.
لا مزة لجيل الثمانينيات والتسعينيات في مصر إلا روبي. ووصف مُزة ليس مرتبطاً بالشكل الجميل ولا بالجسد المثير فحسب، ففي روبي كل مواصفات نجمة الجيل: السمار المصري الخالص، الكاريزما التي لا تحتاج إلى مجهود للوقوع تحت سحرها، والذكاء في التعاطي مع كل ضجة تثار حولها، والرقص المبهر رغم كل ذلك، بمختلف المقاييس.
١٣ عاماً مرّت على ظهور روبي الأول على قناة ميلودي، التي كانت عرابة كل أنواع ما سمّي بـ الفن الهابط: مروى، وماريا، ونجلا، ونانا… فكانت المحطة المصرية هي النسخة المبتذلة من قنوات الفيديو كليب، مقابل القناة الأكثر رصانة (في الإغراء) روتانا. بينما كان نجوم الصف الأول يتهافتون للتوقيع مع الشركة السعودية التي احتكرت السوق الغنائي، ظهرت ميلودي ومنحت الفرصة لكل الطامحات في الشهرة. وفي زحمة مغنيات الإغراء، ظهرت الشابة السمراء، ببدلة رقص وردية، وحذاء بكعب عال، ترقص في احد الشوارع، رقص مراهق بدوره. طيلة أربع دقائق ونصف، روبي ترقص. تبدّل ملابسها بملابس مغرية أخرى، وترقص. على الأرض، في الشارع، على الحائط… ترقص فقط، وتبتسم. رغم كم الإغراء هذا، بدت طفلة.
انطلقت حملة الهجوم على المخرج شريف صبري، وعلى “الانحطاط وإفساد الذائقة الفنية“. رد روبي لم يتأخر، عادت بـ ليه بيداري كده، وهذه المرة بنوع إغراء أكثر جرأة وجنوناً: تمارس الرياضة على آلة تبرز مؤخرتها بشكل واضح. حتى سميت الآلة نفسها بآلة روبي. لكن قبل الدخول في كل هذه التفاصيل التي سبقت والتي تلت، نبدأ القصة من بدايتها.
نهاية تسعينيات القرن الماضي، بدأت تظهر ملامح تغيير فني في مصر، انتقل إلى باقي الدول العربية. ظهرت هذه الملامح في خطين متوازيين، ما يعرف بـ سينما الشباب مع فيلم مثل صعيدي في الجامعة الأمريكية، وإلى جانبه ما اعتمد على تسميته السينما النظيفة مع نجمات وسمن أنفسهنّ بـ الرقي والحشمة والاحترام، مثل منى زكي. هذا الصعود المريب، ترافق مع نجومية مريبة ايضاً للداعية الشاب عمرو خالد. دخل المجتمع المصري في هستيريا دينية “كول وحديثة” غير مفهومة. هكذا ارتدت أغلب فتيات الطبقة الوسطى الحجاب شهدت موجة الحجاب انحساراً في سنوات حكم الرئيس المصري محمد انور السادات، وبدايات عهد محمد حسني مبارك، نتيجة التضييق على الإسلاميين. لكن مطلع الألفية الجديدة، ومع ارتفاع وتيرة ظهور الدعاة الدينيين في الإعلام وعلى رأسهم عمرو خالد، عاد ارتداء الحجاب ليغزو الشارع المصري وغيره من الدول العربية مثل الأدرن سورية والمغرب العربي، وبات التنمّر وتعيير غير المحجبات ظاهرة منتشرة في الشارع المصري. كما بدأت صفات من نوع “فاسقة” و“فاجرة” تلتصق بنجمات الجيل السابق، مثل نادية الجندي ونبيلة عبيد وإلهام شاهين. بينما كانت ساحة الغناء، تحتلّها أيضاً فنانات “راقيات” مثل أنغام. لم يكن انفجار الانترنت الكبير قد حصل. وكان الإنتاج الفني يدخل البيوت والمقاهي من خلال قنوات الموسيقى والفيديو كليب فقط.
وسط كل ذلك، أطلّت عام ٢٠٠٣ فتاة شقية وجميلة، ترقص في شوارع براغ، وتنام على الأرض ببدلة رقص، وتردد سبع جمل لا غير، على وقع موسيقى لطيفة، وبصوت معقول وقريب جداً إلى الأذن، فكانت انت عارف ليه (كلمات خالد منير وألحان محمد رحيم) الانطلاقة الحقيقية لروبي.
أغنية واحدة جعلت من روبي نجمة. دخلت من خلال شاشة ميلودي كل البيوت، وكان كل المشاة في الشارع يشاهدونها ترقص وتغني على التلفزيونات الموزعة في المقاهي.
في البداية، انهالت عليها الشتائم والأحكام الأخلاقية، واعتبرت دخيلة على المشهد المصري النظيف، وامتداداً لفسوق لبنانيّ أطلقته هيفاء وهبي. لكن هذه المقاربة بدت ظالمة إلى حد كبير: لا جمال روبي واضح ووقح مثل جمال هيفا وهبي، ولم يكن إغراؤها فجّاً مباشراً، إلى أن جاءت أغنية ليه بيداري كده. رغم ارتفاع منسوب الإغراء، بدا التطبيع مع نموذج روبي يزداد عند جيل الشباب، بينما ازدادت حدة الانتقادات في المقابل.
https://www.youtube.com/watch?v=c3iSoXGl2Do
انفجرت هذه الانتقادات عام ٢٠٠٥، عندما غنت روبي في أبرز مهرجان سينمائي عربي مستحدث، وهو مهرجان دبي السينمائي. عشرات المقالات اعتبرت أن حضور روبي للغناء في هذا المهرجان “إهانة للفن العربي” خصوصاً أن في المهرجان حضور أجنبي. الصحافة الثقافية الراقية لم توفّر روبي بدورها. يومها لم تفهم روبي كل هذا الهجوم عليها، “لم أكن على وعي بالمجتمع الذي أعيش فيه” قالت لإسعاد يونس قبل أيام في مقابلتها على قناة سي بي سي. ” ليه يا طنط إنتِ متضايقة؟” قالت في سؤال يصلح شعاراً للصدام بين جيلين، بين مدرستين فنيتين.
لكن صوت الـ طنط الخائفة على الأخلاق العامة من روبي وجسدها المغري الخجول في نفس الوقت، بدأ يخفت مع انطلاق عام ٢٠٠٧، الذي نزل فيه ألبومها مشيت ورا إحساسي. يومها بدأت صورة روبي كأيقونة الجيل الجديد تتبلور. بداية ترسيخ هذه الصورة كانت مع وقوف روبي في وجه كل المدرسة التقليدية التي جعلت الفنّ المصري رمادياً مطبّعاً بشكل كامل مع نظام محمد حسني مبارك، ومع رمادية حكمه ورمادية الشوارع والأبنية في مصر.
روبي الشابة كانت المرادف المصري لنانسي عجرم. نموذج أكثر تقبلاً في الشارع المصري في الدلع والرقص والغناء في الشارع، وفي صدمة الإغراء الآتي فجأة بعد سنوات من “النظافة الفنية“. هذه كانت بداية شهرتها التي رافقتها عوامل كثيرة جعلت منها “ملهمة جيل” هو الجيل الذي شارك بشكل أساسي في ما بعد بالثورة. هذا النموذج المصري بدا خارج سياق النجومية الـ ماينستريم.
بقيت روبي على هامش الأحداث الفنية الكبرى في القاهرة، وبدت بعيدة عن الصداقات الفنية. هامش أرادته لنفسها كما أوضحت في المقابلة نفسها مع إسعاد يونس. كانت تحب الموسيقى وتحب الرقص، وقررت فعل ما تحب من دون أي حسابات أخرى. هذا التهميش استمرّ في الصحافة والساحة الفنية بينما كان رصيدها يرتفع عند الشباب حتى وصلنا إلى أغنية مش هتقدر التي كتب كلماتها الشاعر عصام عبدالله ولحّنها شريف صبري. يومها اعترف الوسط الفنيّ بروبي مغنية تتمتّع بصوت وموهبة. في ذلك الوقت أيضاً عادت روبي إلى الواجهة بمشاركتها في فيلم سكوت حنصور ليوسف شاهين مدللة على قدراتها الفنية المتعددة. رغم ذلك، ورغم فتح المجال لها في تلك الفترة (2007) لدخول باب الفنّ بشكله التقليدي والرسمي، واصلت روبي لهوها وشقاوتها. ما الذي فعلته روبي إذاً لتستحق هذا التحوّل المخيف من فتاة راقصة إلى أيقونة؟ ببساطة، فعلت روبي كل ما كان مخالفاً للسائد وقتها، من دون أي ابتذال. لم تلجأ لعمليات التجميل، عاندت الشكل النمطي للجمال الذي احتل الساحة الفنية العربية وتحدى سمارها الوجه الأبيض المرادف للجمال تقليدي. أما جسدها فجسد جميل لفتاة في بداية عشرينياتها. بهذه البساطة: لا اكتناز يكشف عن تضاريس مفتعلة، ولا نحافة زائدة ومقاييس غير بشرية. بدت روبي شبه أغلب الفتيات العربيات. ومع هذا الباكادج كله، كانت شقاوة لم تعرفها الساحة المصرية منذ سنوات طويلة.
وفوق ما سبق، لم تبد روبي مهتمة بالنجومية. لم تظهر في مقابلات تلفزيونية، لم تملأ الكون ضجيجاً، ولا تملأ الصحف صوراً. حتى دخولها إلى مواقع التواصل الاجتماعي لا يزال حتى الساعة خجولاً حساب تويتر جديد، صورة واحدة على انستجرام. هذا الغموض حوّل حياتها إلى مجموعة من القصص المتناقلة، وأغلبها شائعات. هو غموض زاد من جاذبيّتها ومن ألقها.
لم تدّع روبي يوماً أنها تقدّم الفنّ الفشيخ، هو فنّ استعراضي، تريد أن ترقص فترقص. تحب المزيكا فتغنّي. تغنّي جيداً، أغاني قريبة للأذن، موسيقى خفيفة وغير مزعجة، بتوزيع هادئ ولائق بالكلام والموسيقى. لكن رغم كل ذلك، اختفت روبي. خفت وهجها في العام ٢٠٠٧ تقريباً. بدت ظاهرة وانحسرت. لكنّها خيّبت آمال الشامتين مجدداً. عادت عام ٢٠٠٨ بأغنيتها الشهيرة يالرموش كلمات محمد جمعة وألحان محمد رحيم لترسّخ نفسها “مزة مصرية خالصة” بكل المعايير: اللوك المصري، السمار، الرقص… ما بعد يالرموش لم يكن كما قبلها. قدّمت روبي لنفسها صورة أخرى بعيدة عن الإغراء. لم ينتقدها احد، بدا وكأنّ الأغنية مرّت بصمت، واختفت روبي بعدها مرة أخرى، أو لنقل اختفت روبي المغنية وظهرت في دورها في العام نفسه في فيلم الوعد (إخراج محمد ياسين).
https://www.youtube.com/watch?v=SO7i8vsF4F8
في فترة اختفائها هذه انفجرت موجة الفنانات المصريات المغريات. مغنيات بالجملة ينشرن فيديوهات لهنّ على مواقع التواصل … وانفجرت أيضاً ثورة ٢٥ يناير. سقطت هالة الأخلاق التي كانت تعلّب الشباب وبدأت المصريات بخلع الحجاب. بدأ الشباب يتحدّث بشكل واضح وصريح في الإعلام وعلى مواقع التواصل عن الجنس، عن التحرّش، عن الكبت. بدت الأحكام الأخلاقية محطّ تهكّم، أقلّه عند الشباب والشابات المؤثرين والمؤثرات على مواقع التواصل. عاد اسم روبي إلى الواجهة من دون أي مناسبة حقيقية. عاد اسمها، هي المتمرّدة على كل محيطها منذ عقد من الزمن، كملهمة لجيل من الشباب.
في عام الثورة عادت روبي في فيلم الشوق (المخرج خالد الحجر)، ثم الحفلة (٢٠١٣)… لكن تكريس روبي كممثلة كان في الدراما تحديداً في مسلسل سجن النسا. بدت روبي تخرج من نفسها، تدمّر صورتها السابقة، تقدّم صورة لم تزد على غموضها إلا غموضاً.
الغموض المثير نفسه لكن بصورة مختلفة: ممثلة بارعة، ثم وفجأة، زوجة للمخرج سامح عبد العزيز، ثمّ أم لطفلة تدعى طيبة. هل كسرت روبي صورتها كأيقونة بكل هذا التسلسل السريع؟ إطلاقاً. هي هي. بل ربما أكثر تطبيعاً مع حياة المصريات: الفنانة/ ثم الزوجة والأم. الزوجة المعذبة في مكان ما، تتطلق، ثم تعود لزوجها. روبي أيضاً تعاني من اضطرابات عاطفية. إذاً الأيقونة أقرب إلى الناس مما تصوّرت هي نفسها؟
ثمّ ماذا بعد؟ في ظهروها على برنامج صاحبة السعادة لم تفتعل روبي شيئاً. “أنا شقية“، “آه كان في إغراء“، “اتضايقت قوي من النقد” “كان في تجريح” “قلت هقعد في البيت“. لا تداري روبي صورتها، غير مكترثة بالنجومية، وتعرف جيداً مكانها اليوم. هي عارفة ليه الجمهور يحبها، كل الباقي تفاصيل.