.
لعلّ الموسيقى تتطابق، من ناحية حسّية على الأقل، مع الأساطير، نظراً للطابع الفنطازي الشعبي عادةً الذي ترويه هذه الشعوب، جيلاً بعد آخر. فموسيقى ريتشارد فاغنر مثلاً قائمة على الأساطير الجرمانية. ونلمس هذا التناص لدى مؤلفين موسيقيين كبار مثل موتسرات وفيردي وريمسكي كوساكوف كذلك. لكنّني لا أتمتع للأسف الشديد بثقافة موسيقية تتيح لي معرفة الفوارق الفنيّة والتقنية بين هؤلاء الموسيقيين ومؤلفاتهم. لكّن هناك شيئاً جامعاً بين أولئك الفنّانين كلّهم وهو الطابع الهارموني لموسيقاهم، والذي يخاطب الحواس على نحو شديد الكثافة والحسّاسية. فالموسيقى هي في نهاية المطاف المعادل الموضوعي للروح، وعندما تتجلى الروح تجد صيغتها التجريدية في الموسيقى. ولذلك نجد حتى البهائم تفهم الموسيقى الكلاسيكية وتتفاعل معها، فنرى الأبقار تدرّحليباً أكثر وبسخاء تام عندما تسمع موسيقى بيتهوفن أو غوستاف مالر، وكذلك تساعد هذه الموسيقى على نمو النباتات؛ بل إنّ الأغنام، والمواشي عموماً، تستجيب إلى ناي الراعي أكثر من استجابتها إلى كلابه. وربّما أبالغ قليلاً إذا قلت هنا إنّني كائن موسيقى بالفطرة. وأوّد أن أشير في هذا السياق إلى أمر شديد الخصوصية: فقد كنت أسمع في طفولتي وصباي غناء الريف العراقي، لأنّني ولدت في جنوب العراق وأعرف لهجة الجنوب المحليّة وقد وظفتها في كتاباتي أيضاً. وكنت أفضّل أغاني داخل حسن وجواد وادي وحضيري أبو عزيز وصديقة الملاّية ومسعود العمارلتي على المقامات العراقية الشهيرة.
أضحت الموسيقى فعلاً جزءاً لا يتجزأ من حياتي ولم أكتب جملة واحدة دون الاستماع إلى الموسيقى. وكنت شديد الاهتمام باللهجة المحلية وأساطير منطقة الأهوار وغناء سكّانها. وكتبت ذات مرّة عن تجربتي مع اللغة وإيقاعها والغناء العراقي الجنوبي: إذا ما عدت بتفكيري إلى طفولتي وصباي فإنني لا أتذكر ما يثبت بأنّ أمّي هي التي علمتني بالدرجة الأولى مبادئ اللغة العربية، ثم ّإنني أصبحت فيما بعد متأكداً من أنّنا لم نكن نتحدث كثيراً في الدار، إنما كان الصمت والإيماء اللغتين السائدتين آنذاك. ولم تهبني الذاكرة الآن سوى أجزاء مبعثرة من الأساطير التي جادت بها قريحة جدتي بعدما اكتشفت الصوت أصلاً بعد رحيل جدّي، زوجها. فكانت تحدثنا عن أهل الأهوار في جنوب العراق حيث ولدت، فتروي لنا قصصاً عن كائنات خرافية تسكن تلك المسطّحات المائية وتختبئ بين القصب والبرديّ. وكانت هذه المخلوقات التي تعرف بـ الطناطل تتخذ أشكالاً بشرية، فتقرع أبواب المنازل وتطلب غرضاً ما، إلا أنها سرعان ما تأسّر لبّ من أراد أن يقدم لها المساعدة، وتخطفه ثمّ تعبث به في مياه الأهوار التي تمتد عشرات الكيلومترات وتمتطيه وتستأنس به زمناً قبل أن تخفيه إلى الأبد. وكانت هذه القصص تروى عادةً من قبل الرجال وتحمل صفات رواتها، كلّ على سجيته، وتكون ملئية بالإيماءات والأصوات الحلقية المخيفة، فكان هذا هو مسرح طفولتي. وكانت النساء يجلسن ويصغين خلسةً بقلق وتوتر متمنيات أن لا يقعن ذات يوم ضحية لهذه الطناطل العملاقة الخالية من الرحمة؛ ولم يطرحن أسئلة ولا يحركن رؤوسهم إعجاباً أو دهشة، بل يلوذنّ بالصمت، لأنّ المرأة “الثرثارة” تجلب “النحس” على أهلها وفقاً للعرف الاجتماعي المعمول به في ذلك الزمن، وربّما اليوم أيضاً. ولم أشهد أن حدثتني أمّي ذات يوم في طفولتي عن أمر يثير الاهتمام وإذا ما تحدثت لي ذات مرّة فإنها تكتفي بما تيسر لها من الكلام الذي يسير على نهج وأنموذج لا يتغيران قطّ. وغالباً ما كان كلامها يحمل عبارات الشكوى والعتاب المقتضبة، ولم أسمع منها عبارات مسلية ومفرحة، لأنها كانت تفكّر في أن هذا النوع من الكلام قد يفسدني ويفتّ من عضدي. وكلّ ما تعلّمته منها كان يتعلّق بالصرامة والكدح والاعتماد على النفس. لذلك كتبت عن أمّي ذات مرّة بأنّ حزنها كان أشدّ عمقاً وقدماً من اللغة نفسها، بل إنّ صمتها كان هو اللغة بعينها، وما كانت تنطق به أمّي لم يكم كلاماً، إنما إشارات ودلالات وعلامات وإيماءات، فبدت لغتها لغة ميتافيزيقية واستثنائية بامتياز. أمّا منطقة الأهوار التي كانت مساحتها تبلغ مساحة لبنان، فقد شكّلت عالماً سحرياً وروحياً غامضاً وسط الأحراش والنخيل والقصب والمياه والطيور المهاجرة التي كانت تمضي فصل الشتاء في مياه الهور الدافئة. وإلى اليوم وكلّما استبد بي الحنين والشوق وأشعر بالاختناق أهرع لسماع أغاني الجنوب العراقي المترعة بالحبّ والحزن واللهفة والفراق، وأصغي للمطربين الذين يمزقون أرواحهم طرباً. وكنت أصغي خاصةً إلى ما يسمى بالطور المحمّداوي، نسبة إلى عشائر آل بو محمّد، وهو يعتمد في لحنه على النقر فوق قدر فارغ بدلاً من الطبلة غير المتوفرة عادةً، فيمس الصوت العميق والدافئ شعاف القلب، وهو بالمناسبة النمط الأكثر حزناً في الغناء العراقي طرّا.
لا أتذكر بالضبط، وقد تكون أغنية دللول لوحيدة خليل أو أغنية يمّه يا يمّه لداخل حسن أو أغنية حاجيني يا يمه لزهور حسين أو هلّي يا ظلام لحضيري أبو عزيز في منتصف الستينات. وعندما اكتشفت الغناء المصري، وخاصةً غناء عبد الحليم حافظ الذي جاء متزامناً مع أوّل قصّة حبّ في حياتي، بدأت أميل إلى هذا الضرب الحديث من الغناء. وكنت ومازلت إلى اليوم مغرقاً في العاطفة وشديد التأثر بالغناء والأصوات والنبرات. وكانت زوجتي الألمانية تفضّل عبد الحليم على غيره وتتعاطف معه لأنّه توفّي مبكراً وكان مريضاً وعليلاً. وترى أن فيروز مفتعلة وصوتها عبارة عن أنين لا ينتهي ويسير على وتيرة واحدة، وتفضّل عليها صوت صديقة الملاية التي لم تحظ بالشهرة على صعيد العالم العربي بالطبع. وكانت تفضلها على غيرها بسبب خشونة صوتها وغلاظته ونبرة البلوز البغدادية المهيمنة عليه وذلك العويل الجنائزي وأصالته. ومازلت أصغي إلى عبد الحليم حافظ، وإن بدرجة أقلّ من السابق. ويبدو أنّني لم أعد أميل كثيراً لهذا النمط من الغناء، لأنّني ربمّا تجاوزت مرحلة الحبّ المبكرة، وصرت أصغي إلى الموسيقى بنوع من العقلانية.
أعتقد أن العراقيين مهوسون عموماً بالغناء، وهناك أساطير لا تنتهي عن الغناء العراقي وتاريخه وأهميته بدءاً من كتاب الأغاني، مروراً بأخبار إسحاق الموصلي عازف في بلاط هارون الرشيد وتلميذه زرياب وانتهاءً بمحمّد القبنجي. ولم يعتبر الغناء من المهن المنبوذة في تاريخ العراق مثل مهنة الحائك والإسكافي والمزارع ومربي الطيور الذي لا تقبل شهادته في المحكمة. ولا أعتقد أنّنا، نحن العرب، نتمتع بتربية موسيقية صحيحة، وهي حسب ظنّي إحدى البنى الأساسية للمجتمع السليم. فالمجتمع الذي يفتقد إلى الموسيقى يفتقد بالضرورة إلى الروح وإلى الدين أيضاً. والمفارقة هنا هي أنّنا نرى غلاة المتطرفين الإسلاميين يحاربون الموسيقى ويحظرون الغناء، بينما التاريخ العربي-الإسلامي يحدثنا بصراحة عن أهمية الموسيقى في حياة المسلمين من فجر الإسلام. وقد اختار النبي محمّد بلال الحبشي مؤذناً، نظراً لقوّة صوته وطبقاته المنغّمة، على الرغم من أنّه كان يلحن باللغة العربية ويلفظ الشين سيناً. فكان بعض المسلمين يعيبون عليه ذلك، فنهاهم النبي وقال إنّ سين بلال عند الله شين. ولو نظرنا إلى القرآن نفسه لوجدنا بأنّ معظم آياته تتمتع بإيقاع موسيقى عال، وإلا فلِمَ تجوّد؟ ولماذا يقيمون المسابقات الدولية لتلاوته؟ وتسعى الموسيقى بالطبع إلى تهذيب النفس، وتجعلها مترفعةً عن الصغائر، خاصةً في لحظات التجلّي. وأنا أفضل أحياناً أن أصغي إلى الموسيقى بشكل مشترك مع الآخرين بدلاً من الكلام، لأنّ الموسيقى هي محاولة لإقامة رابط اجتماعي غير مرئي بين الناس قائم على التكافؤ والعدالة الروحية. ولذلك أتعجّب من الناس، وخاصةً الساسة في الغرب، الذين يصغون إلى الموسيقية الكلاسيكية، لكنّهم يخوضون الحروب بدرجة الولع التي يصغون بها للموسيقى. وأتذكّر أنّني قرأت عن لقاء قصير جمع بين الموسيقار النمساوي غوستاف مالر والكاتب الألماني توماس مان، وعلّق توماس مان آنذاك بأنّه لم يلتق في حياته بفنّان ترك أثراً على نفسه مثل لقائه بغوستاف مالر. فجسّد شخصيته في رواية الموت في البندقية، حيث حمل البطل اسم غوستاف أيضاً، فكان النصّ كلّه عبارة عن موسيقى وإيقاع ليس إلا.
الموسيقى هي البارومتر الوحيد لقياس درجة التطوّر الروحي والعقليّ لكلّ مجتمع. وقد استطاعت الموسيقى أن تتطور لأنّها كانت عصيّة على المراقبة والرقابة الرسمية أو الاجتماعية. وهي تختلف بالطبع عن الغناء الذي كان يخضع لرقابة صارمة في بعض الحقب التاريخية. ثمّ إنّ الموسيقى في الغرب الذي أخذ الكثير عن الموسيقى العربية قطعت مراحل عديدة من التطوّر، إلى جانب تطوّر صناعة الآلات الموسيقية، فجاءت الدورة الموسيقية الغربية كاملةً، من لحن وآلة ونصّ أدبيّ ومشجعين ساسة وأصحاب جاه. أمّا الوضع في العالم العربي فمختلف تماماً، لأنّ التعليم المدرسيّ هناك لا يهتم بمادتيّ الموسيقى والغناء، ولا بالمواهب التي يمكن أن تُكتشف وتُشجّع، إنما يترك كلّ شيء للصدفة وحدها. ولم تشغل المؤسسات والمعاهد والجامعات الرسمية بهذه الثروة الثقافية الكبيرة، وهذا الخزين المعرفيّ الأخلاقيّ المتمثل في الموسيقى باعتبارها أساس العلوم الإنسانية. فأنا أشعر بالفقدان طول الوقت، خاصةً في المنفى الذي استحال وطناً، بعدما تحوّل الوطن العربي إلى منفى هائل، خاصةً بعد تدمير العراق وسوريا واليمن وليبيا، وانتصار قوى الشرّ في المنطقة وبصورة تكاد تكون مطلقة. لكنّ، ومثلما يقول الألمان فإنّ الأمل هو آخر من يموت.