.
“معجون“
في فيلم “عبور الجسر” (2005) الذي جمع فيه المخرج التركي–الألماني فاتح أكين أهل الموسيقى في اسطنبول، يظهر عازف الكلارينت الغجري سليم سيسلر العائد إلى بلدته “كيشان” مؤدياً لونغا من مقام حجاز كار كرد مع موسيقيين من أبناء ربعه. في حانة كيشان، وبينما تدور كؤوس الراكي والبيرة فوق صلعته التي يتناوب الرفاق على تقبيلها، يفرد سسلر داخل تلك المقطوعة الكلاسيكية مساحة للارتجال يأبى فيها إلا أن يستعرض تقنية “التغريد والزقزقة” الأثيرة لدى الغجر، وتنتهي تلك الوصلة برمي سسلر الكلارينت بخفةٍ ملتقطاً إياها بيده الأخرى.
مشهد أكين الذي لا يخلو من بلاغة أظهر من جهة التصاق سسلر بجماعته التي بات بالفعل ممثلاً لثقافتها واختصر من جهة أخرى في دقائق قليلة ارتباط الموسيقيين الغجر الوثيق بثقافة الحانة التركية (meyhane) وموسيقى الفصل (fasil) التي يعزفونها في تلك الأماكن (وهي غير الفصل الكلاسيكي). وأهل الحانة المذكورون لطالما عانوا من استعلاء الكلاسيكيين الأتراك عليهم و استهجانهم قلة انضباطهم وشطحاتهم الإرتجالية و ولعهم بالخروج عن النص (بل وإفسادهم لأي نص كلاسيكي). حتى أطلق هؤلاء على أسلوب الغجر مستهزئين إسم “المعجون” (macun) – و هو نوع من الحلوى التركية– دلالة على “لزوجة” عزفهم وطريقة تصرفهم في عزف (عجن) أرباع الأصوات.
لقد ظلّوا حتى وقت قريب، ورغم التقدير الذي حظي به كبار عازفيهم، أسرى “وظيفتهم” التاريخية في إحياء الأعراس ومناسبات إجتماعية شتى. فالموسيقى لديهم، بحسب النظرة السائدة في المجتمع التركي، هي كبيع الزهور وصنع السلال والحدادة وقراءة الطالع. وهي حرفة لا ترقى بطبيعة الحال إلى مستوى الفن الحقيقي، بل إن هذه الموسيقى التي غالباً ما يحضر فيها الطبل والمزمار هي في الخيال الشعبي أقرب إلى “الجلبة“. لذلك يصف الأتراك اجتماع القوم على صخبٍ وفوضى بعبارة “عرس النوَر” çingene düğünü) ).
قبل بْرِنّا، بعد بْرِنّا
ينتمي سسلر (1957) إلى تاريخ موسيقي عريق صنعه كبار العازفين الغجر، من شكرو تونار (1962-1907)، مروراً بمصطفى قانديرالي (1930) وصولاً إلى أصغرهم، حسنو شنلندرجي (1976): أمير كلارينت “الغرناتا” (clarinet in G) الشائعة في تركيا والبلقان، وسليل عائلة من عازفي المزمار(zurna) التي تعود أصولها إلى “دراما” في اليونان، قبل أن تستقرّ في كيشان بعد التبادل السكاني بين تركيا و اليونان عام 1923.
وبحكم الجغرافيا، وموقع بلدته بالقرب من الحدود اليونانيّة والبلغاريّة، حمل سسلر تراث تراث منطقة تراقيا (Thrace)، أي الجزء الأوروبي من تركيا المتأثر بموسيقى اليونان والبلقان. ورغم أن سسلر اتنقل إلى اسطنبول منذ الثمانينات مكتسباً شعبية كبيرة من العزف في مطاعمها وأعراسها ومسرح الفنان التركي فرحان شنصوي، كان عليه قبل انطلاقته العالمية أن ينتظر لقاءه بالمغنية والباحثة الكندية بْرِنّا ماك كريمون، والتي تولّت تقديمه إلى الجمهور الغربي.
فتن ارتجال سسلر مع إحدى الفرق الفرنسية ماك كريمون المولعة بالموسيقى التركية، فتعاونا عام 1997 في إصدار اسطوانة “رقصة التحية“karşılama ، وهي رقصة شعبية من تراث تراقيا. وتضمّنت الاسطوانة أغنياتٍ شعبية من الفولكلور “الرومي” (Rumeli) القادم من المناطق البلقانية، وألحاناً راقصة على إيقاع 8/9 الشائع في الموسيقى الغجرية. تلا ذلك اسطوانة “الطريق إلى كيشان” (1998) التي أنتجتها شركة “كالان” مرفقاً بدراسة موجزة عن تراث تراقيا الموسيقي قامت بها الباحثة الأميركية سونيا تمار سيمان. وفي عام 2006 أقنع فاتح أكين سسلر بالتعاون مع شركة “دوبلموون” لإنتاج اسطوانة “العريس إبننا و العروس ابنتنا” (oglan bizim, kiz bizim) الذي قدّم فيها ألحانا شعبية تعزف في الأعراس الأناضولية.
“استغجار“
لا ينبغي النظر إلى تجربة سسلر من دون وضعها في سياقها العالمي. فمنذ أن أعادت شراكة أمير كوستوريتزا وغوران بريغوفيتش– وكذلك أفلام المخرج الجزائري الغجري طوني غاتليف– تقديم الموسيقى الغجرية إلى الجمهور الغربي في بداية التسعينيّات، انتابت الأسواق العالمية “حمّى الغجر” تحت مسمى موسيقى العالم أو الشعوب(world music). وشهدت السوق العالمية نوعاً من “الاستشراق” الموسيقي الجديد (الاستغجار). فبات المنتجون الغربيون يتباهون، طلباً للإكزوتيكية، باستقدامهم فرقاً غجرية من أقاصي القرى البلقانية.
ورغم تكريسها غجر البلقان ممثلين حصريين عن الموسيقى الغجرية– بما يعنيه ذلك من إغفالٍ لغجر تركيا– وتفويضها المنتِج “الغربي” صنع صورة الموسيقى الغجرية وفقاً لمتطلبات السوق، أعادت تلك الموجة الاعتبار إلى صعاليك الموسيقى وخوارجها. لكنها في الوقت نفسه فضحت ذلك التناقض الفاقع بين صورة الموسيقي الغجري اللامع الغازي مسارح العالم، وبين ما تعانيه المجتمعات الغجرية من بؤسٍ و تهميش.
من المفارقة مثلاً أن يتزامن الاعتراف بمكانة الموسيقى الغجرية في بداية التسعينيّات مع الحرب المنهجيّة التي شنتها شرطة اسطنبول على موسيقيي محلة “سولوكولي“، أقدم مجتمعٍ غجري مستقر في العالم. إذ أقفلت حاناتهم التي يعتاشون منها وأغرقهتم في البطالة. وبينما كان عازف كسسلر يجول عواصم العالم في أواخر العقد الماضي، جرفت بلدية اسطنبول كامل الحي الغجري الذي يفوق عمره الألف عام، مما أدى إلى انفراط عقد موسيقيي المحلة وضياع ذاكرة الحي الموسيقية. إن ذلك القلق من اندثار تقاليد موسيقية سمعيةٍ غير مدوّنة هو ما يجعل لأمثال سسلر قيمة فنية مضاعفة بوصفهم أرشيفاً حياً لهذه الثقافة.
Fasulya
في المناطق الغربيّة من تركيا يسمى الغجري “رومان” (Roman). أمّا في المنطقة الكردية، كما في بلاد الشام، فالغجري هو “المطربي” (Mitrip) . هنا يصبح الطرب هويّة لا مجرد حرفة. سليم سسلر وغيره من الموسيقيين الغجر، مهما تفاوتت مواهبهم، هم بهذا المعنى “المطاربة” بامتياز. وما يصنعه هؤلاء في الاستديو لا يضاهي البهجة التي يشيعونها بأدائهم الحي، إذ يشعلون ليالي اسطنبول رقصاً وغناءً، ويؤذنون بقدوم ربيعها كل عام في مهرجان عيد الخضر (Hidrellez).
وهو كرمٌ كبير أن لا يأنف فنان كسسلر من العزف لجمهور البارات أو المدعوين إلى حفل زفاف، فتجده راضياً بما هو فيه غير مترفعٍ عن إسعاد الساهرين. ودعك الآن من البشرف واللونغا، فالإستماع إلى تفريده على ألحان شعبية من نوع “هذه الفاصولياء بسبع ليرات و نصف” (bu fasulya yedi bucuk lira) أو “قدك المياس” يوم الثلاثاء من كل أسبوع في بار “أراف” هو واحدة من مسرّات اسطنبول الكثيرة، وحجةٌ كافية للعودة إليها. فالرجل الثمين صاحب قلبٍ عليل، وقد لا يبقى هنا طويلاً.
لحن القصاب (فلكلور من تراقيا) Kasap Havasi
نافذتها قبالة الطريق (فولكلور روملي) Penceresi Yola Karsi
سيرتو من مقام النكريز (والسيرتو قالب موسيقي وصل للموسيقى العربية عبر الموسيقى العثمانية وهو في الأصل رقصة يونانية) Nikriz Sirto
لحن غجري Roman Havasi
مداخن القرميد (من تراث غجر تراقيا) Kiramit Bacalar
الفاصولياء بسبع ليرات ونصف Bu fasulya yedi bucuk lira تسجيل من بار “أراف“