fbpx .

ستيف رايش ومتعة التكرار

رامي أبادير ۲۰۱۵/۰٤/۱٦

مقدمة: ما قبل التقليليّة

على مدار ما يقرب من نصف قرن، ظلّت الموسيقى غير اللحنيّة أو اللا مقاميّة (atonal) طاغية على المشهد الموسيقي الكلاسيكي. ترجع أصول الموسيقى التي تفتقر إلى قواعد الهارموني الأساسية إلى أواخر القرن التاسع العشر، كما يظهر في موسيقى جان كلود ديبوسي. مع بداية القرن العشرين بات من الواضح أن هناك توجهّاً لدى المؤلفين الموسيقيين لتبني اللا مقاميّة، كما يظهر في موسيقى بلا بارتوك وإيغور سترافينسكي—بالرغم من اعتماد الأخير الكلاسيكية الجديدة في مراحل من مشواره الفني—وموسيقيين آخرين مثل إدغار فاريز الذي اهتم بنغمات غير الاثنى عشر نغمة المتعارف عليها (microtones) في الموسيقى الغربية وخصائص موسيقية أخرى. لم تنجح بشكلٍ كافٍ المحاولات الإصلاحية التي قام بها رواد المدرسة الكلاسيكية الجديدة (neo –classical) في الفترة ما بين الحربين العالميتين، إذ تفتقر الموسيقى السريالية  (serialism)التي دشّنها أرنولد شونبرغ إلى قواعد الهارموني والمركز المقامي، وتعتمد بشكل أساسي على أسلوب الإثنى عشر بُعد نغمي (twelve tones technique) والسلم الكروماتيكي من دون التقيّد بالمقامت الكنسية (modes)، كما تتجنّب تكرار لحن معين والالتزام بسرعة إيقاع معينة، ليتحرر الفنان والمتلقي من القوالب الموسيقية المتعارف عليها.

افتتاحية طقوس الربيع لسترافينسكي

من أعمال شونبرغ

بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية ودخول التكنولوجيا في المجال الموسيقي، ازداد التمرّد على الجماليات الموسيقيّة التي تراكمت على مدار قرون عدة لتصبح الموسيقى الكلاسيكيّة الحداثيّة أكثر حريّة، وزاد الاهتمام بالأصوات والتجريب والبحث عن خامات صوتيّة جديدة عن طريق ما وفرته الإلكترونيات وشرائط التسجيل (tape recording) والمؤثرات الصوتيّة على حساب الألحان الموسيقية وقواعدها، حتى أن جون كايدج كان يعتبر أي صوت موسيقى في حد ذاته. وإذا نظرنا إلى تلك المرحلة في معزل تطوراتها اللاحقة من منظور قواعد الموسيقى الغربية الكلاسيكيّة المتعارف عليها قد يبدو لنا أننا بصدد انهيار الموسيقى بشكلها المألوف، وأن ما تنبّأ به  لويجي روسولو وأسس له في نص “فن الضوضاء” بات مهيمنًا على الفنانين الطليعيين بأمريكا والموسيقيين الواقعيين (concrete music) بأوروبا.

Ionisation لإدغار فاريز

تنويعات لجون كايدج

نشأة التقليليّة

من هنا نشأت حركة الموسيقى التقليلية كنوع من الرفض التام للموسيقى الكلاسيكية الحداثية ومنظومتها اللا لحنيّة. مع صعود نجم هذه الحركة في السبعينيّات، بعد رواج أعمال ستيف رايش وفيليب غلاس (Music for 18 MusiciansوEinstein on the Beach) قام النقاد والمؤرخون الموسيقيون الحداثيون بمحاربة الحركة التقليليّة، وبلغ بهم الأمر بوصفها بالرجعية والاصلاحية والمبالغة ومقارنتها بالكلاسيكية الجديدة؛ لأنها اعتمدت بشكل أساسي على وجود مركز مقامي وميزان وسرعة إيقاع واضحيْن، بالإضافة إلى استخدام أسلوب الكانون (canon) وهو احد أشكال الكاونتربوينتس التي كانت سائدة في عصر النهضة والباروك. من ناحية أخرى وبعد مرور وقت على نشأتها أصبح من الممكن قراءة التقليلية كرد فعل على الحداثة، قام بالتشكيك في جدوى الموسيقى الحداثية والتمرد عليها مع استحضار روح الموسيقى الكلاسيكية وقواعدها وتوظيفها بشكل عصري، وهو ما حدث مع فروع فنيّة أخرى. تبعد التقليليّة أيضًا عن نخبويّة الكلاسيكيّة الحداثيّة والطليعيّة، بل وتتفوق على طليعيتها، إذ لقيت انتشارًا واسع عالميًا بين الجمهور لتؤثر بشكل واضح على الموسيقى البوب والروك ومشهد الموسيقى الراقصة.

ما يميز التقليلية بشكل واضح عنصر التكرار، الذي بات سمة عصرية في كل المجالات. ولكن التكرار في هذا النوع من الموسيقى اتسم بالديناميكيّة، إذ أنّه عملية تدريجيّة—كما وصفه ستيف رايش (gradual process)—تسفر عن تغيرات وتؤدي إلى نتائج مختلفة داخل المقطوعة الواحدة.يلقي هذا المقال الضوء على رائد الموسيقى التقليلية ستيف رايش وتطور أعماله وإسهامه في المشهد الموسيقي. ويتناول أيضًا تحليل موسيقاه و بعض أفكاره واستنتاجات حولها.

مقطع من Einstein on the Beach لفيليب غلاس

بداية ستيف رايش وأعماله الأولى

اهتم ستيف رايش بالسريالية في بداية حياته الموسيقية في أوائل الستينيّات، متأثرًا بالفنانين المعاصرين له. لكنه سرعان ما أدرك ميله الأساسي نحو الموسيقى المقامية والتكرار والإيقاعات المركبة، على عكس أساتذته، بسبب حبه لموسيقى بيروتان وباخ وإيغور سترافينسكي وكيرت فايل وجون كولترين. كانت هذه خطوة جريئة وصدامية مع المجتمع الموسيقي وقتها. يظهر ذلك من خلال عمله الثالث Piano Phase، الذي يعتمد على عزف جملة موسيقية في بداية المقطوعة يتكرر عزفها بنفس خصائصها في نفس التوقيت من قبل نفس العازف بيده الأخرى (أو عازف آخر) على بيانو آخر. ثم يقوم العازف أو أحد العازفين بزيادة سرعة إيقاع إحدى الجملتين تدريجيًا، لتنشأ علاقة مركبة بين الجملتين من خلال خلق تأثير التردد الذي يتحول إلى صدى صوت في بداية الأمر. مع زيادة السرعة تدريجيًا وتكرار الجملتين تزداد العلاقة الإيقاعية تركيبًا وتنشأ جمل موسيقية جديدة. تستمر تلك العملية إلى أن تتقابل الجملتان من جديد في إحدى الموازير. يعرف هذا الأسلوب بالتدرج الزمني (phasing) وقد اكتشفه رايش في عمله الأول It’s Gonna Rain عن طريق التلاعب ببكرتي تسجيل يحتويان على نفس المقطع المتكرر (loop)، لتنشأ علاقة مركبة بين التسجيلين عند إبطاء إحدى البكرتين. ما يحسب لرايش في تلك الفترة هو نقله التجربة المسجلة إلى العزف الحي في Piano phase وViolin Phase وعمله الأطول والأشهر  Drumming الذي ينهي اعتماده على أسلوب التدرج الزمني ويتوجه.

مقطع من Piano Phase لرايش

رايش يتحدث عن الجاز وجون كولترين ومقطوعتي It’s Gonna Rain وPiano Phase

عناصر موسيقى رايش وتطور أسلوبه

يتميز أسلوب رايش في جميع أعماله وفي علاقة آلاته بعضها ببعض بأسلوب الكانون من خلال إيقاعات مركبة(polyrhythm) وجمل موسيقية قصيرة مكررة، على عكس جمل باخ الطويلة. إذ يعد الكانون عنصرًا أساسيًا له جذور أفريقيّة وآسيويّة، لم يبدعه ويحتكره الأوروبيون. يتكون عمل Drumming من أربعة أجزاء، ويبدأ بعازفيْن لآلة البونجو الإيقاعية ويتدرج إلى أن يصل عدد العازفين إلى ثمانية. في الجزئين الثاني والثالث يتم عزف آلة إيقاعية معينة (ماريمبا وجلوكنشبيلز بالتعاقب) بمصاحبة صوت آدمي يقوم بدور إيقاعي بديل عن الغناء. وتنضم كل أقسام الفرقة بآلاتها الموسيقية المختلفة في الجزء الرابع. اهتم رايش بالجانب الإيقاعي على حساب النغمات في هذا العمل وفيClapping Music و Music for Pieces of Woods. يختلف بناء تلك الأعمال عن الطريقة الكلاسيكية والحداثية. ويوضح عمل Drumming العناصر الأساسية التي بنى عليها بقية أعماله في ما بعد، وهى الاهتمام بخامات وتلاحم أصوات الآلات (texture and timbre)، وتكرار الجمل الموسيقية القصيرة الذي يسفر عن تغييرات بطيئة في الإيقاع واللحن. يأتي هذا التغيير التدريجي بفضل تبديل السكتات بالعلامات (rest for beats) والاعتماد على السينكوبيشن. يظهر ذلك تأثره بطريقة العزف الأفريقية، وعزف نفس الجملة الموسيقية في الوقت نفسه بموازين مختلفة من آلة إلى أخرى أو تأخر آلة في العزف عن بقية الآلات. ينتج عن ذلك علاقات مركبة ومتشابكة إيقاعيًا تقوم بإبراز ألحان وإيقاعات فرعية ونغمات مصاحبة للنغمات الأصلية (harmonics) . يظهر أيضًا توظيفه للصوت البشري بطريقة غير تقليدية ليستخدمه كآلة. كما نرى ميله إلى موازين غير تقليدية في الموسيقى الغربية كالـ 8/12 معتمدًا على عنصر النبضة (pulse) من خلال أحد العازفين الذي يقوم بضربات ثابتة على الآلة الإيقاعية أو إحدى أقسام المطارقmallets) ) كبديل عن قائد الأوركسترا للحفاظ على الإيقاع وديناميكية الموسيقى والمركز المقامي. يكسر رايش بذلك المفهوم التقليدي لقائد الأوركسترا الذي استمر عليه نظرائه الحداثيين بالرغم ثورتهم على كل ما هو تقليدي. تخلو موسيقاه الجماعية من النظام الهرمي للأوركسترا، ويسودها نظام أفقي خالٍ من العزف المنفرد أو تسليط الضوء على قسم أو آلة بعينها، لتتساوى جميع أدوار العازفين في موسيقاه. ويمكننا القول أن المهارة في العزف (virtuosity) تكمن في الروح الجماعية. من هنا يأتي التعقيد في أعمال رايش، الشئ الذي يناقض فكرة “التقليلية” أو التقليل في الموسيقى. فإن الحفاظ على مدار ساعة كاملة أو نصف ساعة من دون توقف أو تشتت على نفس سرعة الإيقاع والموازين المختلفة والسينكوبيشن والإيقاع المتشابك ودينامكيته شئ بالغ التعقيد. ينشأ عن ذلك تجربة مكتملة عندما يقع المستمع أسيرًا للموسيقى في حالة سامية شبه غائبة عن الوعي بفضل التكرار المستمر. تخلو موسيقاه من نظرية الصدفة لجون كيدج وتحويل التأليف الموسيقى إلى تجريب، موجهًا رسالة واضحة للموسيقيين والفنانين في وقته بأنه قادر على إنتاج حركة ثورية جديدة. وقد شاع في ذلك الوقت التساؤل عن جدوى الفن وما هو الفن وما هو المبتذل، ولعب النص والمفهوم دورًا كبيرًا على حساب الشكل، وتفككت الجماليات وانعدمت الجودة والجدية بحجة التجريب، وما زال هذا الجدل مستمرًا حتى الآن في زمننا هذا.

المقطع الرابع من Drumming

تعد أعمال رايش التي تلت Drumming امتدادًا لهذا الشكل مع إضافة عناصر جديدة في كل عمل جديد، وهو النهج الذي يتبعه حتى الآن. فقد أضاف الأورغن والبيانو واستخدمهما كآلة إيقاعية نغمية مثلما يتم التعامل مع قسم المطارق. قد يرجع ذلك إلى عدم مهارته في لعب البيانو، ولكن نستطيع القول إن ما افتقره رايش من مهارة أدى إلى إبراز أسلوب مختلف في العزف والتعامل مع الآلة. مثال على ذلك عمل Six Pianos وهو إعادة إنتاج للفكرة الأساسية في  Drumming لكن بالبيانو. أما مقطوعة Music for Mallets, Voices and Organ التي تتكون من أربع مقاطع يدخل فيها عنصر جديد وهو تغيير الميزان والسلم الموسيقي والمقام الكنسي (modes) من مقطع  إلى آخر.

Music for Mallets instruments Voices and Organ لرايش

تتويجًا لهذه المرحلة يأتي العمل الأشهر Music for 18 Musicians لرايش، وهو علامة مميزة في التقليلية منذ السبعينيّات وحتى الآن. هذا العمل هو ثاني أطول عمل بعد Drumming من حيث الزمن وطوله ساعة تقريبًا. وعن طول مدة مقطوعاته وما قد يترتب على التكرار من ملل أو تشتيت يعلق رايش قائلًا إنه يقوم بدراسة الوقت الكافي لاستقبال الأذن البشرية لجميع عناصر موسيقاه، من حيث الأجزاء ذات الموجات المنخفضة والمتوسطة والعالية ومدى التفاعل معها. وحين يصل ذلك التفاعل إلى ذروته وقبل أن يؤدي التكرار إلى تشتيت، يقوم بالدخول إلى مقطع جديد. يتكون عملMusic for 18 Musicians من أحد عشر مقطع بنفس سرعة الإيقاع، كل مقطع له مركز مقامي و مقام كنسي مختلف ويرتكز على تآلف (chord) أساسي. يسبق الأحد عشر مقطع مقدمة تستعرض التآلفات الأساسية لكل مقطع على حدة لمدة عشرين ثانية تقريبًا وتنتقل من تآلف إلى آخر. استعان رايش بثمانية عشر عازفًا تتنوع آلاتهم بين قسم المطارق والوتريات والنفخ والبيانو والصوت البشري. ذلك بالإضافة إلى كل عناصر أعماله السابقة (باستثناء التدرج الزمني) مع الإرتكاز على نبضة الأساس التي يتم تناوبها بين البيانو والماريمبا، وإعطاء الفايبرافون إشارة التغيير من مقطع إلى آخر. يكرر رايش عناصر هذا العمل في Octet  و  Variations for Winds, Strings and Keyboardsلكنه يضيف جملاً موسيقيّة أطول بآلات النفخ وموازين أكثر تنوعًا، ليكسر حالة الثبات التي طالت Music for 18 Musicians. وكذلك يعد عمله Desert music و Sextet امتدادًا لـ Music for 18 Musicians، لكن مع وجود تغيير في سرعة الإيقاع والميزان في كل مقطع واضافات جديدة. في العمل الأول قام رايش بتوظيف السلم الكروماتيكي والغناء وأوركسترا كبيرة، ما أوجد طبقات موسيقية كثيفة وتلاحم أصوات ثقيل خصوصًا في قسم الوتريات أدى إلى عدم إبراز الألحان والإيقاعات المتشابكة، على عكس استخدام فريق صغير ومكبرات صوتية. أما في العمل الثاني فقام بالتنويع بين الموسيقى المقامية والسلم الكروماتيكي مع إضافة تقنيات جديدة في العزف واستخدام قوس الكمان على أطراف الفايبرافون.

المقطع السادس من Music for 18 Musicians

المقطع الأول والثاني من Sextet

تناول رايش للثقافات الأخرى

كان تأثر رايش بموسيقى الغاملان الآسيويّة والموسيقى الأفريقيّة الغانيّة غير مباشراً ويتجاوز الانبهار المبالغ فيه، مبتعدًا تمامًا عن التعامل مع موسيقى هذه الثقافات من منطلق استشراقي بغرض استعراض غرائبيتها (exoticism) والخضوع إلى كليشيهاتها وتصديرها كموسيقى عالمية (world music). فقد تعامل رايش معها من منطلق جاد وناضج، على عكس ما هو شائع في حالة تعرف موسيقي على موسيقى جديدة عليه نشأت في ظروف تاريخية خاصة تختلف عن ثقافته. السائد في تلك الحالات أن يحاول الموسيقي تقليد صوتها وإعادة إنتاجها، وتصعب في تلك الحالة الإضافة على المنتج الأصلي للوصول إلى الصوت الجديد الذي تحدثنا عنه في المقال السابق، فيخرج منتج مشوه. هذا ما يتضح في محاولات الغرب في تقليد موسيقى الريغي والهيب هوب من قبل موسيقيين بيض لا ينتمون إلى ثقافات هذه الموسيقى، وعلى الناحية الأخرى في العالم العربي في العديد من أعمال الروك العربي والهيب هوب العربي. وإذا مددنا الخط على استقامته قد يتطور الأمر إلى ظهور فنان إنجليزي يقوم بإعادة إنتاج موسيقى المهرجانات (!). وفي محاولات أخرى قد ينتج مزيج موسيقيّ (fusion) يدمج بين ثقافتين باعتبار أن الموسيقى لا تفصلها حدود. لكن حتى في تلك الحالة يظل إنتاج صوت جديد مهمة صعبة، وغالبًا ما يسفر عن منتج كولاج مبتذل: على سبيل المثال إعادة إنتاج تواشيح أو قصائد ونصوص صوفيّة على أنغام موسيقى الروك أو الجاز، وهو اتجاه صار واضحًا في الموسيقى العالمية. أما في حالة ستيف رايش فقد استعان في نفس الوقت بأسلوب تفكير وبناء وتركيب الموسيقى الأفريقيّة والآسيويّة، لكنه حافظ في نفس الوقت على صوته الخاص وأسلوبه وآلاته الموسيقية وقواعد موسيقاه وتكنولوجيا عصره، وقام بتأويل ما استعاره من الثقافات الأخرى ومعالجته بشكل يختلف عن أصله، لينتج عن هذه العملية صوت جديد وفريد يظهر إبداعه وبصمته الخاصة. فبدلًا عن الاستنساخ والتقليد، تؤدي الاستعانة  بأسلوب تركيب وبناء الموسيقى الأفريقية أو الآسيوية إلى صوت ومنتج جديد. وهكذا يطغى في النهاية صوت رايش الخاص على صوت الثقافة المنجذب إليها.

حول طرق الغناء والتكنولوجيا

شهدت أعماله التالية المزيد من التطور عن طريق إضافة عنصر الفيديو والعينات الصوتية للكلام  (speech samples)والأصوات المجردة مثل فيThe Cave  وDifferent Trains وCity Life،  وفي مرحلة لاحقة في WTC 9/11، ليصبح العرض متكامل سمعيًا وبصريًا. ويعد استخدام أجهزة العينات الصوتية بمصاحبة الموسيقى إضافة أو تطوير لأعمال رايش الأولى، التي اعتمدت فقط بالعينات الصوتية المسجلة على بكر التسجيل.

مقاطع من Different Trains وتعقيب رايش عليها

يرى بيلا بارتوك أن هناك ارتباط قوي بين اللغة والموسيقى بفضل العامل المشترك بينهما وهو النغمات الناتجة عن الكلام (speech melody). إذ تختلف الموسيقى من ثقافة إلى أخرى من حيث ارتباطها بنغمة لغة هذه الثقافات وإيقاعها الصادران عند الكلام. وفي حالة استخدام لغة غير اللغة الأصلية المرتبطة ثقافيًا بالنوع الموسيقي، غالبًا ما يفرض عليها نطقًا مغايرًا لتحاكي نغمة ونطق اللغة الأصليّة. على سبيل المثال نجد غناء موسيقى الروك باللغة الفرنسيّة أو العربيّة غير طبيعي. كما يظهر ذلك في حالة الغناء الأوبرالي باللغة العربيّة، على عكس اللغة الإيطالية، ولذا كان من الطبيعي أن تنشأ طريقة غناء البل كانتو بإيطاليا. يدرك رايش هذه النقطة تمامًا لذلك يختلف الغناء في The Cave  و Desert musicعن Tehillim التي تغنى باللغة العبريةّ. كما أن تعامل رايش مع الغناء مواكب للزمن ولعصره والتكنولوجيا المتاحة (وينفي تمامًا اتهام النقاد له بإحيائه للتراث). على سبيل المثال لم يتبن رايش أسلوب البل كانتو، أو الغناء الفجناري الذي استمرت معالمه في الغناء التعبيري لدى الحداثيين مثل شونبرج وآلان برج، حيث يرى رايش أن الغناء الفجناري والبل كانتو غير ملائميْن للغته وعصره. ومن ناحية أخرى فإن استخدام صوت غنائي ضخم وأسلوب اهتزاز الصوت (vibrato)عند الغناء بشكل واضح، لإبراز مستوى الصوت بالقاعة وتمييزه عن الآلات المصاحبة، أصبح غير مجدٍ الآن بسبب وجود الميكروفونات ومكبّرات الصوت التي تغني عن هذا الأسلوب. وهو ما يفسر تأثر رايش بموسيقى الجاز وطرق غنائه وأعمال كيرت فايل وأغاني البوب التي يعتبرها عصرية. تتناسب معالم موسيقى رايش أكثر مع الميكروفون ومكبر الصوت مع تقليل عدد الفريق حتى لا تفقد ترابطها الإيقاعي.

جاء توظيف رايش للعينات الصوتية لأصوات من مدينة نيويورك التي قام بعزفها عزف حيًا بجهاز العينات الصوتية بمصاحبة باقي أعضاء الفريق في  City Lifeحاسماً ومنظّماً، خالٍ من عشوائية وتلقائيّة إدغار فاريز وشتوكهاوزن وجون كايدج. لا يلجأ في توظيف عيناته إلى عنصر الصدفة بل أعد العينات كى تتلائم مع خامات الآلات المستخدمة ومع السلم الموسيقي للمقطوعة. ويأتي دورها بشكل أساسي في توقيتات محددة، حيث قام بكتابة نوتة موسيقية لهذا القسم ليكون هذا العمل من أعقد أعماله من حيث الميزان وتشابك النغمات والإيقاعات.

المقطع الأول من City Life

المقطع الأول من Tehillim

تأثير رايش على المشهد الموسيقي والتعاون المشترك

باستخدامه لأعمال الفيديو وللعينات الصوتيّة التي تستخدم في الهيب هوب والموسيقى الإلكترونية، واعتماده على طرق غناء عصرية مستعينًا بالتكنولوجيا وعلى نغمات أساسية وبسيطة وجمل موسيقية إيقاعها سهل على الأذن، يزيل رايش الخط الفاصل بين الثقافة الشعبية والثقافة العالية النخبوّية. فألغى رايش تمامًا هذا التصنيف الذي اعتمده النقاد والمنظرين والأكادميين بطريقة مباشرة قبل الحرب العالمية الثانية، إذ اعتبروا السريالية والموسيقى الحداثية ثقافة عالية (مثل أدورنو)، وبطريقة غير مباشرة بعدها (مثل في الحركة الطليعية في أميركا). لذلك كان من الطبيعي أن يقوم رايش بالتأثير على فروع موسيقية وموسيقيين آخرين أغلبهم لهم جماهيرية أوسع منه، مثل براين إينو في طريقة إنتاجه الموسيقي وديفيد بيرن وديفيد بووي. يتضح هذا في أسلوب فريقي توكينغ هدز، وفي ألحان فريق كينغ كريمسونوإيقاعاته المركبة والمتشابكة خصوصًا في حقبة الثمانينيّات. تأثير رايش واضح على الموسيقى الإلكترونية كمشهد الريف والآسيد هاوس والنيو ويف في الثمانينيّات والبيغ بيت في التسعينيات، حتى أن تأثيره طال موسيقى البوست روك.

تأثر كينغ كريمسون برايش

تأثر ذا أورب برايش

تأثر فريق ذا نايف إحدى الفرق الحديثة برايش

لذلك لا عجب في أن يتعاون رايش مؤخرًا مع  فريق  Bang on a Can في عمل 2×5 وتوزيع الآلات على نسق موسيقى روك. تعاون أيضًا مع جوني غرينوود ويسند إليه دوراً في إحدى مقطوعاته (Electric Counterpoint) التي يعيد إنتاجها في اسطوانته الأخيرة. يشمل هذا العمل مقطوعة أساسية بعنوان Radio Rewrite وهى معالجة أو إعادة صياغة أغنيتين لفريق راديوهد من ألبوم Kid A، والمنتج النهائي لا يمت بصلة للأغنيتين الأصليتين. إذ يكشف ذلك تعاون رايش المستمر مع فنانين من فروع موسيقية أو فنية أخرى بعضها جماهيري وعدم تعاليه، فهو على اتصال دائم بالثقافة الجماهيريّة وتغيرات عصره، مثل عمله مع Bang on a Can  وKronos Quartet والراقصة Anne Teresa de Keersmaeker.

رايش مع بانج أون إيه كان

مقاطع  من Radio Rewrite

حول المفهوم والسياسة

يهتم رايش في أعماله بالشكل والأسلوب أكثر من المفهوم، رغم تناول أعماله مواضيع دينيّة وثقافيّة وسياسيّة. يعلق رايش على هذه النقطة قائلًا إنه يهتم أكثر بالإثراء الفني والعمل الإبداعي في الشكل، أما المفاهيم فقد تنعكس في بعض الأعمال مثل The Cave و Tihillimو Desert music و WTC 9/11 (التي ألفها بعد عشر سنين من أحداث 11 سبتمبر) بشكل تلقائي لأنها جزء من ثقافته وحياته اليومية. إن رايش على يقين أن الأعمال الفنية التي لها رسالة أيديولوجية أو سياسية لن تشارك في حل أى صراع ولن تغير من الواقع. فيعطي على ذلك مثال “لا أظن أن The Caveأو أى عمل فني قادر على التأثير على السلام بشكل مباشر في الشرق الأوسط. إن لوحة جرنيكا لبابلو بيكاسو لم تمنع قصف المدنيين، كما أن أعمال كيرت فايل وبريشت وفنانين آخرين لم يضعوا حد لصعود هتلر. هذه الأعمال ما زالت حيّة بسبب جودتها الفنية”.

لقد ساد الاعتقاد منذ عصر الموسيقيين الحداثيين أن الموسيقى وصلت لحالة من التشبع أدت إلى تفكيك الموسيقى وعناصرها وما زال هذا الاعتقاد شائع حتى الآن. ولكن يتبين لنا من خلال تجربة رايش ورؤيته الفنيّة العصرية عدم صحة هذا الاعتقاد، بالإضافة إلى مساهمته المستمرة في ظهور أنواع موسيقيّة جديدة.

المراجع:

·        Richard Taruskin – Music in the Late Twentieth Century: The Oxford History of Western Music

·        Steve Reich – Writing on Music, 1965-2000

·        K. Robert Schwartz – Minimalists (20th Century Composers)

·        Christoph Cox & Daniel Warner – Audio Culture: Reading in Modern Music

·        Steve Reich – Phase to Face (Documentry)

·    Steve Reich – New Musical Language (Documentry)https://www.youtube.com/watch?v=LbXQThfR5K0

·    Steve Reich – South Bank Show (Documentry)https://www.youtube.com/watch?v=e_pR1sHHeQU

·    Steve Reich – The Music Show (ABC RN Radio Interview)https://www.youtube.com/watch?v=pFS8Ru27rqs

·    Steve Reich – Influences, techniques, and politics (ABC RN Radio Interview)https://www.youtube.com/watch?v=pFS8Ru27rqs

المزيـــد علــى معـــازف