.
الموسيقيّ الطليعيّ نجيب الشرّادي يوجه رسائل إلى موسيقيّ شاب. في تقليد نأمل بأن نحيي من خلالها تقليد الرسائل بين الفنانين الكبار والشباب. لذلك ندعو الموسيقيين الشباب للتواصل مع الشرّادي.
الرسالة الأولى
ماذا يمكن أن يكون نوع السؤال المحتمل طرحه اليوم من طرف شابة موسيقية عربية أو شاب موسيقي عربي؟
لقد طلب مني صديقي أحمد أن أكون ضيفاً على جريدته الالكترونية بل و– أن افتتح هذا البناء أو المولود الحديث.
إن هذه مهمةٌ صعبةٌ للغاية ومسؤوليّة ذات حجمٍ كبير تتطلب التفكير بجديةٍ وتمعن. لكن بأي طريقة أو على أية شاكلة؟
إنه وبكل بساطةٍ قال لي: أن اكتب رسالةً تكون موجهةً إلى شاب موسيقي عربي، على شاكلة ما قام به الشاعر الكبير “راينر ماريا ريلكه “رسالة إلى شاعر شاب“.
كل هذا ليس بالهين. المسألة تتطلب كتابةً تراعي جوانب عدة عند المتلقي؛ عليها أن تكون كتابةً واضحة المعنى سلسة التعبير وهادفة المرمى. وبعبارةٍ أخرى: أن تكون ناقلةً لرسالة وحاملة لمعرفة ومعطياتٍ تعليميّة وتوجيهيّة.
لكن هناك ملاحظة صغيرة تشير إلى اختلافٍ في الوضع الذي يميّز “ريلكه” عن الوضع الذي نوجد نحن عليه: لقد كان ليريلكه محاوراً، يرسل إليه أسئلةً حول الشعر وماهيته وقواعده. وكان ريلكه يجيب ويوضّح ويرشد.
إن وضعنا مختلفٌ تماماً من هذه الزاوية. فالأمر يتطلب البحت عن السؤال قبل الجواب. وهذا وضع اسثتنائي. “إن من يطرح الاسئلة هو الوحيد القادر على الجواب“، قال الفيلسوف الفرنسيّ جيل دلوز في رسالةٍ إلى صديق ياباني.
الأمر يستدعي البحت عن السؤال الممكن طرحه، أو المحتمل طرحه أو المطروح أو الذي يراد طرحه أو الغير مطروح أو المستبعد طرحه أو اللامفكر في طرحه. وهذه عمليةٌ تتطلب استحضار الغائب/ الحاضر/ الغائب، وذلك للمساهمة معي في حل هذا اللغز ولو من خلال هذه الرسالة الأولى. فهناك صديقي أحمد وهناك الشاب الموسيقي الذي اقترحه، وهناك أنا كمقترح للكتابة وما اقترحته من تلك الشابة الموسيقية في أول الكلام. إضافةً إلى عنصر مهم: وهو القارئ، أو المتلقي، والذي هو جزء من الكتابة.
نعم هكذا أصبحنا مجموعةً قادرةً على خلق عالمٍ تساؤلي تتداخل فيه كثير من الأسئلة، متعددة ومختلفة.
ربما أن أول سؤال يتأتّى إلى الدهن هو: ما هي علاقتنا بالموسيقى؟ وماذا نريد منها ؟ بل وقد نطرح سؤالاً يتساءل عن ماهية الموسيقى في حد ذاتها.
ما الموسيقى؟
“دون الموسيقى، تغدو الحياة خطأً” قال الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه.
إن هذا السؤال جوهريٌ أساسي، ومن الصعب أن نقفز عنه. إنه سؤال أوليّ علينا الإلمام به بشكل عميق ودقيق وأن نغوص في أدبيات التعريف به. إلا أن سؤالاً أخر لا يقل أهميةً يندرج في ثنايا حدّة هذا السؤال: إنه الصوت: أساس كل دبدبةٍ في الموسيقى، بل العمود الفقري لها.
فما هو الصوت؟
إننا إذا ما دقّقنا السمع إلى الحياة الصوتية المحيطة، فسندخل إلى عالم لانهائي، وسنلاحظ أن كل ضجيج وكل صوت يوحي إلى ذهننا بترابطات متعددة، وتداخلات متنوّعة تدخلنا، وبدون أي عناء، في حوار مع المعرفة الإنسانية. والصوت مرتبط أشدّ الارتباط بالحياة، ونقيضه الصمت بامتياز.
ولا يمكن لعنصر الصوت التواجد بدون تواجد عنصر الهواء: القلب النابض لكل حياة. والذي تقول عنه الحضارة الهنديّة القديمة: “الذي يسكن الصوت لكنه يختلف عنه، والذي لا يعرفه الصوت، الذي جسده هو الصوت، الذي يوجّه الصوت من الداخل، إنه معلمك القريب الأبدي“.
إن الصوت هو أول آلة موسيقيّة استعملها الانسان وحدّدت طبيعته العميقة. كما أنها حدٌدت اختلافه عن الحيوان. وقد أجمعت كل الحضارات القديمة، على أن خلق العالم مرتبط بالصوت. فالميثولوجيا المصريّة تقول: “إن الإله ذهوت خلق العالم بإطلاق صيحةٍ“.
الآن، وفي عصرنا هذا، لم تعد الأمور كما كانت عليه من قبل. ولم يعد الصوت عالماً مجهولاً. إننا ندرك أن الصوت نتاج لظاهرة طبيعية. فقد غيّرت المعطيات العلمية من التعريف القديم والمرتبط بالحدس. والذي، على أثره، بُنيَ وأُسس بتدّرج كل التطور الموسيقي.
نعرف اليوم أن الصوت لا يأتي إطلاقاً وحده، بل يكون مصاحباً بجيشه الهرمونيقيّ (التناغمي). إنه ظاهرة ذبذبيّة مثله في ذلك مثل الضوء والحرارة.
وانطلاقاً من عالم الذبذبات هذا، نجد أن الصوت يتوافق ويرتبط باللون والشكل. كما أن قواعد الهارموني (التوافق) الموسيقي، تندرج من هذه العوالم الذبذبيّة.
لكن، ورغم كل هذة المعرفة، يبقى الصوت ظاهرةً تلفّها كثير من الغرابة، وذلك لاحتوائها على سلطة الإنفلات من جهة، وبالتداعيات والترابطات اللامننتهية تقريباً، والتي تخلقها فينا، كلما حاولنا مساءلتها، من جهةٍ أخرى.
إن هذه الاطلالة الصغيرة تستدعي مزيداً من البحث والتنقيب لمن يريد أن يغوص في عالم الصوت كمدخلٍ لمعرفة الموسيقى. فالصوت يستدعي إلماماً ليس بالموسيقى وحسب، بل الاهتمام بعلوم أخرى كالفلسفة والفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الفلك وعلم الجمال وغير ذلك.
يمكن لدراسة الصوت أن تفتح آفاقاً جديدة ومهمة أمام الشباب المهتمين بحقل الموسيقى وغيره. ويمكّننا من توسيع حقل مخيلتنا. إنه خزانٌ نابضٌ بالعطاء والتعاليم. وعالم التكنولوجيا اليوم يساعد ويسهّل مأموريّة البحث والتنقيب لمن يمتلك إرادة المعرفة وحرقة الأسئلة.
وأول تمرينٍ قد يساعدنا على ممارسة الاستماع إلى الصوت ومحاكاته هو جسدنا. إنه أول فضاء يعلمنا كيف نستمع إلى موسيقاه الداخلية. إنه مدخلٌ ينير طريقنا للاهتمام والانتباه والتركيز والاحساس بكل ما يحيط بنا من عالمٍ صوتي، والوعي بكل ماهو داخلي/ خارجي/ داخلي.
فجسدنا موسيقانا الأولى ومرشدنا.
سنكتفي بهذا القدر في هذه الرسالة المدخليّة. بانتظار الآتي البعيد من الأسئلة أو ما شابه ذلك.
تحياتي،