.
في مقالة حروب الخنادق | أيديولوجيات تجديد الموسيقى العربية، تحدثنا عن دور الصراع الأيديولوجي في الصدام بين أطروحتي الأصالة والمعاصرة، فيما يتعلق بالموسيقى العربية، وتحديدًا بعد مؤتمر ١٩٣٢ في القاهرة. في هذه المقالة نتحدث في المقابل عن حرب الموسيقى الباردة.
تختلف حروب الخنادق عن الحرب الباردة في خواص أساسية: فحرب الخنادق دفاعية، وتعني أن كلًا من الفريقين المتصارعين يحتمي بمكانه، الأصولي أصولي، والحداثي حداثي، بالمعنى الفني، ولا حوارَ بنّاءً بينهما. أما الحرب الباردة فتعني أن كلًا من الفريقين لديه قدرة الردع نفسها، ولذلك يستعمل ضد خصمه أساليب هجومية غير مباشرة، غير إشهار السلاح، أو إشهار السلاح عن طريق الوكالة؛ وكما رصدنا حرب خنادق في الموسيقى العربية، ممتدة إلى اليوم، فإننا نرصد هنا حربًا باردة في الموسيقى الغربية، عبرت عن الحرب الباردة الحقيقية منذ أواخر الأربعينيات حتى أوائل تسعينيات القرن العشرين. إنها حرب بين موسيقى السوفييت الحمراء، وموسيقى الغرب البيضاء. هي حرب استُنزِفَت فيها كل المهارات النقدية، وأشكال الهجوم الشخصي والفني، وغالبًا شنّها المعسكر الأبيض على الأحمر، لا العكس، كما سنرى، بل وكما نرى حاليًا أيضًا.
إنه طرح مُوازٍ لسياق ما نراه حاليًا من قيام دول معادية لروسيا بمنع مؤلفات موسيقية لأشهر المؤلفين، مثل تشايكوفسكي؛ في حدثٍ وجودي مهم في مفهومنا عن كينونة تشايكوفسكي نفسها: من مؤلِّفٍ موسيقيّ خفيف، لا يفهم برامزَ، ولا يحبه الألمان، وصاحب نجاحات متوسطة في مجال السيمفونية والأوبرا، إلى رمزٍ لروسيا نفسها، جغرافيا، وتاريخًا. الغرب في حالة حرب باردة مع روسيا حتى مع ارتفاع حرارة أوكرانيا، وشرق أوروبا عمومًا حاليًا، ومن أسلحته ضرب الرموز. أن تكون رمزًا-مضروبًا لهو أقيم من أن تكون رامزًا-ضاربًا. لم يقم الغرب فقط بضرب تشايكوفسكي، بل حولَّه إلى رمز.
السبب في منع أعمال تشايكوفسكي، مع عدم منع أعمال مواطنيه من كبار الموسيقيين، وربما الأهم منه بمراحل في مجال الصناعة الموسيقية الثقيلة والخفيفة، كرحمانينوف وشوستاكوفيتش وبروكوفييف وسترافنسكي وخاتشاتوريان، وغيرهم، ينقسم إلى شقين. إما أن هؤلاء الموسيقيين لم يكونوا بدرجة الشهرة والشعبية التي ربحها تشايكوفسكي، بسبب تركيزه على اللحن الأسهل في التلقي من سائر عناصر الموسيقى، وجمال جملته اللحنية، وسهولة تلقيه بشكل عام؛ وإما أن هؤلاء الموسيقيين غير الممنوعين كانوا روسًا، لكنهم لم يكونوا سوفييت. أي أن انتماءهم السياسي والفني كان في صالح الغرب، وعاشوا فعلًا في الغرب كرحمانينوف وسترافنسكي.
رغم أننا نلتقي بأسماء عديدة، وذات وزن معتبَر على الخارطة الموسيقية في القرن العشرين، من الموسيقيين الذين هاجروا من روسيا إلى الغرب عقب الثورة البلشفية ١٩١٧، إلا أن اسم إيجور سترافنسكي (١٩٧١) هو الأبرز هنا. سترافنسكي في رأيي هو أهم موسيقار، جمع بين التأليف على أعلى مستوًى، والنقد، وفلسفة الموسيقى. لا يجد الباحث مثلًا في فلسفة الموسيقى مَن هو أهم منه في مجال التأليف. هناك فلاسفة ونقاد، أنتجوا الهام والمؤثر في مجال فلسفة الموسيقى، واتصلوا بالنقد الموسيقي، ومارسوا التأليفَ، كأرسطوكسينوس وشوبنهور وهانسلك وأدورنو وشوبنهور، لكن أيًا منهم ليس بأهمية سترافنسكي في مجال التأليف على الإطلاق. لقد أحدث سترافنسكي ثورة موسيقية في موسيقى القرن العشرين، يراها البعض مناهِزةً لثورة بيتهوفن في أوائل القرن التاسع عشر، وثورة فاجنر في أواخره.
نقد سترافنسكي “الموسيقى السوفييتية” حتى قبيل اندلاع الحرب الباردة، في ست محاضرات ألقاها بين عامي ١٩٣٩ و١٩٤٠، ونشرت للمرة الأولى عام ١٩٤٢ تحت عنوان بلاغة الموسيقى. كان واعيًا أن حربًا باردة تدور بالفعل حتى قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها؛ وهو صحيح تاريخيًا. كان سبب سماح إنجلترا وفرنسا لهتلر بالوصول إلى الحكم، ودعمه بالاستثمارات التي كان بعضها أمريكيًا، ثم السماح له بضم النمسا ثم تشيكُسلوفاكيا، هو خلق حائط صد ضد الشيوعية. لقد كان الاتحاد السوفييتي هو العدو رقم واحد للغرب بمجرد نشأته، ولم تكن الفاشية عدوًا بعد، حتى انقلب السحر على الساحر. حاول ستالين مرارًا عقد تحالف مع إنجلترا وفرنسا ضد الفاشية، ولما لم يستجيبوا له بشيءٍ، إذ كانوا يرونه هو العدو لا الفاشية، عقد تحالفًا بديلًا مع هتلر، وبدأت مأساة الحرب العالمية الثانية. كان سترافنسكي واعيًا بكل ذلك.
في الجانب المقابل يقف موسيقار سوفييتي متفرد حقًا: ديمتري شوستاكوفيتش (+١٩٧٥)، له درجة أقل في الابتكار على مستوى التوزيع والألحان وتقنيات التأليف، لكنه كان أكثر تنوعًا وابتكارًا، وحقق تراكمًا أكبر، وكان بنيانه أعقد وأشد تطورًا، مما نراه في حالة سترافنسكي. لكنه لم يترك كتابات نقدية هامة، ولم يشارك بنفسه في هذه الحرب، وإنما استعمله المعسكر الأحمر لضرب نظيره الأبيض في موسيقاه. موسيقى الغرب الكلاسيكية من مناطق الاعتزاز الحقيقية، لأنها تقريبًا على غير مثال سابق، فقد بدأت في أوروبا، ولم يعرف في تاريخ الإنسانية قبلها – في حدود ما هو متوافر للباحثين من وثائق – أي أعمال للموسيقى الخالصة لها صيغة واضحة، كالسيمفونية والكونشرتو والصوناتا والرباعي الوتري … إلخ. قد جرى استعمال سترافنسكي كذلك للهدف نفسه، ضرب الاتحاد السوفييتي في موسيقاه، التي لطالما اعتز بها ووجد فيها صوته الخاص، وأسس لها “سياسة” تعليمية ناجحة انظر: سمحة الخولي: القومية في موسيقى القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم ١٦٢.. كان كل من شوستاكوفيتش وسترافنسكي إذًا جنديين في حرب بالوكالة، وكالتهما عن الساسة، ووكالة الموسيقى عن السياسة. ما الذي يعبر عنه حقًا كل منهما في الموسيقى؟ وما السبب في كونهما طرفَي نقيض؟ وما الذي أهّل أيًا منهما ليكون رأس حربة في الحرب الموسيقية الباردة؟ وكيف انتهت تلك الحرب؟ وهل انتهت فعلًا؟
ما الذي كان يعنيه سترافنسكي بالموسيقى السوفييتية في نقده إياها؟ Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons, translated by Arthur Knodel and Ingolf Dahl, Harvard University Press – Cambridge, 1947. بعد استقرار الحكم للبلاشفة، وبعد سنوات من الصراع مع خصوم داخليين وخارجيين، قامت السلطة عام ١٩٣٤ بوضع ميثاق عام للفن في الاتحاد السوفييتي، يتبع قواعد الواقعية الاشتراكية، وينص على التالي: “الواقعية الاشتراكية، بما هي المنهج الأساسي للاتحاد السوفييتي في الأدب والنقد الأدبي، تتطلب من الفنان تصوير الواقع على نحو من الصدق، والدقة التاريخية في تطوره [أي الواقع] الثوري. وفي الوقت نفسه فإن الصدق، والدقة التاريخية، اللذين في هذا التصوير الواقعي، يجب أن يتوافقا مع هدف التغيير الأيديولوجي، وتعليم الطبقة العاملة بما هو روح الاشتراكية.” Solomon Volkov. Shostakovich and Stalin: the Extraordinary Relationship between the Great Composer and the Brutal Dictator, New York: Alfred A. Knopf, 2004. بتطبيق ذلك الميثاق على الموسيقى تحددت السياسة الموسيقية في الاتحاد السوفييتي على أساس ضرورة تمثيل الواقع التاريخي، وتحولاته الثورية، وموافقة أيديولوجيا الحزب.
لا يعني “الواقع التاريخي” مجرد تسلسل الأحداث، بل كذلك تمثيل البيئة المحيطة بهذا الواقع كتحديد له، ما يمكن تلخيصه في “القومية في الشكل، والاشتراكية في المضمون” Marina Frolova-Walker, Russian Music and Nationalism: From Glinka to Stalin, New Haven: Yale University Press, 2007.. جرى تأسيس معهد عالٍ للموسيقى في كل جمهورية من الجمهوريات السوفييتية الخمس عشرة، يتضمن كل منها قسمًا خاصًا بالموسيقى القومية لهذه الجمهورية، وهو ما منح الموسيقى الكلاسيكية السوفييتية تنوعًا غير مسبوق حقًا في الألحان، واستعمال الآلة والتوزيع والموضوعات، إذا قارنّاه مثلًا بأحادية الصوت – بالمعنى الأوسع للكلمة – الذي نجده في الموسيقى الألمانية على شموخها. كان الهدف من السياسة الموسيقية تحويل الموسيقى الكلاسيكية إلى فن رجل الشارع وربة المنزل؛ وقد تحقق هذا الهدف إلى حد كبير سمحة الخولي: القومية في موسيقى القرن العشرين، مرجع سابق.. نجمت عن ذلك ظاهرةٌ غريبةٌ في وقتها، هي الحفاظ على التنوع، مع الحفاظ على النظام.
بهذا الشكل قطع السوفييت – بسبب قدرتهم على استيعاب التنوع في نظامٍ واحدٍ – مع الشكلانية في الموسيقى، وصارت هي عدوَّة الموسيقيّ الأول، وبها “وُصِم” الموسيقيون الذين لم ترضَ عنهم السلطة، كما فعلت البرافدا في نقدها الرسمي لسيمفونية شوستاكوفيتش الرابعة. لكن ما معنى الشكلانية في الموسيقى؟ وكيف تطورت كأطروحة غربية في الموسيقى إلى حد “الكلاسيكية الجديدة” على يد سترافنسكي؟
تعود أصول الشكلانية باختصار إلى الناقد النمساوي إدوارد هانسلك (+١٩٠٤)، الذي وضع في كتابه عن الجميل الموسيقيّ أسس هذا المذهب. ينص هذا المذهب على أن الموسيقى غير قادرة أصلًا على تمثيل أي شيء. هكذا قطع هانسلك علاقة الموسيقى بكل من المشاعر والتصورات الأدبية، واللغة والرياضيات وعلم الصوتيات. تختلف كل هذه المجالات جوهريًا عن الموسيقى، ولا يمثل أي منها ماهية الموسيقى. كل ما نشعر به، أو نتخيله، أثناء الاستماع إلى أي عمل موسيقيّ هو من إسقاطنا نحن، لكنه إسقاط لا يصلح في كل الحالات بالدرجة نفسها، وهذه هي فاعلية الموسيقى الوحيدة في رأيه: أن “تسمح” لنا بهذا الإسقاط.
حدد هانسلك قدرات الموسيقى التمثيلية في آليتين: آلية مشاكلة الحركة، وآلية الترميز النغمي Analogie der Bewegung und der Symbolik der Töne. فالموسيقى قادرة من جهة على إنتاج نمط حركة “يشبه” شكل حركة المشاعر، ومن جهة أخرى فإن الموسيقى قد ترمز إلى موضوع واقعي، كرمز أصوات النحاسيات مثلًا إلى الحرب، لكننا نحن من اصطلحنا على هذا الرمز بسبب استعمالنا لهذه الآلات في ذلك الموضوع في الواقع Hanslick, Eduard, Vom musikalischen Schönen- Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Druck und Verlag von Breitkopf & Hartel, 13.-16. Auflage, Leipzig, 1922.. عن طريق المشاكلة والترميز تسمح لنا الموسيقى بتصورات عديدة، لكنها كلها غير محددة، ولا مؤكَّدة. خلاصة الرأي أن الموسيقى فن شكلي بحت، لا ينقل مضمونًا محددًا، حتى لو أردنا له، أو منه، ذلك. الموسيقى في رأي هانسلك “حَدْس محض” reine Anschauung، بمعنى حدس بلا موضوع للحدس، إدراك بلا موضوع معين للإدراك المصدر السابق..
كانت فكرة الحدس المحض مؤسَّسة قبل هانسلك بعمق في المثالية الألمانية، عند شللنج (+١٨٥٤) مثلًا Scruton, Roger, ’German Idealism and the Philosophy of Music’, The Impact of Idealism. The Legacy of Post-Kantian German Thought. Volume III. Aesthetics and Literature. See also: Bonds, Mark Evan, ’Idealism and the Aesthetics of Instrumental Music at the Turn of the Nineteenth Century’.. فكما يرى شللنج، الموسيقى “هي الفن […] الذي يغض النظر إلى الحد الأكبر عما هو جسماني؛ حيث يُمثِّلُ الحركةَ الخالصةَ بما هي كذلك، مجردةً من الموضوع.” Schelling, Friedrich Wilhelm Joseph von, ’Philosophie der Kunst’ Sämtliche Werke, Abt. 1, Bd. 5, J. G. Cotta’scher Verlag, Stuttgart, 1859. وكما يرى هيجل، الموسيقى هي الفن الوحيد الذي يتمتع بحرية في التشكيل لا نهائية؛ لأنه يعمل على مادة مخترَعة بالكامل، لا وجود مسبقًا لها Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Vorlesungen über die Ästhetik, hrsg. von Heinrich Gustav Hotho, 3. Band, Verlag von Duncker und Humblot, Berlin, 1838.. أما شوبنهور فقد كان عدوًا لدودًا للشكلانية، غير أنه اتفق معها في نقطة أساسية، هي أن العمل الموسيقي بالمعنى الدقيق، أي غير المصحوب بشعر أو رقصة أو تمثيلية أو برنامج، لا يعني لنا شيئًا بعينه، بل نستمع فيه إلى صوت الإرادة نفسها الحاكمة للحياة العضوية، وغير العضوية Asmuth, Christoph, ’Musik als Metaphysik- Platonische Idee, Kunst und Musik bei Arthur Schopenhauer’, Philosophischer Gedanke und Musikalischer Klang. Zum Wechselverhältnis von Musik und Philosophie. (Hrsg.) Asmuth, Christoph – Scholtz, Gunter – Stammkötter, franz-Bernhard, Frankfurt a.M. 1999.؛ وبرغم أنه حدد مضمونًا معينًا للموسيقى ككل، فقد نفى أن يكون لعمل معين فيها معنًى محددٌ على حدة.
مرت الشكلانية بتعديلات عديدة، أشهرها تعديلات بيتر كيفي وليونارد ماير وسوزان لانجر وروبرت مورجان. أضاف كيفي وماير لشكلانية هانسلك الكلاسيكية قدرة الموسيقى على نقل “معلومات” عن حبكة موسيقية، صورية بحتة، لا مضمون لها داخليًا، لكن لها مضمونها الخارجي، الذي ينتقل بمجرد الشكل Kivy, Peter, Introduction to Philosophy of Music.. نحن “نعرف” مزيدًا من المعلومات كلما استمر سماعُنا للعمل، وهذه المعلومات لا يمكن أن تكون لا شيء. أضافت سوزان لانجر أن الموسيقى، برغم كونها شكلًا بلا مضمون، أو الشكل الخالص بتعبيرها، ترمز إلى حركة الكائن الحي العضوي عن طريق الإيقاع بالذات؛ فهو الذي يمنح المقطوعة تماسُكها، ويوجهها إلى هدف معين، كما توجه حاجاتُ الكائن الحي سلوكَه نحو البيئة Langer, Susanne K., Feeling and Form. A Theory of Art, developed from Philosophy in A New Key, Charles Scribner’s Sons New York, 1953..
بيد أن روبرت مورجان (١٩٣٤-؟)، فيلسوف الموسيقى الأمريكي المعاصر، هو الذي أضاف الإضافة الهامة فعلًا في سياقنا الحالي: يعتقد مورجان أن الموسيقى تخلق لها في تصوراتنا زمانًا ومكانًا وهميين، يتداخلان معًا من جهة، كما يتداخلان مع الزمان والمكان الطبيعيين من جهة أخرى Morgan, Robert, ’Musical Time/Musical Space’, Critical Inquiry, Vol. 6, No. 3 (Spring, 1980).. بالتالي ما يمكن اعتباره مضمونًا للموسيقى بحق هو هذا التلاعب بالمكان والزمان. لكن لأن الموسيقى فن زماني بالدرجة الأولى، أي يحدث كتسلسل في الزمان، لا كتجاور عناصر اللوحة، أو العمارة، فإن التلاعب الزماني فيها هو الجوهر، وهو كل ما نتلقاه فعلًا منها، والبقية من تصوراتنا نحن.
تلك الإضافة الأخيرة هامة في مقامنا هذا؛ لأنها نقطة اتفاق عميقة بين كل من سترافنسكي المهاجر إلى أمريكا، وفيلسوف الموسيقى والموسيقار الأمريكي المعاصر روبرت مورجان، وعلى أساسها تقوم الشكلانية اليوم. تقوم الشكلانية حاليًا على أن المضمون الموسيقي الوحيد الممكن في الموسيقى الخالصة هو التلاعُب بالزمان؛ وهي فكرة خطيرة أحدثتْ أثرًا كبيرًا في مرحلة ما بعد سوزان لانجر في الغرب، وقد أطلق عليها سترافنسكي تعبير كرونُونُومْيا.
ليس من قبيل المبالغة الاعتقاد في أن الشكلانية عمومًا هي مذهب الغرب الموسيقيّ بوجه عام، فكما رأينا اتجه تاريخ الفكر الموسيقي الغربي، بعد قرون من التلاعب الشكلي، إلى التعبير عن مثل عليا مع بيتهوفن، ثم إلى الدراما القحة مع فاجنر. لكن الحال لم يلبث إلا أن تغير مع بداية القرن العشرين، وصار على الموسيقيين أن يفتحوا مناطقَ بكر في الموسيقى غير مسبوقة. كان التلاعب الشكلي البحت، عودًا على بدء، هو هذه المساحة. فبرغم أنها كانت مساحة مطروقة، بل ومتروكة، طيلة قرون، فقد صارت جديدة بعد قرن كامل من البيتهوفنية والفاجنرية، ومع اتساع مساحة الأوركسترا، وتنوع أصواتها الهائل إذا ما قورن بمدى تنوع الأصوات في أوركسترا هايدن وموتسارت، وسالييري وجلوك. ما يذكرنا بالدورة الحضارية-التاريخية لكل حضارة عند ابن خلدون في مقدمته.
ليس من قبيل المبالغة كذلك القول بأن سترافنسكي تحديدًا هو صاحب التنظير الأهم في شكلانية القرن العشرين، أو الموسيقى البيضاء. لقد سبقت سترافنسكي في القرن العشرين أسماء هامة جدًا في فلسفة الموسيقى الشكلانية، مثل سوزان لانجر وروبرت مورجان. لكن سترافنسكي تميز عليهم بكونه موسيقارًا أصيلًا، لا شك في أهميته في تاريخ الموسيقى، وفي الوقت نفسه فقد قدم تنظيرًا لطبيعة الموسيقى، لا يقل تفصيلًا وابتكارًا عن تنظيرات لانجر ومورجان.
يرى سترافنسكي بدءًا أن الموسيقى فن إنساني بحت، فما نسمعه من أصوات الطبيعة هو “اقتراح موسيقَى” وليس موسيقى كما نفهمها. لذلك كانت الموسيقى أحدث الفنون نشأة، وأقصرها تاريخًا، ففيما وراء القرن الرابع عشر الميلادي لا يمكن لنا وضع تصور دقيق عن الموسيقى في تلك الأزمنة السحيقة. هدف كل الفنون هو التجسيد، إلا الموسيقى، فهدفها هو تجريد ما هو متجسد. أما هذا المتجسد، الذي تجرده الموسيقى، فهو الإرادة والشعور. تعبّر الموسيقى عن الإرادة والشعور في شكل حركة مجرَّدة مدرَكة عقليًا. أما وسيلة الموسيقى في هذا التجريد فهي الصوت، والزمن، ولا يمكن فهم الموسيقى في رأيه بمعزل عن هذين المفهومين الأخيرين؛ ولأن هدف الموسيقى تجريد ظواهر متحركة في جوهرها، كالإرادة والشعور، فإنها تعبّر عنها، أو بالأحرى تجردها، في نمط حركة، ونمط الحركة في حد ذاته، الذي تقدمه الموسيقى، هو تلاعبٌ بالزمان. لهذا يخلص سترافنسكي إلى أن الموسيقى فن “كرونولوجي”، وهو أول المفاهيم الهامة في فلسفة سترافنسكي للموسيقى. Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons.
يعني مفهوم الكرونولوجيا (ويُطلق المؤلِّفُ على هذا المفهوم كذلك تعبير كرونُونُومْيا)، أو التسلسل الزمني، عند سترافنسكي إعادة بناء الزمان الطبيعي، الذي يطلق عليه في كتابه “الزمان الأنطولوجي”. يرى سترافنسكي أن هناك نوعين من الزمان بشكل عام: الزمان الأنطولوجي، وهو الزمان الطبيعي، الذي تعده دورات الأجرام السماوية والساعات، والزمان النفسي، وهو وعي الإنسان المفرد بالزمان. دور الموسيقى الأصيلة هو تحقيق تلاعب محسوب بين نوعي الزمان، بحيث يسود فيه الزمان النفسي، وربما يحل محل الزمان الأنطولوجي مؤقتًا. يلعب الإيقاع الدور الرئيس في هذه العملية؛ فالميزان لا دور له إلا إضفاء سيمترية زمانية-أنطولوجية على الألحان، أما الإيقاع فيقوم بتقسيم تلك الوحدات السيمترية بحسب إرادة الموسيقار، وشعوره، ليحول ما هو أنطولوجي في الزمان إلى ما هو نفسي. نلاحظ هنا أن سترافنسكي يعني أن الموسيقى “حركة بين زمانين”، لا بين عناصر متزمنة بأحدهما أو كليهما. المصدر السابق.
أما دور النغم فهو ما يستحضر لنا المفهوم الهام الثاني إلى جوار مفهوم الكرونولوجيا، ألا وهو الوحدة والتنوع. هو مفهوم هام في سياقنا لأنه يناقش السؤالَ نفسَه، الذي قام السوفييت بحله عمليًا في إمبراطورية جاثمة على نصف اليابسة. يستعرض سترافنسكي تاريخًا مختصرًا للصراع بين الأطروحتين: الوحدة عند بارمنيدس، والتنوع عند هيراقليطس، ويخلص إلى أنهما مفهومان متضايفان كوجهي العملة الواحدة، فالوحدة لا تتم إلا بين أضداد، وإلا ما كانت وحدة، والتنوع لا يتم إلا من خلال عنصر متجانس، وإلا ما فهمنا كونه تنوعًا. تظهر الوحدة والتنوع في الموسيقى في عنصريها الأساسيين: الزمن والنغم، لكنها أوضح وأكثر مباشرة في مجال النغم. في مجال النغم نطلق على الوحدة اسم التوافق، وعلى التنوع اسم التنافر؛ فالتوافق هو اتحاد نغمات مختلفة، هي في الأصل متحدة في الهارمونية، والتنافر هو اتحاد نغمات مختلفة، ليست في الأصل متحدة هارمونيًا. ما يعني أن التنافر في موسيقى سترافنسكي، وفي موسيقى القرن العشرين عمومًا في الواقع، هو نوع من التوافق بشكل ما من منظور جدلي. بيد أن سترافنسكي يشير إلى أن التنافر كان “مرحلة” في الإنماءات فيما قبل القرن العشرين، أما بعد ذلك فقد صار مستقلًا، ولا يتطلب بالضرورة التصريف لاستعادة التوافق. المصدر السابق.
كل ما ذكره سترافنسكي بشأن الوحدة والتنوع، أو التوافق والتنافر في موسيقى القرن العشرين وما قبلها، معروف، لكن إضافته الحقيقية كانت في تطبيق هذا المفهوم على الزمان. يرى سترافنسكي أن نوعي الزمان، الأنطولوجي والنفسي، قد يتوافقان وقد يتناقضان. حين تستسلم الموسيقى أمامنا إلى ميزانها، بحيث يتوافق كل من الميزان والإيقاع، يتحقق لها التوافق الزماني، أما حين يتناقض الإيقاع بدرجة ملحوظة مع الميزان، يتناقض لدينا الزمان النفسي مع الزمان الأنطولوجي، وهي الإمكانية الخاصة فعلًا للموسيقى بين كل الفنون، أن توضح لنا هذا التفاعل بالتوافق والتناقض، على المستوى الزماني الخالص، دون إحالة إلى المكان.
برغم خصوصية التلاعب بالزمان في الموسيقى في مجال الإيقاع فإن اللحن هو العنصر الموسيقي الأهم فيما يرى سترافنسكي، إذ إنه الأيسر في التلقي، والأكثر مباشرةً، ومع ذلك فهو أشد عناصر الموسيقى صعوبةً من ناحية الاكتساب؛ فهو أقرب إلى موهبة بحتة لا اجتهاد فيها. أبرز الأمثلة من تاريخ الموسيقى – فيما يرى سترافنسكي – للبرهنة على ذلك هو بيتهوفن. كان بيتهوفن مقتدرًا على كل عناصر الموسيقى إلا اللحن، فقام من هنا بتطوير كل مهاراته الأخرى في الإنماء. أهم مناطق جدل الوحدة والتنوع في الموسيقى هو قسم الإنماء في صيغة الصوناتا، التي هي الصيغة الهُمَّى، بل هي – في رأيه – الصيغة الأساسية لكل موسيقى الآلات، لأنها – موسيقى الآلات – تقوم أصلًا على وحدة الأضداد. المصدر السابق.
يفسّر سترافنسكي تاريخ الموسيقى من القرن السابع عشر حتى قرب انتصاف القرن العشرين في كونه انحطاطًا متزايدًا من الموسيقى الصرفة إلى الخطاب الموسيقي. يرى سترافنسكي أن الشعر بدأ في الارتباط رويدًا رويدًا بالموسيقى، حتى اقتحم مجال السيمفونية نفسها على يد بيتهوفن في تاسعته؛ ولأن الشعر يُزاحم بطبيعته تعدد الأصوات، فقد بدأت البوليفونية في التراجع التدريجي منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر. في القرن العشرين تنامَى اتجاه معين، يحاول مساءلَة العنصر الأبوللوني في الموسيقى، يعني التركيب الهندسي التناظري للعمل الموسيقى، أو ما يطلِق عليه الرياضيات العليا للموسيقى، ما أدى إلى اضمحلال تدريجي في الشكل، يظهر بأوضح صوره في الموسيقى السوفييتية في رأيه. يضرب المثل في ذلك من الرومانسية المتأخرة بريتشارد فاجنر، فموسيقى فاجنر تعبر في رأيه عن تفكك التفاعل اللحني، وتعتمد على تجاور الأضداد، لا اتحادها، وتستغني عن النظام الباطني بغلاف خارجي، يمنح السامع وحدة مزيفة، وعلى الضد من ذلك كان جُوزيبّي فِردي. المصدر السابق.
من الطبيعي أن يميل سترافنسكي إلى فِردي على حساب فاجنر، فقد تميز الأول، كأغلب الطليان في الواقع، بجمال الجملة الموسيقية، ووضوحها، بينما تكاد موسيقى فاجنر تخلو من الجمل الموسيقية الجميلة المتبلورة، ربما باستثناء أمثلة قليلة كافتتاحية تانهويزر. من أهم أمثلة انحطاط الموسيقى في الرومانسية المتأخرة في رأيه ظهور شكل القصيد السيمفوني، الذي استغنَى بالقصة الدرامية، التي هي عنصر غير موسيقي، عن التعبير الموسيقى الخالص. المصدر السابق.
أهم ما يقدمه سترافنسكي في هذا المقام هو مفهوم الكرونولوجيا (أو الكرونونوميا)، وعلاقته بمفهوم الوحدة والتنوع. إن ماهية الموسيقى المميزة لها عن سائر الفنون عند سترافنسكي هي قدرتها على تزمين الزمان نفسه. بعبارة أخرى هي حركة الزمان، ليس بمعنى الحركة، التي يَعدّها الزمانُ، بل هي وصف لحركة الزمان في جدله مع زمانٍ مُوازٍ، أو هي بعبارة أخرى الزمان المتحرك. لا يعني سترافنسكي أن الموسيقى نفسها زمان، بل يعني قدرة الموسيقى على إطلاعنا على نمط حركة الزمان، وعلى التلاعب الفني-الجمالي الحرّ بهذا النمط في أنماط بديلة لا نهاية لها.
بهذه البلورة النهائية لماهية الموسيقى، ودورها الجوهري في حياتنا: إطلاعنا على حركة الزمان نفسه، وأهمية الزمان في فهمنا لكينونتنا، وعبر سلسال طويل من الأفكار، امتد لمدة مائتي عام: من هانسلك في القرن التاسع عشر إلى مورجان في مطلع الحادي والعشرين، استطاع الغرب أن يؤكد أهمية فريدة للموسيقى بين كل الفنون، لكن دون أن يعبر العمل الموسيقي الخالص عن معنى محدد، أو ينقل لنا شعورًا بعينه. طالما ظلت الموسيقى فنًا شكليًا بحتًا، ليس من الضروري أن يحمل مضمونًا محددًا، فسوف يظل بمنأى عن التوجيه الأيديولوجي الأحمر. لكن لماذا وصفَ سترافنسكي موسيقى السوفييت بكونها اضمحلالًا للعنصر الأبوللوني في الموسيقى؟ وما البديل عن أبوللو؟
لكل ما سبق كان من الطبيعي أن تتعارض الشكلانية الغربية مع واقعية الاتحاد السوفييتي الاشتراكية كطرفَي نقيضٍ. تُعنى الشكلانية بالشكل، وتؤكد على شرعية حضوره بلا مضمون، ومن هنا يصعب التحكم فيه، وتوجيهه للتعبير عن مثل عليا ثورية. هما طرفا نقيض نجدهما في أعماق الفلسفة الألمانية للموسيقى نفسها. إن المطلع على شوبنهور ونيتشه، وخاصة في فلسفة كل منهما للموسيقى، لا بد من أن يجد مقابلة واضحة بين كلام سترافنسكي عن اضمحلال أبوللو، وكلام نيتشه في مولد التراجيديا عن استبداد أبوللو.
تقوم فلسفة نيتشه في الفن، وفي الموسيقى بالتبعية، على عنصرين متجادلين في نسيج أي عمل فني، هما العنصر الأبوللوني، ويمثل العقل، والعنصر الديونيسي، ويمثل الإرادة (وهو المجاز نفسه الذي استعمله سترافنسكي فيما سبق). نظرًا لأن نيتشه كان يعتقد في صلة وثيقة بين الأمتين الإغريقية والألمانية، فقد وضع أغلب كتاباته في الموسيقى، وأكثرها نسقية، في كتابه: مولد التراجيديا أو الهللينية والتشاؤم – ١٨٨٦، وهو طبعة معدلة من كتابه مولد التراجيديا من روح الموسيقى – ١٨٧٢. يقول: “دعونا نتأمل في دهشتنا إزاء الجوقة، وإزاء البطل التراجيدي في هذا النوع من التراجيديا، إن أيًا منهما لا يمكن لنا أن نوفّقه مع أي من ممارساتنا اليومية أكثر [مما نوفقه] مع التقاليد، حتى نعيد اكتشاف هذه الازدواجية نفسها بما هي أصل، وماهية، للتراجيديا الإغريقية، بما هي تعبير عن وَمْضتين فنيتين متداخلتين: الأبوللونية، والديونيسية.” Nietzsche, Friedrich, Die Geburt der Tragödie. Oder: Griechenthum und Pessimismus, Leipzig, C. G. Naumann Verlag, 1907, S. 85. كل الترجمات من الإنجليزية والألمانية للكاتب ما لم يقل عكس ذلك. ويعني بالتقاليد التراجيديا الإغريقية، بما هي تراث للشعب الألماني. كما يوضح إلى حد أكبر المقصود بهذين العنصرين الأسطوريين المستمدين من الميثولوجيا الإغريقية:
“دعونا نتسلح بما حصلناه من معرفة حتى الآن. على خلاف كل هؤلاء ممن يقصدون إلى استلهام الفن من مبدأ واحد شامل، بما هو مصدر ضروري، وحيوي لكل عمل فني، فإنني أضع نصب عيني إلهين من آلهة الإغريق: أبوللو، وديونيس، وأتعرف فيهما على ممَثِّلَين حيين، وبارزين لعالَمين في الفن، يختلفان في أعمق أعماق الماهية، وفي أقصى الأهداف. يعني أبوللو بالنسبة لي عبقريةَ التحول الشكلي لمبدأ الفردية، الذي من خلاله فقط يمكن أن ننال الخلاص حقًا في المظهر الخارجي، بينما تنكسر تعويذة هذا المظهر بقوة الابتهاج الصوفي لديونيس، وينفتح الطريق إلى مصدر كل الكائنات، إلى قلب الأشياء. هذه الأطروحة المضادة فوق العادة، التي تتفتح بكسلٍ بين الفن التشكيلي الأبوللوني، والموسيقى الديونيسية، قد صارت بادية فقط لواحد من عظماء المفكرين، إلى ذلك الحد، الذي معه – حتى بدون مفتاح هذا الرمز من الآلهة الإغريقية – قد سَمحَ للموسيقى بطبيعةٍ مختلفة، وأصلٍ مختلف، في مقدمة كل الفنون الأخرى، لأنها، على العكس من بقية الفنون، ليست نسخة من عالم الظواهر، وإنما نسخة مباشرة من الإرادة نفسها، وبالتالي تمثّلُ ميتافيزيقا كل شيءٍ فيزيقيٍّ في العالَم، الشيء-في-ذاته الذي لكل الظواهر (شوبنهور، العالم إرادةً وتمثلًا، ١، ٣١٠).” المصدر السابق.
نستنتج من النص أعلاه أن نيتشه قد ضمَّنَ إرادة شوبنهور في نسق أشمل، يضمها مع العقل، ممثلَين على الترتيب في ديونيس، وأبوللو (وهي ليست فكرة جديدة تمامًا بالنسبة لشوبنهور) انظر توفيق، سعيد: ميتافيزيقا الفن عند شوبنهور، دار التنوير، بيروت، ط١، ١٩٨٣.؛ وبينما يمثل أبوللو المظهر الخارجي، أو عالم الظواهر، ويتمثل في الفن التشكيلي القائم على تعقّل التناظر، وانضباط النسَب الهندسية، فإن ديونيس يمثل الباطن الحقيقي، ويتمثل في الموسيقى كإرادة، كما فهمها شوبنهور. بهذا التضمين في مثل هذا النسق يقوم نيتشه بتبديل وظيفة هذه الإرادة نظريًا؛ فهي أولًا في صراع مع العنصر العقلي، بحيث تكسر تعويذته الآسرة، وهي ثانيًا – في شكل الموسيقى – المعبرة حقًا عن حقيقة العالَم. الفرق بينه من جهة، وبين شوبنهور من جهة أخرى، في مسألة الصراع بين العنصرين، العقلي والإرادي، لم تكن في جانب العنصر الإرادي عند نيتشه، بل في جانب العنصر العقلي لديه. يعتقد نيتشه، بخلاف شوبنهور في الدرجة، لا النوع، أن للعقل أثرًا أكبر في التأثير على الإرادة، وفي الدخول معها في علاقة جدلية على قدم المساواة كما يتبين من تقسيمه للقوتين الأساسيتين في الفن، وفي الوجود.
يعتقد نيتشه أن الألمان بموسيقاهم هم ورثة التقليد التراجيدي الديونيسي الإغريقي، الذي يتحدى عقلانية سقراط: “لو أننا […] قد أوضحنا […] العلاقة بين تلاشِي الروح الديونيسي، وبين التحول، والانحطاط اللافت بشدة للانتباه في الروح الهلليني، فما أكبر الآمال، التي لا بد من أنْ تُبعَث فينا، إذا ضمنّا أن نعكس المسار، وأن يستيقظ الروح الديونيسي تدريجيًا في عالمنا الحديث. من المستحيل على القوة الإلهية لهرقل أنْ تتحرر من ربقة أومفال [عشيقة هرقل]. لقد أشرقتْ من الجذر الديونيسي للروح الألماني قوةٌ، لا يربطها شيء بالشروط البدائية للثقافة السقراطية، ولا يمكن حتى الآن فهمها، أو تبريرها، لكنها تعتبَر بالنسبة إلى هذه الثقافة [يعني الثقافة السقراطية] كائنًا ما عَدائيًا فظيعًا هائلًا، لا يمكن فهمه: الموسيقى الألمانية كما نَفهمها من حيث المبدأ في سطوعها الجبّار من باخ إلى بيتهوفن، من بيتهوفن إلى فاجنر.” المصدر السابق. إذًا فالموسيقى الألمانية من باخ إلى فاجنر هي الحبلى بذلك العنصر الديونيسي اللا عقلاني، الذي عليه أن يكسر تعويذة أبوللو-سقراط، وهي القادرة على استعادة المسار القديم الزاهر للحضارة الغربية.
يرى نيتشه أن على الموسيقار أن يلبّي نداء الإرادة، وأن هذا قد تحقق مع بيتهوفن: “حين يقول الفيلسوف [يعني شوبنهور]: إنها إرادة واحدة، تلك التي تظمأ إلى موجود-هناك Dasein في الطبيعة الحية، وغير الحية، فإن الموسيقار يُضيف: وهذه الإرادة على كل المستويات تريد موجودًا-هناك ذا موسيقَى. لقد انحصرت الموسيقى قبل فاجنر في حدود ضيقة؛ لقد نذرت نفسَها إلى ما هو دائم في الإنسان، لما أسماه اليونان بالإيتوس Ethos [الأخلاق]، وبدأتْ منذ بيتهوفن في العثور على لغة الباثوس Pathos [العواطف]، لغة الإرادة العاطفية، لغة المصائر الدرامية في أعماق الإنسان.” Nietzsche, Friedrich, Unzeitgemässe Betrachtungen, 4. Stück: Richard Wagner in Bayreuth, 2. Auflage, Verlag von Ernst Schmeitzner, 1876..
من المعروف أمر العلاقة المعقدة بين نيتشه وفاجنر، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث مراحل: مرحلة الإعجاب، ومرحلة النقد، ومرحلة الانعتاق النهائي See: George Burman Foster, “Nietzsche and Wagner”, The Sewanee Review , Jan., 1924, Vol. 32, No. 1 (Jan., 1924).؛ وأهم ما فيها أسباب نقده لفاجنر. لقد وجد نيتشه في أعمال فاجنر المتأخرة ما يضاد مناط إعجابه الأول به، فقد بدأ فاجنر في التوجه نحو العنصر الأبوللوني في بحث أبطاله عن الخلاص شبه-المسيحي، وفي الرمزية الخلقية الباطنة، وبالتالي تغلب في أعماله هذا العنصر على ديونيسيته الأولى، بالإضافة إلى ميول فاجنر القومية الاشتراكية المعادية للسامية المصدر السابق.. لم يكن نيتشه متسامحًا بدوره مع اليهود كما يعلم الدارسون، لكن ما رفضه في أيديولوجيا فاجنر كان اعتقاد الأخير في تصور محدد، أو شبه محدد، عن نهاية معينة للتاريخ، أو نوع من المدينة الفاضلة، وهو ما يعارض فلسفة نيتشه بوضوح في الأخلاق، والسياسة والفن. لا بد أن يتعارض الاعتقاد في مثل هذه النهاية، ومثل هذه المدينة، مع عقيدة إرادة القوة، التي هي عمياء في كل اتجاه، إلا اتجاه التفوق.
كما نرى فقد اعتقد نيتشه في ضرورة إطلاق العنصر الديونيسي في الفن، أي عنصر العاطفة والإرادة، على حساب العنصر الأبوللوني، عنصر العقل والتناظر والاتزان الشكلي. كما ربط ذلك بنوع من القومية الآرية، الممتدة من الإغريق حتى الألمان في القرن التاسع عشر. يمكن القول إن ديونيس هو العنصر العاطفي-القومي في الثقافة الغربية كما تتجلى في الفن، والموسيقى خاصةً. في المقابل كان أبوللو عنصر العقل والتمييز والوضوح. كذلك، رأينا أن سترافنسكي تحدث عن اضمحلال العنصر الأبوللوني عند السوفييت. فهل اضمحل أبوللو فعلًا بهذا المعنى في موسيقاهم؟
كانت موسيقى الواقعية الاشتراكية كما رأينا موضوعية، بمعنى ضرورة أن تنقل لنا موضوعًا معينًا. لهذا السبب كما قلنا تم وصم الخارجين عن خط الحزب الشيوعي بكونهم شكلانيين. في الواقع كان السوفييت هم أتباع أبوللو في الموسيقى، وكان الغرب من أتباع ديونيس. كما كان النقد، الذي وجهه سترافنسكي للموسيقيين السوفييت كونهم قد أهملوا أبوللو، في غير محله على الإطلاق. سببٌ في ذلك أن رياضيات الشكل في موسيقى السوفييت قد وصلت إلى قمة هائلة، وقد وصل حد التلاعب الشكلي عند شوستاكوفيتش، كما سنرى لاحقًا، إلى درجة عالية من التطور. السبب الآخر، والأهم، هو أن أبوللو يتجلى في عنصر الذهنية في الشكل، أي ضرورة حضور الوعي المنطقي-الرياضي أثناء بناء العمل، وفي تلقيه؛ وهو عنصر متحقق بوضوح في موسيقى السوفييت. يمكن إذًا القول إن موسيقى الغرب قد قامت في الحقيقة على العنصر الديونيسي إذا قارنّاها بالموسيقى السوفييتية. مع ذلك لا يمكن القول إن موسيقى السوفييت أساسًا شكلانية.
إن أغلب الإنتاج المحتفى به في الموسيقى في الاتحاد السوفييتي كان موضوعيًا، يعبر عن مثل سياسية عليا، مثل باليه سبارتاكوس، “بروليتاري العصور القديمة” كما أسماه ماركس، تأليف خاتشاتوريان، ومتتالية جادفلاي لشوستاكوفيتش، التي تحكي قصة كفاح الطليان ضد النمسا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأربعينياته، سيمفونيتا ليننجراد، وستالينجراد لشوستاكوفيتش، السيمفونية الخامسة لبروكوفييف المعبرة عن الحرب العالمية الثانية، وغيرها الكثير من الأعمال الموضوعية. نجد في أعمال السوفييت، وخاصة شوستاكوفيتش، توظيفًا للتيمات، أي الجمل الموسيقية المعبرة عن موضوع خارجي غير موسيقي، كتيمات إلميرا وشاسا وشوستاكوفيتش نفسه، وغيرها. استعمال التيمات على هذا النطاق الواسع هو الضد من حيث التعريف للموسيقى اللا موضوعية، التي هي ترجمة غير حرفية لمصطلح لا-تيمية.
لكي نعبر عن عقيدة سياسية معينة في عمل فني، لا بد لنا من حضور العقل، والتنظيم والبرمجة، لكي تكون تلك الأعمال ذات برنامج محدد؛ وهو عنصر عقلي-أبوللوني بامتياز. لقد نقد سترافنسكي السوفييت باعتباره إياهم كافرين بأبوللو، لأنه اعتقد أن أبوللو يتجسد في الشكل، لا المضمون. في الحقيقة فإنه لا أبوللو يتجسد في الشكل بهذا التعميم، ولا ديونيس يحل في المضمون عمومًا. بالأحرى يتجسد أبوللو في تطور الشكل، لا في مجرد الشكل، فإن تنظيم العمل وتنضيده وبرمجته، ليعبر عن مضمون واضح، يقتضي من الموسيقار الموضوعي جهدًا عقليًا أكبر مما يتطلبه الموسيقار الشكلاني، في حين أن إطلاق الشكل من قيود المضمون يحوّل العمل إلى شحنة عاطفية. اعتقد سترافنسكي أن أبوللو يتجسد في الشكل؛ لأن غياب المضمون قد يعني غياب العاطفة، لكن هذا غير صحيح في الموسيقى بالذات. حتى لو لم نعرف المضمون، أو لم يكن هناك مضمون، فمن السهل أن ننفعل بالعمل؛ ونظرًا لأن الشكل هو وسيلة التواصل الوحيدة مع الجمهور عند الشكلانيين، فكان لا مناص من تثبيت هذا الشكل عبر تراكم من الأعمال، لأن الشكل إذا تغير في كل عمل، أو في كل مجموعة من الأعمال، لفقد الجمهور صلته بالعمل، وكأننا نكتب شعرًا، تتغير فيه اللغة مع كل قصيدة.
لهذا اضطر الشكلانيون إلى المحافظة على الشكل، في حين أبدع فيه السوفييت. لا يتجلّى أبوللو في الشكل، بل يتجلى في إبداع الشكل، ولأن حضور كل من أبوللو وديونيس نسبي، بمعنى أنه يتم على حساب الآخر دومًا، فإن غياب أبوللو النسبي في شكل موسيقى الغرب يسمح بسيادة ديونيس. هذا بالإضافة إلى أن العاطفة / ديونيس مقرها الأساسي هو اللحن في الموسيقى، لا التركيب. أسرفت الموسيقى السوفييتية في التركيب كما هو معروف إلى حد تجنُّب اللحن نهائيًا في قائمة من الأعمال، أبرزها أعمال شوستاكوفيتش؛ والتركيب عنصر عقلي-رياضي أبوللوني بطبيعته.
رأينا كيف يعتبِر سترافنسكي اللحن أهم عناصر الموسيقى، لا التركيب. تصادمت الأطروحتان: الأبوللونية والديونيسية، فعلًا في حرب ساخنة، وصلت إلى قمتها مع حصار ستالينجراد، الذي يراه البعض أكثر المعارك دموية في التاريخ. حاصر ديونيس الفاشي الألماني مدينة أبوللو الاشتراكي السوفييتي. انتصر أبوللو في النهاية، وانتصر معه عنصر العقل في الموسيقى على عنصر العاطفة. لكن كيف يمكن النظر إلى تلك الحرب الباردة الموسيقية دون التعرض إلى تطور الأطروحة الماركسية خارج نطاق الاتحاد السوفييتي؟
كان تيودور فيزنجروند أدورنو (+١٩٦٩) أهم مفكر في سياق تطور الأطروحة الماركسية اللا-سوفييتية في الموسيقى، وهو أحد أشهر أعلام مدرسة اليسار الجديد، أو مدرسة فرانكفورت، كذلك. كانت لأدورنو فكرة أصيلة بصدد الموسيقى الحديثة، ومنها موسيقى شوستاكوفيتش، لا يمكن إغفالها في صراع أبوللو-ديونيس، أو الشكل والمضمون في موسيقى القرن العشرين.
في الواقع، حين نتطرق إلى فلسفة أدورنو في الموسيقى، نجد أنفسنا إزاء فلسفتين لا واحدة: إحداهما في التأويل الاجتماعي للظاهرة الموسيقية، والأخرى في المقاربة اللسانية لها. بعبارة أخرى يمكن تقسيم عمل أدورنو في فلسفة الموسيقى ككل إلى مبحثين: مبحث النقد الاجتماعي في سياق مدرسة فرانكفورت، والذي سنتعرض له في عمل أدورنو الشهير فلسفة الموسيقى الجديدة – ١٩٤٧، ومبحث العلاقة بين الموسيقى واللغة من خلال مقالته الموسيقى واللغة وعلاقتهما بالتأليف – ١٩٥٦.
برغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من انفصال بين المبحثين، فإن الأساس العميق لهما واحد، هو مدى الطاقة التعبيرية للموسيقى، ومدى فاعلية الشكل فيها. لو فرضنا أن للموسيقى قدرة تعبيرية كاللغة تمامًا، فإنه قد ينطبق عليها ما ينطبق على الأدب من آليات النقد الاجتماعي، والتأويل المادي-التاريخي لظواهر الوعي. في هذه الحالة يمكن أن تكون الموسيقى قمعية، أو تحررية طبقًا لما تحمله من مضامين. لكن الأمر بطبيعة الحال ليس بهذه البساطة عند أدورنو كما سنرى. لكن المهم عند هذا الحد أن نعي العلاقة بين مبحث الموسيقى كلغة، ومبحث التأويل الاجتماعي للموسيقى.
قد أوضحنا فيما سبق كيف تطورت العلاقة بين الموسيقى واللغة، وكيف مثّل مطلع القرن التاسع عشر تأسيسًا قويًا ونوعيًا لهذه العلاقة، وذلك باتجاه الموسيقيين بدءًا من بيتهوفن إلى التعبير عن تصورات نظرية من خلال أعمالهم. هكذا صار للموسيقى قدْرٌ من مَهمة اللغة في التعبير. يعتقد أدورنو أن هناك تشابهات بالفعل بين الموسيقى واللغة من جهة بناء الجملة والعلامة، والقابلية للفهم والتأويل، بيد أنه هناك اختلافات عميقة كذلك. يلخص أدورنو هذه الاختلافات في عبارة واحدة بأننا كي نفسر اللغة علينا أن نفهمها، أما لكي نفسر الموسيقى فعلينا أن نؤديها Adorno, Theodor W., Musik, Sprache und ihr Verhältnis im Komponieren, Gesammelte Schriften, Band 16 (Musikalische Schriften I-III, Hrsg. Rolf Tiedemann, Suhrkamp, Frankfurt am Main, 1978, S. 651.. يشرح أدورنو هذه العبارة إلى حد أكبر: فالمدونة الموسيقية من وجهة نظره ليست موضوعًا للفهم، بل موضوعًا للمحاكاة، فهي تعليمات للعازف، أو طريقة لإنتاج العمل الموسيقيّ Adorno, Theodor W., Musik, Sprache und ihr Verhältnis im Komponieren..
حين نبحث عن علاقة قوية بين اللغة من جهة، والموسيقى من جهة أخرى، فإن أهم نقاط التشابه هي المدونة الموسيقية، التي ترمز إلى ما نسمعه بعلامات معينة، هي أقرب إلى الحروف، وتتمتع بجملة معينة، فيها تركيب نحوي، أو شبه نحوي، ولها دلالة في الواقع. لكنْ يظل هناك فرق أساسي بين النص الأدبي مثلًا، وبين نص المدونة الموسيقية، هو أن نص المدونة ليس الموسيقى، ولا يغني عنها، بل هو خوارزمية من نوع ما، خطوات ممنهجة لإنجاز مهمة، هي إنتاج العمل الموسيقي بحيث يصير مسموعًا، ذلك في حين يستقل النص الأدبي، إذا لم يكن مسرحية أو سيناريو، بالتعبير دون الأداء.
لهذا يعتقد أدورنو أن هذا الوجه من الشبه بين اللغة والموسيقى، أي المدونة الموسيقية، وما تشتمل عليه من حروف وجمَل وتركيب نحوي، مجرد تشابه عرضي. ما التشابه الجوهري إذًا؟ يعتقد أدورنو أن اللغة تعني ما تقول بواسطة، هي التصورات المتعينة، أما الموسيقى فتقول ما تريد مباشرة بلا وسائط. يعني هنا أن موضوع الموسيقى الخالصة هو الموسيقى نفسها، حتى لو كان العمل الموسيقي مجردًا من أي علاقة له بتصور أو مفهوم محددين. إن عملًا كالسيمفونية رقم ٣٩ لموتسارت مثلًا لا ينقل لنا تصورًا معينًا، ومع ذلك فعند أدورنو حتى عدم التعبير تعبيرٌ في حد ذاته. لهذا يقول أدورنو مقولته المنطوية على مفارقة أدبية: إن التشابه بين الموسيقى واللغة يتحقق بدرجة أكبر كلما ابتعدت الموسيقى عن اللغة. يعني أن الاعتقاد المسبق في وجود موضوع للعمل الموسيقي الخالص، السيمفونية رقم ٣٩ لموتسارت كي يستمر معنا المثل، هو الذي يعجزنا عن فهم الوظيفة التعبيرية الحقيقية للموسيقى. إن الوظيفة التعبيرية للموسيقى لا يحققها المضمون عند أدورنو، بل الشكل. هذه في الواقع حلقة الصلة بين المبحثين سابقي الذكر عند أدورنو: المبحث التاريخي-الاجتماعي، ومبحث اللغة. المصدر السابق.
إن تمحور التعبير الموسيقي حول الشكل هو الذي أدى – في رأي أدورنو – إلى كون الموسيقى، وخاصة الموسيقى اللا مقامية في القرن العشرين (كموسيقى السوفييت خصوصًا)، لأن تصبح آخر شكل من أشكال مقاومة الفن لقيم الاستهلاك في المجتمع الرأسمالي المتأخر Puolakka, Kalle ,”Adorno’s Philosophy of New Music: A Thing of the Past?” Journal of Aesthetics and Phenomenology, 5 (1): 2018.. يحاول أدورنو رصد العلاقة بين أنواع الموسيقى المختلفة، وقيم الرأسمالية المتأخرة، ويعتقد أن كون الموسيقى اللا مقامية المعاصرة “غير مفهومة” هو في حد ذاته تعبير سلبي بالنفي. إن موسيقى شونبرج، التي يعقد حولها أدورنو أحد فصليه في كتابه فلسفة الموسيقى الجديدة – الفصل الآخر حول سترافنسكي – ليس بالإمكان أن نفهمها في سياق ما نعنيه عادة بكلمة فهم في سياق الموسيقى. هي أولًا لا تعبر عن تصورات معينة، وهي ثانيًا لا تتمتع بخطة لحنية يمكن تتبعها. هذا هو ما يطلق عليه أدورنو الموسيقى الراديكالية: “على نحو لا يختلف عن هذا تتفاعل الموسيقى الراديكالية في أصولها ضد الانحطاط التجاري [الذي يمارسه] المفهومُ السائد. لقد كانت [تلك الموسيقى] الأطروحةَ المضادةَ لبلورةِ صناعةِ الثقافةِ من خلال مجالها هي.” Adorno, Theodor, Philosophie der neuen Musik, Gesammelte Schriften, Band 12, Suhrkamp, Frankfurt am Main, 1975, S. 10. ’Nicht anders reagierte die radikale Musik in ihren Ursprüngen gegen die kommerzielle Depravierung des überkommenen Idioms. Sie war die Antithese gegen die Ausbreitung der Kulturindustrie über ihr Bereich.’ هذه الموسيقى في رأي أدورنو كانت لها طاقة تعبيرية مختلفة، هي كونها نفيًا لوجود المجتمع ذاته: “إن [الموسيقى] طبقًا للشروط المعاصرة يجري التعامل معها باعتبارها نفيًا محدَّدًا.” Ebd., S. 22. ’Sie ist unter den gegenwärtigen Bedingungen zur bestimmten Negation verhalten’ يعني هنا أن حرص الموسيقار غير الراديكالي على إنتاج موسيقى مفهومة، بالمعنى السابق للكلمة، يعني تواصله مع مجتمعه من المستمعين والنقاد، أما عدم حرصه على التواصل، أو ربما حرصه على الانقطاع، فهو يعني إنكاره لأسس قيام ذلك المجتمع، أو – على الأقل – للقيم السائدة فيه في التعامل التسليعي مع الفن.
يلاحظ بعض الباحثين بحق كيف أن مفهوم أدورنو عن وظيفة الموسيقى اللا مقامية المعاصرة يخالف مفهوم أحد أهم مؤلفيها عنها، أي أرنولد شونبرج، الذي كان يرى ببساطة أن الذوق الموسيقي سيتطور في المستقبل للتواصل الخلاق مع موسيقاه، بمعنى أنه لم يقصد ذلك الانقطاع سابق الذكر في رأي أدورنو، ولم يعتقد فيه Puolakka, Kalle ,”Adorno’s Philosophy of New Music: A Thing of the Past?”..
يعتقد أدورنو أن الطبيعة اللا مفهومية، اللا تمثيلية، في الموسيقى الخالصة عمومًا هي التي دافعت عن تلك الموسيقى في مواجهة ثقافة الاستهلاك Adorno, Theodor, Philosophie der neuen Musik, ebd.. لكنه كان دفاعًا سلبيًا، بمعنى أن تلك الطبيعة سابقة الذكر للموسيقى الخالصة قد عزلتْها في قوقعة خاصة، بحيث صارت بمأمن من الانتفاع الرأسمالي، بخلاف الأدب مثلًا. مع ذلك نجح المجتمع الرأسمالي المعاصر في تسليع الموسيقى الخالصة جزئيًا، وذلك بعد ظهور الراديو والسينما المصدر السابق.. مثلت السينما بشكل عام حلقة مختلفة اختلافًا نوعيًا في التعاطي مع الموسيقى اللا موضوعية، حين جعلتها موسيقى مصاحِبةً للمشهد والقصة. هكذا صارت حتى ألحان سيمفونية غير موضوعية، مثل سيمفونية موتسارت رقم ٣٩، موضوعًا صالحًا للاستهلاك. لكن الموسيقى اللا مقامية ظلت عصية على ذلك الترويض الرأسمالي، إن جاز التعبير، فهي غير جميلة، وغير لحنية، وتعنَى بالتنافر عناية كبيرة، وبالتالي لا تصلح إلا نادرًا لتكون مصاحبة لمشهد أو قصة.
إذا كانت موسيقى موتسارت في أعماله اللا موضوعية لا تنقل مشاعر محددة، أو تصورات معينة، شأنها في ذلك شأن كل الموسيقى الخالصة اللا موضوعية، فقد كانت على الأقل تنقل مشاعر مبهمة، كالفرح والقوة بالمقام الكبير، والحزن والهشاشة بالمقام الصغير. أما الموسيقى اللا مقامية – في اعتقاد أدورنو – فقد ضحّت بآخر إمكانات التعبير عن المشاعر، حتى المبهمة منها، وصارت تعبِّر كما قلنا بالنفي والرفض. بعبارة أخرى: صارت تعبر بعدم التعبير.
برغم هذا فقد لجأت ثقافة الاستهلاك في رأي أدورنو إلى حيلة مختلفة للتعامل مع الموسيقى اللا مقامية، إذ حوّلت المتلقي بشكل عام إلى جمهور سلبي غير متمايِز، ورفعت من شأن القيم اللا فنية، واللا جمالية، أي التي لا تتعلق بقيم الفن أو الجمال نفسه، بحيث صار المتلقي يفتخر أحيانًا بكونه يستمع إلى شونبرج أو شوستاكوفيتش في الحفلات، ليس لقيمة فنية أو جمالية، بل ليقول بشكل غير مباشر إنه يستطيع دفع ثمن التذاكر، أو إنه مثقف فوق العادة المصدر السابق.. من هنا ربما كان الدافع لأدورنو ليكتب دراستيه عن شونبرج وسترافنسكي، وليوضح الطاقة الفريدة من وجهة نظره في الموسيقى اللا مقامية باعتبارها ثورة ثقافية، ليصحح مسار التلقي، وينجو به من حبائل ثقافة الاستهلاك السلبي.
يعتقد أدورنو بشكل عام أن الموسيقى اللا مقامية اللا موضوعية لا تكشف عن مضمون معين، بل تكشف بالأحرى عن “حيادية الروح”، وتكشف عن تغلغل الآلة بما هي آلة في الطبيعة الإنسانية، أو في تصورنا عنها Cf. Adorno, Theodor W., Beethoven. The Philosophy of Music.. كما نرى في أعمال شوستاكوفيتش خصوصًا، فإن الآلة هي صاحبة المبادرة، وذلك من خلال عزف المقام الاثناعشري (الكروماتيكي)، الذي لا يلتزم بنظام مقامي سابق التجهيز مفروض على الآلة، بل يلتزم بترتيب النغمات على الآلة نفسها (كترتيب مفاتيح البيانو الأفقي مثلًا). هكذا، حين نحاول تصور الطبيعة الإنسانية من خلال موسيقى شوستاكوفيتش، نتخيلها كسايْبُورْج تركيب مزجي مستعمَل من cybernetic وorganism، ويعني كائنًا يجمع جسمانيًا صفاتِ الكائن الحي العضوي، والآلة الميتة.. نتخيلها كطبيعة تجمع بين الحيّ والميت، بين المؤلف الحي، والآلة الميتة. في الواقع يستنبط أدورنو هذه الفكرة بشكل ما من موسيقى بيتهوفن، لكننا كما رأينا نجدها بدرجة أوضح في الموسيقى الكروماتيكية في القرن العشرين، هذا وإنْ كان بيتهوفن استعمَل بالفعل جزءًا من المقام الكروماتيكي في بعض مؤلفاته، كما نسمع في ختام الحركة الأولى من سيمفونيته التاسعة (استعماله للأرباع الكروماتيكية كخلفية وَتَرية وراء الهوائيات الخشبية).
على أية حال يمكن القول إن الموسيقى عند أدورنو نظام لغوي، لكنْ ليس على نحو ما قاله الفارابي في العصر الوسيط، وكما رأينا في مقالة الرسالة | فلسفة الموسيقى العربية، بل على نحو مختلف جذريًا، هو التعبير بعدم التعبير، والكلام بالصمت. إذا كانت الموسيقى في نظر الفارابي نظامًا لغويًا إيجابيًا كالشعر كما رأينا سابقًا، أو نظامًا معلوماتيًا يضيف لنا “معلومات” عند كيفي وماير، كما رأينا أيضًا، فهي نظام لغوي سلبي عند أدورنو. إن الموسيقى في سياق هذه النظرة أقرب إلى نظام لغوي غير دالّ، لكن لا-دلالته هي عين دلالته الخاصة، ولهذا يمكن القول كذلك إنه نظام لغوي “سالب”، بمعنى نفيه للعقل المقابل، ولمجتمعه، ولثقافته السائدة.
في مقالة ما وراء الموسيقى | المشروع التأليفي لشوستاكوفيتش، قلنا ما هو أكثر تفصيلًا مما يمكن ضمه إلى المقام الحالي. لكن ما يهمنا فيه في سياق أدورنو خمس خصائص: أولًا اللا مقامية، فقد وظَف شوستاكوفيتش بشكل أساسي المقام الكروماتيكي، ليعبر عن ذلك النشاز الموظف موسيقيًا، الذي يعكس التناقض في الإنسان المعاصر. ثانيًا الميكانيكية، أو الآلية: حيث يستعمل شوستاكوفيتش الأوركسترا متلاعبًا بالإيقاع وطابع الصوت، ليوحي بصوت منتظم أقرب إلى أصوات الآلات الميكانيكية. من أقرب الأمثلة على ذلك الحركة الثالثة من كونشرتو التشيلّو الأول له. ثالثًا صيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة: إن أغلب صيغ الصوناتا عند شوستاكوفيتش معكوسة بمعنى أن إعادة العرض هي المعكوس الزمني للعرض، بحيث ترد الجمل اللحنية، والإنماءات، في ترتيب عكسي لورودها الأول. كما أنها كذلك مقلوبة من حيث التوزيع، بمعنى تبادل مواقع الآلات فيما بينها في عزف الجزء نفسه، فمثلًا إذا عزفت الوتريات الجزء (أ) في الوقت نفسه الذي تعزف فيه النحاسيات الجزء (ب) في قسم العرض، فإن علينا أن نتوقع أن هذا النظام سينعكس في إعادة العرض، فتعزف النحاسيات (أ) والوتريات (ب). رابعًا حافة الضوضاء: يتميز شوستاكوفيتش بنمط إنماءات يوحي بانحلال نظام الجمل الموسيقية إلى فوضى تامة، ومع ذلك يبقى لدينا تصور عن النظام الباطني خلف هذه الضوضاء. هذا ما يمكن التعبير عنه بأن موسيقاه تقف على الحافة بين الضوضاء والموسيقى. خامسًا توظيف التيمات بدلًا من الجمل اللحنية الكاملة: تعتمد موسيقى شوستاكوفيتش بدرجة كبيرة على الصراع والتداخل، بين تيمات ترمز كل منها إلى شخص، أو حدث، واقعي، مثل إلميرا وشاسا وتيمة شوستاكوفيتش. كما اشتق شوستاكوفتش بعض تيماته من أعمال موسيقيين آخرين، ربما للإشارة إلى أعمالهم أو إلى شخوصهم، مثل روسيني ومالر وفاجنر ورحمانينوف وجلينكا وغيرهم.
كما يمكن للقارئ استنتاجه: وافقت موسيقى شوستاكوفيتش هدف التوظيف الاستهلاكي الرأسمالي عند أدورنو من جانبين: أولًا كانت تستعمل آليات التعبير، التي تقاوم بطبيعتها الاستهلاك، لأنها أصعب في التلقي: المقام الكروماتيكي، حافة الضوضاء، وصيغة الصوناتا المقلوبة والمعكوسة. ثانيًا: أصرت كذلك موسيقاه على أن تظل مضمونية، وذلك عن طريق خاصيتَي الميكانيكية، وتوظيف التيمات. إن ميكانيكية موسيقى شوستاكوفيتش في حد ذاتها تحمل مضمونها في ذاتها، وتشير إلى تغلغل الآلة في طبيعة الإنسان، وقدرتها على تدميره، وهو ما شهده الموسيقار إبان الحرب ضد النازية. أما التيمات فهي مضامين أدبية صريحة في العمل الموسيقي، وهي أكبر درجة من التعيين المضموني تملكها موسيقى الآلات. عن طريق تلك العناصر المضمونية أصبحت موسيقى شوستاكوفيتش قادرة على مقاومة الاستهلاك الرأسمالي بشكل إيجابي كذلك، فقد كانت أغلب مضامين أعماله متوافقة مع الواقعية الاشتراكية بشكل أو بآخر.
بهذا نرى أن شوستاكوفيتش قد وافق نظرية أدرونو في دور الموسيقى المعاصرة من جهتَى التعبير السلبي الشكلي (مقاومة الاستهلاك)، والتعبير الإيجابي المضموني (الواقعية الاشتراكية). نجد بعض هذه الخصائص بلا شكّ في موسيقى سترافنسكي: مثل استعمال المقام الكروماتيكي، والاستغناء أحيانًا عن اللحن؛ وهي المقاومة السلبية الشكلية التي قصدها أدورنو. مع ذلك لا نجد المقاومة الإيجابية المضمونية في سترافنسكي. يمكن القول إذًا إنه بينما مثلت موسيقى سترافنسكي، آخر الروس العظام، لغةً سالبة، بالمعنى المقصود لدى أدورنو، فقد مثلت موسيقى شوستاكوفيتش لغةً سالبةً، وموجِبةً: سالبة من حيث الشكل، وموجِبة من حيث المضمون.
هل يمكن القول إذًا: إذا كان شوستاكوفيتش المعبر الحقيقي عما هو سوفييتي في الموسيقى، فهل سترافنسكي هو المعبر الأول في عصره عما هو روسي فيها؟ إلى حد كبير نعم. لقد تآكل مشروع الموسيقى الروسية القيصرية بقيادة الخمسة الروس العظام تقريبًا مع وفاة كورساكوف وموسورسْكي، تدريجيًا، واشتهرت أعمال تشايكوفسكي المتغرِّبة، غير السلافية، إلى حد أنه أصبح أشهر موسيقار روسي قبل الثورة، وأعلى معدَّل تمددٍ للموسيقى الروسية-القيصرية فيما بعد الثورة، وعزفت أعماله بسهولة في الغرب، وجرى تذوقها في عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى. بعد أن قامت ثورة ١٩٠٥ ثم ثورة ١٩١٧ انتهى إكلينيكيًا مشروع الموسيقى الروسية، فقد تلاشت ساحة اللعب، وتبدلت كليةً. لكن الذين هاجروا كانت لهم وجهة نظر أخرى: هي الحفاظ على التقاليد الروسية، وعلى الخيط الممتد من الموسيقى الروسية في المهجر. هذا ما فعله سترافنسكي. كان أهم ما في الموسيقى الروسية، ونقطة تميزها عن الموسيقى الألمانية هو اللحن. لقد اشتهر الطليان كذلك بألحانهم في الأوبرا، لكن الروس اشتهروا باللحن في السيمفونية والباليه. هذا ما جعل لهم وزنًا في مقابل الألمان من هذه الزاوية، بسبب ضعف ألحان الألمان النسبي، وعدم تركيزهم عليها منذ عصر بيتهوفن تدريجيًا، الذي كان مُساوِقًا للثورة الفرنسية، وللحروب النابليونية. ربما كان الوحيد من أعلام الموسيقى الألمانية، الذي مثل منافسة حقيقية للروس في مجال اللحن في الأعمال السيمفونية هو موتسارت. من هنا أهميته في الحقيقة. لكنها أهمية جرى تجاوزها جذريًا، تقريبًا، على يد تنينٍ موسيقِيٍّ، هو بيتهوفن.
لكن الحال قد تغيرت تمامًا في روسيا بعد الثورة. انتهت الرومانسية المتأخرة فيها بثورة شيوعية، وبدأت الواقعية الاشتراكية، يقودها مفوض ستالين في الشؤون الثقافية أندري جدانوف بسلطة هائلة. كان الهدف من السياسة الموسيقية على المستوى الإبداعي والنقدي خلق موسيقى جديدة تليق بجدة العهد بعد الثورة، وتعبر في الوقت نفسه عن مضامين، ومضامين جديدة. كان شوستاكوفيتش الشخص المناسب في التاريخ المناسب، فقد كان ميالًا بطبيعته إلى التجديد، إلى حد أقلق منه السلطات، وكان نافرًا من التقليد، واستعمل الأوركسترا الجديدة المتأثرة ببروكوفييف ومالر، وعبر عن موضوعات بطولية ووطنية وثورية، دون الافتقار إلى الأصالة، أو مجرد تطبيق سياسة الحزب. لذلك يمكن القول إن شوستاكوفيتش هو الممثل الأساسي لما هو سوفييتي، كما صار سترافنسكي آخر بقايا العهد القيصري القديم في الموسيقى.
في الواقع يمثل سترافنسكي مرحلة تحَلُّلٍ مأساوي في جسد الموسيقى الروسية الصميمة المنحدر إليه، من بورودين وكورساكوف وجلينكا وبالاكيريف. يمثل سترافنسكي تراجعًا عن كل القيم الشكلية الروسية التقليدية، بل والمأمولة، ويستعيد في آخر عهده الكلاسيكية الجديدة، الذي هو أهم أعلامِها، والتي تقضي باللا موضوعية شبه الكاملة، وصرامة الشكل وسيادته على المضمون، حتى صار هدفًا لذاته، وصار أبوللو أكثر ثباتًا في أغلب الحالات، فلم يعد يتغير في الشكل، ومن هنا صار ديونيس هو الأقوى في الحقيقة في الكلاسيكية الجديدة على غير ما أراد لها أصحابها. إن أبوللو – بحسب نيتشه صاحب الفكرة – هو إله التغير الشكلي لمبدأ الفردية، أما ديونيس فهو مبدأ الثبات. فلما اقْتَضَتْ قوةُ أبوللو – في موسيقى سترافنسكي – ثباتَه، صار وجودُه متناقِضًا في ذاته، أو غير موجود. على النقيض كان شوستاكوفيتش تطويرًا سريعًا لمالر وبروكوفييف، والموسيقى السوفييتية الكلاسيكية، إلى مدى بعيد، مارسَ أثرَه هو الآخر على الموسيقى العالمية، واستطاع في فترة التحالف الأبيض-الأحمر إبان الحرب ضد هتلر أنْ يغزو أرض الغرب، وأن تعزَف سيمفونياته الوطنية هناك إلى حين. لا بد من أن شوستاكوفيتش كان ظاهرة متفردة، رغم كونه في الحقيقة حلقة في سلسلة، تبدأ من مياسْكوفْسكي ومالر إلى بروكوفييف، إلى الجيل الثالث كشوستاكوفيتش، وخاتشاتوريان. مع ذلك فقد طمس نوره على ضوء كل تلك النجوم.
ماذا تعني الموسيقى البليغة إذًا في رأي سترافنسكي، صاحب هذا التعبير: بلاغة الموسيقى؟ كما رأينا، وكما يمكن تطوير أطروحة سترافنسكي في الزمان الموسيقيّ في ضوء أطروحات أدورنو في اللغة الموسيقية، فإن بلاغة الموسيقى هي قدرتها على التعبير بمجرد الشكل، الذي يحقق التلاعب بالزمان. هذا التعبير، لأنه ليس محددًا، هو نفي لكل تعبير إيجابي، لغة سالبة. تتحدد ماهية الموسيقى ككل عند سترافنسكي في كونها لعبة أولًا وأخيرًا، وأن الفن ككل لعبة أولًا وأخيرًا. هي لعبة متفردة، فهي لعبة بالزمان نفسه، وهي خاصة الموسيقى المطلقة، أو ما عبر عنه سترافنسكي بالكرونونوميا.
أما الموسيقى عند شوستاكوفيتش فهي أولًا ليست لعبة على الإطلاق. إنها أرض معركة، وسلاح في معركة أكبر، معركة واقعية فيها الدم، والموت والحصار والمعاناة. في هذه المعركة تملك الموسيقى سلاحَي الشكل والمضمون. يجب أن يكون هذا الشكل متطورًا، ومختلفًا عما كان معهودًا في الموسيقى الروسية القيصرية، وما هو متعارف عليه لصيغة الصوناتا في كل تاريخها في الغرب. حقق شوستاكوفيتش عمليًا هذا التطوير في صيغة مميزة له هي الصوناتا المقلوبة والمعكوسة. أما المضمون فكان عنصرًا أساسيًا في موسيقاه، لا يمكن فهمها دون إحالة إليه. يجب على هذا المضمون أن يكون واقعيًا من جهة، وأن يكون نقديًا من جهة أخرى. بالفعل عبرت موسيقاه عن فحوى السياسة الموسيقية السوفييتية الرسمية، لكنها كذلك لم تتحدد بها، فنقد الواقع لا يمكن أن يتوقف عند الواقع النقدي. بعبارة أخرى: إذا كانت للفن رسالة معينة هي نقد الواقع، فلا يمكن أن يتوقف ذلك النقد عند حدود السياسة الموسيقية الرسمية، بل أن يتخطاها، وينقدها هي نفسها. كانت أعمال شوستاكوفيتش كما رأينا – محل جدل دائم في ظل هذه السياسة. لقد عبرت موسيقاه جزئيًا عنها بالتأكيد، لكنها ظلت موسيقى متمردة، لكي تظل على الدوام جديدة. هذا هو تحديدًا الضد مما قصد إليه سترافنسكي. هذه هي ركاكة الموسيقى.
ركاكة الموسيقى في نظر الغرب، في سياق أعم من سترافنسكي لكنه ينتهي ببلورته النهائية لدور الشكل، هي تعبيرها عن مضامين، تجعلها موسيقى غير موسيقية إن جاز التعبير. إنها تلك الموسيقى التي تستعين بموضوعات خارجية للتعبير عن أفكار أدبية، كالشعر والبرنامج والمشهد والتيمات. إنها موسيقى غير أبوللونية باصطلاح سترافنسكي ونيتشه، لكن هذا لم يكن صحيحًا. كانت موسيقى السوفييت تطويرًا دائمًا في الشكل، وبالتالي كانت أكثر أبوللونية من موسيقى الغرب، إذا فهمنا أبوللون بما هو حركة الشكل كما وصفه نيتشه نفسه.
لكن هل يمكن وصف الموسيقى السوفييتية بأنها ركيكة عمومًا؟ تعني الركاكة عدم الاقتدار على التعبير، وقد عبرت موسيقى شوستاكوفيتش عن حالة الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، عبرت عن تفكك الإنسان، واضمحلال مفهومه وتغير ماهيته، وسيادة الآلة في عالمه. عبرت عن كل ذلك بموسيقى لا مقامية أولًا، وبتيمات واقعية ثانيًا، وبشكل هو على حافة التفكك دائمًا ثالثًا، وبطابع ميكانيكي مقبِض رابعًا. إذا كان الشكل وحده قادرًا على التعبير، ولو بلغة سالبة، فإن التطور في الشكل أقدر على التعبير بدءًا. قدم شوستاكوفيتش تطويرًا مهمًا لصيغة الصوناتا، الصيغة الرئيسة في موسيقى الآلات عند سترافنسكي. هذا التطوير الأخير تحديدًا هو ما نعتبره هنا تخطيًا حقيقيًا لنظرية سترافنسكي في ماهية الموسيقى، كونها تلاعبًا بالزمان. إننا نستطيع في موسيقى شوستاكوفيتش اختبار الزمان معكوسًا في صيغة الصوناتا المعكوسة، كما نختبر انقلاب أدواره وأحداثه في صيغتها المقلوبة؛ وهو بُعد جديد للزمان، لم يطرحه سترافنسكي. مع ذلك لم يكن كل ذلك مجرد “تلاعب” عند شوستاكوفيتش، بل هو يعكس أصالة الموقف الإبداعي من حيث الشكل البحت، ويعكس الانقلاب العام في حياة الإنسان، وارتداد التاريخ على أعقابه من حيث المضمون.
برغم ارتباط موسيقى شوستاكوفيتش بأحداث تاريخية، وبأشخاص تاريخيين، فإن هذا لم يقلل من فرصة انتشارها واستمرارها، فستظل تلك الأحداث، وأولئك الأشخاص على درجة كبيرة من التأثير في التاريخ لفترة طويلة. كما حقق نقد البرافدا لها استقلالًا في نسيج الموسيقى السوفييتية المتنوع على أية حال. كذلك أكسبها التجديد الشكلي، وتنوع المضامين وابتكار الجمل اللحنية، جدارةً متجددة بالاستماع، لا تشيخ بامتداد التاريخ.
انتهت حرب الموسيقى الباردة بتحلل الأشكال الكلاسيكية عمومًا بعد وفاة كل من سترافنسكي وشوستاكوفيتش في السبعينيات؛ ومنذ السبعينيات حتى اليوم لا يمكن القول بوجود عصر نهضة في موسيقى الآلات في روسيا أو الغرب. ما نلاحظه هو التهام السينما شبه الكامل لأغلب الإنتاج الموسيقي الغربي، وتحول ملحني الأوبرا الطليان إلى مجال السينما مثل إنيو موريكوني ومايكل جياكّينو وداريو ماريانيللي، وانتشار حركات موسيقية-اجتماعية، لا يمكن فهم إنتاجها السمعي إلا بالإحالة إلى وضعها الاجتماعي: مثل الروك والجاز والراب. برغم أن الموسيقى الكلاسيكية نفسها قد انتهت إكلينيكيًا، فقد يمكن القول بأن الموسيقى الحمراء هي التي انتصرت في النهاية في شكل تلك الحركات الأخيرة في كل العالم تقريبًا: موسيقى المضمون، والتعبير عن الواقع، حتى وإنْ تبدل هذا الواقع. انتهت ربما الموسيقى الكلاسيكية بمعنى ما، لكن حربًا باردة موسيقية جديدة تدور حاليًا.