.
شارك كلٌّ من هلا مصطفى، هيا المويل، وهيكل الحزقي في الكتابة.
بدايةً، لم يكن هناك ذلك التقاطع بين أهم نجوم غناء التترات وأهم النجوم بشكل عام، كما في حالة نوال سمعان وليندا بيطار وصفوان العابد في سوريا، وحسن فؤاد وعاصم فوزي وحنان ماضي في مصر، الذين تركزت أهم مراحل مسيراتهم في التترات لأن اختيارهم لم يعتمد على حضورهم الجماهيري، وإنما على أنهم الأنسب لرواية هذه القصة أو تلك. في آخر عشر سنوات، ومع الاتجاه نحو الدراما “الممكيجة” الأشبه بإعلانات طويلة جدًا لشامبوهات ومصففي شعر ومصممي أزياء، برز اتجاهٌ نحو الاستعانة بأكبر نجم يمكن أن تتحمله الميزانية لغناء التتر، حتى تصل هذه الإعلانات إلى أكبر شريحة ممكنة. في معظم الأحيان زالت مع هذا التوجه الحاجة إلى قراءة النص من قبل الكاتب والملحن، فأصبحت التترات مجرّد أغاني بوب تظهر قبل المسلسلات بغض النظر عن الصلة بينها. في هذه القائمة ٣٠ استثناء، تترات غناها نجوم منذ بداية الألفية وحتى اليوم، لكنها ذات قيمة فنية ودرامية.
حتى بعد عدة سماعات للأغنية، استمر لدي الانطباع بأنها من أفضل ما يمكن انتظاره من أصالة كلامًا ولحنًا وأداءً، بطغيان الدفء على الأغنية وإفراد مساحة للانفعال في نفس الوقت، لا الانفعال المقحم لاستعراض عضلات أصالة كما اعتدنا، بل المحبب الذي يؤدي إلى ما يشبه انطرابًا عاطفيًا؛ لكن عندما قرأت أن الكلمات لـ أمير طعيمة، عرفت أنني ربما وقعت في الفخ.
أمير طعيمة من أهم الأسماء في ساحة الشعر الغنائي، لغزارة إنتاجه في المقام الأول، والثاني، ثم جودة كتاباته، لذلك يسود الكسل والاستسهال في معظم كلماته، وهذه الأغنية ليست استثناءً، بل وتعلن عن ملل طعيمة وهو يكتب كلماتها منذ البداية: “الحب وعذاب الحب ووجع القلب / إحساس بياخدنا بعيد وياه”؛ بعكس مدين الذي تعامل مع الكلمات في تلحينه بجدية أكثر من كاتبها، لدرجة يصبح معها حتى البيت المذكور جميلًا ومؤثرًا بلحن مدين وأداء أصالة.
يشكّل أحلام كبيرة بالنسبة للكثير من السوريين العمل الدرامي الأكثر اكتمالًا في الفترة التي سبقت الحرب. بين حميمية السيناريو، والإخراج المتقن، وجمعه لعدد من النجوم الذين قدم كل منهم أداءً يرسخ في الذاكرة. ثم هناك التتر الذي وضع رؤيته ونفذه طاهر مامللي. ما قدمه مامللي للدراما السورية على امتداد سنوات هو حسن تذوقه لهذه الدراما بحد ذاتها، قبل أن يصنع لها موسيقى مناسبة. كانت تتراته دومًا امتدادًا للحكاية وتعتيقًا لها، وسيشهد من شاهد المسلسل على عبقرية اختياره تلحين قصيدة للشاعر السوري نزيه أبو عفش، الذي لم يسبق أن غنى أحد قصائده سوى في المشروع الفني قصير العمر للثنائي فهد يكن في الغناء ورضوان رجب ملحنًا.
كل شيءٍ ضاق قصيدة فيها من الرقة والرومنسية بقدر ما فيها من السوداوية: ” لم يبقَ للعشاق غير اليأس / واليأس بعض فضائل العشاق” غنتها للمسلسل المطربة السورية / اللبنانية نورا رحّال في فترة ركود في مسيرتها. في المقاطع الغنائية مُنح صوت نورا شيء من الصدى الخفيف، ومُزج بأسلوب جعله يبدو وكأنه تسجيل صوت لشخص يغني في قعر بئر عميق، وصلنا صوته مغنيًا بعد أن تخلى عن أي أمل بالخروج من حفرته مجددًا. بعد انتهاء عرض المسلسل، استمر انتشار أغنيته في مرحلة كان فيها انتشار الأغنية يعني تبادلها على الجوالات عبر البلوتوث، وحتى اليوم مازالت تحصد مئات آلاف المتابعات عبر يوتيوب، بعد خمسة عشر عامًا من ظهورها أول مرة.
كان توالي الليل أول مسلسل يشارك فيه عراقي المولد مصري النشأة والجنسية حسام يسري، ملحنًا لتتراته ومؤلفًا لموسيقاه التصويرية؛ وبكون المسلسل إنتاج ضخم من بطولة الممثل الكويتي الكبير سعد الفرج، وباختيار العراقية صاحبة الشعبية الهائلة في الخليج أصيل هميم لغناء شارته، كانت هذه فرصة العمر لـ يسري.
تظهر في هذا التتر ملامح مشتركة بين كل التترات التي لحنها يسري، أبرزها جودة توزيعه، وكسله في التأليف الآلاتي حين يتعامل مع الأغاني، كما في تترات بين قلبين ونوايا وذكريات لا تموت وسامحني خطيت، رغم تقديمه تترًا آليًا جميلًا في مسلسل عطر الروح مثلًا.
مع غياب أي مجهود تقريبًا في مقدمة التتر ولوازمه، لكن منذ دخول الغناء بـ “غريب ف بيتي وجالس” نُدرك أن هناك ما يستحق المتابعة، ولا تخيبنا كلمات السعودي خالد عوض، الذي قدم لأنغام ربما أفضل أغنية في ألبومها الخليجي السابق: وين تروح، والذي ربما كان وراء تفوق لحن يسري للمقاطع الغنائية هنا على جميع التترات التي لحنها حتى اليوم. كذلك يقبض على قلبك أداء أصيل برعشات صوت مفعمة بالدفء، وتورطها في ما تغنيه لدرجة يبدو معها أن الرعشة في قلبها وصوتها معًا.
في كلمات هذا التتر لـ محمود صلاح (كاتب حضن الغريب لـ تامر حسني) حالة خاصة، فهي لا تعتمد على جودة الصنعة فقط، ولا تستند في قيمتها إلى صورة محروفة واحدة أو بيت واحد؛ هنا إتقان الصنعة والشاعرية والعناية بجعل كل بيت جديد مضيفًا إلى قيمة الأغنية: “بخطّي الصعب سور ورا سور / وعكس الجاذبية بدور / واروح المس شعاع النور / ألاقي الشمس مش طالعة / إيقاع الحلم نبضه بطيء / براح الكون عليه بيضيق / وحلمي زي طفل بريء / بتسقط من عنيه الدمعة.”
في إحدى مقابلاته، ذكر صلاح موقفه تجاه التكليف بكتابة أغنية: “زي مراتي تقوللي إيه، إنت مش هتعمللي غنوة ليّا؟ أنا ما اقدرش اعبرلك عن حبي غير ف وقت عايز أعبرلك عن حبي.” كلمات هذا التتر دليلٌ على صدق صلاح، وعلى أنها بُنيت على تأثره بسيناريو المسلسل، ما أثر لاحقًا بـ محمد رحيم فقدّم أفضل لحن قدمه لتتر حتى الآن، وأفضل توزيع، معلنًا – كالكلمات – طوال الوقت أن هذه حالة خاصّة. كذلك فعل أداء بوسي، والتصميم البصري للتتر الأشبه بشريط ذكريات.
ربما يمكن نسب الفضل الأكبر لاستمرار المسلسلات البدوية الأردنية إلى المنتج عدنان عواملة وابنه طلال، وبالتالي فضل استمرار التأليف في الموسيقى البدوية في التترات والموسيقى التصويرية، الذي أثمر تترًا أيقونيًا كهذا.
يُعرف عن الشاعر الإماراتي الكبير علي بن سالم الكعبي أنه بين أقدر الشعراء على تحقيق التلاقي بين الشعر النبطي والشعر الفصيح، وفي هذه الأغنية خير مثال. “قبر المعنّى واضحٍ بين القبور / أرضٍ عشق فيها دِفَن في ثراها” هكذا يصف الكعبي مأساة قتيل عيون عليا، في قصيدة ملحمية من ثمانية أبيات تحول حب عليا إلى ما يشبه قصة فلكلورية يوعَظ بها العشّاق؛ ما يجعل الأردني وليد الهشيم خير اختيار لتلحين الكلمات، بتمكّنه من الأجواء المختلفة، بين الفانتازيا كما في البواسل، إلى فخامة التاريخ كما في أبو جعفر المنصور، إلى الدراما المعاصرة كما في الحور العين.
هُنا بلغ الهشيم إحدى ذُرى إبداعه بالغوص في أجواء البادية، والإتيان بلحنٍ جليل على بساطته، يليق بملحمة شعبية، قائمٍ على لحنٍ موحّد لكل بيتَين يكون الثاني فيه تصعيدًا للأوّل، ولوازم خلّاقة بارزة الأثر مهما قصرت، بين كمنجاتٍ ودفوق وكاتم. بالإضافة إلى ذلك، هناك صوت أمل شبلي البدوي المتشبِّع بعاطفة القصة والأجواء واللحن، والمُشبِع بالتالي حتى اعتصار القلب، دون جنوحٍ إلى أي مبالغة درامية؛ ما صعّب المهمّة على عبد الله الرويشد لدى غنائه المقطع الثاني من الأغنية، الذي كان بحاجة إلى تشبّع أكثر باللحن والحالة.
في تترَي مسلسلَي سعدون ونيران، ظلم تواضع صوت خالد الشيخ كلمات الشاعر البحريني المخضرم علي الشرقاوي، بعكس ما حدث مع هذا التتر من كلمات الشرقاوي وألحان أحمد الهرمي، الذي أعطاه حسين الجسمي من جودة أدائه وصدق إحساسه، فكسب إحدى أهم الأغاني التي عُرف بها عربيًا، إلى جانب بودعك وما يسوى ويا صغر الفرح وفقدتك، والمشهورة باسم: شيٍّ غريب؛ دون معرفة الكثيرين أنها تتر مسلسل من أهم ما أنتجته الدراما البحرينية.
لا يختلف موضوع كلمات الشرقاوي عن المعتاد في الدراما الخليجية، حيث يسود غدر الزمان والدنيا وجراح السنين، لكن طريقة تناوله هي ما منحت الكلمات وقعًا يضمن عمرًا طويلًا للأغنية، كما في “لما تظن إنك حبيب / وانّك من الفرحة قريب / لكن يجيك سهم ويصيب / قلبك وتحيا به غريب” و”مهما اشتكيت ولا بكيت / ما يستوي ليلك صباح”. أما الهرمي، الذي قدم لراشد الماجد إحدى أخلد أغانيه: نسيناكم، فاختار كلمتَي المذهب “شيٍّ غريب” ثيمةً رئيسية تطغى على ثيمة الحكمة والوعظ التي تسود بقية الكلمات، مُحمّلًا الأغنية طابع مناجاة وحيرة مؤثّر.
ذكر أيمن بهجت قمر ومحمود طلعت أن أسلوب عملهما على تتر ابن الأرندلي، أول تتر تغنيه نانسي عجرم، كان الأول من نوعه بالنسبة لهما. أغرت شخصية نانسي المنتجين، بخفتها ودلعها وظرافتها، فلم يعطوا الضوء الأخضر للعمل على التتر حتى وافقت نانسي على غنائها، ثم طلبوا من بهجت قمر وطلعت تفصيل الكلمات واللحن بما يناسب نانسي. مع فكرة أن يعاكس يحيى الفخراني نانسي في الأغنية، أصبح التتر دخولًا مدويًا لـ نانسي في هذا المجال.
كرر صناع مسلسل سمارة فكرة تفصيل التتر ليناسب نانسي، فكتب حسين مصطفى محرّم أغنية جذّابة محروفة الخفّة: “الإسم سموها سمارة سكتها قاسية وغدارة / وما حد فيها دخل يكسب غير لما يطلع بخسارة”، بحيث تستثير تنغيمًا راقصًا بمجرد قراءتها. لم يرضخ محمد يحيى لإغراء العفوية في وضع اللحن، ربما لأنه ثاني من تتعاون معه نانسي في هذا المجال بعد المخضرم في موسيقى المسلسلات محمود طلعت، وبالتالي سيكون لا بد من المقارنة؛ التي لن تحسم بسهولة، مع الأنغام اللافتة سهلة التعلق بالأذن التي يركّزها في تلحينه كلمة سمارة، وظرافة أداء نانسي وشقاوته، المترافقة مع رقة محببة في مقطع “الاسم سمّوها سمارة.”
في أرشيف رضوان نصري العديد من الروائع في التترات والموسيقى التصويرية، والتي شكلت جزءًا مهمًا من ذاكرة السوريين، وشاء الهوى ويوميات جميل وهناء وأيامنا الحلوة وعيلة ٧ نجوم وأسرار المدينة ونزار قباني وعشتار ورجاها ورجال تحت الطربوش، بين أعمال كثيرة. لذلك يزيد الطلب عليه، ويبدو أنه يُلبّي أكثر مما يجب، ما أدى إلى إصداره عدة أعمال دون موهبته، كما في فرصة أخيرة وعناية مشددة وطوق البنات وجيران.
في تتر قمر شام، المسلسل الحديث نسبيًا، يعود نصري إلى أيام عزه، ودون أية مساعدة من كلمات حياة إسبر، التي لا يبدو أنها تكبدت عناء معرفة عمّ يدور المسلسل، فكتبت أغنية مكوّنة من تجميعة حكم مملة يصعب الربط بين الكثير من أبياتها: “كسر الظهر والقلب / حسابهم مع الأيام / عهد الأخوة صعب / ينسوه أهل الشام”، وأحيانًا يصعب الربط بين شطرَي البيت الواحد: “أخوات الموت يفرقن / أغراب الحب يجمّعن”. بشكلٍ ما، استطاع نصري إسقاط قصة المسلسل على الكلمات، وشحنها بقدر محسوب ومؤثّر من الحسرة، لا يُغرقها بدراما لا تحملها؛ مع جهد في تأليف اللوازم، يبرز في النصف الثاني من لازمة تتوسط الأغنية، يجري فيها حوار بديع بين كمان منفرد وبقية الوتريّات. إضافةً إلى ذلك، أتى أداء اللبناني مروان الشامي مُدعّمًا وقع وجاذبيّة الأغنية.
عام ٢٠١٢ قدم تتر مسلسل لاجل عيون كاترين مفاجأة سارّة حققت انتشارًا واسعًا، وهي الاستعانة بمغني مزود تونسي لغناء التتر، بما لهذا الفن الشعبي ونجومه من حظوة في نفوس المغاربة. كان المخضرم سمير لوصيف هو المفاجأة. نبّه نجاح لوصيف صناع المسلسلات إلى الفرص الكامنة في أصوات نجوم المزود، ليغني وليد التونسي – ند لوصيف الأبرز في ساحة المزود – عام ٢٠١٤ تتر مسلسل ناعورة الهواء، ويحقق نجاحًا مدويًا.
رغم أن المقامات التي استعملها ربيع الزموري في الأغنية ليست تونسيّة، ورغم اعتماد الأغنية على توزيع وتري وإيقاعي شبه معياري في البوب التونسي، لكن ساعد عنصرين وليد التونسي على جذب الأغنية إلى مساحة شعبية دافئة، وهما إيقاع المدور حوزي، المستعمل بكثرة في المزود، وكلمات رضا بركات المليئة بمشاعر التلوّع السائدة أيضًا في المزود. بالنتيجة، وضعت الأغنية وليد في منطقة راحته، فقدم أداءً كبيرًا حاملًا لجماليّات المزود، خاصةً تطويل النفس وما ينتج عنه من ارتعاشات في الصوت تمنحه رنينًا مؤثرًا يُشبه أثر الأوتوتيون.
في السنوات الأخيرة شاركت شيرين في غناء عدد من أهم تترات المسلسلات في مصر، برزت بينها شارة حكاية حياة المعروفة باسم مشاعر، أما في رمضان هذا العام فخرجت عن المألوف في مسيرتها بأكملها لتصدر أغنية يا بتفكر يا بتحس باللهجة اللبنانية، لتتر مسلسل خمسة ونص من كلمات علي المولى وألحان صلاح الكردي. سرعان ما حققت الأغنية شعبية كبيرة لتنتشر بشكل مستقل عن انتشار المسلسل.
مع ذلك، يبقى غناؤها لتتر مسلسلها طريقي هو الأهم لها في هذا المجال. تترك أغنية طريقي بألحانها وكلماتها وأسلوب غنائها بالأخص، وقعًا حياديًا نجحت شيرين في إيصاله. بقيادة البيانو، وإيقاع صنوج كلاسيكي، تغني شيرين بأسلوب هادىء أنيق، لا هو حزين، ولا هو سعيد، لا يبوح بشيء من أحداث المسلسل، فيأتي غناؤها تجسيدًا لحالة فتاة شابة في ربيع عمرها، تغني عما لا تعرفه، مما يخبئه لها قدرها وطريقها، مسلّمة لما سيحمله لها.
لم تكن تترات المسلسلات اللبنانية أو متعددة الجنسية بداية مروان خوري في تقديم عمل موسيقي مرتبط بالدراما (أولها لعبة الموت عام ٢٠١٣)، قدم قبلها أغنية دواير للفيلم المصري أوقات فراغ من كلمات عبد الرحمن الأبنودي (٢٠٠٦). يتعاطى خوري مع هذه الأعمال بطريقة مختلفة، ويرى فيها فرصة لتقديم ما يريد بعيدًا عن متطلبات السوق وما يريده الجمهور، إذ لا يحكمه سوى العمل الدرامي نفسه.
أهم ما ميز أعمال خوري، مع توزيع أخيه داني، هو أناقتها بموازنة تنوع الآلات المستخدمة وعدم تزاحمها. تجمع أكبر أناني بين الأناقة والتنويع النغمي رغم الاعتماد على آلة وحيدة، حيث يجلس مروان في ركنه المريح مع بيانو، مذكرًا بمدى هذه الآلة وزخم صوتها، حتى يدخل التشيلّو في آخر الأغنية معززًا ثيمتها السردية. يعطي التتر من أول نوطتين فيه شعورًا للمشاهد بأن الحلقة لم تنتهِ، وأن هناك ما يجب سماعه بعد، وينجح، على ندرة ذلك، في كونه تتر نهاية من الصعب تجاوزه.
يعطي النفس البدوي في خامة صوت رباب وأدائها، إلى جانب قوة الصوت، إحساسًا بالفخامة وبأن من تسمعه صاحب تجربة حياتية طويلة، بدرجة يبدو معها أن غناءها لأي لحن يصل إلى الحد الأدنى من الجودة كفيل بتقديم عمل مهم. كانت أول مرة تُستغل فيها هذه الخصائص عند رباب ضمن الدراما التلفزيونية في تتر مسلسل الغرباء عام ١٩٨٢، وكانت النتيجة أغنية وتتر كلاسيكيَّين.
تكرر الأمر مع مسلسلات جرح الزمن ولحظة ضعف ونقش الحنة والبارونات ودروب المطايا، بأغانٍ تليق برباب، لكنها لا تصمد لدى المقارنة مع تتر الغرباء، لأنها اعتمدت على رباب أكثر مما يجب بينما عانى النص أو اللحن أو كليهما من قصور. أما في هذا التتر، استطاع خالد البذال تقديم نصٍّ متقن الصنعة، تساوي بنيته كلماته بالأهمية لقدرتها على تحدي الملحّن، حيث لا توجد حدود واضحة بين المذهب والأغصان، ولا حتى طول محدد للأغصان، لكن في نفس الوقت يحمل النص الموسيقى الداخلية المطلوبة ليكون غنائيًا؛ ما استفز قريحة محمد العيسى، فقدم أغنية مقسّمة إلى ما يُشبه فصول متفاوتة الطول متساوية التأثير من الشكوى، يضمن أداء رباب أن تُحدث أكبر وقع ممكن.
لدى العمل على مسلسل سارة، قدم أحمد رزق صديقه الشاعر الاسكندراني خميس عز العرب للمخرجة شيرين عادل، مقترحًا إياه لكتابة التترات. ذكر خميس مدى عرفانه لـ رزق الذي قدّر توقه لفرصة كهذه، بدخوله مجال الشعر متأخرًا وهو على مشارف الأربعينات، بعد قضائه سنوات طويلة في تدريس اللغة العربية. من المثير رؤية نتائج أن يعي شخصٌ ما شغفه – أو يصغي إليه – في هذا الوقت الحساس من حياته، لمعرفة هل لديه بالفعل ما يستحق أن يقدم على مغامرة مهنية خطرة كهذه.
“كان يا ما كان / كان في عصفور / قلبه صغيّر / ريشه قصيّر / حلمه يرفرف برا السور / كان إنسان / من طين من نور” هذه كانت نتيجة فرصة خميس الأولى، والتي أسرت كل من سمعها حتى اليوم، وكانت جواز عبور مغنيتها نهال نبيل إلى الشهرة، بلحن الكبير ياسر عبد الرحمن، الرجل وراء موسيقى المال والبنون وعرق البلح وفارس بلا جواد، بين عشرات الأعمال التي أصبحت موسيقى نصفها على الأقل من الكلاسيكيات.
في العام التالي عادت شيرين عادل إلى خميس لكتابة تتر مسلسلها الجديد أولاد الشوارع، وإلى عبد الرحمن لتلحينها، لكن هذه المرة مع صوت مطربة كبيرة هي آمال ماهر. كما في سارة، استطاع خميس استقراء روح القصة: “قلب الشوارع / بوابات وحديد / وعيال كتيرة / تايهة مادّة الإيد / إرحم يا سيد أو بيد / وقول هل من مزيد / دول مهما كانوا عبيد / وولاد شوارع”، ليأتي عبد الرحمن بلحنٍ دسم يُغلف الكلمات بحالة آسرة من وحشة ومأساويّة، بادئًا الأغنية بمقدمة آلية من نصف دقيقة تصوّر مشاعر طفلٍ شريد في إحدى لياليه، بما فيها من وحدة وتوتّر وخوف، يأتي بعدها المذهب الشجِن “قلب الشوارع” الذي يُشكّل قنطرة بين بدايتها ونهايتها، ملحقة به أجزاء من المقدّمة الآليّة.
في الأغصان، لا يتمسّك عبد الرحمن ببنية معيّنة، بل يتبع الإحساس والمعاني مانحًا الأغنية بنيتها الخاصة بالنتيجة، ما يذكر بالمونولوج؛ حيث جعل لأول بيتَين من الغصن الأوّل “وابكي” و”ترحم” – المكوّن من ثماني أبيات – اللحن ذاته، بينما جعل لحن كل بيتَين من الستة التالية من قسمَين، الأول انفعالي والثاني مهزوم قليل الحيلة. بين الغصنين لازمة ساحرة تمس أوتار القلب منذ أول نقرة على القانون. ثم في الغصن الثاني أربعة أبيات، بلحنٍ واحد يتكرّر في كل بيتَين، بقسمَين أيضًا لكن عكس ما حصل في الغصن الأول، حيث القسم الأول مناجاة يائسة والثاني انفعالي. لا يبتعد الأثر النهائي كثيرًا عما جرى لـ آمال ماهر لدى أدائها الأغنية، حيث بكت أمام الميكروفون دون أن تتوقف عن الغناء، وبقيت المقاطع التي بكت فيها كما هي في التسجيل النهائي.
نظريًا، هذا التتر خارج عن المجال الزمني الذي تغطيه القائمة، لكن المسلسل عُرض في ٨ ديسمبر من عام ١٩٩٩، ولم ينته عرضه حتى الأيام الأولى من الألفية. الأهم من ذلك أنه لا يُمكن تفويت فرصة الحديث عن عمل استثنائي آخر جمع سمير كويفاتي وميادة بسيليس، يقف على المستوى ذاته مع كذبك حلو، دون أن ينال شعبيتها.
كتب الكلمات الشاعر السوري الكبير سمير الطحّان، صاحب العين الثالثة كما قيل عنه، بعد فقده يديه وبصره نتيجة انفجار لغم عام ١٩٧٠، واعتماده عين البصيرة ليرى ويكتب عما رأى. أبرز ما يميز كتابات الطحّان الأفكار المختلفة، ثم الصياغة المثيرة جدًا لتلك الأفكار، كما في وسختوا الصابون: “ان عشنا ياما نشوف / نحنا بهالدنية ضيوف / انعزمتوا انهزمتوا / أكلتوا ونكرتوا / وكسرتوا الصحون / ووسختوا الصابون”، وتتر حنين: “مين قلك تفتح كل شبابيكك سوا / وما تعرف أي هوا تختار.” في تتر جواد الليل المعروف باسم هوى تاني إحدى ذُرى حالات الطحّان الإبداعية فكرةً وصياغة: “شو ذنبي إذا بتهواني / وأنا محتارة بهواك / شو ذنبي ما رماني / الهوى ياللي رماك” و”جربت حبك أنا / بحرك ما رواني / ومشيت ع موجك أنا / شطك ما هداني.”
أخرجت هذه الكلمات أفضل ما عند سمير كويفاتي الميال إلى هذا النوع بعشقه للدراما والقصص الكبيرة، فقدّم لحنًا جعل الأغنية مناجاةً ليليّة تفطر القلب، خاصةً بكونه أفضل من عزف بصوت ميادة بسيليس، التي ذكرت أن كويفاتي يُبكيها لدى التسجيل لكثرة تطلّبه في تفاصيل الأداء؛ ما يمكن فهمه عند سماع النتائج، بين غياب الإحساس تقريبًا في أداءات بسيليس لأغاني أم كلثوم مثل هو صحيح الهوى غلاب والحلم وليه تلاوعيني، وبين أسرها المستمع بإحساسها في أعمالها مع كويفاتي، الذي جعلها تحتكر أغنية كهذه.
كانت البحرينية زينب العسكري ظاهرة في الدراما الخليجية متابعة باهتمام وشغف عبر الوطن العربي، حتى أنها بعد بضعة سنوات من احتلالها أدوار البطولة افتتحت شركة الإنتاج الخاصة بها، التي ازهرت على مدى أربع سنوات (٢٠٠٥ – ٢٠٠٩)، كرّمت خلالها في عدة محافل خليجية، لتعلن فجأة وهي في ذروة نجوميّتها اعتزالها، بعد زواجها من نائب حاكم إمارة الشارقة في الإمارات، وتغلق شركتها.
https://youtu.be/v7cKAEeG2uo
يُنظر إلى زينب اليوم على أنها أسطورة زمنٍ جميل للدراما الخليجية، وكأنها ابنة ماضٍ أبعد من مجرّد عقدٍ من الزمان، لذلك تُشكّل تترات مسلسلاتها كبسولات ذكريات لا تُقدّر بثمن، خاصّةً أن العديد من هذه التترات تستحق تلك المكانة، مثل تتر دمعة عمر. اجتمع في هذا التتر ربما لأول مرة علي الشرقاوي كاتبًا وأحمد الهرمي ملحنًا (اللذَين اجتمعا في العام التالي ليقدما تتر هدوء وعواصف)، مع القامة الطربية الخليجية الكبيرة نوال الكويتية، مقدّمين قطعةً مهمّة من شجنٍ وحزن.
تُظهر تجارب زياد الطويل، ابن الموسيقار الراحل كمال الطويل، أن الكسل في صياغة الكلمات التي يلحنها تنعكس كسلًا في ألحانه، كما في ح اسهّرك لـ وردة. أما مع كلمات متقنة فهو قادر على تقديم ألحان استثنائية، كما في اتقابلنا من كلمات بهاء الدين محمد، التي ما زالت من أفخم ما قدمته أنغام في مسيرتها. يجب على الأقل أن تحمل الكلمات شطارة في الصنعة حتى تستثير موهبته، كما في قلبي بيرتحلك لـ أصالة.
في كلمات إبراهيم عبد الفتاح لهذا التتر حالة وسطى، حيث حسن الصنعة والصدق، دون تلك الصور والشاعرية الاستثنائية، لكن كون الطويل هو مؤلف الموسيقى التصويرية للمسلسل أيضًا، جعله يضع القصة كاملةً أمام عينيه، لا ما كتبه عبد الفتاح فقط، فكان اللحن قصةً أكبر من الكلمات، مُدعّمة بالربابة التي تُعلن عن التميز منذ دخولها في المقدمة، وتستمر بإضفاء الجمالية وتدعيم الأثر في اللوازم. ثم أتى صوت وتمكُّن وائل جسّار ليضمن وصول القصة إلى أكبر شريحة ممكنة وتأثيرها بهم.
في آخر مقطع من مسلسل الانتظار، وبعد تلقي أصدقاء عبود – أجدع شباب الحارة – خبر وفاته، يركبون في الطرطيرة دراجة آلية بثلاث عجلات تنتشر في المناطق الشعبية السورية، تسكت الموسيقى التصويرية، ويبدأ أندريه سكاف بغناء يا وابور قوللي، سائقًا الطرطيرة على مرأى من دمشق، يشاركه الأغنية أيمن رضا ويكملها بأداء لا هو غناء ولا نواح، لكنه جديلة من أثرهما، لنحصل على أحد أكثر مشاهد الدراما السورية حفرًا في النَفْس.
أخرج المسلسل الليث حجو، وألف موسيقاه التصويرية طاهر مامللي. لا نستطيع الجزم فيما إذا كان الاكتفاء بصوت أيمن رضا في المشهد السابق هو رأي الليث أم طاهر، لكن تقديم هذه الرؤية في المسلسل الكوميدي الساخر ضيعة ضايعة، لنفس المخرج والمؤلف الموسيقي، تجعلنا نعتقد أن الرأي مشترك.
هذه الرؤية التي تجمع البساطة والخفة وقوة التأثير، الموحية بالتسلية والمبطنة بالحزن، اللامبالية من ناحية، والمؤلمة من ناحية أخرى. يعزز هذا كله في ضيعة ضايعة بذكاء طاهر في اختيار علي الديك لتأدية شارته، وتقديم صوته على طبيعته التي تشبه بيئة المسلسل دون تزويق زائد، إلى جانب الآلات التي استخدمها من بزق وطبول ومزامير، وإدخاله أصوات التصفيق والزغاريد مقاربًا بذلك أحد أهم عناصر الأغنية الشعبية السورية، وهو كونها تؤدى بين الشعب وبمشاركتهم.
بعد عمله كمساعد مخرج في عدة أعمال عالمية بينها أفلام بضخامة جلادييتر وكينجدُم أُف هِفِن وألكسندر، عاد المغربي محمد نصرات إلى بلده لاستغلال خبرته في الدراما التلفزيونية، وبين أهم ما قدمه مسلسل اليتيمة عام ٢٠١٧. صمم نصرات على تقديم رؤية جمالية مختلفة للدراما التلفزيونية لدرجة أنه استعان بمصور عالمي من وزن جرِجوري تُربلييه لتنفيذ المسلسل، والذي كان وراء اللمسة البصرية المميزة لفيديوهات أغاني مثل لوست يور مايند لـ زيمر، نو ويتنس لـ إل بي، بوندا مان مانو لـ كالاش، أفوار دو لارجان لـ يوسوفا، بلوك آيدنتيتيه لـ مِدان وكورير لـ إيجيت.
مع إصرارٍ كهذا على عنصر جمالي قلما التُفت إليه في الدراما العربية، من المثير معرفة ما قد يختاره نصرات لتتر مسلسله وما تحمله من وعود للمشاهد. قرر نصرات أن لا يبني من الصفر، فاختار أغنية كلاسيكية لـ عزيز بوعلام حاملة لعنوان مسلسله، ليتيمة. عُرِف علّام بغنائه الراي العروبي، الحامل لخصوصية مغربية في الأنغام وفي الكلمات ذات الطابع البدوي، كما في هذه الأغنية، التي تشبه كلماتها ما قد تغنيه أمٌّ بدوية باحثة عن طفلتها الضائعة، ناشرةً الأغنية في ترحالها عساها تصل مسامع الطفلة أو من يعرف مكانها.
لم يستعمل نصرات أغنية علّام كما هي، وإنما قام باستعادتها بصوت أسماء لمنور وتوزيع جديد، بحيث نزع عنها الكثير من حزنها بتسريع الإيقاع، الذي يعتبر هنا بطل الأغنية إلى جانب أداء المغني ويمكن للتحكم فيه تغيير الكثير، وبالحرص على أن يتجاوب إحساس أسماء مع رؤيته، بحيث تغلب السلطنة على الدرامية دون أن تلغيها. بذلك نتجت أغنية سهلة التعلق بالذاكرة بلحنها البسيط الجذّاب والموحّد لمقاطعها الثلاثة، وبما تحمله من حلوٍ ومُر ينبئ بغنًى درامي للمسلسل.
في مسلسل اللص والكلاب الصادر عام ١٩٧٥، كانت أولى تجارب السيناريست الكبير محسن زايد مع معالجة روايات نجيب محفوظ بصريًا. ابتعد بعدها عن محفوظ لسبع سنوات، ليصدر له في الثامنة الفيلم التلفزيوني أيوب عن رواية محفوظ، ثم يبدأ بعد خمس سنواتٍ أخرى ملاحمًا محفوظيّةً أكبر أصبحت اليوم من أضخم كلاسيكيات الدراما العربية، بين القصرين ثم قصر الشوق وقلب الليل في ثلاث سنوات متتالية بين ١٩٨٧ و١٩٨٩، بدا بعدها أن زايد خشي محاولةً أخرى لا ترقى إلى الذُّرى التي بلغها، فبقي بعيدًا عن محفوظ لـ ١١ عامًا. حين قرر زايد الخوض في تحدٍّ محفوظيٍّ جديد في مطلع الألفيّة، اختار روايةً لا تحمل أساسًا ما يُغري باقتباسها في دراما تلفزيونية: حديث الصباح والمساء؛ حتى أن صديق زايد، الشاعر المخضرم فؤاد حجّاج، أخبره أنها لا تحمل أساسًا حكيًا وحدوتة.
كان محفوظ نفسه وراء توطُّد صداقة زايد وحجّاج، وذلك بعد قراءة الأول كتاب محاكمة شخصيات نجيب محفوظ لـ حجّاج. لذلك كان زايد كلما انتهى من حلقة يرسلها لـ حجّاج، وحين يتأخر في الإرسال يمازحه حجّاج: “مش قلتلك صعبة؟”. بعد كتابة الحلقة العاشرة، لم يعد هناك مجال للمزاح، اتضح أن زايد أحكم قبضته على المادة، لدرجة جعلت وحي الشعر يلازم صديقه أسبوعًا اكتملت فيه كلمات واحدة من أخلد التترات على الإطلاق، وصاحبة أفضل نص في هذه القائمة إلى جانب تتر عيون عليا.
“مين فينا جاي مرساها / مين رايح / لحظة ميلاد الفرح / كان في حبيب رايح”، سمع زايد هذين البيتَين الافتتاحيَّين وعلّق لحظتها: “عصرت ألف حلقة ف سطرين.” لم تكن الرواية والحلقات العشر فقط هي ما أوحت لـ حجّاج بهذه الكلمات، فقد بدأ الأمر قبل أكثر من ثلاثة عقود، حين بدأ حجّاج يُدرك أنه سيكون شاعرًا بنتيجة ما وقع لجيرانه وأثّر فيه فكتب. كانت أيام ما بعد النكسة، وسمع حجّاج أن خبر استشهاد ابن جيرانه وصل في يوم ولادة ابنه البكر. لسببٍ ما عاودته الذكرى لدى قراءته سيناريو زايد، فكان البيت الثاني.
يجب اللجوء لملحّن بوزن عمار الشريعي لتقدير كلمات كهذه، وهذا ما حصل. يفتتح الشريعي بمقدمة فخمة من دقيقة وثُلث يتوسطها عزف عود غامر الشجن، ثم يدخل غناء أنغام راسمًا ملامح القصة بالكلمات التي قالت أنغام أنها “اتخضّت” عندما سمعتها أول مرة، بأداءٍ يُذكّر بمرحلتها الذهبية مع الموسيقار محمد علي سليمان، حين كان صوتها أكثر انطلاقًا وشاغلًا لمساحاتٍ تعبيريةٍ وجماليةٍ أوسع؛ يظهر ذلك بوضوح لدى غنائها: “آدي البشر أوراق فيها عبير العبر صادح.”
لألحان مروان خوري حالة خاصة تُسهّل تمييزها، لكن يعود جزء كبير من هذه الخصوصية إلى تشابه تلك الألحان حتى أصبح من السهل التنبؤ بمسار اللحن الخوري بعد التعرف على ما يكفي من أعماله. مع ذلك، يحافظ عاملان على اهتمامنا بسماع آخر أعماله: حمل كلماته دومًا لجديد، وتقديمه لحنًا مختلفًا يُضيف إلى تاريخه بين وقتٍ وآخر، كما في أغنية وينك لـ عبير نعمة العام الماضي، وفي تترات مسلسلَي تشيللو ولو.
في تتر لو، من أول بضعة ضربات على البيانو يُبشّر مروان خوري بشحنة انفعاليّة غير مألوفة عنده، متناسبةً مع النص البارز: “لو / غمضتن عينيي ومشيت / لا تطلعت فيي ولا حكيت / يا ريتك ما جيت / تحرم عينيي غفوتا / تلعب الصدفة لعبتا / يا ريتني / يا ريتني ما كنت لحظتا”، ويستمر بتكثيف هذه الشحنة طوال الأغنية، بشكلٍ قلما نجده عند الموسيقيين اللبنانيين، بميلهم عادةً لأن يكون الانفعال مكتوم الدرامية. يبدو أن هذه النقطة بالتحديد ما جعلت أداء إليسا باهتًا، مع عدم اعتيادها على ذلك الانغماس في الحالة عندما يتطلب الأمر. الغريب أن أداء مروان خوري، الأفضل بوضوح من أداء إليسا، يفتقر أيضًا إلى تلك الانفعاليّة التي يحملها لحنه ويلتزم بتقليد كتم الدرامية، ما يُحسّر على كون اللحن لم يُعطَ للقادرين عليه من أمثال عبير نعمة أو وائل جسّار.
أحصى موقع السينما دوت كوم ١٨٥ عملًا لأسطورة الشاشة الخليجية الحية، حياة الفهد، كتبت ١٨ منهم. مع هذا التاريخ الحافل يصعب تخيل عِظَم مكانة هذه السيدة في قلوب الخليجيين، والذي يجعل مجرّد ظهورها في عمل كافٍ لرفع قيمته. لذلك كان العمل معها في هذا المسلسل فرصة العمر بالنسبة للمخرج محمود دوايمة، خاصةً أنه فاز بها بعد خمس مسلسلات متواضعة المستوى والنجاح، رغم عمله مساعدًا في السابق مع مخرجَين من أهم الأسماء على الساحة العربية، شوقي الماجرّي ومحمد عزيزية.
لم ينجح دوايمة في استغلال الفرصة، على ما يبدو من عدم تحقيق المسلسل ما يليق باسم نجمته، في حين نجح آخرون في الإفادة من المشاركة في عمل لـ حياة الفهد، وفي نفس الوقت ضمنوا للمسلسل ذكرًا أطول مما قد يتخيله دوايمة، وهم صناع تتر المسلسل، الشاعر عيسى العميري بحسن صنعته ودفء كلماته رغم موضوعها المستهلك: “انطفى من العين نوري / والسراي ما ينفع ضرير”، والملحن المهم حمد الخضر، الذي استُعين فيه خصيصًا للتتر رغم وجود حسام يسري مؤلفًا للموسيقى التصويرية للمسلسل، ربما بفعل نجاحه الاستثنائي في هذا المجال، كما في للحب جنون وسعد وخواته؛ وأخيرًا بلقيس بصوتها وأدائها المشحونَين بالعاطفة.
لدى حديثها عن أهمية تترات المسلسلات في نجاحها، ركّزت المخرجة شيرين عادل على شارتَي مسلسل حضرة المتهم أبي، وتحديدًا تتر النهاية. نادرًا ما نجد تماسكًا وتكاملًا بين شارتَي البداية والنهاية لمسلسل كما نجد في حضرة المتهم أبي، بفضل كلمات الكبير أحمد فؤاد نجم المبنية على قراءة متأنية للنص، والتي جعلته يبدأ المسلسل بـ “نازل وانا ماشي / ع الشوك برجليا / وانت السبب يابا / ياللي خليت بيّا”، ويختمه بـ “حقك على عيني / يا ابني يا نور عيني / لاجل الوفا بديني / لك عندي بعض كلام.”
هذا ثاني تتر من ألحان ياسر عبد الرحمن في القائمة، ومن يعرفونه سيعتبرون من الظلم وجود اثنتَين له، لا أكثر. أجمل ما يمكن لمسه في لحن عبد الرحمن قدرته الغريبة على أن يُحمّل اللحن ماضيًا، فيصبح من الصعب سماع الأغنية دون تخيل قصة كبيرة وراءها. هذا مع أداء مخضرم التترات القادر على تصوير القصص الكبيرة بصوته، مدحت صالح. هُنا يقترب صالح كثيرًا من الحد الفاصل بين الانغماس في الحالة والمبالغة، لكنه لا يتجاوزه، مضاعفًا تأثير الأغنية.
من الغريب أن يحظى مؤلف موسيقى تصويرية بالشهرة والشعبية التي للسوري إياد الريماوي، صحيحٌ أنه على عكس غالبية المؤلفين غنى في بعض التترات التي ألفها، لكن ليس بما يكفي لتبرير تلك النجومية التي اعتدنا غيابها عمن وراء الكواليس. حتى مؤلف بوزن ياسر عبد الرحمن الذي سبقت بدايته وأعماله الأيقونية بداية الريماوي بأكثر من عقد، ومع عمله في الدراما المصرية الأوسع مشاهدةً عربيًا، سنجد متابعين قناته ومشاهداتها أقل بشكل واضح مما نجده على قناة الريماوي. تبرر كلمتان حال الريماوي، كلنا سوا، الفرقة السورية التي منحت أملًا غير مسبوق للسوريين بأن يكون لديهم موسيقى ذات خصوصية محلية وجاذبية عالمية، بعيدًا عن القدود الحلبية والأغاني الشعبية، واستطاعت بين عامَي ١٩٩٨ و٢٠٠٨ احتلال مكانة في ذاكرة السوريين أكبر مما تسمح به عشر سنوات، وكان إياد الريماوي مؤسسها وعضوًا فيها والرجل وراء تأليف وتوزيع كثيرٍ من أهم أعمالها. كان الريماوي نجمًا بالفعل خارج الموسيقى التصويرية، ويُمثّل اليوم آخر الباقين النشطين من أعضاء الفرقة التي يتعلق السوريون بكل ما تبقى من ذكرياتها.
شباكك مطفي، كانت هذه الأغنية الساحرة بصوت بسمة جبر والصادرة في آخر ألبومات كلنا سوا أول رسالة حب موسيقية بين الريماوي والشبابيك. بعد عشر سنوات مُنح الريماوي فرصة جديدة لإكمال قصته مع الشبابيك باعتماده لتأليف موسيقى وتترات مسلسل بعنوان شبابيك. “من هالشباك كنت / رح إرميلك حالي / وعلى هالشباك سهرت فكر فيك ليالي” بهذه الدرجة من الروقان كتب الريماوي الكلمات الكفيلة بتصعيب مهمة تلحينها حتى عليه، لكن لدى سماع النقرات على الجيتار في بداية الأغنية ستتلاشى الشكوك حول مدى حسن اختيار الريماوي للأجواء المناسبة لكلماته. يستمر ذلك الاطمئنان لقرابة دقيقتين، تدخل بعدها وتريات درامية تنزع عن الأغنية كثيرًا من خصوصية أجوائها، رغم جمالها، ما يُحسّر على أن حظ الختام بـ “وآخر شباك رح يبقى باقي العمر مفتوح / ياللي ودعتك منو آخر مرة قبل ما تروح” لم يكن أفضل ما تحمله الأغنية لحنيًا وتوزيعيًا. على صعيد الأداء، قد لا يكون اختيار فايا يونان هو الأفضل لهذا التتر، بحاجته لعاطفة ندر ظهورها عند فايا، وقد يصعب عدم تخيل أصوات كارمن توكمه جي وبسمة جبر وحتى جوليا بطرس مكانها، لكن لا شك أن هذه الأغنية هي أفضل ما قدمته فايا في مسيرتها حتى اليوم.
على مدى ست سنوات بين ٢٠٠٢ و٢٠٠٨، حقق المخرج البحريني أحمد يعقوب المقلة والكاتبة القطرية وداد الكواري ثنائيًا مهمًا ومرتقبًا، حتى أن مسلسلاتهما المضمونة النجاح لطالما جمعت نجوم التمثيل، والغناء، من طلال سلامة في تتر حكم البشر، إلى عبد المجيد عبد الله في يوم آخر وبعد الشتات، راشد الماجد في عندما تغني الزهور، ماجد المهندس في نعم ولا، وأخيرًا هند في ظل الياسمين. تبرز اثنتان بين كل هذه التترات، عندما تغني الزهور من كلمات عبد الرحيم الصديقي وألحان أحمد الهرمي، ويوم آخر من كلمات صقر الكعبي وألحان الفيصل.
للأغنيتَين نصوص شديدة التقليدية بما فيها من شكوى وجراح وضياع الوفا بين الناس، ارتقت بها ألحان بثت فيها حيوية وعاطفة وأخرجتها من دائرة “النق”. لكن تتفوق أغنية تتر يوم آخر بشجنٍ أكبر وحمولة درامية أكثر حضورًا تجعل من السهل التنبؤ بأنها أغنية مسلسل، وإن كان الجزء الأكبر من عشاقها اليوم لا يعلمون ذلك، فهي كحال تتر هدوء وعواصف، حققت دويًا على الساحة العربية بعيدًا عن مسلسلها وأصبحت معروفة باسم كل يوم نقول اليوم. فوق كل شيء، يُحسب لـ الفيصل استثماره لأفضل بيت في كلمات الكعبي “كل يوم نقول اليوم / تتحقق الأحلام” لخلق حالة وأجواء لحنه، وجعل افتتاحية الأغنية بهذه الجملة للذكرى، بعد مقدمة موسيقية لا تقل عنها.
منذ بدايتها في برنامج ستار أكاديمي، مرورًا بظهورها التلفزيوني المتكرر في برامج مثل صاحبة السعادة أو مع منى الشاذلي، وانتهاءً بالحفلات الحية التي تحييها بين الحين والآخر، ارتبط اسم نسمة محجوب بالأداءات الكلاسيكية لألوان موسيقية صعبة ومتنوعة، تستعرض فيها قدرات صوتية هائلة مستندة إلى دراسة أكاديمية وثقافة عالية. جعل كل ذلك منها خيارًا بديهيًا لغناء تتر ليالي أوجيني.
يتخذ المسلسل بور سعيد الأربعينيات مسرحًا لأحداثه، التي تشغل الموسيقى حيزًا كبيرًا فيها، ما بين الكازينو الذي يقدم يوميًا عروض مونولوج لثريا حلمي، والمنازل التي لا تخلو من فونوجراف يشغل موسيقى كلاسيكية خلال جلسات استماع لأصحابه الذواقة. فرض ذلك على الملحن هشام نزيه ثيمة كلاسيكية برؤيته الهادئة للأغنية، مفسحًا كل المجال لصوت نسمة محجوب الأنيق أن يتولى زمام توجيه اللحن، من طبقة منخفضة تقرب الهمس إلى أخرى أكثر ارتفاعًا في وقت لاحق. تتدخل بعض الآلات من بعيد في بعض اللحظات، قبل أن يدخل صوت الكمنجات واضحًا في الجزء الأخير من الأغنية مكسبًا إياها شيئًا من الإثارة المتناسبة مع تواتر الإثارة في أحداث المسلسل.
يُحكى أنه في إحدى الليالي جاءت وضحى لتنام بجانب زوجها الشاعر نمر بن عدوان، فسألها إن ربطت الخيل، ولخشيتها من أن يغضب منها أو يقوم بنفسه ليقوم بذلك أجابت بأنها فعلت، ثم بعد أن غط في النوم قامت لتربط الخيل، التي أصدرت أصواتًا أيقظت نمر، فنظر من نافذة غرفته ليرى ظلًا بجانب فرسه ظنّه لسارق، فأطلق النار، وقتل التي قضى بقية عمره يرثيها. بين الرثائيات التي تُنسب لـ نمر بن عدوان قصيدة بعنوان البارحة يقول مطلعها: “البارحة يوم الخلايق نياما / بيّحت مَن كثر البكا كل مكنون / قُمت اتوجّد له وانثر على ما / من موق عيني دمعها كان مخزون”، غناها عام ١٩٨٤ فتًى موهوب في الخامسة عشرة من عمره، اسمه راشد الماجد، ونزّلها في ألبومه الأول بتوزيع مكتشفه حامد الحامد، ذاكرًا أن لحنها من الفلكلور، ثم استعاد مقاطعًا منها بتوزيعٍ مختلف عام ٢٠٠٧ لتصبح تتر مسلسل نمر بن عدوان.
الغريب في الأمر أن هذا العمل الآسر وصلنا بهذا الشكل لجميع الأسباب الخطأ، فبدايةً، القصيدة ليست أصلًا لـ نمر بن عدوان وإنما لـ محمد بن مسلم، وتنسب خطأً لـ بن عدوان لاشتهار قصته وارتباط رثاء الحبيبة في الشعر البدوي بالتراجيديا التي عاشها، وربما لتشابه مطلع هذه القصيدة بمطلع أخرى لـ بن عدوان يقول فيها: “البارحة في هجعة النوم غرقان.” أيضًا، اللحن ليس فلكلوري، وإنما هو للسعودي بشير حمد شنان الذي توفّي قبل صدور نسخة الماجد بعشر سنوات فقط، وليس هذا وقتًا كافيًا ليتحول إرثه إلى فلكلور، لكن الماجد لم يُقر بذلك حتى الآن، ولذلك يستعيد الأغنية ويعيد توزيعها متى شاء.
على كل حال، ما يجب شكر الأقدار عليه هو خطأ صناع العمل، فلحن شنّان الذي يستحق الخلود لم ينل حقه لا في النسخة الأصل بصوت شنان، ولا في نسخة الألبوم الأول لـ الماجد، وكان بحاجة إلى تبطيء الإيقاع، واستعادته بدفوفٍ وعودٍ ونايٍ وكمان، ولمسات أربيج خاطفة على الجيتار، لنسمعه بالفخامة والأثر اللذَين اكتسبهما في المسلسل، وزادا من ملحمية قصة حب بن عدوان؛ وإن لم تكن القصيدةُ له.
مهدي المولهي موهوب، لكن لا يبدو أنه يبذل الكثير من الجهد في توجيه موهبته، فتجد في ألحانه ما يوحي بأنها خواطر جميلة أكثر منها ألحان مبنية بعناية. في تتر ليام مثلًا نحس صدقًا مؤثرًا، لكن لا يمكن مقاومة الإحساس بأننا نسمع تترًا مصريًا، كأن أول ما جال في باله لدى قراءة السيناريو مسلسلٌ مصري، ولم يحاول تغليب الحاجة لعمل شيء مختلف. كذلك في تتر تاج الحاضرة، هناك محاولة لمحاكاة تتر حريم السلطان تنجح إلى حد لا بأس به ومبشر، حتى نجد المقطوعة وقد انتهت فجأة لأن المولهي لم يُعمل الكثير من التفكير في البنية واقتصرت محاكاته على الإطار الجمالي العام.
لحسن الحظ، في عمله على تتر أولاد مفيدة كان على المولهي العمل مع رابر، فاضطر للخروج من مساحة أمانه، كذلك كون الرابر نجم مثل بلطي، كان عليه التكيُّف مع أسلوبه للإفادة من نجوميته، عدا عن أن الكلمات لـ بلطي في الأساس.
يُلام بلطي عادةً على إغراقه المُكرّر في الدراميّة، كما في بنت حومتي ويتيم وجاي مالريف للعاصمة، لكن كون هذه الأغنية تحديدًا تقديم لمسلسل جعل دراميته هنا في مكانها المناسب، مُدعّمةً بلحن المولهي البسيط المتقن والواضح الملامح هذه المرّة، وبسطور جيتار كهربائي تحيط الأغنية بجوها الخاص. ربما لم تكن شيرين لجمي أفضل خيار لمشاركة بلطي، بكونها تقريبًا النسخة التونسية من كارمن سليمان، التي تشابهها في خامة الصوت وفي التتلمذ على أداء أنغام أو التأثّر به، ما جعلها تُدخل أسلوب أداء واضح المشرقية في غير مكانه، لكن الأثر النهائي لا يضُر بالأغنية.
بالنسبة لمواليد الثمانينات وبداية التسعينات، يُمكن لتشغيل هذا التتر انتزاعهم من أسوأ حالات الاكتئاب، ببدءه موجة دفء سُرعان ما تغمر الجميع: “كل الجروح ليها دوا / يا طير يا حايم ف الهوى / إطوي الجناح على الجراح / واضحك / ويللا نطير سوا.” كما في حالة حضرة المتهم أبي، يُكمل تتر نهاية مسلسل مسألة مبدأ تتر بدايته، فمن “خايف من بكره ليه / مين يعرف بكره إيه” إلى “كل الجروح ليها دوا”، مع تطور جرعة التفاؤل كلامًا وموسيقى بين الاثنين، حيث التربيت على الكتف بهدوء والإقناع في الأول، والرقص المتهادي بعد الاقتناع في الثاني.
اجتمعت عدة عوامل ليكتسب هذا التتر مكانته اليوم، فالمسلسل هو أول تجربة إخراج تلفزيوني للسينمائي الكبير خيري بشارة، والتعاون الأول والأخير بين بشارة والسيناريست محمد صفاء عامر، بنجاحٍ مُحتفى به حتى اليوم. أيضًا، تُشكّل هذه الأغنية آخر تعاونات علي الحجّار وعمر خيرت في التترات حتى كتابة هذا المقال، في وقتٍ كانت فيه ألحان خيرت ما زالت تنبض بالحياة ولم تدخل مرحلة البناء على ما فات، كما نجد في الكثير من أعماله الأخيرة. إلى جانب كل ذلك، لا يُقبل الوعظ التفاؤلي من أي شخص، لكن لـ عبد الرحمن الأبنودي أن يقول “كل الجروح ليها دوا” فتقع في قلب سامعها.
في مسيرتها الطويلة كفنانة عربية قبل أن تكون سورية، غّنت أصالة العديد من التترات، كان نصيب المسلسلات السورية منها ثلاث قصائد: القصيدة الدمشقية لنزار قباني، وقصيدة أنا القدس للشاعر يوسف الخطيب، وقصيدة محمود درويش عابرون في كلام عابر لتتر مسلسل صلاح الدين الأيوبي، والتي لحنها طاهر مامللي. يحب طاهر مامللي استعادة القصائد واختيارها بتأني لإسقاطها على أحداث مسلسلات معاصرة كما في استعادته لأبيات لـ عمر بن أبي ربيعة في تتر أهل الغرام، أو تلحينه لقصيدة للسوري نزار أبو عفش في تتر أحلام كبيرة. في حالة صلاح الدين الأيوبي جرت العملية عكسيًا باختيار قصيدة من الشعر الحديث لشاعر معاصر وإسقاطها على أحداث مسلسل تاريخي، لتتوسع أبعاد مفردة “المارون” في القصيدة وتشمل الفرنجة الذين انتزع صلاح الدين القدس من أيديهم.
جاء أداء أصالة هائل الإتقان، فردت فيه عضلاتها وقدراتها الصوتية إلى أقصى إمكانياتها. لم يقتصر الإتقان على صوتها وغنائها فحسب، بل على تمكنها الكبير من الغناء بالفصحى بلفظها ومخارج حروفها، ليأتي أداءها بقوة تفرض نفسها بلا تكلف ولا اصطناع.
بمجرد السماع عن الموسيقار الكويتي عامر جعفر، لا يبدو أكثر الملحنين تشويقًا لسماع أعماله، لتشابه تصريحاته مع تصريحات الموسيقيين الذين لم يستطيعوا التكيف مع العصر ولم يبق لهم إلّا التذمّر من حاله. لكن سماع أعماله لحنًا وتوزيعًا يُساعد على فهم تلك المواقف، بما فيها من تفكير ونظام وشغفٍ بالموسيقى قبل كل شيء؛ لذلك في حين نجد الموسيقى الآلية ثانويةً لدى الغالبية العظمى ممن يلحنون الأغاني، تبقى عنده بارزةً بروز الغناء، كما في تتر إقبال يوم أقبلت الذي غنته يارا، وهذا التتر بصوت ماجد المهندس؛ الذي يُفتتح بمقدمة بسيطة وفخمة يبدأها العود، ثم بضعة تشيلّوهات يليها نقر ملفت على أوتار الكمنجات، تُعاد مرة ثانية قبل دخلة وتريّات تُمهّد للغناء، المُلحّن بما يشبه أغنية شعبية تناقلها الناس عن نادمٍ على فراق أمه وفوات أوان إيفائها حقها. بالإضافة إلى المقدمة، يستمر جعفر في التأكيد على قيمة الموسيقى الآلية خلال مصاحبة الغناء، وفي لازمة مشغولة بعد “والمزار بعيد”، وفي الختام العبقري بالمقدمة.
مع موهبة وعلم جعفر في التلحين والتوزيع، كانت كلمات الشاعر الذي ساهم في تطوير الأغنية الخليجية على مدى أكثر من أربعة عقود، عبد اللطيف البناي، سببًا إضافيًا للإبداع: “أتذكر بويتي قبل / وحويش من طين ورمل / لِنسنس الغربي مع قرّة النور / وحليبة الدوا وخبيزة التنور / رديت بفرق الحزن وعبَيتي الحافي / ودموع عيني بحر والشوق مجدافي.” يكتمل أثر الأغنية بغناء ماجد المهندس الغارق في عاطفة محببة.