.
قبل خمسة أيام ذهبتُ إلى صلاة أحد الشعانين مع عائلتي، بعد انقطاع دام خمسة عشر عامًا، حافظتُ فيها على علاقتي مع الدين، لكن عن بعد، وذلك من خلال تقديري الداخلي للطقوس الروحية والشعائر والعمارة المرتبطة بالبيئة الكنسية، لكن دون أي مشاركة تُذكر.
بعد كل هذه السنوات، وما إن دخلتُ باب الكنيسة العالي، شعرتُ بالخوف والتوتر اللذان كانا يرافقانني حين كنتُ طفلة. تلك الرهبة، لا من الله، فهذا بيته، وإنما من الراهبات ومعلمات المدرسة اللاتي كن يجلسن في المقاعد الخلفية، وعيونهن التي تلاحقني وزملائي بنظراتهن، ويُراقبن كل حركة أو همسة خارجة عما هو متوقع في القداس، ليقمن بتوبيخنا علنًا في صباح اليوم التالي بعد أداء السلام الملكي ضمن أنشطة الإذاعة المدرسية، أو في حصة الدين المسيحي.
كانت النشأة في بيئة مسيحية تعتبر امتيازًا بين زملائي في المدرسة. لا أُنكر ذلك، إذ كان المعظم يعبّرون عن ذلك بقولهم “نيّالك، فأنتِ في بيئة أكثر انفتاحًا”، لكن بالنسبة لي، كان ذلك مغالطة كبيرة. على العكس تمامًا، فهذه البيئة، وكغيرها من البيئات التي تنظر إلى نفسها على أنها أقلية، كانت حريصة وبشكل صارم على التشبث بعاداتها وتقاليدها، ومن ضمن ذلك محاولاتها لضبط سلوك كل من ينتمي إليها.
مع كل هذه العوائق والحواجز، إلا أن أبجدية المرء وتعاليمه الأولى تُرافقه مثل ظله، حتى لو أخذ مسافة منها. ما إن دخلتُ الكنيسة حتى استعدتُ معظم تلك التفاصيل التي كنتُ قد ظننتُ أنني نسيتُها: التراتيل المألوفة والأيقونات المفضلة، المعرفة الضمنية بموعد الجلوس والوقوف أثناء الصلاة دون الحاجة إلى التلفّت والنظر إلى من هم حولي. كما استعدتُ ذلك الشعور بالفرح الذي لطالما رافقني يوم أحد الشعانين، حين كنا نخرج لنشارك في الدورة في ساحة الكنيسة، والقلق الذي يتملكني خوفًا من فقدان مقعدي وإكمال الصلاة وأنا واقفة.
أما نقيض هذا الفرح التام فكان يوم جناز المسيح، أو الجمعة العظيمة، حين أرى الكاهن ومساعديه وهم يدورون حاملين نعش المسيح، بينما أحاول أن ألقي عليه الورود وسط بكاء المصلين. كما أذكر يوم احترق شعري في سبت النور، بعد أن اقتربت مني فتاة تحمل شمعة مشتعلة. لم أكن منتبهة، إذ كنا نؤدي صلاة الهجمة عند باب الكنيسة الخارجي، وكان الكاهن يصرخ حينها “هو رب الجنود، هذا هو ملك المجد”، ثم انفتحت الأبواب ودخلت الجموع بتزاحم، وبقيت أنا في الخارج، أحاول أن أفهم كيف احترق شعري.
دائمًا ما كنتُ أتساءل: لماذا نصوم؟ لمن نبذل كل هذا الجهد؟ ولماذا يحاول الشيطان إغواءنا؟ إلا أن هذه التساؤلات سرعان ما تتبدد مع أول ترتيلة عند بدء القداس، إذ أنساق خلف الجوقة وأنسجم مع الغناء. بالرغم من جمال صلوات الميلاد المجيد، وما تحمله من دفء وفرحة، إلا أنني عادة ما كنتُ أميل إلى صلوات عيد الفصح، لأنها وببساطة، تحمل حزنًا جميلًا.
تتنوع الطقوس المسيحية في العالم العربي بين البيزنطية والقبطية والمارونية والسريانية، وأظن أنني كنتُ من المحظوظين الذين انكشفوا منذ عمر صغير على طائفتين مختلفتين. الأولى؛ كنيسة المدرسة ذات الطابع الغربي القريبة لحنًا من سيمفونيات بيتهوفن، والتي تُرنم فيها التراتيل بأصوات نسائية على ألحان آلة أرغن هاموند. والثانية؛ كنيسة عائلتي الشرقيّة البيزنطية، والتي يُستخدم فيها الصوت فقط بتدرجاته الموسيقية دون استخدام الآلات، وتؤدى التراتيل فيها على ثمانية ألحان شرقية فقط، أربعة أساسية، وأربعة شقيقة، وتعتمد الجوقة على أصوات نسائية وذكورية.
إن أسبوع الآلام هو ذروة الحياة الليتورجية الكنسية بشقّيها الشرقي والغربي، إذ يتمحور هذا الأسبوع حول مفهوم الفداء، وهو أساس الإيمان والعقيدة المسيحية. حيث يعيد المؤمنون فيه إحياء كل المراحل التي مر فيها المسيح قبل صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، بدءًا من معجزة إحيائه لعازر في بيت عنيا، ثم دخوله إلى القدس محمولًا على الأكتاف، وحتى خيانة يهوذا له ووقائع الصلب، وانتهاءً بالقيامة. لم تكن هذه الحكايات تُستعاد من الإنجيل أو الآيات فقط، بل كانت تُغنى، وهو ما جعلها تعلق في ذاكرة معظمنا، خاصة الأطفال.
رغم خصوصية كل طائفة فيما يتعلق بأداء الصلوات وترتيبها، إلا أن ثمة تراتيل تغنى في معظم الجوقات، والتي تتجاوز الفروقات الكنسية، وذلك أعيده لسببين. الأول هو محدودية الإتاحة، إذ كانت أشرطة الكاسيت تصل الأردن قادمة من لبنان ذات الأغلبية المارونية، أو من الكنيسة القبطية في مصر، وتُتداول بين الكنائس ويتم نسخها وتوزيعها على المدارس، ثم على الجوقات والكشافة. أما السبب الثاني فهو صوت فيروز وأسطوانة عام ١٩٦٧ التي غنت فيها تراتيل الجمعة العظيمة، بصيغ جعلت منها غير خاضعة لزمن أو طائفة.
تراتيل مثل واحبيبي، وأنا الأم الحزينة، تجاوزت حدها في مجرد كونها أداءً صوتيًّا يُرتَّل خلال أسبوع الآلام، لتتحول إلى طقس وجداني يُستدعى في لحظات الفقد الحقيقي والموت، وفي حالات الفقد الجمعي التي نشهدها في فلسطين وسوريا ولبنان. لقد شقت هذه التراتيل طريقها نحو الجنائز وبيوت العزاء، لتمنح الحزن الثقيل إطارًا روحيًّا، وتؤكد أن هذا الألم بكل قسوته، عبور نحو حياة أخرى، تمامًا كالقيامة.
إن سبت لعازر هو أول أيام أسبوع الآلام عند الكثير من الطوائف، إذ يُحيي به المصلون ذكرى إقامة المسيح للعازر بعد موته بأربعة أيام، وذلك يُعتبر من أهم الأسباب التي دفعت اليهود والفريسيين للبدء بدعوات قتل المسيح.
يُقال إن لعازر وأختيه، مريم ومرتا، أقاموا في بيت عنيا، وهي الآن منطقة العيزرية في القدس، والتي سُميت نسبه إليه. ذهب المسيح إلى هُناك، بعد أن وصلته استغاثة مريم ومرتا، فطلب من الجموع إزاحة الحجر عن قبره، ثم صلى عليه وخرج لعازر منه بجسم مشدود، بعد أن أقامه المسيح من بين الأموات.
تعود ترنيمة افرحي يا بيت عنيا في أصولها إلى الطقس البيزنطي، ويُقال إن مطران حمص، أثاسيوس عطا الله، كان أول من استقى من النص الإنجيلي وحوله إلى ترنيمة، وذلك في كتاب صلوات أصدره عام ١٨٩٠. كما كان أول من بدأ بإقامة القداس بالعربية، بعد أن كان يُقام باليونانية.
يحتفل المؤمنون في أحد الشعانين، أو أحد السعف، بذكرى دخول المسيح إلى أورشليم (القدس)، حيث استقبلته جموع الناس رافعين سعف النخيل مرحبين به، وهم يرددون: هوشعنا في الأعالي. وتُشتق كلمة هوشعنا من جذرها اللغوي العبري والآرامي، والذي يعني الخلاص. لاحقًا، انتقلت الكلمة إلى اللغة اليونانية لتصبح أوصنّا (ὡσαννά). في الكنائس العربية، عادةً ما يُردد اللفظان بمعنى: خلصنا أيها الإله.
في كل يوم أحد، يردد المصلون ترتيلة قدوس قدوس قبل قراءة الإنجيل، كنوع من التذكير بهذه اللحظة التي استقبلوا فيها المسيح. وفي الكنيسة القبطية تحديدًا، ارتبط أحد الشعانين بلحن خاص تُرنم به الصلوات، يُسمّى المحيّر، وذلك لأنه يدمج ما بين اللحن الطويل الممتد على لفظة واحدة، واللحن القصير المليء بالعديد من الكلمات.
أيقونة قبطية لأحد الشعانين.
تكاد هذه الترتيلة تكون الأقرب إلى قلبي، بكلماتها البسيطة التي كتبها البابا شنودة القبطي، وبصوت المرتل نزار فارس الدافئ. كانت يا سيّدي من أوائل الترانيم التي تعلمناها في البراعم (شبيبة الأطفال) لنؤديها في الكورال الفصحي.
يواظب المسيحيون على أداء الصلوات يوم الاثنين والثلاثاء، والتي تغلب عليها صيغة الحزن والأسى، بينما تُقرأ الآيات المتعلقة بالتعاليم التي أعطاها المسيح لتلاميذه في آخر أيامه معهم. أما يوم الأربعاء، فيُسمى أيضًا بـ أربعاء أيوب تيمّنًا بقصة النبي أيوب، التي تُعلِّمُنا الصبر والتحمّل والرضا بالقدر. كما صبر أيوب، صبر المسيح، وهو يعلم تمام المعرفة أن يهوذا الإسخريوطي، أحد تلاميذه، ذهب ليتفق مع الفريسيّين والكهنة على تسليمه لهم مقابل ثلاثين قطعة من الفضة.
يا سيّدي، كم كان قاسيًا
موتُ صليبِ العار
وقبل أن يحملك
حملتَهُ يا بارّ
سألتَ ماءً، ذُقتَ خَلًّا
ذُقتَ كلّ مرار
سالتْ دِماك من حشاك
لتفتدي الأشرار
تكمن أهمية خميس الأسرار في شقين، الأول أن المسيح اجتمع مع كافة تلاميذه على مائدة العشاء الأخير، وقدم لهم الأسرار الكنسية، والثاني أنه غسل لهم أرجلهم، وتنبأ أمامهم بأن هناك من سيخونه ومن سينكره قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات.
بعد انتهائهم من عشاء الفصح، صعد المسيح للصلاة، وأخذ معه بعضًا من تلاميذه، واتجهوا إلى جبل الزيتون، وهُناك، قرر الاختلاء بنفسه، وعندما عاد إلى تلاميذه، سلمه يهوذا إلى اليهود. هذا ما ترويه الترنيمة: “حين في البستان ليلًا سجد الفادي الإله / كانت الدنيا تصلي للذي أغنى الصلاة / شجر الزيتون يبكي وتناديه الشفاء / يا حبيبي كيف تمضي أترى ضاع الوفاء؟”
ثمة خلاف كبير على أصل ترتيلة واحبيبي؛ فالبعض يُرجح أنها لحن غربي، طوره فيما بعد الأخوان رحباني. مع اختلاف النسخ وتعدّد الكلمات، تبقى نسخة فيروز في الأسطوانة التي صدرت عام ١٩٦٧، بعنوان الجمعة الحزينة: ترانيم دينية، هي الأشهر، إن لم تكن الأهم.
ساهمت هذه الأسطوانة بتعزيز حضور صوت المرأة في الكنيسة البيزنطية بعد أن كانت الترانيم في الغالب تقتصر على الرجال، بعكس الكنيسة السريانية والأرمنية، التي كان صوت المرأة فيها يعد عنصرًا أساسيًا في الترتيل.
كلما اعتقدتُ أنني سمعتُ النسخ كلها، تُفاجئني نسخة من حيث لا أعلم، وآخرها وأغربها، نسخة كورال فتيات مدارس الإمام السيد موسى الصدر، والتي صدرت قبل أربع سنوات. لم تشهد الترتيلة استغرابًا في وسطها، بل تشجيعًا، خاصة أن الصفحة نشرتها مستشهدة بكلمات الإمام الصدر وهو يقول “اليوم يوم اللقاء، لقاء الموت والحياة. أمس احتفلتم بالجمعة الحزينة، وغدًا تحتفلون بقيام المسيح في يوم الفصح.” (جريدة الحياة، ١٤ نيسان ١٩٧٤). الملفت للانتباه أيضًا في آخر هذه النسخة، أن الموزع قام بخلط النغمة الغربية مع لحن أنشودة طلع البدر علينا، والتي رددها أهل المدينة المنورة لدى استقبالهم للرسول محمد (ص).
يخبرنا الباحث شارل الحايك المتخصص في التاريخ والتراث اللبناني، بأن مؤلف رثائية أنا الأم الحزينة هو مطران بيروت الماروني عبدالله قرعلي، والذي وضعها في القرن الثامن عشر، وحاول من خلالها المحافظة على فكرة استخدام الألحان السريانية، حيث استخدم لحنًا سريانيًا قديمًا للغاية بعنوان ها قتيلو بمصرين، وأضاف إليه كلمات عربية تروى على لسان مريم العذراء، ليتفاعل معها المصلّون.
تاريخيًا، إن يوم الجمعة العظيمة يوم حزين ومليء بالظلم، إذ تبرأ الحاكم بيلاطس البنطي، والي الرومان آنذاك، وغسل يده أمام الجموع التي كانت تطالب بصلب المسيح. لقد كان بيلاطس يعلم أنه بريء، لكنه رضخ للجموع.
جُلِد المسيح وعُذِب أكثر من مرة، إذ قاده الحرس إلى طريق الجلجلة، وهو يحمل صليبه على ظهره، وعندما وصلوا إلى قمة الجبل، صلبه الرومان بين لصين، وألبسوه تاجًا من الشوك، وسقوه خلًّا. هناك، نطق قائلًا: “اغفر لهم يا أبتِ، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون.”
تُعتبر صلوات الجمعة العظيمة أو الجمعة الحزينة من أزخم الصلوات في التقويم المسيحي، طولًا ومحتوى، إذ تُقرأ عدة أجزاء من الأناجيل الأربعة لتسرد أحداث آلام المسيح، منذ لحظة القبض عليه وحتّى صلبه. تمتاز هذه الصلوات بالكثير من التكرار المقصود، بهدف إدخال المصلين في حالة من الخشوع أو الانغماس التام.
تترأس ترتيلة اليوم علّق على خشبة صلاة الجنّاز، هذه الترتيلة التي كتبت أولًا باليونانية، ثم تُرجِمت إلى العربية؛ وغالبًا ما يرافقها الكثير من البكاء عندما يرنّمها المُرتل بصوته المنفرد أثناء القداس الإلهي. في أحد أجمل النسخ وأقلها شهرة، تسحرنا الفنانة اللبنانية نور الهدى بطريقة غنائها وأدائها الأسطوري وقوة صوتها التي تفتح بها جسرًا مع السماء.
تُرتّل صلاة يا يسوع الحياة في يوم الجمعة ويوم سبت النور. تعتبر الأغنية من المرثيات أو التقاريظ التي دخلت على الصلوات الكنسية مع بداية القرن السابع، واقترنت بشكل مباشر بذكرى الصلب والدفن. من أشهر علامات سبت النور، النور المقدس الذي يخرج من كنيسة القيامة، حيث دُفِن المسيح، ليضيء شموع جميع المصلين.
لا نعرف إن كان اشتعال النور من العدم معجزة فعلية أم لا، وحسب رأيي، فإن هذا ليس مهمًا، وما يهم حقًا هو تجمع الناس حول هذا النور من كافة الطوائف استعدادًا لقيامة المسيح.
أحد القيامة هي إحدى أكثر الصلوات ابتهاجًا وفخرًا، فبعد صوم الأربعين، يرنم المؤمنون فخرًا بمسيحيتهم وعقيدتهم المبنية على الفداء، يشكرون الله على النعم والعطايا التي منحهم إياها، وأهمها نعمة الخلاص. تعتبر المسيح قام ترنيمة الكنيسة الأرثوذوكية الأساسية في أحد الفصح، وهي من نوع طروبارية (τροπαριου)، وتُشتق من كلمة تروبوس، وتعني اللحن المكرر، وتروبايون تعنى النصر، وبالتالي، يصبح معناها تسبيحة النصر.
لا نستطيع اختزال الألم في أسبوع واحد مكثف في زمننا هذا، إذ غمر الألم حياتنا منذ بداية المجازر في غزة حتّى الآن. الأرض نفسها التي تألمت عندما سقط المسيح عن الصليب بعد أن قتله اليهود والفريسيين، تنزف اليوم بفعل ماكينة القتل الصهيونية.
في أكتوبر ٢٠٢٣، قصف الاحتلال الإسرائيلي المستشفى المعمداني لأول مرة في غزة، ولم يرفّ للعالم جفن. في أحد الشعانين هذا العام، ومع كل التضييقات والتخويف الذي يواجهه الفلسطينيون، ومنهم المسيحيون، في كل فلسطين لأداء شعائرهم الدينية، يقصف الاحتلال المستشفى المعمداني مرة أخرى بهدف تدمير مرافقه وإيقافه عن الخدمة.
في العقيدة المسيحية، لا ينتهي أسبوع الآلام بالصلب والحزن، بل بالقيامة والفرح، ونحن نؤمن أن كل هذا الكم من التضحية والفداء، وكل هذه الدماء، ستزهر نورًا يحرق الظالمين وأدواتهم.