وأخويه: عبد اللطيف وصقر، بالذاكرة العربيّة إلى الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي وأخته المغنية عليّة في القرن الثامن الميلادي، التي تنسب إليها جذور فن الصوت كأسطورة عند بعض الرواة في الخليج العربي (مطر، 1979، 109) وصولاً إلى فريد الأطرش وشقيقته أسمهان في القرن العشرين. ولم تكن طبقة الأسر الحاكمة بعيدة عن الحياة الاجتماعية ففيها من كان شاعراً وموسيقيّاً وراعياً للفنون والآداب، وهي تقاليد ثقافيّة مستمرة.
صوت ما حلا نظم المسطر، من أعمال عبد الله الفرج، أداء الشيخ عبد الله الجابر الصباح، ١٩٦٤
صوت حرك شجوني، شعر: أبو نبهان، لحن: عبد الله الفرج، أداء: الشيخ عبد الله الجابر الصباح، ١٩٦٤
فقد عرف أن هؤلاء من طبقة “الشيوخ” من الأسر الحاكمة أو من كبار التجار في المدينة نفسها من يقيم السمرات ذات الطابع الاحتفالي في الكويت أو ذات الطابع الترفيهي بشكل يومي مثلما يحدث في البحرين وقطر.
يختار لهذه السمرات فترات اعتدال المناخ بين شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس حين يتوجّه بعض نحو مناطق منتعشة على حواف المدينة كالمزارع وما حولها بسبب الربيع وتسمّى/ “طلعة بر” أو “كشتة“.
بينما هناك سمرات أقل كلفة وعدداً تجري بين الأصدقاء، ربما بشكل أسبوعي وأكثر، وقد تقام بسرية تامة نظراً لتواجد رفيقات الرجال من النساء غير المقبول حضورهن في السمرات الكبرى، ولا حتى دور البحارة نفسها المقتصرة عليهم، ومثيلها الديوانيّات سواء لأبناء الأسر الحاكمة أو للأثرياء من التجار.
ويعد المروّس (آلة المرواس: طبل صغير مخصوص لفن الصوت) فاضل مقامس، وهو بيت تجاري كويتي، أحد أفضل من يقدمون شهادة عن تلك الدور المخصصة لأداء الفنون لكونه امتلك أكثر من بيت وهو من الموسرين والهاوين بالإضافة إلى مزاولته للضرب الإيقاعي على آلة المرواس. إذ تملّك أكثر من بيت في أحياء يقل سكانها ويضطر لتغيير الدار كلما اكتظ الحي، فتنقل من براحة بن حسين إلى الصوابر حتى فنيطيس بين الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (الغريب، 1999، 44-45).
ويعرف لكبار الفنانين في الخليج دوراً خاصة لمزاولة هذه الفنون كما يمكن أن تكون مكاناً للتعليم والتدريب غير المباشرين للهواة والمحترفين، مثل: ديوانيّة دخينة لعبد الله الفرج، ودار البصرة بن فارس ودار خالد البكر بين القرن التاسع عشر والعشرين ( الواصل، 2006، 128).
ففي تلك السمرات الصغيرة والمغلقة أو المحفوفة بلغة الحاضر، تلزم النساء بالتنكر بزي الرجال تجنباً لفضحهن واكتشاف أمرهن من قبل المارة في الليل، بينما كان حضور الغلمان وارداً بدور بديل عن النساء (مطر، 1979، 113) أو ربما تكون هناك متع مثليّة قاصرة على أصحابها وصاحباتها.
ولعل رقصة الزفن، التي تلزم مشاركة زوج من الراقصين (شابان غالباً)، توحي بالكثير، ليس بخطوات الرقص بقيادة الإيقاع، بل حتى في التحكم بالجسد وهز أطراف عن سواها وحركات الالتفاف غير المكتمل والقفز والإقبال جرياً على العازف الذي يختم تقاسيمه مطيلاً في نهاية أداء فن الصوت تبعاً لرغبة هذين الراقصين.
نموذج رقصة الزفن المصاحبة لفن الصوت ما ناح ورق، أداء: فرقة التلفزيون – الكويت
يعبّر فن الصوت عن كونه قالب قولي وأدائي وحركي يتضمّن جنس القول – المكون الأدبي/ الكلامي أجناساً من النصوص (الفصيح والنبطي والحميني)، والأدائي الذي يتضمّن المكوّن النغمي، بما فيه الصوتي البشري والآلي (الاستماع والتحريرة والموال والصوت والختم والتوشيحة)، والإيقاع (العربي والشامي والخيالي) والحركي (الزفن/ الرقص، الشربكة والبيذاني/ التصفيق).
وقد كشفت تلك المحاولات لقراءته أو مزاولته عن انشقاق مسارين:
الأول فن الصوت النخبوي، وهو الذي كشف عن محاولات لإعادة تأهيله بحسب التطورات التقنيّة لكل عصر (ومنها ما كان من نماذج قدمها كل من عبد اللطيف الكويتي (١٩٠٤-١٩٧٥)، وعبد الله فضالة (١٩٠٠-١٩٦٧)، ثم سعود الراشد، والآن محمد المسباح)، أو تفكيك وتوليف عناصره ضمن قالب الأغنية لا فن الصوت. انطلقت هذه التجارب منذ أول أعمال الملحن أحمد الزنجباري “السحر في سود العيون” (١٩٥٦) بصوت سعود الراشد ثم “ألا يا صبا نجد” بصوت عوض دوخي ومائدة نزهت، و“سلوا الكاعب الحسناء” بصوت بديعة صادق، وتبعه كل من أحمد باقر مع صوتي شادي الخليج “كفي الملام” (١٩٦١) وعلية “يا دمعتي” (١٩٦٩)، وعالية حسين في “الحمد لك” (١٩٧٨)، ويوسف دوخي مع صوت شقيقه عوض دوخي في أعمال عدة: “يا من هواه، قل للمليحة، طال الصدود..”. ومن ثم غنام الديكان مع شادي الخليج “يا سدرة العشاق” (١٩٧٦) وفي أوبريت “مذكرات بحار” (١٩٧٩)، وأوبريت “صدى التاريخ” (١٩٨٦)، و“هذا احنا“(١٩٩٣) لطلال مداح. ولاحقاً خالد الشيخ في أغانيه: “جروح قلبي وتر” (١٩٨٥)، “ولا تنسيا” (١٩٨٨)، و“إنت قلبه” من “ملفى الأجاويد” (١٩٩٦)، و“لنك تمر بالليل” (٢٠٠٤)، و“يارا والشعرات البيض” (٢٠٠٥)، ومحمد باقر في لحنه “حالم” (١٩٩٠) بصوت المغني فوزي الشاعر.
ألا يا صبا نجد (شعر: ابن الدمينة، لحن: أحمد الزنجباري، أداء: عوض دوخي)
سلوا الكاعب الحسناء (شعر: أحمد العدواني، لحن: أحمد الزنجباري، أداء: بديعة صادق)
الحمد لك يا عظيم الشان ( شعر: أحمد العدواني، لحن: عبد الله الفرج، أداء: عالية حسين)
يا دمعتي ودعيني ( شعر: عبد الله العتيبي، لحن: أحمد باقر، أداء: علية)
يا سدرة العشاق (شعر: مبارك الحديبي، لحن: غنام الديكان، أداء: شادي الخليج)
يارا والشعرات البيض (شعر: غازي القصيبي، لحن وأداء: خالد الشيخ)
الثاني: فن الصوت الشعبي، وهي الصيغة الميّسرة منه. فلا يعنى بالنطق السليم أو شعبنة الملفوظ، والاستمرار في أداءات صوتية هي تكرار لما يدرج في مفهوم التواتر الشفوي، والاعتماد على اعتبار الأداء بصورة تشاركيّة جماعيّة. وهي مستمرة منذ تسجيلات المغني يوسف البكر (1875-1955)، وضاحي بن وليد (1898-1941) ومحمد زويد (1900-1982)، ومن بعده سعود العروج (1911-1980)، والملا سعود المخايطة (1900-1971)، وعوض دوخي وحمد خليفة وصولاً إلى عبد الله الرويشد وسلمان العماري.
هذي المنازل، أداء: محمد زويد
وقد انعكس ذلك في محاولات توثيقه وشرحه، حيث كانت أولاها تسجيله وأرشفته بعد تأسيس مركز رعاية الفنون الشعبيّة لجمع التراث الشعبي العام 1954 التابع لدائرة الشؤون الاجتماعيّة والذي أشرف عليه حمد الرجيب. وقامت لجنة التسجيل والشعر في توثيق النماذج المتاحة، وتثمن محاولة أحمد البشر الرومي مع يوسف البكر قبل وفاته عام 1955 في تسجيل مجموعة كبيرة من نماذج فن الصوت، ومنها لجنة لتدوين نصوصه الشعريّة (الواصل، 2013، 56-57).
وترصد أولى المحاولات المدرسيّة في توثيق وشرح “فن الصوت” في كتاب “الموسيقا والغناء في الكويت” (1980) لأحمد علي، ثم تبعتها أطروحة الماجستير ليوسف دوخي التي بعنوان “الأغاني الكويتية” (1984). ورغم أن جهدهما يكشف عن شخصيّة كل واحد زاوله إمّا عزفاً وغناء وإما تلحيناً وصياغةً، غير أن هاتين المحاولتين ارتهنتا للعلوم النظريّة القاصرة عن استيعاب طرق الأداء الحي وما تمثله من قيم والعوامل المؤثّرة على عملية الأداء بحسب الأشخاص والظرف والمكان. وكانت محاولة الملحن غنام الديكان تسير في هذا الطريق، غير أنها حاولت جاهدة أن تستوعب التمايزات الأدائية ومحاولة وصفها بما يمكن أن تستطيع عناصر العلوم النظرية استيعابه مع مراعاة القوة الكامنة في العروض الحية وظروفها في كتابه “الإيقاعات الكويتيّة في الأغنية الشعبيّة” (1998).
يبقى الإنتاج الغنائي لهذا الفن هو الفيصل في كل شيء.
الفنون تموت إذا ماتت حناجرها.
الآداب تنقرض إذا فني كتابها.
والثقافة قرينة الإنسان وهي تعبر عنه وتمثله، وتكرس أفكاره ومبادئه وقيمه.
فلا يتبناها المجتمع إلا لكونها تعبر عنه وتمثله أيضاً.
تكشف اختيارات محمد المسباح من فن الصوت إلى انحيازه إلى المسار الأول من حيث العناية باللفظ والنغم والخصوصيّة. إذ تهيمن شخصيته على طريقة هذه التسجيلات التي تتطلع إلى محاولة التواصل الحضاري مع ما خلفته مدرسة القرن العشرين في بواكيرها مع شخصيات كبيرة تركت آثارها مثل الأداء المطلق لعبد اللطيف الكويتي، وهو صاحب أداء لا يجارى في زمانه، وعازف العود محمود عبد الرزاق الكويتي، وعازف الكمان صالح بن عزرا الكويتي، والإيقاعي ملا سعود الياقوت.
بل يتطلع إلى أكثر من ذلك حين يقدم أي نموذج من فن الصوت لتقديم وجه حضاري للخليج العربي يؤكد إسهامه قبل انتمائه إلى أكثر من 16 قرناً من تاريخ الحضارة العربية. إذ تشكّل الكويت مكاناً جغرافيّاً مستمراً لتجليات الحضارة العربية منذ أقدم عصورها سواء بما تمنحه جزيرة فيلكا – وهي التي ينتمي إليها محمد المسباح– من مكتشفات آثارية تعود إلى أزمنة غابرة أو إلى اعتبار الكويت إحدى وريثات مدينة الحيرة العربيّة.
وتشكل الحيرة معلماً حضارياً ومستقطباً ثقافياً لمجتمعات الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، وهي الإمارة الاي حكمها آل المناذرة في القرون العربية المسيحية بين القرنر الثالث والسابع الميلاديين، وعرف أنها معلم حضاري هفا إليها شعراء وفنانو الجزيرة العربية للمعرفة والعطايا مثل طرفة بن العبد، والأعشى، والنضر بن الحارث.
وإذا كانت الفنون والآداب تحمل تاريخاً دائرياً يحفظ لها عناصر الخلود على العكس من التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يرتبط بعنصر القوة والموارد. فإننا نكتشف من خلال استعراض الأنماط المكونة لفن الصوت عن مستواه الحضاري الذي يكشف بأنه وليد أنظمة اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة مركّبة ومعقدة، وهي تنتمي إلى عمران مستمر من تاريخ بشر هذه المنطقة.
على أيّ حال، يبدو أن تاريخ هذا الفن قد تحوّل إلى أساطير مفسرة ومنها أسطورة نشاة هذا الفن، وهي التي تناولتها في كتابي “سحارة الخليج” (2006) عن هوس عبد الله الفرج بالراقصة الهندية التي ألهمته أن يضع لها العمل الأول من فن الصوت، وهي مذكورة في كتاب “خليج الأغاني” (1979) لبولس مطر بينما هناك أسطورة يذكرها منفرداً عبد اللطيف الكويتي لاحظت تكررها في أحاديثه الإذاعيّة والتلفزيونيّة عن “فن الصوت“.
وهذه الأسطورة تقول بأن “فن الصوت” متوراث من “زمن الأمويين والعباسيين كما نسمع من آبائنا وأجدادنا هذا الكلام” (حوار إذاعي المذيع: غير معروف،1971، البحرين) أورده في الكتاب الذي وضعه عنه الباحث الكويتي صالح الغريب “عبد اللطيف الكويتي: مطرب الكويت الأول“(2002).
وقد قادت عبارة عبد اللطيف الكويتي الملحن والمغني يوسف دوخي إلى محاولة لعصر كتابي “الأغاني” للأصفهاني و“الأدوار” لصفي الدين الأرموي ومحاولة تنسيب فن الصوت إلى ذلك العصر رغم أن محاولة الموسيقي نداء مراد أسطوانة “موسيقى العصر العباسي: الأرموي القرن الثالث عشر” (2005)، وهي محفوفة بمخاطر جمة، في قراءة المدونات النغميّة (النوتات) للأرموي أظهرت أحد الأعمال يعتمد على إيقاع تذكرنا تفاعيله بإيقاع الجورجينا الذي يتقاطع مع السامري الثلاثي والفالس، رغم أن لا رابط بينها سوى تقارب الموازين، فيما كانت الأعمال الأخرى تقترب من أداء القصيدة المرسل الذي يشابه “الاستماع” وهو من أحد تهيئات “فن الصوت“، ويتداخل مع الابتهالات الدينيّة والإنشاد الحر.
ما يمكن أن نخرج به من عبارة عبد اللطيف الكويتي، الذي سجّل أول أعماله من فن الصوت وهي قصيدة “عواذل ذات الخال في حواسد“، بأن فن القصيدة هو فن مستمر منذ عهود طويلة في ذاكرة الحضارة العربيّة ويمكن أن تكون القصيدة الشعريّة العربيّة مصدراً لقوالب غنائية تتخذ صيغة الأداء المرسل كالموال أو الموقع مثل فن الصوت مثلاً.
وحين نستعرض مدوّنة نصوص أعمال محمد بن فارس (1895-1947) التي جمعها مبارك العماري في كتاب أصدره في ثلاثة أجزاء (1991-1994-1996)، سنجد أن فن الصوت يتضمن قصائد فصحى لشعراء يغطون أكثر من عصر عربي منذ العصر الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني، وهو ما يؤكد أن القصيدة الشعريّة العربيّة ظلت أحد المكونات الأساسيّة في الغناء العربي المتقن، وهو يشير إلى ملامح اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة تشكّل طبقة أو نخبة، ويفترق عن أنماط غنائية تعبر عن ظروف بيئية كالريف والصحراء والبحر أو جماعات وظائفية تمثلها مهن وحرف وصناعات في البوادي والقرى والمدن.
أنبياء الصوت الخليجي
ليست تلك المقدمة من الهذر الانطباعي، إنما تضع خطوطاً عريضة لما يمكن أن يسير عليه النقد بوصفه تأمّلاً وتحليلاً للتجربة الغنائيّة في أدائها الحضاري ومسؤوليتها الثقافيّة. وهو ما كان في أعمالي النقديّة منذ محاولة تغطية تاريخ الغناء الخليجي خلال القرن العشرين، ودراسة رموزه ومدارسه وأبرزه قوالبه وتطوراتها أو مآلاتها بين كتابي “سحارة الخليج” (2006)، و“تغني الأرض” (2010).
ويندرج هذا البحث، وسواه، ضمن مشروع جديد أعمل عليه لقراءة تاريخ الفنون والآداب السابقة للقرن العشرين، أو التي أدت إلى ما كان من منجزات الحدث الغنائي والموسيقي العربي في القرن العشرين.
فقد أطفئت نور الحضارة العربية وآثارها الثقافية من قبل مؤرخين ومستشرقين وباحثين متنكرون بالانتقاء والأحكام غير العادلة لحضارة تجاوزت الستة عشر قرناً. وهي متصلة بما سبقها من حضارات أساسها القرابات العرقية، ومن بعدها وفي أثنائها أسبابها المشترك الإنساني الأشمل، فمن المؤلم التعامل معها بهذا الاستهتار الآيديولوجي والقصور الأكاديمي. إذ يدفع الخجل والتواضع المعرفي نحو التعامل بروح إنسانيّة منصفة تجاه حضرة شكلت الثقافة منجزاً باهراً نحن مدينون له بسدادات تنفد الأزمنة ولا تسقط عنا.
لذا، أعود لأقول أن محمد المسباح في اختياراته هذه، وهي تكشف ذائقته مقابل ما يتمتع به من حنجرة مثقفة شديدة الخصوصية، وذات طموحات مختلفة عن مجايليه الذين يكملون خطوط تطورات الغناء في مجالاته التقليديّة والتعبيريّة والشعبيّة، مثل عبد الله الرويشد ونوال ونبيل شعيل من الكويت طبعاً. ويمثل المسباح حامل السراج مثلما كان دور عبد اللطيف الكويتي في أوائل القرن العشرين الذي حملت حنجرته مسؤولية أداء فنون عصره المنقولة ونقلها من القرن الثامن عشر والتاسع عشر بحسب ما تلقاها من سابقيه.
والآن، حين نتوقع عند المسباح الذي لا يمكن تجاهل اطلاعه، وإن كان تتلمذ على تسجيلات كل من يوسف البكر وعبد اللطيف الكويتي ومحمد بن فارس وعوض دوخي، وأقول اطلاعه على مبتكرات كل من أحمد الزنجباري وأحمد باقر بالإضافة إلى أعمال غنام الديكان وما قدمه خالد الشيخ أيضاً. فهو يقدّم قراءته الخاصة لهذا التراث الغنائي، ويتعاون معه عازفون وكورال ومهندسي صوت يمثلون وجهة نظر لهذا التراث، ويمكن أن تكون أهداف كل فرد مختلفة غير أن الناتج يفيد أرشيف الغناء العربي وينمي الذاكرة الثقافية للمستمع في الجزيرة العربية وسواها من الناطقين بالعربية، ومتذوقي هذه الفنون وإن كانوا من غير أهلها.
فإذا كان المسباح قدم في مجموعة “عديل الروح” (2004) صوتاً عربيّاً “على دمع عيني” (شعر حسام الدين الحاجري– لحن : محمد بن فارس) الذي سجله الأخير عام 1938، فكان تمريناً مقتدراً لصوته آنذاك ويبشر بما هو أبعد من ذلك.
تتمايز الطريقة البحرينيّة في أداء الصوت بوصفها ذات رخاوة، وهي تعتمد على أزمنة الصمت الإيقاعيّة، واللعب بالزخارف الصوتيّة طلوعاً ونزولاً، والتقطيع والترديد مع استثمار تضاد المد والسكون في الكلمة أو الجملة.
وقد كان عوض دوخي أحد من وطّنوا الطريقة البحرينيّة تبعاً لقياس أدائه على أداء بن فارس، وهو مفتون به لكون بن فارس استوعب ودمج طريقة الأداء البحري والحضري تلويناً في أعماله بالإضافة إلى مختاراته الشعريّة الغزيرة من أرشيف القصيدة العربيّة الفصحى (الفرس، 2013، 15-16).
ويتوغّل المسباح في ورشة عمل يحقق فيها قراءات أدائيّة لفن السامري واللعبوني والخماري في نماذج ملفتة ذات تكامل فني. من نماذجها– خارج فن الصوت– من فن اللعبوني “يا من يرد الغالي الزعلان” (1996)، وفن السامري “سلام يا جرّة قدم” (2004)، ومن فن الزبيري “شفنا المنازل” (2010)، ومن فن الخماري “الله يا عوني” (2011).
وأما من فن الصوت، فسأستعرض الأعمال التي سجلها مؤخراً لصالح إذاعة صوت الخليج – قطر، وهي متوافرة على اليوتيوب، وحفلت بتعليقات جيدة من مستمعين ذوي ذائقة لا جدال فيها.
فقد اختار نموذج استماع “إن هنداً” (التسجيل الأول ليوسف البكر عام 1955)، وهو يؤدّى بصيغة صوت عربي، وهي الصيغة التي اختارها المسباح، وتسيطر عليه حالة الرجاء في اللحن والأداء، ويعمق التعبير عنها صوت المسباح عبر درجات العلو ضمن تصاعد اللحن الأحادي. حيث يؤدى كل بيت في مقطع لحني مستقل ويشارك الكورال في أداء تصويتي لا إعادة:
“إن هنداً يرقَّ منها المحيّا ليس إلا من البها أن تحيّا
كيف أنسى كلامها اليوم لما نابذتني في مكان قصياً؟
عاتبتني فأوسعتني عتاباً فكأني أتيت شيئاً فرياً
ذات طرف كأنها النجم هنداً ووشاح إذا انبرى كالثريّا“
وأما النموذج التالي فصوت شامي “مال ريم الفلا” (شعر: من الحميني – الشحر، لحن: عبد الله الفرج)، وقد سجّله عام 1929 عبد اللطيف الكويتي وهو غير موقع.
ويخلص هنا المسباح، ومثله عازف الكمان أحمد الصالحي، إلى نسخة عبد اللطيف الكويتي بمشاركة عازف الكمان سامي الشوا بوصفه الصوت الذي لا يسهل الخروج من سطوة أدائه برغم أن محمد بن فارس قد سجل هذا بنص آخر “مال غصن الذهب” كذلك ضاحي بن وليد سجله بنص “مرّ بدوي صغيّر“.
ويمتلئ هذا الصوت، في ثلاثة مقاطع، بالتطريب حيث يعتمد على الجملة الثلاثيّة والترديد بين الصوت المنفرد والكورال برغم أن المسباح منح الصوت في أدائه سلاسة جعلت من صوته يؤدي مرتاحاً، ومالئاً الجملة اللحنية بما يكرسها جملة العماد بينما كان عزف الكمان تنويع على الجملة الأساسية ولا يتقيد إلا بكونه صلة لتعميق لحظة الأداء في الذهن وتعميم الحالة الطربية.
“مال ريم الفلا / مال سيد المها/ باهي الجبين المحجب
أسود المقلتين/ أسود المقلتين/ من فوق خد مذهب
مثل ورد الرياض/ مثل ورد الرياض/ حين إن تشمه مطيب
وجه فريد الجمال/ وجه فريد الجمال/ بالسحر للناس يسلب
طال منك الصدود/ شللي جرى يا مهذّب؟
قال: دعني ولا تطلب وصالي تأدّب“
وأمّا النموذج التالي فصوت شامي “البارحة حارب المطرب” (شعر ولحن: عبد الله الفرج)، وقد سجله كل من يوسف البكر وعبد اللطيف الكويتي، وهو يكشف لنا أكثر من أمر في تكوين فن الصوت.
وضع النص الشعري على طريقة نصوص الشعر النبطي من طرق الهجيني، وهو يمثّل أحد فروع بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلان)، بل يوحي بأن لحنه على مقام الرصد معتمد على طرف تلحين جرة الربابة التي يمكن أن تكون ألحان فن السامري (الهجيني والمسحوب)، حيث الجمل اللحنيّة الطويلة، ودور الجوقة في إعادة مطلع النص المكون من بيتين شعريين يمثلان الجملة الأساسيّة والموضوع الأساسي وهو التذكّر المتصل بالحنين.
وقد أسهمت التجارب البحثية لعبد الرزاق العدساني في اكتشاف الابتكارت اللعبوني والفرَجيّة في ثقافة الخليج العربي، وهو يشير إلى أن الفرج استلهم هذا الطرق (البحر الشعري) من أعمال محمد بن لعبون فيما اصطلح عليه “الفنون اللعبونيّة“. وقد صاغ نص فن الصوت هذا من وحي مبتكرات بن لعبون الشهيرة في مطالعها “حي المنازل، وقالت فريجة“، وأوزانها “مستفعلن فاعلن مستفعلان/ فعلن” غير أنه التجأ إلى ما يصطلح عليه بمجزوء البسيط الذي يتقاطع مع الثقافة البدويّة والبحريّة في قالب الهجيني عند الأولى والنهمة– الموال السباعي/ النعماني (الزهيري أو الموال البغدادي) عند الثانية (العدساني، 1997، 61).
يظهر أداء محمد المسباح، الذي يخفي تباكياً مضمراً، حالة من الخشوع العاطفي بالإضافة إلى تمكن مطلق من تأخير النبر الإيقاعي، وتقطيع الكلمات وهي الطريقة التي عرفت عن عبد اللطيف الكويتي غير أن المسباح يسبك طريقة لفظه ويكوّتها على العكس من عبد اللطيف الكويتي الذي كان ينطق الكلام بروح الشعر الحميني.
النص الشعري يكشف عن محاولة لعبد الله الفرج، إذا كان النص من نصوصه الشعريّة، في مزج كتابة نص يعتمد على طروق الشعر النبطي وتلفيظ الشعر الحميني، وهي محاولة لمقاربة النصوص الشعريّة الفصحى وإنما المعطلة الإعراب، وهي تسمّى في جنوب الجزيرة العربيّة بالشعر الحكمي.
“البارحة حارب المطرب رقاد، وأشوف دمعي جرى من كل عين
جدد هواجس تهجرس بالفؤاد، لي غاب نجم السهى والفرقدين“
إذا كان الكويتي يعتمد لعبة الصعود والهبوط في أدائه عموماً، ركّز المسباح على النبر بشكل متمايز حين يردّد بدايات كل بيت شعري “أيام، لكنني“. وحين يردد كلمة ” رقاد” مرافقاً الجوقة وطالعاً فوق درجة أدائه بشكل مبهر. وختام هذه النماذج صوت شامي – ردادي “حرك شجوني” (شعر: أبو نبهان، لحن: عبد الله الفرج). وهو من الأصوات المطلقة الشجن والإطراب.
ويمكن أن ألاحظ أمراً ملفتاً يكشف عن لعبة التركيب والتوليف عند عبد الله الفرج، حيث أن النص المعتمد في هذا الصوت يأتي على هذا النحو:
“حرك شجوني والتهابي نسنس نسيم الصبا
زمان ما كنتم صحابي أيام كنا وكنتم صبا“
بينما في أصل النص كما نشره الأستاذ مبارك العماري، وهو ما شدا به محمد بن فارس، فهو على هذه الصيغة:
“نسنس نسيم الصبا حرك شجوني والتهابي
أيام ما كنا وكنتم صبا أيام ما كنتم صحابي“
لم يضرّ قلب الأشطر المعنى، وإنما كشف أن الفرج أعاد تركيب الأشطر وولفها وفق الذائقة النجديّة الغائرة، المؤسسة على الشعر النبطي، في توازن القافية المزدوجة بين قافية مفتوحة فضلها عجزاً وجعل من المقفلة صدراً على عكس النص الأصلي.
وأصل أداء هذا الصوت يعتمد على أمرين: الهمهمة التصويتيّة، وملاعبة الإيقاع. فهو في أداء الأشطر يمرر مفردات لا دخل لها بالجملة الشعرية، وهو تكرار (على) بين شطر وآخر ليوحي بأنهما متعاكسان ربّما. فهو يقتص آخر حرفين من القافية المطلقة ليعيدها الكورال بعد أن يسلمها المؤدي (صبا= الريح/ صبا= صغر السن، ربربا، بالعبا، مرحبا، هبهبا)، وهي صيغ من أسلوب الصوت الردادي (نسبة إلى التقطيع الشعري).
وتظهر هنا الجوقة مطروبةً أشد من المغني الذي يفترض أنه دلف إلى الأداء وهو غارق في أجناس المقام، فهو ذلك المد على موج النغم ويفترض أن الجوقة أمواجاً تتلاحق نحو الشاطئ. وسنرى كيف وصل المسباح إلى درجات هبوط تشبع خلايا المقام عندما أدى مداً (ما) في مقطع (زمان ما كنا وكنتم صبا).
“يا غصن في البستان رابي يا غصن في الحايط مربربا
من علمك لعب الشباب توه صغير ومختفي بالعبا
قفى ولا رد الجواب سيدي مساك الخير قل: مرحبا
العاشق المضنون صابي زاد وجدي عندما هبهبا“
توشيحة المسباح المستحيلة
إذا كانت المتعة في الاستماع إلى نماذج من فن الصوت مميّزة، فإن ما يجعلها مميزة هو صوت محمد المسباح وطريقة الأداء المفارقة لكثير من الأداءات أو الصيغ الرابضة في الذاكرة. إذ تمكن من خلال هذه التسجيلات المتقنة والمخلصة لروح الفن والإبداع أن يضع لنفسه مكانة في مصاف أنبياء فن الصوت كيوسف البكر وعبد اللطيف الكويتي وسعود الراشد، وشادي الخليج وعالية حسين وآخرون.
ولعله بالإمكان أن يقترب من النماذج الرائعة التي وضعها كل من الزنجباري وباقر ويعيد قراءتها بروح هذا العصر ليكمل مختاراته ما بين تراث القرن التاسع عشر والعشرين. إذ أن تحولات فن الصوت هي تحولات مجتمع حواضر الخليج العربي.
لقد احتضنت دور البحارة والزقرت في الخليج معظم الفنون الأدائيّة بمختلف وظائفها كالعمل (فن الفجري والخماري)، والمناسباتيّة (فن السامري واللعبوني)، و الترويحية (الردحة والفريسني) وجعلت من طرق أدائها الجماعي وسيلة لتكريسها وتعزيز روح المشاركة إلا أن فن الصوت ظل الفن المخلص للفرد وفردانيته. إن فن الصوت ابن المدينة التي توارثت تواريخ عديدة لحواضر عربية بعضها صعد نجمه وأخرى أفل ولم يعد.
ويبقى صوت محمد المسباح الذي اتخذ نجمه في السماء مكان صورته الأرضية الحنجرة التي تؤكد أن هذا الخليج وليد حضارة أصيلة هي حضارة اللؤلؤ التي تؤكد كذبة حضارة النفط.
مراجع:
1979، مطر، أنطون مطر. خليج الأغاني، دار المثلث، بيروت.
1991، حسن، شهرزاد قاسم وآخرون. موسيقى المدينة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.
1991، العماري، مبارك. محمد بن فارس: أشهر من غنى الصوت في الخليج، الجزء الأول: سيرته الذاتية والفنية، طبعة خاصة، البحرين.
1997، العدساني، عبد الرزاق. محمد بن لعبون: شاعر الأطلال، طبعة خاصة، الكويت.
1999، الغريب، صالح وآخرون. فاضل مقامس: عاشق الماضي، طبعة خاصة، الكويت.
2000، الإسماعيل، خليفة إسماعيل. قاموس الأريج من كلام أهل الجزيرة والخليج، طبعة خاصة، الدمام.
2001، القصيمي، عبد الله. أيها العار إن المجد لك، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت.
2002، الغريب، صالح. عبد اللطيف الكويتي: مطرب الكويت الأول، طبعة خاصة، الكويت.
2006، الواصل، أحمد. سحارة الخليج: مقدمة ودراسات في شؤون غنائية، دار الفارابي، بيروت.
2013، الواصل،أحمد. الخروج من المعبد: توليفات في أنثروبولوجيا الغناء العربي، دار العين للنشر، القاهرة.
2013، الفرس، فهد بالاشتراك يوسف الرشيد. عوض الدوخي: صوت السهارى، منارات ثقافيّة كويتيّة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.