.
احتلت ألمانيا على مدار أربعة قرون مكانة متميّزة في المجال الموسيقي، وكانت من سمات الموسيقيين بها التجديد المستمر من مدرسة إلى أخرى. فمنذ عصر الباروك ومع ظهور سباستيان باخ تنوع أسلوب كتابة الموسيقى بين التوكاتا والسوناتا والفانتازيا والفوجا والكونشيرتو. تطور الكونشيرتو بشكل ملحوظ في العصر الكلاسيكي الذي يلي الباروك، وهو العصر الذي ازدهرت فيه أعمال الأوبرا لموتسارت وسيمفونيات بيتهوفن. لم يقتصر الأمر فقط على ظهور هذه الأشكال من كتابة الموسيقى بل شمل أيضًا تطورًا في شكل الأوركسترا الذي وصل لقمته في عهد ريتشارد فاجنر. انعكس هذا التطور على دخول آلات ضمن الأوركسترا وانتشارها بكثرة كالآلات النحاسية في الفترة الرومانسية واستبدال آلات بآلاتٍ أحدث مثل حلول دور البيانو مكان الهاربسكورد. كما أسهم دور الموسيقيين الألمان في تطور هندسة الصوت والمساحات التي تقام بها العروض، ولعل المسرح الفاجناري نسبةً إلى فاجنر أفضل مثال على ذلك.
استمرت صدارة الألمان حتى بدايات القرن العشرين إلى أن حدث انفصال في الاتجاه الموسيقى بين رواد العصر الرومانسي المتأخر، مثل موسيقى جوستاف مالر وريتشارد شتراوس التي اتّسمت بالنغمية والتزمت بقواعد الموسيقى الكلاسيكية، ومن ناحية أخرى رواد الموسيقى الحديثة وعلى رأسهم أرنولد شونبرج، الذي أدخل الموسيقى الخالية من التجانس الهارموني التي تعتمد على السلالم السداسية والسلم الكروماتيكي الحر، وما يسمى بالنشاز في الكثير من الأجزاء. وقد سار على هذا النهج الحديث موسيقيون من بلاد أخرى مثل إيجور سترافينسكي الروسي في طقوس الربيع وبتروشكا وأعمال بيلا بارتوك المجري ويناتشيك التشيكي، وهى أعمال تدمج بين الفلكلور والقواعد الموسيقية الحديثة المتخلية عن الشكل الكلاسيكي المتمثل في السلالم الكبيرة والصغيرة، ليصبح هذا أسلوب الموسيقى الحديثة في بدايات القرن.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى اختلفت الجماليات في أوروبا وألمانيا أثناء فترة جمهورية فايمر بشكل جذري، كنوع من الثورة على الأشكال الفنية الكلاسيكية التي تم استغلالها من قبل الملوك للحشد الوطني حتى انتهى الأمر إلى حرب عالمية. ظهرت مدارس جديدة مثل السريالية والدادائية وانتشرت التكعيبية والتعبيرية بشكل أوسع. تخلت هذه المدارس والموسيقى وقتها عن أية أيديولوجيا سياسية، بالرغم من تجسد القيم الاشتراكية في موسيقى وأوبرا كيرت فايل ومسرح برتولت بريخت وأعمال فنانين آخرين. أما عن الموسيقى، فقد شهدت تلك الفترة طفرة على يد أرنولد شونبرج الذي بات أكثر راديكالية من حيث التحديث عن طريق تقديمه لنظام التسلسل الموسيقي الذي يتمثل في توظيفه للسلم الكروماتيكي وعزف أنماط وأشكال نغمات موسيقية مسلسلة على الآلة الموسيقية. انتشر هذا الشكل الموسيقي واتبعه أنتون ويبرن وألبارن بيرج، الذي مزج بين رومانسية فاجنر والسلالم السداسية. كانت برلين في عشرينيات القرن الماضي من أكثر المدن تحررًا وانفتاحًا على الخارج، وبالأخص بعد تدفق الاستثمارات الأمريكية والمساعدات التي قامت بها الولايات المتحدة “لبناء” ألمانيا وإنقاذها من الإفلاس والتضخم بعد الحرب. ونتيجة لهذا انتشرت موسيقى الجاز بين الشباب حتى أصبحت موسيقى جماهيرية وقتها. ظهر تأثر موسيقيي الموسيقى الحديثة بالجاز من خلال أعمال بول هيندمث غير النغمية مثل كونشرتو للوتريات والآلات النحاسية. ومن ناحية أخرى يتجسد شكل الجاز النغمي في موسيقى كيرت فايل والذي قام بتطوير شكل عروض الأوبرا وتحريرها. تعد أوبرا البنسات الثلاثة خير مثال على ذلك، وهو العمل الذي كتبه بريخت والذي يتحرر فيه الغناء من الطريقة التقليدية المعروفة بالـ بيل كانتو في الكثير من الأجزاء. بجانب تأثره بالجاز قام فايل بالمزج بين الأوبرا وعروض الكباريه والحس الفكاهي، وقد قام الكثير من الفنانين بعد ذلك بإعادة توزيع موسيقى فايل.
قام الكثير من الموسيقيين والفلاسفة بالتحذير من سوء استغلال الموسيقى وقدرتها على توجيه واقتياد الجماهير. ومن الواضح أن هذا الطرح قديم وترجع أصوله إلى أفلاطون وحديثه عن قوة الموسيقى لفرض سيطرتها على الشعوب. كما حذر تيودور أدورنو من خطورة الموسيقى عندما تستخدم من قبل الأنظمة القمعية.
فور الانتهاء من الحرب العالمية الثانية تبنت الكتلة الغربية هذا الطرح. وعلاوة على الممارسات غير الإنسانية للحزب النازي قامت الولايات المتحدة بشيطنة الحقبة الموسيقية النازية. عند ذكر الموسيقى في العهد النازي يتبين مدى صحة عبارة أدورنو، وذلك من خلال الأفلام الوثائقية التي تظهر المارشات العسكرية وهتلر الجالس في إحدى القاعات المزينة بالصليب النازي يشاهد عرضًا سيمفونيًا لموسيقى فاجنر يقوم في نهايته قائد الأوركسترا بتقديم تحية النازي، ما يشير إلى استغلال العروض الموسيقية من أجل بث الروح الشوفينية لدى الجماهير وحشدها. ولكن الأمر يتطلب الكثير من البحث عن بضعة حقائق وهي: ما هو الشكل السائد للفن في ألمانيا النازية؟ ما هى الآليات المتّبعة لفرض “الموسيقى النازية” على الشعب؟ هل استطاع هتلر وجوبلز تطبيق نظرياتهم عن الموسيقى على الشعب؟ كيف قامت الكتلة الغربية بقراءة واقع الموسيقى في عهد النازي بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية؟ وكيف أصبح شكل الموسيقى فيما بعد؟ هل حقًا من الممكن إخضاع الموسيقى لأيديولوجيا ما؟ وما مدى نجاح ذلك؟
لقد اختلفت الجماليات أثناء حكم النازي عن الفترة التي سبقتها. لم تلق الأعمال الطليعية قبولًا لدى الحزب النازي وتم تحجيم دور المسرح والأفلام التعبيرية وإخضاعهم للبروباجندا برعاية جوزيف جوبلز. كما تم اتهام الشكل الطليعي بالانحلال الأخلاقي والتوغل الشيوعي وعدم النقاء الذي يشوه الجنس الآري والثقافة الألمانية. سرى الأمر ذاته على الفنون البصرية وفتحت المزادات لبيع اللوح الطليعية من أجل التخلص منها في بداية حكم النازي ثم في عام ١٩٣٩ . على سبيل المثال تم بيع المئات من أعمال فان جوخ وبابلو بيكاسو وهنري ماتيس وغيرها، ليحل مكانها أعمال صنفت على يد المؤرخين بالواقعية الرومانسية أو الرومانسية البطولية التي تتميز بالمناظر الطبيعية والرجوع إلى الشكل الكلاسيكي على غرار الفن الإغريقي والروماني الذي يظهر نقاء العرق وقوة وجمال الرجل والمرأة.
أما بالنسبة للموسيقي فقد استمرت محاولات الحزب النازي لتطهير الأوركسترات السيمفونية من اليهود و“الأجناس الأدنى“، وحظرت أعمال من يملكون أصول يهودية مثل مالر ومندلسون وفايل وشونبرج وفرانز شريكر، بالإضافة إلى طرد الموسيقيين والنقاد الذين لا يعترفون بالجماليات النازية. وعلى غرار الفنون البصرية كانت رؤية النازي للموسيقى الجيدة تتمثل في الرجوع إلى العصر الرومانسي والأعمال الفخمة والتي تتسم بالنغمية، المتجسدة في المعاصر منها مثل أعمال ريتشارد شتراوس والكلاسيكي مثل باخ وبيتهوفن وشومان وهانز فيتزنر وريتشارد فاجنر الذي كان بدوره يكن عداء تجاه اليهود مما أثار إعجاب هتلر. من ناحية أخرى لم يرق للنازي نظام التسلسل الموسيقي في التأليف لشونبرج والأعمال المتخلية عن التناغم الهارموني، والجاز الذي تم الترويج له على إنه موسيقى أمريكية ترجع أصولها للجنس الأفريقي. لذلك، بذل الموسيقيون في بداية جمهورية الرايخ الثالث جهود كبيرة كى ينالوا رضا القادة، وتم احتواء الكثير منهم داخل “الغرفة الثقافية” بقيادة جوبلز حتى تمت التضحية بالمهارة في سبيل الإخلاص للحزب النازي في أحيانٍ كثيرة. ظهرت بوادر ذلك خلال أوبرا بين العشية وضحاها لشونبرج الذي قام بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٣٣، وهو العمل الذي حاول من خلاله شونبرج المزج بين جديته ونظامه الموسيقي وبين محاكاة أحوال الجماهير، العمل الذي فشل في النهاية لتقديم رسالته وخرج بشكل معقد ومصطنع.
وبجانب “الغرفة الثقافية” تم تدشين “الغرفة الموسيقية” من أجل احتواء الموسيقى، والتي تولى مهامها لفترة قصيرة ريتشارد شتراوس ثم عزل من منصبه بسبب تمسكه بأحد أصدقائه اليهود العاملين معه بالأوركسترا. أقيم معرض بميونخ عام ١٩٣٨ تحت اسم الموسيقى المنحطة لعرض أنواع الموسيقى الحديثة المنفرة والتجريبية، وقد أشار جوبلز إلى أن طبيعة الموسيقى تكمن في نغميتها وبساطتها وقدرتها على التأثير على روح المستمع وسهولة تقبلها ورجوعها إلى الأصول الفلكلورية التي تنهض بالأمة الألمانية. بجانب الموسيقى الكلاسيكية كثرت المارشات العسكرية والموسيقى الخفيفة لتشتيت الجماهير أو تسليتهم ورفع روحهم المعنوية، وانتشرت الأعمال القومية التي أُلفت خصيصًا لحفلات الحزب والمناسبات العامة.
https://www.youtube.com/watch?v=Xcz-Oho0tlU
من هنا يمكن استخلاص بضع نقاط وهي: هناك عدد من الموسيقيين ازدهرت أعمالهم أثناء فترة حكم الحزب النازي وعملوا لحساب هتلر، وأن الموسيقى وقتها باتت رجعية وأدنى من موسيقى العصر السابق وتم استغلالها من أجل السيطرة على الشعب وفرض الذوق والجماليات النازية. لكن الاكتفاء بهذا الطرح تشوبه المغالطات. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج بلدان الكتلة الغربية منتصرة، تم الترويج من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا لرجعية الموسيقى في فترة حكم هتلر، وأُغفلت العديد من الأعمال الجادة، حتى بلغ الأمر الاحتفاء بأعمال الموسيقيين الذين قاموا بترك ألمانيا وقتها وإتّهام من بقوا بها بالعنصرية والخضوع للكيتش النازي. ولكن هناك الكثير من الدلائل على وقوع هذه الثنائية في تناقض مع نفسها. فإن الترويج لمحاربة الحزب النازي لأسلوب التسلسل الموسيقي في التأليف ليس صحيح. برؤية أكثر موضوعية يمكننا القول إن للحزب النازي رؤية ونظريات وأهداف معينة للموسيقى سعى من أجل تحقيقها، ولكنهم لم يستطيعوا تطبيقها وتراجعوا بعد أول عامين من صعودهم إلى الحكم عن تنفيذ نظرياتهم. إن جهودهم التي بلغت قصارها في معرض “الموسيقى المنحطة” باءت بالفشل.
رغم هجرته المفاجئة وإحتفاء الغرب به كان هندميث على علاقة طيبة بالحزب النازي، ولم تنجح محاولات محاربة الجناح الراديكالي لجمالياته. فقد قام ألفريد روزنبرج وهو من أهم قيادات “العصبة المكافحة للثقافة الألمانية” بالثناء على أوبرا هندميث ماتيس الرسّام والدعاية لها على أنها موسيقى ألمانية نقية، واعتبرها الحزب النازي من أهم أعمال تلك الفترة وأكثرها تأثيرًا، مع أنها تمسّكت بنظام التسلسل الموسيقي والسلم الكروماتيكي وقد طغى النشاز عليها. بعد هجرة هندميث إلى الولايات المتحدة الأمريكية كان من الطبيعي أن يقوم الحزب النازي بتشويه موسيقاه، وهو الشئ الذي عارضه وليام فورتفانجلر أحد أهم قادة الأوركسترا. ومع ذلك ظل الحزب النازي يكن الكثير من التقدير لفورتفانجلر، مع أنه من المتوقع أن دفاعه عن أحد الموسيقيين المغضوب عليهم قد يجلب له الكثير من المشاكل.
من ناحية أخرى، انتشر إيجور سترافينسكي في ألمانيا وأقام عروض موسيقية عديدة من ضمنها طائر النار وقصة الجندي التي لقيت قبول واسع لدى قادة النازي والتي لا تختلف كثيرًا عن موسيقى شونبرج. لقى بيلا بارتوك نفس القبول حتى بعد تصريحه بكلام ضد الحكومة النازية. لم يكن رحيل شونبرج من ألمانيا ومنع موسيقته بمثابة إعلان انتهاء الموسيقى الحديثة كما صوّر الغرب، فقد استمر استخدام نظام التسلسل الموسيقي في التأليف بشكل كبير، وكان بعض هذه الأعمال برعاية النازي، بل استمرت أعمال أوبرا شونبرج حتى عام ١٩٤٠ بفضل جهود تلاميذه. من الناحية البراجماتية صرح هربرت جريك، أحد أهم النقاد والعاملين تحت يد روزنبرج، أن في إمكان الموسيقي صاحب الدماء والعرق النقيين اللجوء إلى الموسيقى غير النغمية كوسيلة مؤثرة للتعبير. ولذا لم يكن من الغريب أن يواجه جوبلز وبيتر رابي – الذي تم استبداله بريتشارد شتراوس لإدارة “غرفة الموسيقى” – صعوبة في القضاء على الجاز بسبب ولع الشباب به وبلوغه أقصى انتشار له أثناء الحرب. هذا يؤكد عجز الحزب النازي عن السيطرة على الموسيقى وإدارة دفتها إليه وفشلهم في حصر الموسيقى الألمانية في الأعمال “الألمانية النقية“. بلغ الأمر أن اعترف هتلر عام ١٩٣٨ في أحد اجتماعات الحزب بنورمبورج أن الموسيقى والسيمفونيات باتت غير قادرة على التعبير عن أهداف النازي السياسية، وأنه من السيء أن يقوم الحزب بإضعاف قوة الموسيقيين الإبداعية وقيادتها إلى الاتجاه الخاطئ. ثم جاء جوبلز قبل انتهاء الحرب ليعلن أنه “سيقوم بإنهاء القيود على الموسيقى فور الإنتهاء من الحرب حيث أن أية رقابة على الموسيقى تتعارض مع تطور الحياة الثقافية وتعمل عكس توجه ’غرفة الموسيقى‘ التي من شأنها قيادة الثقافة وليس تحجيمها.”
تعد كارمينا بورانا لكارل أورف نموذجًا لعمل غير سياسي لا يمت بأية صلة للنازي. فقد اعتبر الحزب النازي في أول الأمر موسيقى أورف موسيقى منحطة، ولكن تم التغاضي عن هذا الاتهام من قبل القيادات لأهمية الدور الموسيقي الذي يكسبه أورف لألمانيا وإن تخلى عن أية أيديولوجيا. إن موسيقى أورف تم تشويهها من الأمريكيين بسبب بقائه في ألمانيا أثناء الفترة النازية وعدم رحيله لذا شابته الشكوك. ولكن سرعان ما تغيّرت هذه الصورة عن أعمال أورف وموسيقيين آخرين مثل هربرت فون كرايان وإليزابث شوارزكوبف وكثر الحديث في أمريكا عن معاناتهم في تلك الفترة. لكنهم أغفلوا نقطة انتشارهم في ألمانيا، وذلك لإبعاد شبهة التورط في الانحطاط السياسي والتلوث بالأيديولوجيا عن هؤلاء الموسيقيين العظماء. بذلك وقعت الولايات المتحدة الأمريكية في نفس خطأ الحزب النازي عندما قامت بتسييس الموسيقى وطرح الموسيقى الحديثة للمهاجرين الألمان والذين بقيوا في ألمانيا الغربية كموسيقى تحمل القيم الديموقراطية من حيث التحرر والتمرد على الرجعية والشوفينية. كان ذلك للقضاء على أي موروث موسيقي من فترة النازي حتى وإن لم ينجح النازي في قمعه أو أعجب به في بعض الأحيان، متجاهلين تمامًا أصالة وحرفية العمل ودوره الإبداعي والمجدد. يسري هذا التسييس من قبل الأمريكان على الفنون البصرية من خلال رعاية الدولة للمدرسة التعبيرية التجريدية. عندما كثرت التساؤلات في الغرب حول أفكار هندمث رغم كونه موسيقي حديث، قام تلاميذه بتحسين صورته وتصدير ماتيس الرسام على أنه عمل ثوري ضد الفاشية ليحتفظ هندمث في النهاية بمكانته. أما أكثر أعمال شتراوس الذي احتفى به النازي وهو أرابيلّا فلم يكن له أية علاقة بالسياسة أو الفكر النازي.
من هنا يمكن أن نتبين أنه لم يكن هناك شكل واضح للموسيقى النازية وإن توفرت النيّة لدى الحزب النازي، على عكس ادعاء المؤرخين والموسيقيين الأمريكيين. لقد استند الموسيقيون والمؤرخون الغربيون في تصنيفهم موسيقى الفترة النازية إلى معرض “الموسيقى المنحطة” التي فشلت سياسته من جهة، وأغفل الغرب الحديث عنه على مدار سبع سنوات من جهة أخرى ولم يقم بالدعاية المعادية له إلا بعد الحرب.
لقد قامت الولايات المتحدة برعاية الموسيقى الحديثة والطليعية والتعامل معها من نفس المنطلق الأيديولوجي لمحاربة الموسيقى النازية النيو رومانسية والرومانسية ووضعها في كفّة رجعية وقمعية معادية للحداثة. بذلك تم إحياء الموسيقى الطليعية التي سبقت عصر النازي، كما ظهرت أشكال موسيقية جديدة أكثر تحررًا في أمريكا وغرب أوروبا عرفت بالموسيقى الواقعية. تم الإحتفاء بالأعمال الحديثة، الذاتية، والخالية من المعاني السياسية حتى أصبح هذا الاتجاه (غير السياسي في الموسيقى والفن) آلية من الآليات التي تخدم السياسة الغربية والأمريكية بطريقة غير مباشرة عن طريق تصدير الفن الحديث كفن ديموقراطي ومتحرر وحداثي بالرغم من نخبويته. ولا يجب أن نغفل قيام الموسيقيين الأمريكيين بمقاربات ضعيفة في حجتها لتقريب الموسيقى في الكتلة الشرقية من موسيقى العصر النازي.
يمكننا القول إن تلك الثنائية التي تبناها الكثير من الموسيقيين والمؤرخين والمنظّرين الذين أساؤوا استغلال نظرية تيودور أدورنو بخصوص خضوع الفن للسياسة تنقصها الكثير من الدقة. تلك الثنائية المتلخصة في رجعية وضعف الفن والموسيقى في البلاد ذات الأنظمة القمعية وضعف أعمال الفنان الذي له ميول فاشية أمام الفنان صاحب القيم الديمقراطية، ومن ناحية أخرى رجعية الأعمال في الفترة النازية، وتقدمية وتحررية الموسيقى الحديثة بغض النظر عن قيمة العمل الإبداعية. كما أنه مع مرور الوقت ظهر الكثير من الفنانين الذي يتمتعون بميول يمينية محافظة ولم تتعارض يمينيتهم مع تحلي أعمالهم بالأصالة والإبداع بعيدًا عن موضوعاتها. بالرجوع إلى الماضي نجد أن أعمال فاجنر اليميني والعنصري من أكثر الأعمال المجددة بالنسبة لوقتها وذات أصالة عالية. على جانب آخر كان شونبرج يفخر بكونه منتميًا للطبقة البرجوازية ومتعلّقًا بها حتى بعد أن هاجر إلى الولايات المتحدة وكان يفخر بجنسه الألماني، وقد ارتبطت بعض أعماله بطابع الموسيقى الرومانسية من حيث الموضوع ويظهر ذلك في عمله موسى وهارون. كما أن موسيقيين مثل شتراوس وفينفريد زيليج وكارل أورف ظلوا في ألمانيا حتى انتهاء الحرب ولا نستطيع أن ننكر مدى جدية وأصالة هذه الأعمال.
لا يمكن إنكار سلبيات الحزب النازي تجاه الموسيقى واستغلالها لأغراض سياسية، وهو نفس الشئ الذي قامت به الكتلة الشرقية والولايات المتحدة الأمريكية حتى وإن ادّعت العكس. فمن الممكن استخدام الموسيقى من أجل السيطرة على الشعوب واقتياد الجماهير ومن أجل خدمة أيديولوجية ما سواء كانت قومية أو ديموقراطية أو فاشية، أو ثورية، أو لخدمة قضية أو رسالة معيّنة. وهو ما يحدث الآن في مصر عن طريق استدعاء الدولة للأغاني الوطنية وحدث من قبل وما زال يحدث من قِبل الفرق الموسيقية التي تتبنى اتجاه ثوري رومانسي يبرز العاطفة الثورية. إن طرح أدورنو المتمثل في التخلي عن تسييس العمل الفني وبعده عن أية رسالة لتجنب الكيتش وانتاج عمل جاد صحيح بنسبة كبيرة. فإن العمل الخاضع للأيديولوجيا السياسية هو عمل وقتي، يقوم بخدمة القضية أو محاكاة حدث ما وغالبًا ما يتم التضحية بالقيمة الإبداعية في سبيل الرسالة. ولكن من ناحية أخرى لا يجب تعميم هذا الطرح، بسبب خروج أعمال عديدة تتبنى الأيديولوجيا السياسية أو رسالة مباشرة وتتحلى في نفس الوقت بالجدية والأصالة والإبداع والتجديد. يستدل على ذلك بأعمال فاجنر، وبعض أعمال ستيف رايتش التي تتبنى أفكار بسيطة ومباشرة من التراث اليهودي، ورسالة أغاني البيتلز المباشرة في أحيان كثيرة، وأمثلة أخرى عديدة قد يتسع لها الحديث في مقال آخر. كما يجب توخي الحذر من عدم استغلال الفن الخالي من الرسالة السياسية كطريقة لفرض أفكار وقيم معينة مثلما فعلت الولايات المتحدة والكتلة الغربية.
في النهاية وبصرف النظر عن نجاح الأنظمة لاستغلال الموسيقى لاقتياد الجماهير، وبصرف النظر عن مباشرة رسالتها واحتوائها لأبعاد سياسية في أحيانٍ أخرى، فإن الموسيقى الجيدة أو الجادة تفرض نفسها كونها متمردة بطبيعتها وغير خاضعة للسيطرة أو التسييس، وإن العمل الجاد يكمن في قيمته الفنية وأصالته وقدرته على التطوير وتقديم ما هو مبدع وجديد.
نُشر هذا المقال بالشراكة مع موقع قل.