.
ظهر فضل شاكر قبل شهر تقريبًا على تحقيق في برنامج استقصاء بثته قناة الجديد تحت عنوان حكاية طويلة، واستمر لثلاث حلقات. تمكّن التحقيق من عرض أقوال جديدة لـ فضل شاكر وتوضيحات لأفعال وسلوكيات ظلت مبهمة منذ اعتزاله، أتاح إبهامها فرصة توسيع رقعة اتهامه، بل والتعاطف مع متّهِميه. كما عرض التحقيق إفادات الطرف الآخر، ولم يكتفِ فقط بإظهار “مظلومية” شاكر.
وضّح النجم أسباب اعتزاله، والتي قال إنها تتعلق بأسباب دينية وأخرى سياسية. بعد التحقيق، برّأت المحكمة العسكرية فضل عبد الرحمن شمندر المعروف بـ فضل شاكر من تهمة قتال الجيش اللبناني وأوقفت تعقباته، لكن الحكم الصادر في حقه وهو السجن لمدة خمس عشرة سنة مع الأشغال الشاقة، يبقى نافذًا، ما لم يسلّم فضل نفسه للسلطات، فتسقطه وتعيد محاكمته بناء على الأدلة الجديدة. كان هذا على ما يبدو مبررًا قويًا لظهوره مجددًا عبر الشاشات وإصداره أغنيتين، بعد أن عبّر لفراس حاطوم مُعد برنامج استقصاء عن نيته ورغبته في العودة إلى الغناء إذا سمحت له الظروف أو أعيدت تسوية ملفه القضائي.
بدت الأغنيتان مختلفتان بقدر الزمن الفارق بين إعداد كل منهما، فالأولى ليه الجرح كانت قد أُعدَّت قبيل اعتزاله مباشرة، ضمن ألبوم كامل من إنتاج روتانا، لم يضع عليه فضل شاكر صوته، إذ كان قد اتخذ وقتها قرار الاعتزال. الأغنية من كلمات هاني عبد الكريم وألحان وليد سعد وتوزيع عادل عايش. في تقديري، تنتمي الأغنية إلى فترة انطوت من حيث اللحن والتوزيع، تلك الفترة التي شكّل ملامحها فضل شاكر نفسه وشيرين عبد الوهاب وآخرون، كما ساهم في صياغتها أيما مساهمة وليد سعد فيما يمكن وصفه بأكثف فترات إنتاجه.
https://www.youtube.com/watch?v=8sh7TtMk_CA
على مقام الكرد والإيقاع البلدي، لحّن سعد كلمات الأغنية التي اتسمت بالشجن والميل إلى خطاب المخذول، والتساؤلات الاستنكارية. كلمات مجروحة ولكنها قادرة على المثول في وجه الجرح، وأظن أن فضل اختار أن يطلقها الآن لأنها تحاكي وضعه النفسي:
” ليه الجرح لو من غالي يدبح بالبطيء
وليه الفرحة مشيت من طريق وأنا في طريق
ليه كتر الوجع خلاني مش حاسس بشيء”
تشابهت الأغنية مع أخريات صنعت في الفترة ذاتها التي تزامنت مع اعتزاله، مثل أغنية مش عايزة غيرك لشيرين من ألحان محمد مصطفى، وأغنيات لفضل من ألبومات سابقة أيضًا مثل الله أعلم واللي انت شايفه. هذا التشابه يمكن أن نعده طبيعيًا إذا حاكمنا العمل في سياق ظروفه، لا في سياق النقد المبني على اعتبارت فنية وأخرى تجارية أو ترويجية، فالجدة مطلوبة، بل وتعد معاملًا أساسيًا في ظل ازدحام الأعمال الفنية في زمن الأغنية ذات الدقائق الثلاث، التي أصبحت تفرض تحديًا كبيرًا على الملحن والشاعر والموزع على حدٍّ سواء، فالمادة الخام لأي عمل هي المستوى الموسيقي الذي يبلغه كل من الملحن والموزع، بناء على الخريطة التي يرسمها الشاعر، لكن الحكمة التي يجب أن يمتلكها المغني تكمن في اختيار العمل المناسب في الوقت المناسب، إذا كان يبتغي الرواج وتحقيق المشاهدات.
لكن السؤال الآن هو، هل يمكن أن نحاكم الأغنية التي صنعت في ظروف غير طبيعية، محاكمة طبيعية؟
يتخفى فضل شاكر الآن في مخيم عين الحلوة، وكما أظهر تحقيق قناة الجديد، فإن الرجل يخرج ليتنفس هواء الشارع لدقائق معدودة كل سنة. لم يكن أمامه إذًا خيارات كثيرة لينتقي منها أغنية يعود بها إلى الساحة الفنية بهذا الشغف الكبير، ويمد صوته من فوق طوق الحصار والأعمال الشاقة، الحصار الذي لا يتمثل فقط بحكم المحكمة الذي تخلخل مؤخرًا بقرارها الجديد، بل يتجلى أيضًا من خلال مواقف الفنانين الحذرة أو المناوئة لعودته، ومن خلال منصات الإعلام التي ما زالت تحاربه رغم تبرئة المحكمة له، وبالتالي مواقف الناس المبنية على ذلك الأساس.
تباينت هذه المواقف عقب تعاونه مع شركة العدل جروب، من خلال تتر مسلسل لدينا أقوال أخرى، شبعنا من التمثيل، التعاون الذي جاء مفاجئًا، حتى لأنصاره، ربما لأنه لم يسبقه أي إعلان. لاقى العمل نجاحًا مذهلًا، فقد حقق ما يقارب مليوني مشاهدة على يوتيوب في الأسبوع الأول لإطلاقه، لكنه في المقابل واجه مجابهة من متهميه، فقد أرسلت جمانة صعب رسالة إلى العدل جروب، توضّح استياءها واستياء مناصريها من تعاون الشركة مع شاكر، واصفة ذلك بـ”تمويل الإرهاب”. ارتأت الشركة حذف صوت فضل شاكر من التتر مع الإبقاء على الأغنية على منصات الشركة على مواقع التواصل وشبكة الإنترنت، إرضاء لكل الأطياف، وكسبًا لكل المشاهدين الفرقاء.
https://www.youtube.com/watch?v=5-8Hnp2oeRc
الأغنية التي كتب كلماتها مدحت العدل، ولحنها عمرو مصطفى، ووزعها أمين نبيل، قدمت فضل شاكر بطريقة جديدة ولائقة بعودة نجم بهذا الحجم، كما أنها انسجمت مع حالته النفسية، ما منحها جناحين إضافيين تحلق بهما إلى قلوب محبيه، كما تمتعت بتوزيع خفيف بالمعنى الإيجابي، أي أنه أراح اللحن من العضلات التي قد تعيق حركته، وانسجم مع عقلية عمرو مصطفى اللحنية، التي تدفعه دائمًا إلى ألحان تطير إلى المستمع كالرذاذ، معتمدًا على كوردات الجيتارات، وتصاعد الطبقة مع تصاعد رفض الواقع الذي تجسده كلمات الأغنية ذات النفس الاستنكاري المخذول:
“يا اللي مفكر نفسك فوق البشر والناس / قادر ويكسر نفسك رب البشر والناس
مهما كبرت هتوصل لفين وآخرك إيه / اللي معلم يعلم بكرا الزمن دا عليه
ويا دنيا كفاية خيانة شبعنا من التمثيل / وأمانة عليكي أمانة لو شفتي حد أصيل
تقوليله يا عم فارقنا لا زمانك ولا دنيتنا / دة زمان العايب فيه في السما والحر ذليل.”
عملان مختلفان ومؤتلفان، عاد بهما فضل شاكر بعد اختفائه لخمس سنوات ونيّف، وضعاه في الواجهة من جديد، ووضعا الدارسين أمام خيارين، الأول محاكمة عمليه نقديًّا مع الالتفات إلى الظروف الصعبة التي تم فيها إنجازهما، أو تجريدهما من الظروف، وتشريحهما وفقا لنظريات كل دارس. في الحالتين لا نستطيع إلا أن نسلّم بأن عودة هذا الصوت إلى محيطه الحيوي من جديد عودة مبشرة، تنبئ بأعمال جديدة، قد تحدث انعطافة أخرى في الأغنية العربية الحديثة، أو تعيدها إلى مرحلة منصرمة قد تدفع المستمع إلى التخلي عنه، وهذا تحدٍّ يجب أن يدركه فضل شاكر ويدرجه في جملة تحدياته الكبيرة.