fbpx .
حرب فيروز الأهلية

حرب فيروز الأهلية

عمر ذوابه ۲۰۱۸/۰۹/۲۸

كادت روز أن تخسر حياتها ثمنًا لهذا اللقاء. اندفعت مذعورة من باب سيارتها التي تركتها في منتصف جادة الجنرال ديجول في الروشة دون أن توقف محركها، وركضت هاربة صوب بناية غندور. ارتبك الناطور لمشهد السيدة المرعوبة تستنجد به من خطر لم يفهمه، وهو الذي استقبلها زائرة في عدة مرات سابقة. صاحت ببضع كلمات تفصلها شهقات متقطعة: “سيارة … لحقوني … السِّت … دخيلك!”. همّ حارس البناية سريعًا بفتح البوابة، وصعد وإياها إلى الطابق الثالث. قَرع الجرس بينما حاولت روز التقاط أنفاسها، إلا أنها سرعان ما بدأت بفقدان توازنها مع اقتراب أحدهم من الجهة المقابلة من الباب، وعندما وصلت فيروز على وقع الجلبة، كانت روز قد غابت عن الوعي.

روز هي وردة الزامل اسمها الحقيقي روز فرح.، الإذاعية اللبنانية التي أجرت المقابلة الشهيرة مع فيروز ضمن برنامج من أحد لأحد على أثير إذاعة صوت لبنان الكتائبية قبل ٣٥ عامًا. لا، لم تكن الزامل “الوحيدة في لبنان وربما الوحيدة أيضًا في الشرق الأوسطهذا صوتي، وردة الزامل، درغام للنشر، ٢٠٠٨. التي أجرت مقابلة مع فيروز، فقد سبقها ولحقها كثر ضمن عشرات المقابلات الإذاعية والتلفزيونية والصحفية التي لا نعرف منها إلا القليل القليل لانعدام أرشفة مُمأسسة في الوطن العربي وتحديدًا في لبنان، ولم نكن لنقرأ أو نسمع أو نشاهد أيًا منها إلا بفضل المؤرشفين والباحثين المستقلين، وتنقيب بعض الإعلاميين في أراشيف مؤسساتهم المتهالكة بفعل الحرارة والرطوبة والغبار. لم تخرج أي من أسئلة الزامل عن التقليدي أو المألوف، حتى أن بعضها أغرق في الكليشيهات وأوقع انزعاجًا واضحًا في أجوبة فيروز، إلا أن السياق التاريخي والسياسي والفني لهذا اللقاء، وتطرق فيروز إلى حياتها العامة والخاصة، واسترسالها في الحديث عن الفن والروحانيات، وعن انفصالها الشخصي عن عاصي والفني عن الأخوين رحباني، إضافة لبث مقتطفات نادرة من أعمالها التي كانت قيد الإنتاج في حينها، ومنها ما لم يُعد بثه أو طرحه في الأسواق منذ تاريخ المقابلة – تجتمع كل هذه العناصر لتصنع من هذا اللقاء حدثًا يستحق الاستعادة والتحليل.

منازلة في عقر دار اليمين

كانت نار الحرب الأهلية في عامها الثامن مستعرّة، وقد عاث الاجتياح الإسرائيلي في بيروت موتًا ودمارًا. ألغت فيروز حينها سلسلة الحفلات التي نوَت إقامتها على مدى ثلاثة أسابيع في مسرح قصر البيكاديللي في الحمرا، بينما حطّ الأخوان رحباني في القاهرة لتقديم نسخة مُمَصّرة من مسرحية الشخص التي أدت فيروز بطولة النسخة الأصلية منها سنة ١٩٦٨، ضمن محاولة أخيرة لإنقاذ مسرحهم الموسيقي الميت سريريًا منذ خروج فيروز من الثالوث سنة ١٩٧٩.

حرب فيروز الأهلية

ماذا صنعت فيروز منذ أن تركت الأخوين؟ أصدرت أسطوانتين بتوقيع زياد الرحباني وفيلمون وهبي، وانطلقت بصحبة صبري الشريف، الذي توقف بدوره عن العمل مع الأخوين رحباني، في جولة في الولايات المتحدة وكندا لتحيي حفلاتها الأولى دون عاصي ومنصور. حاول الأخوان بدايةً منعها من إعادة تقديم إنتاجاتهما خلال هذه الجولة، ثم سرعان ما تابعا وأشرفا على الحملة الإعلامية التي شنها أصدقاؤهما في الصحافة اللبنانية للمراهنة على فشل فيروز بدونهما. مرت الجولة في شمال أميركا بسلام، وعادت فيروز إلى بيروت مكللة بنجاح تحدثت عنه ضمن بضع لقاءات إعلامية، سخِرت في أحدها من نفوذ الأخوين رحباني الإعلامي سائلةً إحدى الصحفيات: “دخلك ليش كل ما عطسوا بينكتب إنهم عطسوا؟’فيروز: أرادوا لي الفشل في أميركا… لكنني نجحت’، الحسناء، العدد ١٠٠٠، ١-٧ كانون الثاني، ١٩٨٢.

ثم جاء يوم الأحد السابع من آب ١٩٨٣ لتطل فيروز عبر أثير إذاعة صوت لبنان اليمينية، التي لا زالت إلى اليوم تبث من مقرها في شارع ألفرد نقّاش في محلة الأشرفية في بيروت. لم يكن اللقاء فرصة للإطلالة على الجمهور اللبناني، بقدر ما كان مواجهة للأخوين رحباني ومن دارَ في فلكهما، ولم يكن اختيار فيروز للمنصّة الكتائبية عبثيًا، فقد سبقها الرحبانيان بتقديم عمليهما المسرحيين الأخيرين (بعد الانفصال عنها) في مسرحَيْ كازينو لبنان قدم الأخوان رحباني وفيروز آخر مسرحياتهم بترا بداية الحرب في قصر البيكاديللي (بيروت الغربية) وكازينو لبنان (بيروت الشرقية)، إلا أن آخر مسرحيتين للأخوين بدون فيروز عرضتا حصرًا لجمهور الشرقية. وجورج الخامس (الواقعين ضمن منطقة نفوذ الجبهة اللبنانية) بحضور ومباركة الجميّل الأب والابن. كان لليمين اللبناني يومها سطوة حتى على الساحتين الإعلامية والثقافية، لذلك اختارت فيروز منازلة الأخوين رحباني في الميدان الذي أكدت الحرب الأهلية ولاءهما له.

“أثمرت هذه الجهود تأليب الرأي العام ضد فيروز، واتهامها بالغرور وقلّة العرفان، وحتى رميها بالخيانة”

أنا ما عندي شي قوله

الصمت – بما يعنيه من قلة الإدلاء بأحاديث صحفية – والجمود – أو الحركة شبه المعدومة على المسرح – صفتان التصقتا (على الرغم من أو بسبب سطحيتهما) بصورة فيروز كما أراد الإعلام اللبناني والعربي أن ينقلها. قد يعصى فهم فيروز على من يتوقع منها غزارة في الإطلالات الصحفية أو ظهورًا مكثّفًا للترويج لأعمالها والحديث عن حياتها الخاصة (شأن كثر من أهل الفن)، وقد يجد البعض غرابة في وقوفها متصلّبة على المسرح أمام الميكروفون، لا ترقص وربما لا تتمايل حتى إن غنّت لحنًا فرحًا. فيما يخص صمتها، تجدر الإشارة إلى ما بدر من الأخوين رحباني من ضجّة إعلامية، بل استنزاف لمخزونهما من المعارف في الصحافة العربية بكافة ألوانها الصفراء والسوداء خلال الفترة التي تلت الانفصال بينهما وبين فيروز، من خلال الاستنفار بإدلاء الأحاديث وإجراء المقابلات للإلحاح على فكرة واحدة: “اختارت الانفصال عنّا بجل إرادتها، ونحن محزونان لذلك.” أثمرت هذه الجهود تأليب الرأي العام ضد فيروز، واتهامها بالغرور وقلّة العرفان، وحتى برميها بالخيانة نقل جورج إبراهيم الخوري عن منصور الرحباني قوله: ’ليس مطلوبًا من فيروز أن تحب عاصي، بل المطلوب منها أن لا تحب غير عاصي…’ (الشبكة، العدد ١٢٤٨، ٤-١١ شباط ١٩٨٠)..

قبالة رجلين شديدي الكاريزما، يتكلمان فيصغي إليهما الجميع، وجيش الأقلام المسنونة المشحونة رهن إشارتهما، اختارت فيروز الصمت وعدم الوقوع في مستنقع التشهير بعد ٣٥ سنة من الانفصال، قالت ريما الرحباني (التي ظلت مقربة من كلا والديها خلال تلك الفترة): ’انشغل لأنو ما ترجع فيروز ع البيت. ضهرت معها جزدانها بس.’ (الحسناء، ١ أيلول ٢٠١٤).. أما إطلالتها على المسرح، فقد أحسن باري هوبرمان وصفها عندما شاهدها لأول مرة في الحفل الخاص الذي أحيته في بهو الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال جولتها الأميركية سنة ١٩٨١: “عندما تغني فيروز فإنها تقف باستقامة، ووجهها خالٍ من أي تعبير، فتبدو صارمة في بعض الأوقات، كما لو أنها تختزن كل قطرة من الإحساس لذلك الصوت رائع التعبير.” عودة فيروز، باري هوبرمان، سعودي أرامكو وورلد، كانون الثاني - شباط ١٩٨٢.

على الرغم من كل ما سلف ذكره، اختارت الإذاعية المخضرمة وردة الزامل أن تفتتح مقابلتها بسؤال ضارب في عمق الصورة النمطية: “فيروز، ليش هالصمت الكبير اللي صار لغز؟”. تكاد فيروز أن تزفر لوقع السؤال، وتبادر بالرد متسائلة: “أيَّ صمت؟ أنا ما عندي شي قوله… عندي غنية، واللي بيربط الفن بالكلام بيمتلي بالسكوت. أنا حملت صوتي وجيت لعند الناس لفني، مش تا إحكي إلا اللي هو لازم ينحكى وينقال.” تتابع الزامل بطرح سؤال مبهم: “شو هو سرّ خلودِك؟ لأنه حتى يستمر الإنسان ضروري يكون عنده سر” فتبادرها فيروز دون تردد: “الفن وقت اللي يبطّل يعود سر ما بيعود فن.” علَّ الأغرب من السؤال السابق هو انسياب الإجابة وإيقاعها المنمَّق. لكن الشعرية والروحانية تتجلى لاحقًا في تفسيرها لما سمته الزامل “سر ارتياحك إنت وعم تغني”، إذ ترد فيروز: “الفن متل معبد قديم كلّه سكوت، وبالفن في قَداسة، وهالقَداسة بتظهر بوجه الفنان هو وعم يغني، وهالإحساس بالعبادة لحدا مش جديد يعني، هيدا من زمان عندي إياه يعني، وعاصي حسّ فيه واحترمه.” من اللافت هنا أن فيروز ذكرت عاصي بالاسم ولم تشر للأخوين رحباني، على الرغم من كونهما – حسب الرواية التاريخية – صاحبي الفضل في التأسيس لشخصيتها الفنية كما يعرفها الجميع.

“قالوا عن فيروز عنيدة … قالوا عن فيروز مترددة، ليش؟”: تعود الزامل لتستقي أسئلتها من بئر الكليشيهات، حيث تقبع كل الصور النمطية التي يمكن إلصاقها بشخص فنانة كفيروز. تجري أجوبة فيروز بسلاسة، ومع إضافة لافتة هنا، وهي استخدامها ضمير الغائب للتحدث عن نفسها: “فيروز بتفكّر كتير، وثقتها بغيرها قليلة … فيروز طريقها صعب، ولازم تفكّر كتير قبل ما تمشي.” تعود الزامل لتضيف سؤالًا ثالثًا: “طيب وإبتسامتك مكبوتة ليش؟” فتبدو كما لو أنها وضعت فيروز تحت مجهر لا ترى من عدسته سوى السلوك المضطرب لمرأة مكسورة، كاشفة بهذا توجهًا إشكاليًا يمعن بحصر فيروز داخل الإطار الكاريكاتوري – الأيقوني الذي رسمته الصحافة. لم تحاول فيروز هنا أن تخفي حنقها: تصمت برهة، تأخذ شهيقًا كي تبادر بالرد، فتزفر وتقول: “فيروز ما شافوها الناس إلا وهي محطوطة بحبس الرسميّات: أوعى هيدي عيب، أوعى هيديك ما بيسوى.” علّ ما أشارت إليه ببساطة بحبس الرسميات ليس سوى دكتاتورية عاصي ومنصور الرحباني التي لا ينكرها أحد.

أذاكرٌ أنت وجهي؟ | فيروز تغني السنباطي ساهم في كتابة وتحرير هذا الجزء المحرر في معازف عبد الهادي بازرباشي.

بُثت المقابلة في مرحلة سادت فيها الشكوك حول مقدرة فيروز على شق طريق جديد دون الأخوين، لكنها أطلت في هذا اللقاء مفرجةً عن بعض المفاجآت. اشتملت المقابلة على مجموعة مقتطفات من أغنيات كانت في صدد التسجيل خلال الجزء الأول من الثمانينات، شكلت نواة تعاونات فيروز الموسيقية ما بعد الأخوين، وصدر بعضٌ منها لاحقًا ضمن أسطوانات. بُثّت مقاطع من خليك بالبيت والثانية وما قدرت نسيت، ظهر جميعها في أسطوانة معرفتي فيك الصادرة بعد خمس سنوات من المقابلة، مع اختلاف بسيط في تسجيل الموسيقى، إضافةً إلى مقطعين من زهرة الجنوب (إسوارة العروس) ولما عالباب المقطع الذي أذيع من الأخيرة خلال المقابلة يختلف كليًا عن التسجيل الذي صدر ضمن أسطوانة بليل وشتي. من ألحان فيلمون وهبي. تمثلت المفاجأة الكبرى ببث مقطع من دقيقتين بصوت فيروز لقصيدة أمشي إليك للشاعر جوزيف حرب، والتي لحنها رياض السنباطي.

عادت فيروز للإشارة إلى فيروزيات السنباطي عام ١٩٨٩، حيث قالت للمذيعة آمال فهمي، خلال زيارتها الأخيرة للقاهرة، إنها بصدد التحضير لعمل مع زياد الرحباني (كيفك إنت، صدر في ١٩٩١)، وألبوم عاصي الرحباني (صدر سنة ١٩٩٥ بعنوان إلى عاصي)، إضافة إلى أسطوانة رياض السنباطي. ثم تعددت تصريحات فيروز خلال تلك الفترة من صيف ١٩٨٩ حول إطلاق لحنين اثنين قدمهما لها السنباطي، قائلةً في إحدى المقابلات: “سأغني هاتين الأغنيتين قريبًا فأنا حريصة جدًا على ذلك … وكنت قد سجلتهما بالفعل ثم مرّ وقت وبعد ذلك استمعت إليهما فلم تعجبني الصورة التي هما عليها لذلك فكرت في إرجاء تقديمهما حتى أقدمهما بالصورة اللائقة.” أنا سمكة بحرها بيروت، الحوادث، عدد ١٧٠٨، ٢٨ تمّوز ١٩٨٩.

في منتصف التسعينات، جرى الحديث عن تسجيل فيروز لألحان السنباطي لمرةٍ ثالثة، بعد أن كانت قد سجلتهما مرتين بإشراف وليد غلمية وتوفيق الباشا، ثم ظهرت في بداية الألفينات أخبار عن نية زياد الرحباني إعادة توزيع هذه الألحان. قبل أن يقع لغز هذه الألحان محلَّ تكتمٍ شبه مخابراتي شمل كل من عاصر تلك التسجيلات أو استمع إليها (من باب قربهم من زياد الرحباني أو أحد مهندسي الصوت في استوديو بعلبك)، وكان الجواب الوحيد الذي يقابل أي استفسار: “فيروز لا تريد إطلاق هاتين القصيدتين” خاصةً بعد المعمعة القانونية التي أثارها الراحل أحمد السنباطي، مطالبًا بالإفراج عن تسجيلات قصائد والده. ولم يتبق اليوم سوى هذا التسجيل من دقيقتين، الذي بثته صوت لبنان لمرة واحدة فقط ذات نهار أحد، والذي اختفى منذ وقتٍ طويل حتى صدور هذه المادة.

من المرجح أن التسجيل الذي في متناولنا من توزيع الراحل وليد غلمية، الذي يقف على الأغلب أيضًا وراء محاولة محاكاة عزف السنباطي في لازمة العود، التي يزيد بتقدمها ابتعاد العزف عن أسلوب السنباطي، بفرداش تقنية العزف بسرعة بين صدٍّ ورد. متساوٍ مستمر يخلو من طرب ريشة السنباطي الذي نجده في تسجيله للأغنية بصوته.

برر الكثيرون عدم إفراج فيروز عن الألحان باحتمال كونها ألحانًا كلثوميّة، متطلّبة لتطريبٍ غير الذي تتقنه فيروز، لكن جاءت هاتان الدقيقتان من مقطعٍ مرسل (بلا إيقاع) يحتوي على أكبر مساحة للتطريب، لا يمكن تخيل المقطع بعدهما إلا بصوت فيروز، ولا بطربٍ أكثر من الذي تبثه في سامعها، بأداءٍ يقل سرعةً عن أداء السنباطي لاسترسالٍ أكبر بما يناسب صوتها – كأنك تسمع موالًا جبليًّا من قديم فيروز. حقق السنباطي وعده، وخلق فضاءً لتطريبٍ فيروزي لم نسمعه قبلًا، ما يزيد حيرتنا حول المصير المجهول للتسجيلات.

منصور عادة ما بيحكي إلا الحقيقة

تنتهي وصلة التحليل النفسي هنا، لتبادر الزامل فيروز بالسؤال عن تقييمها لمسرحيتي الأخوين رحباني، المؤامرة مستمرة (١٩٨٠) والربيع السابع (١٩٨١)، وهما آخر عملين للأخوين دون مشاركة فيروز. بخلاف بقية مسرحيات فيروز، لم يرتكز هذان العملان على البطولة المطلقة، على الأرجح خوفًا من إحداث رد فعل عكسي لدى الجمهور المتعلِّق بفيروز، بل لجأ الأخوان إلى أسلوب البطولة المشتركة بين أصوات نسائية ورجالية، مع رونزا وفاديا طنب وميريام وملحم بركات ويوسف شامل وجوزيف عازار، إلّا أن المغنيات في هاتين المسرحيتين وقعن جميعًا ضحايا المقارنة مع فيروز، حتى وإن ظهرن بأدوار ثانوية انسحبت الشقيقتان رونزا وفاديا طنب، إضافة إلى عفاف راضي (بطلة مسرحية الشخص المُمَصّرة)، إلى الحياة الموسيقية الأكاديمية بعيد انتهاء تجاربهن مع الأخوين رحباني.. نالت هاتان المسرحيتان ردود فعلٍ متفاوتة، كان أغلبها فاترًا، من كلا الصحفيين والجماهير، إلا أن منصور الرحباني كان لديه حينها رأي آخر:

وردة الزامل: عودة سريعة من أميركا عأنطلياس، ورأي فيروز بآخر أعمال الرحباني المؤامرة مستمرة والربيع السابع؟

فيروز: منصور بيقول – متل ما نشرتله المجلات والجرايد – إنه هالمسرحيتين هنِّ أعظم عملين للأخوين رحباني … بكل حياتهن الفنية، وبعتقد إنه منصور عادة ما بيحكي إلا الحقيقة.

وردة الزامل: قولِك هيك إنه هالعملين هنِّ أعظم الأعمال؟

فيروز: هيك بيقول منصور … أنا مع منصور.

مع منصور الرحباني (الشبكة، من أرشيف عبّودي أبو جودة)

إن هذه الإجابة – على الرغم من نبرتها الجادّة والمقنعة – لا يمكن إلا أن توضع في خانة الكوميديا، وتسجل في رصيد حس الفكاهة لدى فيروز كثيرًا ما تحدثت غادة السمّان وبارعة مكناس علم الدين وأخريات عن روح النكتة لدى فيروز. التي منحت الأخوين رحباني بصوتها أمجادًا خالدة في مئات الأغنيات التي حفظتها الأجيال، بينما أثبت امتحان الزمن خلو ادعاء منصور الرحباني من أي صحة، فمن منا يذكر أيًا من أغنيات هاتين المسرحيتين؟ لم لا نشاهد أيًا منها على الشاشات؟ ما يمكن استشفافه من إجابة فيروز هو عمق الشرخ بينها وبين الأخوين رحباني خلال الأيام التي تبعت الانفصال، مع حرصها على مداراة استعراضاتهما الإعلامية، وإن كان ذلك على حساب رميها بشتى الادعاءات. “فيروز، إنتِ مُتَّهمة”، تعلن وردة الزامل قبل أن تتلو رسالة صادمة تقول إنها تلقتها من أحد المحامين الراغبين بملاحقة فيروز قضائيًا: “أحد المحامين بيوضع فيروز بقفص الاتهام للأسباب التالية، أولًا: تركتي مع ابنك زوج مريض، ثانيًا: أنكرتي بتصرفك الأيدي البيضا اللي مدها عاصي الرحباني إلك، ثالثًا: ضعف المستوى الفني الحالي من بعد ما كنتي بتتمتعي بمستوى عالي جدًا قبل الانفصال – وهيدا كله طبعًا أنا عم ردد، ست فيروز، شو قال المحامي – وبيتمنّى هالمحامي يكلفه السيد عاصي الرحباني بدعوى ضدك لتمكن من الاستحصال على تعويض ما بيقل عن ٣ ملايين ليرة لبنانية.”

على الرغم من فجاجة الادعاءات التي نقلتها الزامل عن ذاك “المحامي”، آثرت فيروز الإجابة دونما محاججة أو تبرير: “أنا بشكر هالغيرة، بالأول. بعدين، اللي سائل هالسؤال منّو محامي، لأن المحامي بيعرف بالقوانين. وبعدين كيف بيسمح لحاله يحكم بقضية ما بيعرفها؟ وأنا بعرف إنه المحامي إنسان مهذّب، وبفتكر إنه اللي سائل هالسؤال مش محامي.” حتى عندما تنصّلت الزامل مجددًا من “قلة تهذيب” السؤال المنقول، قائلةً إنها حاولت الهروب من هكذا أسئلة والحديث مع فيروز في الفن حصرًا، ردّت عليها فيروز: “لأ مش ممكن نهرب، ما هيدي حياتي”، فتابعت الزامل لتسأل فيروز عن صحة الأخبار المتناقلة عن صلح قريب بينها وبين منصور كي تعود فيروز “مدام رحباني”، باغتتها فيروز هنا بنفي وجود خلاف مع منصور الرحباني أساسًا، مضيفة بأن من يظن أن صلحًا سيتم دون الأخذ برأي عاصي الرحباني يعتقد أن الأخير “بطّل يكون الأساس بالأخوين رحباني”، في تأكيد مجدد على مكانة الأخوين رحباني لدى نجمتهما الأولى وأساسية عاصي الرحباني ضمن هذا الثنائي، حتى في خضمّ القطيعة.

فيروز / نُهاد

بعدما حكت فيروز ما حكت عن شخصيتها وفنها وموقفها من الأخوين رحباني، أتى الجزء الأخير من المقابلة أقل وطأة من سائر أجزائها، ليقدم فيروز في إطار لم يعرفها فيه كثر قبل بث اللقاء. نجح هذا الجزء من المقابلة في كسر الجو الثقيل الذي عم ما سبق، وأضاء على زاوية حميمة من شخصية فيروز قلّ عارفوها، ذلك أن الهالة الأيقونية التي أحاطت بفيروز لعقود ساهمت بمحي ذاتها الأصلية وذوّبتها في رمز الوطن وسفيرته إلى النجوم وسائر الألقاب التي حملتها فيروز وربما أثقلتها في كثير من الأوقات، وسرقت منها نعمة أن تكون نُهاد حداد لا أكثر.

على الرغم من التحفظات التي قد تسجل على أسئلتها، يُحسب للزامل نجاحها في تقديم وجه آخر لفيروز غاب طويلًا عن الجمهور. بادرت الإذاعية بسؤال ضيفتها عن كيفية قضائها ليومها، فأجابت: “يوم فيروز: موسيقى، وسكوت، وتأمل، ورفض لمقابلة حدا ما بيوحي بالطمأنينة، ومطالعة لمجلات وجرايد وإشيا حلوة بتحب تقراها، وحل رموز أخبار الخادمة اللي دايمًا بتقلّي إنه إجى تليفون وما بتعرف مين … لأنه الخادمة حبشية، صحيح بتحكي عربي، بس مجرد ما تقطع فشخة عن التليفون بتصير حدا تاني، يعني … (تضحك).”

كواليس الحدث “وعلى سيـرة فيلمون … “

قد لا يختلف اللقاء ضمن الصيغة التي بُث بها عن أي مقابلة أخرى تسجل في الإذاعة، ومن الطبيعي أن يفترض المستمع أن هذا اللقاء قد سُجّل بعفوية خلال واحدة من عصرونيات صيف ١٩٨٣، إلا أن ما كشفته الزامل في كتابيها وضمن بعض إطلالاتها الإعلامية ينفي قطعًا صفة الطبيعية عن هذه المقابلة، إذ تبيّن أنها استغرقت عامًا كاملًا للتسجيل، بل وذكرت في كتابها بكل أمانة، درغام للنشر، ٢٠١٠. أن تسجيل المقابلة استغرق ما يقارب العامين عندما طلبت منها التوضيح قالت إن إقناع فيروز بإجراء المقابلة تطلب سنة، وإتمام تسجيلها أخذ سنة أخرى (مقابلة شخصية مع وردة الزامل في استوديو إذاعة الشرق، القنطاري - بيروت، نيسان ٢٠١٧). قضتهما متنقلة بين شطري بيروت، وبين بيوت فيروز في بكفيّا والرابية والروشة.

أبسط سؤال يتبادر إلى الذهن بعد اكتشاف هذه المعلومة: هل حضّرت فيروز أجوبتها مسبقًا حتى خرجت بهذه السلاسة والشاعرية والوضوح؟ تنفي الزامل ذاك بشكل تلقائي: “تحضير كيف؟ ما قاعدين عم نسجّل، عرفت كيف؟ فيها تقلّي مثلًا: هيدا السؤال بلاه، وهيدا بيمشي وهيدا ما بيمشي، بس قلتلك أخدت سنة هاي المقابلة لتسجّلت، معناتها تخمّرت الأسئلة.” المصدر نفسه. على كل حال، ظهرت فيروز في لقاءات تلفزيونية سبقت وتبعت هذه المقابلة تقرأ فيها الإجابات الجاهزة لأسئلتها، ولا غرابة في ذلك، لأن علاقتها الشائكة مع الإعلام أملت عليها بعض الإجراءات الاحترازية كطلب الأسئلة مسبقًا.

حرب فيروز الأهلية

على الرغم من هذا وذاك، تبيّن في النهاية أن عامًا بأكمله لم يكفِ لتجنّب التعديلات من طرف فيروز، حتى آخر لحظة. قبل ساعتين من موعد البث: “بيدق التليفون: فيروز … بنتها: وقفوا البث! شو صار معي أنا؟ كريزا! شو القصة؟ قال لا لا لا، في شغلة… وقفوا البث. دخيلكن، شو الشغلة؟ كانت الساعة تلاتة ونص، وبدنا نبث عالخمسة ونص. قال في شي ناسية تذكره أو إنه … في شي! قلتله للمخرج دغري، والحمدلله كانت بالروشة، الإذاعة بالأشرفية. على سرعة البرق راح مع مسجلة وأنا ما رحت تا ما يصير في أخد وردّ، قلتله: بتروح لعندها، بتقلها تسجل هالجملة اللي ما خطرت عبالنا لا نحنا نذكّرها فيها ولا هي بلحظتها فاقت تقولها. راح، شو كانت؟ جملة وفاء لفيلمون وهبي! بمطرح معين ناسية تذكر فيلمون وهبي. سجللها الجملة، وإجى ركض من الروشة على الإذاعة. عملنا مونتاج، دخلنالها الجملة، وسمّعنا لريما شو عملنا، قال: أوكي، بيمشي. ومشيت المقابلة وعملت الضجيج كله بالبلد وخارج البلد.” مقابلة شخصية مع وردة الزامل في استوديو إذاعة الشرق، القنطاري - بيروت، نيسان ٢٠١٧.

عندما نشرت الزامل نص المقابلة وتسجيلها الصوتي على قرصٍ مدمج ضمن كتابها الثاني بكل أمانة. حذفت ما يقارب خمسة وعشرين سؤالًا من المقابلة الكاملة، وبالأخص تلك التي تطرقت إلى خلاف فيروز مع الأخوين رحباني (بما فيها سؤال المحامي)، والأسئلة المتعلقة بالأعمال الجديدة مع زياد الرحباني وفيلمون وهبي ورياض السنباطي. عند سؤالها عن المونتاج المتطرّف للمقابلة، أجابت ببساطة أن السبب تقني بحت، إذ أن حلقة فيروز طويلة وتتطلب حيزًا ورقيًا ورقميًا صعب التوفير مقابلة شخصية مع وردة الزامل في استوديو إذاعة الشرق، القنطاري - بيروت، نيسان ٢٠١٧.. سواء كان السبب تقنيًا أم تحريريًا، فإن المقابلة كما نُشرت في الكتاب منظَّفة ومنزوعة السياق، خالية من الإشكاليات التي زخرت بها الحلقة كما بُثّت على الأثير.

أي صمت؟

“زوروني حرام، حرام، حرام!” صدحت فيروز مختتمة حفلها في مسرح الأولمبيا الباريسي في أيّار ١٩٧٩. انحنت قليلًا تحيي الجمهور، ثم أخذت خطوة للخلف بعيدًا عن الميكروفون. عندما استدارت لتحية الجوقة والفرقة الموسيقية، كان عاصي الرحباني لها بالمرصاد: “روحي، روحي!” تمتمت شفتاه فمضت فيروز عائدةً إلى الكواليس على وقع تصفيق وهتاف الحاضرين. أُسدل الستار على خشبة المسرح، وأَسدلت تلك الأمسية ستارًا آخر على ربع قرن من الشراكة الفنية: كان ذاك آخر حفل يجمع فيروز وعاصي الرحباني. سيغيب وجه فيروز كما عرفه الجميع.

بعد أربع سنوات، فتحت فيروز بابها لتجد وردة الزامل مغميًا عليها. قامت بكل ما يلزم لإنعاشها، استفسرت عن القصة كان رجل يلاحق وردة بسيارته حتى وصولها منزل فيروز.، ثم أجرت الاتصالات اللازمة لمعرفة من حاول اختطافها، وأمَّنت حمايتها على طريق العودة هذا صوتي، وردة الزامل، درغام للنشر، ٢٠٠٨.. تتذكر وردة أن “الست” استشاطت غضبًا وهي تهاتف سياسيين (لم تسمِّ أيًا منهم) لتوبيخهم على ما أصاب ضيفتها، آمرة إياهم: “ضبّوا زعرانكممقابلة شخصية مع وردة الزامل في استوديو إذاعة الشرق، القنطاري - بيروت، نيسان ٢٠١٧. وأن يكفوا أيديهم عن ضيوفها. لم تحتج الست لأن تكرر كلامها مرّتين.

المزيـــد علــى معـــازف