.
ظهر هذا النص لـ كاثرين كيلالي في مدونة فصلية من ذ باريس ريفيو، ضمن سلسلة ريفيزيتد حيث يستذكر كتابٌ أعمالًا فنّية تعرضوا لها منذ زمنٍ طويل. قام بالترجمة وإضافة الهوامش فريق معازف.
كنت عائدةً بسيارتي إلى المنزل من حمام السباحة، عندما استمعتُ إلى مشاهيرٍ يصفون أنفسهم على الراديو على أنهم إما سعداء أو لا. فضلوا بشكلٍ عام أن يقولوا: “أختار أن أكون سعيدًا”، الأمر الذي استفزّني فغيرت إلى محطة أخرى، كانت تلعب بارتيتا باخ الأولى في سُلّم بي المنخفض الكبير. يحمل جيجاي البارتيتا – أي الجيغ موسيقى راقصة – طاقة مثيرة للحركة. رقصتُ برأسي. بدا لي وأنا أسمع المقطوعة وكأن كل شيءٍ يرقُص. كانت هناك مباراة كريكت في الحديقة العامّة وسرت فيها عدوى إيقاع باخ. منح ذلك أناقةً وتناسقًا لرمي الكرة والتقاطها وإيماءات الحكم ووقع المضرب.
نقرت بأصابعي على المقود في استجابةٍ للعزف، أو هذا ما حاولت فعله، لأن العازف كان جلين جولد، وجولد يعزف دومًا على وضع التسريع. تسابق يداه بعضها بسرعة يصعب معها التفريق بينهما. لم تكن الخطوط الرئيسيّة للأصوات واضحة أيضًا، لأنني كنت وقتها أعالج أذناي بزيت الزيتون على مدى عدة أيام بعد إصابتي بعدوى أذنَي السبّاح عدوى في القناة الخارجية للأذن تنشأ بسبب الماء المتبقي فيها بعد السباحة، والتي منحت أقل تشويش أثر دويٍ واضح. ربما يمكنني عزف المقطوعة بنفسي، فكرت. ربما سأطلب النوطة من أمازون. سيُقدّر البيانو الصحبة، فلم يلمسه أحد منذ عشية رأس السنة، حين حولَّنا حبيب جديد لإحدى صديقاتي – والذي انتحر بعدها بمدة قصيرة – إلى جمهورٍ لأدائه لمؤلفات رحمانينوف. كان العزف غريبًا، أغلب الناس تعزف رحمانينوف بإحساس، لأن رحمانينوف مُفعم بالإحساس. لكنه عزف بصوتٍ وسُرعة عاليين، سرعة مبهرة بالفعل، لكن ثقيلة على الأذن.
في جنوب أفريقيا، وعلى الطرق السريعة، تعتاد على أن تقود بسرعة عالية لدرجة يصبح من الصعب معها إيجاد الوقت لاستعادة التحكم في حال وقع خطأ ما. في بعض الأيام، كنت أركب سيّارتي وأجوب الأرجاء طوال اليوم مُستمعةً إلى الموسيقى. شكَّلت السواقة إحساسًا من الخفة بداخلي، حرية غريبة، ضعفًا قويًّا ربما، كحالة السكر، إحساسًا بأن الحياة – حياتي – ليست بتلك الأهمية (هو صدى للإحساس الذي لازمني بشكلٍ عام في جنوب إفريقيا، بأنني قريبةٌ من الموت). السواقة في لندن مروّعة. الجميع عالقون في الزحام طوال الوقت. مع ذلك، لا تزال السواقة تعيد إلي جزءًا من نفسي التي خسرتها بمغادرة جنوب أفريقيا.
حاولت وأنا أسوق أن أفكر في ماهية ما أمتعني في المعزوفة، لكن كان من الصعب تمييز ما كنت أسمعه، فلم يكن لدي نوتة أتابع معها. كانت التشكلات تطفو وتختفي بسرعة قبل أن أتمكن من تحليلها. لذلك توقفت عن التفكير بالموسيقى وبدأت بالتفكير بنفسي. تذكرت مقطوعةً عزفتها في حفل فردي في قاعة جوهانسبرغ الكبيرة. ليست هذه المعزوفة، لكنها مشابهة جدًّا لها. طاقتها الكبيرة أو حماسها – أو ربما مُجرّد جهارة الصوت في نغماتها – جعلت أصابعي تتسابق حتى فقدت الإحساس بها واضطررت للتوقف. “آسفة،” قلتُ للجمهور. “هل يمكن أن أبدأ من جديد؟”
يفوق طول المقطع الراقص الدقيقة بقليل، ينتهي قبل أن يسمح لك بالغوص فيه. تتكشّف ثيمة، تُعاد، ثم تتكشّف مرة أُخرى – بادئةً من نوطة أعلى – مُضيفةً جريانًا لنوطاتٍ صاعدة ونازلة، ثم تنتهي. ليس هناك أي تنويع في علو الصوت أو الإيقاع، ما يجعلها لا تختلف عن معزوفةٍ لـ بيكيت، لا شيء بارز. التجربة كلها مُسطّحة بشكل يُشعرك بأنها ميكانيكية، أضعف صلةً بالإنسان، وأشبه بالكومبيوتر. ليس هناك تغييرات في دليل المقام، ولا تنقلات بين الطبقات (تُعزف بضع نوتاتٍ فقط، بالفعل)، لا ذروة ولا توتّر، لا تنافر ثم تناغم. ليس هناك غضب، انفعال، لغز عميق، تساؤل، توق، فضول أو رغبة. الموسيقى باهتة الألوان نغميًّا لدرجة أنه لا يوجد ما يلفت انتباهك. لو كنت سأرسم بنيةً للمعزوفة، لرسمت خطًّا منحدِرًا، زحليقة. لماذا إذًا أحببت المقطوعة لهذه الدرجة؟ هل هو تنوّع الثيمات الممتع؟ أم حساسيّتي لتشابه الأصوات (أو الرغبة بالتفريق بينها)؟ من يعلم. على كل حال، يعزف جولد بسرعة فائقة بحيث لا يترك لك الوقت للتفكير فيما تسمع. فكرتُ بأن المتعة ربما في عدم إمكانية التحليل، متعة عدم القدرة على التفكير.
وُلد الكثير من الأدب من التعاسة، وأدبي ليس آخر من يتبع هذا التقليد. تفيض مفكراتي بالأشياء البغيضة التي أنكشها دائمًا، لدرجة أنني أتساءل أحيانًا فيما إذا كانت مهنة الكتابة البائسة الغبيّة هي ما يخلق التعاسة. مع ذلك، بين الأشياء العديدة التي أخشاها – خوف المرض والغرق في عاطفة ما وجرح مشاعر الوالدَين وأن أكون وحيدة، وأن أغرق في ذاتي – الأسوأ هو خوفي من أن أعجز عن التعبير عن الجوانب المبهجة للأشياء. ربما أربكني هذا الجدل لأنني أوشكت على ارتكاب حادث أثناء ركني للسيارة. هبط قلبي للحظة، ثم عاد الاطمئنان. ما الذي يجعل شيئًا ما رائعًا؟ الارتياح بعد التوتر طبعًا، بشكل رئيسي. أن لا تكون مذنبًا. كم من الرائع أن لا تضطر لتبادل معلومات التأمين.
أتساءل كيف كان يرى باخ نفسه، في النطاق الأكبر للأشياء. طبعًا، لا يمكنني أن أكون متأكدةً من أن البارتيتا كانت عن باخ نفسه. لكنني بالتأكيد لا أشعر لدى سماعها بالحاجة لكي أسأل نفسي: ماذا عنى باخ بذلك؟ أو: ماذا شعر باخ تجاه ذلك؟ بين الله وأبنائه العشرين لا بد أنه شعر بانعدام أهميته نسبيًّا. في جنوب أفريقيا، وفي السنوات التي تلت الأبارتايد نظام الفصل العنصريةمباشرةً، شعرت بالضآلة. التفكير المطول بنفسك بدا في غير محله، حتى بدى كتصرف غير مسؤول في ذلك السياق السياسي. شعرت بالارتياح بالانتقال إلى لندن والشعور بأنه من المسموح أن أفكر بنفسي. مع ذلك، بعد بضع سنوات، عندما أخبرتني امرأةٌ أن إنجاب طفلٍ “يُخلّصكِ من كل أنانيتك” كانت الفكرة جذّابة. بقضاء بضعة ليالٍ مؤخرًا داخلةً وخارجةً من المستشفى مع طفلٍ محمومٍ ذي ثمانية أشهر، علمتُ ما تقصده. نعم، هناك متعة في الأمر، وحتى شعور بالتحرر في أنني لم أعد مسيطرةً على حياتي بعد الآن.
على طاولة بجانب سريري، هناك عدة كتب ما زلت أتفادى قراءتها. اشتريتها لأن مؤلفيها كتابٌ أحترمهم، ولأن مواضيعها – الزواج، الأمومة والقروض – مرتبطةٌ بي. تراودني فكرة أن هذه الكتب تخاطبني، أنها قد تملك رؤًى عني وعن حالتي، أنني إن قرأتها سأصبح أكثر حريةً، مرونة أو أفضل بشكلٍ ما. الكثير في حياتي كان مخيبًا. الكثير لم يكن بالشكل الذي تمنيته. بقراءة هذه الكتب، أشعر أنني قد أكوّن نفسًا أفضل أو أكثر شجاعةً (أو قوة إرادة، على الأقل). ربما أفعل شيئًا، ربما أغير حياتي بطريقة ما. لذلك أتفاداهم، لأنني متعبةٌ وخاليةٌ من أي رغبة أو إرادة، ولأن فكرة فعل شيءٍ ما ترهقني (هل تعلم كيف تؤثر فيك الأشياء بشكلٍ أسرع عندما تكون مرهقًا؟)
رغم كل ذلك، انظر إلى جولد، صورته وهو منحنٍ بفخر على البيانو. كم صفحة خُصّصت لتلك الوضعية الغريبة؟ من جهة، يبدو من المؤسف أنه لم يجد طريقة مريحة أكثر للعزف (أو حتى أقل تنافرًا مع الصحة، إذ أدت الوضعية إلى أذيته على المدى الطويل). لكن من جهة أخرى، أليس من الرائع الاستسلام (للغز)؟ ترك كل شيء على حاله؟ عدم السعي (نحو إجابة)؟ أليست لذةً قائمةً بحد ذاتها – لذة موسيقيّة بالفعل، لذة الإيقاع، المرتبطة بالطبع بمتعة التكرار – أن لا تتمنى تغير الأشياء، كالمتعة الاستثنائية التي أحسها عند الاستماع إلى باخ، حيث الكوردات الثلاثة الأخيرة، تبدو نفسها في كل مرةٍ تقريبًا؟