دايرة على المصلحة | ويجز ومروان بابلو

منذ صدورها، سمعت دايرة على المصحلة ما لا يقل عن مائة مرة، خاصةً نسختها الموسعة المتاحة على ميديا فاير. كتبت ومسحت آلاف الكلمات عن هذه الأغنية، باحثًا على غير هدى عمَّا جعلها، بالنسبة لي على الأقل، أغنية راب غير تقليدية لا ينفع معها المعتاد من التحليل والنقد. الأمس، وبعد تجوالي خلال مجموعة أغاني لمروان بابلو وويجز وجيرانهم أسلوبيًا مثل دودزي ومادو سام وليجاسي وسواهم، لاحظت أخيرًا وجود نمط يميز هذه الجماعة عن سائر الراب المصري خصوصًا، والراب عمومًا.

تمتلك هذه الجماعة من الثقة بأسلوبها وخطابها أنها لا تعيد تشكيل ما لديها ليتناسب مع الراب كما هو اليوم، بل تعيد تشكيل الراب ليتناسب مع ما لديها. فلا نجد تبجحًا بماديات غير موجودة أو ادعاءً لصور نمطية ومستهلكة للفحولة، بل أغانٍ شخصية حميمية، قلقة ومتشائمة، في الكثير من الأحيان مكسورة، ودائمًا حقيقية. من هنا تأتي قوتها، وهكذا تغدو مؤثرة.

تظهر استقلالية الأغنية واضحةً منذ الفيديو، والذي أنتجته مجموعة شوترز، وعمل على إخراجه وتعديله وتصويره كل من ويجز نفسه، بلاكس، وكريم الكيوي. بدلًا من الأحياء الفقيرة (الجيتو)، يأخذنا الشباب إلى شقة متواضعة الفرش في حي قاهري من الطبقة الوسطى. البيت غير مكيف والدنيا صيف، والشباب يطلون علينا بالشورتات وأحيانًا القمصان القصيرة، أجسادهم الظاهرة نحيلة، دون عضلات ضخمة وتقريبًا دون أي وشوم. يمسكون هواتف جوالة وشواحن لا مسدسات ورزم مال. وبدلًا من الكميات المسرفة من المخدرات الثقيلة، نجد (ضمنيًا) قطعة حشيش لا يدعي أحد أن تحصيلها مهمة خطرة أو ذات شأن. زجاجة المشروب الوحيدة هنا هي نبيذ محلي على الأغلب، تطوف بين الشلة حتى تصل إلى شاب يبدو أنه لم يشرب من قبل، الأمر الذي لن يمر في فيديوهات الراب التقليدية التي تدعي أن أبطالها رضعوا فودكا بدل الحليب.

ينقل الفيديو إذًا جلسة شلة شباب مصريين في مقتبل العشرينات، وتثبت مجموعة شوترز امتلاكها لعين مرهفة للتفاصيل: خلاف ورق البفرة وجوينت الحشيش الذي يلتف ويتولع، هناك زجاجات المشروبات الغازية البلاستيكية التي تم الاحتفاظ بها لاستخدامها كزجاجات ماء، وكيس الشيبسي وسط الطاولة. يبدأ الفيديو بأغنية غلاف لـ مروان بابلو شغَّالة في الخلفية وهو يدندن معاها، يتبعها مقطع من تي إن تي لـ ويجز، قبل أن تصل الجوينت أو زجاجة النبيذ (لا نرى بوضوح) إلى بلاكس الذي نشاهد جزءًا كبيرًا من الفيديو من منظوره، فيصاب بحالة قلق ورهاب، يلاحظها ويجز ويعطيه الدفعة اللازمة لإرساله في باد تريب: “عايز أقولك من زمان … الناس كلها شغالة نحت. مبتدورش غير على حاجة واحدة، هي دايرة على إيه؟”، يلتفت ويجز إلى بابلو الذي يجيبه: “على المصلحة يا زميلي.”

“دايرة على المصلحة

كلها دايرة على المصلحة

فاكر إنك تقدر تاخد مني حاجة تبقي مجنون، و من هنا على المصحة”

تضرب الفيديو فلاتر لونية هلوسية حمراء وخضراء وزرقاء، وتبدأ الأغنية بهذه اللازمة، التي تلعب ظاهريًا على الحكم الشعبية المعهودة حول مادية الحياة وغدر الصحاب، فيما تأتي في الحقيقة لتعزيز الطابع الهلوسي المظلم للأغنية، وكاستمرار للمزحة السوداء التي يحكيها ويجز في بداية الفيديو.

“تحت العشرين وأديلك دروس حياة

صاحبنا الجناة وزاملنا الأشقيا

بيعمل علشان يتشاف من الناس رياء

تواجهم بالي حصل يقولوا أبرياء

كلميني اتناشر لما الدنيا تروق

كلميني اتناشر لما الضلمه تسود

دريانين بالدنيا و عارفين الاصول

(…)

كلنا ولاد ناس”

في بداية المقطع الأوَّل، يخادعنا ويجز للحظة بتمديد مجاز الحياة الصعبة وغدر الصحاب، قبل أن تبدأ الـ باد تريب الخاصة به، وينتقل بسرعة إلى أسطر حميمية قلقة، منقلبًا من التبجح إلى الدفاع، من “صاحَبنا الجناة” إلى “كلنا ولاد ناس”. عندما تتكرر اللازمة تأخذ معنىً جديدًا، تصبح دلالةً على حالة الرهاب والحذر من الجميع التي تسببها الـ باد تريب، وربما هناك لعب على معنيي كلمة “دايرة” التي قد تشير إلى جوينت الحشيش التي تدور على الشلة.

الملفت في ويجز خلال مقطعيه واللازمة، هو صوته المصقول والجميل الخامة. عندما يستخدم الأوتوتيون، يستخدمه بسرعة بطيئة، كخيار جمالي وبدرجات خافتة من التشبع. بعيدًا عن الأوتوتيون، يتمكن من التدرج بين النوطات بشكل عضوي بمرونة ممتعة، ينحدر بدرجات صغيرة من صوته الحاد في اللازمة إلى الأكثر خشونةً في المقطع الأوَّل، ثم يصعد بسلاسة مماثلة عندما تأخذ الأمور منحًا شخصيًا عند: “كلميني”.

“ألحاني حزينة، كمان مكسور

أنا في المدينة ديه كتاب مفتوح

همشي لبعيد لحد متوه

مش بتحبني يبقي تغور (تتكرر مرتان)

مغرور وأقولها تيجي جمبي إيه؟

سكران في الشارع زي ليجاسي، اتنين بليل”

في مقطعه الثاني، يغني ويجز الأسطر الأربعة الأولى بصوتٍ مكتوم ببايس مائع، وكأنه مدفون تحت الماء، ثم يطفو صوته إلى السطح وينفتح عندما يغني الأسطر مرةً ثانية، ليكتسب المقطع زخمه الحركي من هذه التلاعبات. تظهر في المقطع بصمة مروان بابلو في الكتابة، إذ نسمع مجازات مألوفة مثل:”أنا في المدينة ديه كتاب مفتوح” الذي يذكرنا بـ “الشوفته مني دا الغلاف / صعب أفتحلك الكتاب” من غلاف. يحيي السطر السادس تقليدًا رسيخًا في الراب، هو التلميح والإشارات المرجعية إلى أغاني راب ورابز آخرين، ويقع الاختيار على اتنين بالليل لـ ليجاسي. تدلنا هذه الإشارة على أن ويجز ومروان بابلو يفهمان أنهما جزء من تيار أسلوبي محدد ويميزان زملاءهم فيه.

“فاكر لما تنافسني هتشوف النور

لا مش هتشوف النور

طول ما الدنيا بتدور

هابني ما بنا جسور

معلق قلبك بالصنارة بس مليت

قتلت النوم في عيوني كل يوم بليل

يا تري جت ولا لسا مجاتشي

جرنا، خلاص، مفيش، وقت، تاني يضيع

حياتي عاملة زي النزهة، بجد فكرت أقلبها فيلم

عرفت إن أنا مش هخبي لما عرفت إن أنا مش هحب

(…)

الواقع ممكن كدب

شيطاني في راسي بيفرز سم

الواقع ممكن يطلع حلم”

تبدو دخلة مروان بابلو في الأغنية كهدف تسلل، إذ يظهر من وراء مقطع ويجز الأخير، بدون لازمة أو أي تمهيدات، ولا حتى كحة. يلعب مروان هنا لعبته، الأسطر التي يكتبها ليست تبجحية أو عاطفية أو مبهمة أو مترددة، هي كل ذلك في نفس الوقت. تنقل الحالة النفسية بكافة أدوارها، من الأقبية اللا واعية حتى الأسطحة المكشوفة، وتنتقل بين الدور والآخر بمفاصل سلسلة. في السطرين الثالث والرابع “طول ما الدنيا بتدور / هابني ما بنا جسور” ينتقل بخفة من التنافسية إلى الميول للعزلة، لينحدر بعد ذلك بسرعة نحو مكاشافات حميمية: “عرفت إن أنا مش هخبي لما عرفت إن أنا مش هحب”، ثم يقفل بالاستسلام للـ باد تريب الخاصة به، والتي يبدو أنها أخذت طابع الـ إيجو دِث Ego Death موت الأنا العليا، إحدى مضاعفات الرحلات السلبية للمخدرات، تتجلى كعجز الفرد عم رسم الحدود بين نفسه والعالم والوقوع تحت وهم أنه غير موجود: “الواقع ممكن كدب / شيطاني في راسي بيفرز سم / الواقع ممكن يطلع حلم.”

في النسخة الموسعة التي أنصح بالاستماع إليها إلى جانب الفيديو، نحصل على قفلة إيقاعية طويلة أقل بقليل من دقيقتين، تمنحنا فرصة لإلقاء نظرة على الجانب الآلاتي والتقني والاستمتاع به بمعزل عن الغناء. مقارنةً بأعمال ويجز السابقة، تي إن تي مثالًا، تبدو دايرة على المصلحة أكثر نضجًا إنتاجيًا، إذ تحصل كافة الآلات على مساحات صوتية مريحة وغير مسرفة، كما يعزز البايس العمق الصوتي للأغنية. هناك سطر بيانو قد لا نلاحظه سوى خلال القفلة الآلاتية، منسوج بعناية بين العينات الإيقاعية، ويزداد وضوحًا مع اقتراب الأغنية من نهايتها. العينات الإيقاعية بدورها جيدة، لكنها بعيدة عن كمالية البحث عن العينة الأمثل أو تسجيل عينات خاصة للأغنية، ما يترك هامشًا ملحوظًا للتحسين. قد لا يكون من المنصف مقارنة دايرة على المصلحة بأغنيتي مروان بابلو الوحيدتين، خاصةً أن أحدثهما كانت تعاني من بعض الرقع حيث يقع البايس ويرتفع التريبل بشكل جارح وخشن.

حتى بعد الخوض في الأغنية إلى آخرها من تحليل ومقارنة، لا يزال جمال دايرة على المصلحة مربكًا، ربما لأنه مر وقتٌ طويل منذ أن سمعنا مغنيان يثقان بصوتهما الخاص لدرجة تشجعهما على نقله كما هو، بلا أي مساومات أو استعارات، أو ربما مر وقت طويل منذ أن صادفنا مهارات كالتي يخترعها ويتقنها كل من ويجز ومروان بابلو، رائد في الغناء وآخر في الكتابة، يتشاركان شغفًا استثنائيًا للتفاصيل المطهوة ببطء.