.
كُتب المقال خصيصاً لمعازف | ترجمت النص عن الإنجليزية ناريمان يوسف.
قائمة أغاني ذ بادجت سسترز أدناه متوفرة مجاناً حصرياً على معازف، ويمكن شراؤها من آي تيونز هنا.
٣٠ ديسمبر ٢٠١٥، منتصف الظهيرة ولا أثر للشمس. كنا في طريقنا من درم إلى يانسيفيل، رحلة تستغرق حوالي ساعة بالسيارة. كان المطر كثيفاً بشكلٍ لا يصدق، يرشق زجاج السيارة ويصنع بركًا وقنوات من المياه في الحقول التي نمر بها. جلست أمي وراء عجلة القيادة في هدوء غير معتاد، لا يتماشى مع الطقس العاصف.
كنت في طريقي للقاء كوني بي ستِدمان من الأخوات بادجت The Badgett Sisters، ثلاثي أكابيلا يؤدي الأغاني الإنجيلية بعمق مؤثر، ذو شهرة لم تتعدَّ حدود ولاية نورث كارولينا لسبب لا أفهمه، حيث غنّين، وفقًا للملاحظات على غطاء اسطوانتهم الأولى، في “مهرجانات الفنون الشعبية والكنائس والمدارس والسجون ومستشفيات العلاج النفسي“. كنت قد بدأت منذ سنوات في دراسة التسجيلات الإثنوغرافية وتضمينها في محاضراتي، فأنغمس كل فترة وأخرى في الموسيقى الطقوسية لمنطقة ما من مناطق العالم النائية، إلا أني كنت دائمًا أعود إلى موطني في نورث كارولينا – تسجيلات الأخوات بادجت على وجه الخصوص تعيدني مرة بعد أخرى حتى تحوّلت إلى مصدر قوة وإلهام متجدد في حياتي. حين سمعت أن إحدى الأخوات ما زالت على قيد الحياة، عقدت العزم على أن أجدها في عودتي التالية إلى الولايات المتحدة، لأشكرها، لا أكثر.
مرت السيارة عبر تلال مقاطعة أورانج، وتأملت الأكواخ الريفية القديمة، إشارات معمارية شاردة لحياة ريفية تتناثر بين التلال العابرة، هياكل من الخشب المتهالك والألواح المعدنية تحوي المعدات الزراعية والحبوب والأخشاب، تبدو دائمًا على وشك الانهيار بفعل العفونة والعوامل الجوية، إلا أنها لا تزال قائمة.
“يقولون إن الفيضانات تلعب دورًا أساسيًا في تطهير نورث كارولينا” تقول أمي وعيناها على الطريق. أمواج المطر على الزجاج الأمامي تتحول بسرعة من أمواجٍ متقطعة إلى سيلٍ متواصل.
فكرت في درب الدموع الذي شهد تهجير السكان الأصليين وكم فيضانًا يتطلبه التطهّر من أمر كهذا.
“إنها تمطر.. هذا لا شك فيه.”
يانسيفيل بلدة صغيرة (١٤،٤ كلم / عدد السكان حوالي ٢٠٠٠)، مجتمع زراعي أغلبه من الأمريكيين الأفارقة. تقع يانسيفيل في مقاطعة كاسويل تحدّها ولاية فيرجينيا من ناحية الشمال. سأكتشف لاحقًا أن عائلة بادجت نفسها اشتغلت في زراعة التبغ لعدة أجيال.
لابد أن وجودي في وسط مكتبة البلدة، وهو المكان الذي اتفقنا على اللقاء فيه، كان لافتاً للأنظار. هذا هو الحال مع أي غريب هنا، ولكن زاد على هذا دخولي المكتبة حاملًا باقة من الورود زهرية اللون، وتجولي باحثًا في أرجاء المكان. حدّق فيّ رجل جالس أمام كمبيوتر وأومأ برأسه باتجاهي، ثم سألتني السيدة الجالسة إلى مكتب الاستقبال إن كنت أحتاج مساعدة.
“أنا هنا في الواقع لأقابل شخصًا…”
وفي هذه اللحظة ظهرت، على بعد بضعة أقدام فقط من أمينة المكتبة.
“أعتقد أنك تبحث عني”.
ناولتها باقة الورود ثم اتجهنا إلى غرفة الاجتماعات المجاورة.
بدأت بالإعراب عن امتناني وتقديري للأخوات بادجت، كم أثرت فيّ موسيقاهن، كيف تذكرني أصواتهن بالوطن، بنساء عائلتي ونساء تعلمت منهن في نشأتي. فور سماع صوتها على الهاتف حاولت أن أخمن أياً من الأصوات الثلاثة صوتها. لشقيقتها الأكبر سيلستر صوت عميق لا يمكن إخطاؤه، ولكن الأصوات الثلاثة كثيرًا ما تداخلت لتخلق مزيجًا سلسًا يكاد يكون صوتًا واحدًا، وحدة متماسكة ومؤثرة يصعب فصل عناصرها عن بعض.
في خطاب علم موسيقى الشعوب، يعتبر تعدد الأصوات خريطة لعلاقات القوة داخل مجتمع معيّن. كيفية تفاعل الأصوات – من يقود ومن يتبع، من يُسمح له بالغناء، وكيف نغني معًا أو لبعضنا البعض – كلها تفاصيل تعكس التدرج في المراتب أو غيابه داخل مجتمع معيّن، أو في هذه الحالة، داخل الأسرة.
الأخوات بادجت لسن فقط مثالاً رائعاً على التناغم بالمعنى التقني، بل يقدمن مثالًا مذهلًا في جماله عن تواصل الأفراد داخل الأسرة الواحدة – الحميمية وحساسية الإدراك في فهم كل فرد لموقعه في العلاقة مع الآخرين، حتى لحظات الصمت تؤخذ بالاعتبار.
سألتها عن الفرق بين الموسيقى الإنجيلية والموسيقى العلمانية في بيتهم عندما كانوا صغارًا.
“لم يكن مسموحًا لنا بغناء الموسيقى العلمانية. لم يكن بابا ليسمح بذلك. كان ربما يعرف أننا نرقص.. ولم يقل شيئًا، إلا أنه لم يوافق.” ثم مالت ناحيتي كأنها ستخبرني سرًا، “حتى هو نفسه عزف الجيتار، لكن ليس خارج المنزل“.
خلال النضال من أجل الحقوق المدنية، رفعت الأغاني الإنجيلية القديمة معنويات الأمريكيين الأفارقة الذين لم يرغبوا سوى في العيش في سلام وكرامة، وساعدت الأغاني على تعزيز الإصرار في مواجهة تصدٍ عنيف، والكثير من الأغاني الإنجيلية التي كانت تتحدث عن التقبل في الجنة والتخلص من الأعباء وما شابه كانت تفهم كرسائل ملحّة عن الاحتياج إلى التحرر.
تعود بدايات التقليد الشفهي عند الأمريكيين الأفارقة إلى فترة ما قبل الحرب الأهلية، وعليه فقد كانت هناك ضرورة لاستيعاب مثل هذا الخطاب المموه والمشفّر، موزون بعناية ليصل إلى بعض الآذان ويختبئ من أخرى. يتجلى ذلك بقوة في لغة السكك الحديدية السرية حيث كانت هارييت تبمان Harriet Tubman مناهضة للعبودية وجاسوسة مسلحة للجيش الأمريكي خلال الحرب الأهلية تحمل اسم “موسى” ونهر أوهايو يُعرف بـ “نهر الأردن“.
في هذا السياق، سألت عن أغنية ستيل أواي تسلل بعيدًا Steal Away – في زمن جيم كرو كان المصطلح يشير إلى المزارعين المستأجرين الذين كانوا، حين تثقلهم الديون غير العادلة من أصحاب المزارع، يتسللون هاربين في الليل طلبًا للحرية. إلى أي مدى، أثناء طفولتك وشبابك، كنتِ تفكرين في تلك الأغاني على أنها أغاني سياسية؟
لم تبد مرتاحة لوصفي للأغاني بالسياسية، ولكن حين تحدثت عن ستيل أواي قالت:
“كما تعرف، عندما كنا نغني ‘ربي يناديني بالرعد والبرق‘، فإن ذلك يأتي من زمن العبودية. كانت تلك إشارة إلى قدوم عاصفة تلك الليلة، مما يجعل الوقت مواتيًا للهرب. كنا نغني عن الخوض في الماء كإشارة إلى الهرب عن طريق عبور المياه في تلك الليلة.”
دائمًا ما كان القص، وما يتضمنه من توضيحات لأصول الكلمات المغناة، جزءً من عروض البادجت سسترز، كوسيلة ليس فقط لإحياء الأغاني القديمة ولكن أيضا لضمان عدم ضياع السياق الذي كانت تُغنّى فيه.
كنت أحاول تحديد التسلسل الزمني – هل كانوا دائما ثلاثياً؟
“كنا آل بادجت – تألفت فرقة آل بادجت الأصلية من بابا وأكبر شقيقاتي إيلا والشقيقة التي تليها كليو وأكبر أشقائي كورتليو جونيور. حين بلغ شقيقي الثانية عشرة من عمره لم يعد بإمكانه البقاء مع الفرقة بسبب تقاليد الكنيسة المعمدانية التي لم تسمح بالمشاركة في شعائر الكنيسة إذا لم تكن عضوًا بها. وتم ضم سيلستر للمجموعة لتشغل مكانه. وعندما بلغت إيلا ستة عشر عامًا لم تعد تريد أن تستمر مع الفرقة فجئت أنا لأحل محلها.”
كان والد كوني، كورتليو أوديل بادجت، هو العقل المدبّر وصاحب الرؤيا وراء صوت الفرقة. في ١٩٥٤ قام بتسجيل أربع أغنيات أكابيلا إنجيلية باستخدام صوته فقط في تسجيلات متعددة ركبها لتشكل الأجزاء الأربعة من تآلفات الهارموني، واصفًا نفسه بأنه “رباعي الرجل الواحد“. اشتهر محليًا باعتباره موزع رباعيات ورئيس جوقة. كان يعمل مع فرقتين – آل بادجت ورباعي سيلفرتون – وكلاهما تألف من الأقارب.
للأسف توفي الوالد في ١٩٧٨، قبل تسجيل أغنية ترافلنج شوز أحذية سفر Travelling Shoes، أول ظهور مسجّل لهن تحت اسم الأخوات بادجت، لـ Eight Hand Sets and Holy Steps. عندما جاء الوقت لتسجيل أول ألبوماتهن الكاملة في ١٩٨٦، أهدينه لأبيهن “إلى الصوت الذي رفض أن يموت“. حتى أنه يبدأ بصوت السيد بادجت الرباعي مسجلاً فوق صوتهن ويغني من الماضي “لا أريد أن يتعثر أحد في حياتي …” قبل أن تردد أصوات بناته الكلمات نفسها في الوقت الحاضر، ثم تأخذنا إلى قلب التسجيل.
لذلك، منذ بداية تاريخهن المسجل، كان هناك دوماً صوت لا نسمعه، إلا أن وجوده الخفيّ كان دائمًا يشكّل ويوجّه ويضيف تآلفات الهارموني إلى الأصوات الثلاثة القوية التي نسمعها. بعد ذلك بخمس سنوات، في ١٩٩١، توفيت كليو، التي كانت دوماً المغنية الرئيسية في البادجت سسترز. في ١٩٩٥ أصدرتا كوني وسيلستر أغنية جف مي ونجز أعطني أجنحة Give Me Wings الذي يدفع بأصواتهما بقوة إلى الواجهة، ولكنه بذلك يسلط الضوء على غياب أختهما. كان على بنية الهارموني، في محاولة لموازنة القيادة والاتباع، التحول نحو محور مزدوج، فقد كانتا قبل ذلك تبنيان قاعدة متحركة من الدندنة والترنيم بلا كلمات لتشيّد أختهما صرحًا من الغناء فوقها، أو كن تتناوبن الأدوار أو تغنين بصوت واحد. في الوقت الحالي لم تعد سيلستر تغني، مما يعني أن كوني، في المرات القليلة التي تقدم فيها عروضًا، تغني وحدها.
لابد أن الغناء وحدك غريب، فقد كان الأساس دائما في الهارموني، أليس كذلك؟
“نعم إنه كذلك.. إلا أني ما زلت أسمعهم.”
هذا يعني أنها حتى عندما تغني وحدها لا يمكن لغنائها أن يكون ممارسة فردية – فهو لا ينفصل عن تعدد الأصوات والهارموني.
أخبرتني بعد ذلك أن لها أمنيتان لا تزال ترغب في تحقيقهما نيابة عن عائلة بادجت وتراثها.
قالت إن ابنها الأصغر مارسيلو، الذي توفي عن عمر ٤٠ عامًا – وغنت هي في جنازته جست ا ليتل وايل تو ستاي هير لن نبقى طويلًا ههنا Just a little while to stay here المشرقة – كان صاحب الصوت الأجمل في العائلة، وأنها لا تزال تمتلك تسجيلات لغنائه وترغب في تسجيل دويتو معه. كما لديها تسجيلات لأبيها ترغب أيضًا في التسجيل معها رغبة كوني الأخرى هي أن تحصل الأخوات بادجت على جائزة التراث الوطني التقديرية. وقد تلقين جائزة على مستوى الولاية ولكن لم يتم تكريمهن على المستوى الوطني بعد. لا يسعني هنا إعادة صياغة ما قالته لأن ذهني كان قد بدأ يسبح في أرجاء تلك الفكرة الثرية: هنا يتلاشى التمييز بين التاريخ المسجّل والتاريخ الشفوي – فهي لا تغني إلى جانب التسجيل الموجود وإنما تغني في حوار حميم مع الأصوات التي نسمعها في التسجيل. هي ما زالت تسمعهم. التسجيلات مجرد نقطة دخول، مساحة للتواصل من خلال الأغنية مع أبيها وابنها الغائبين الحاضرين.
بعد أن استغرقني استيعاب الفكرة بضعة لحظات، أعدها أن في زيارتي القادمة للوطن، سأسعى لجعل هذه التسجيلات حقيقة.
في ختام لقائنا، أصرت كوني أن تُسمعني بعض الأغاني التي لم يسبق إصدارها. وبالطبع وافقت والسعادة لا تسعني. ذهبت لأيقظ أمي، التي كانت قد غفت في السيارة في موقف سيارات المكتبة تحت مطرٍ لم يتوقف عن الانهمار، وركبنا ثلاثتنا في سيارة كوني الكرايسلر البيضاء — كوني في مقعد القيادة وأنا إلى جانبها وأمي في المقعد الخلفي. بينما تأملنا من وراء زجاج السيارة الحقول الغارقة في الأمطار أمامنا شغلت كوني أغنيتين – سايلنت نايت ليلة صامتة Silent Night و ترافلنج شوز – تم تسجيلهما في ١٩٥٤ عندما كان عمرها ١٤ عامًا فقط، وحين كان العديد من أفراد عائلتها المتوفين الآن ما زالوا مبتهجين معاً. كانت التسجيلات مشوشة إلا أن الدفء والروح العالية وتآلفات الهارموني المحلقة أشرقت رغم أزيز الشريط. أسعدني اكتشاف كل تلك الأصوات في حين كان كل ما سمعته قبل ذلك هو الثلاثي الذي طالما اعتقدت أنه الفرقة الأساسية.
بعدها بقليل ودعنا بعضنا البعض واتفقنا على أن هذا ليس لقاءنا الأخير، ثم انسحبنا مرة أخرى إلى تلك الطرق الريفية والأمطار.
منذ ذلك والوقت وكوني وأنا نتراسل على الإيميل ونتحدث عن خطط تسجيل الدويتو مع الراحلين، وأيضًا عن فن القص الذي كان دائما جزءً أساسيًا من العروض الحية للأخوات بادجت. تتقدم الترتيبات ببطء، إلا أنه من المؤكد أن ذلك التسجيل سيرى النور خلال الأشهر المقبلة.
مؤخرًا كتبتُ لها أن صديقي كريستيان نيامبتا قد أرسل لي من القدس زار كريستيان القدس في تعاون مع مؤسسة المعمل الفلسطينية رسالة لا تحوي سوى اقتباسًا من أغنية ذ بادجت سسترز – “نمشي في القدس مثل يوحنا“. أردت لها أن تعرف أن فنها قد سافر بعيدًا. الرسالة نفسها تقريباً وصلتني أيضاً من صديقي معن أبو طالب، الذي كان يزور عائلته في فلسطين للمرة الأولى. ردّت كوني “شكرًا على الأخبار“، ثم أضافت “أنا مدينة بكل شيء لأبانا الذي في السماوات ولبابا. بابا لأنه صاحب الرؤية، وأبانا السماوي لأنه حقّقها له برزقه إيأنا ثم ألهمنا الرغبة في مواصلة المشوار بعد أن ذهب وأصبح معنا بالروح فقط.”
للاطلاع:
٢. قائمة بالعبارات والشيفرات التي استخدمها أعضاء حركة أندرغراوند رايل رود.