هل للكتابة رئة؟ يبدو ذلك حقيقة في حالتي. رئة الكتابة في جسدي لا تقوم بوظيفتها إلا بوجود الموسيقى. عندما كنت في بداياتي وفي بدايات الكتابة لم أكن أستطيع ممارستها إلا في الليل وبوجود الموسيقى. بعد مرور سنوات طويلة تسللتُ إلى النهار وصار بمقدوري أن أكتب قبل أن يحل الظلام. لكنني لم أكتب جملة واحدة في كل نصوصي الأدبيّة بدون موسيقى. جرّبت ولم أستطع. ورئة الكتابة هذه صعبة وليست طيّعة. فلديها طلباتها المحدّدة: الموسيقى الكلاسيكيّة، والبيانو بالذات، أو العزف المنفرد على العود.
وتمتد الموسيقى أحياناً إلى النصوص التي أكتبها. واحد من أقرب نصوصي إلى نفسي هو امتدادات الأوتار، وكتبته عام ٢٠٠٣ وأنا أستمع إلى عود أنور براهم ومنه “أصابع العازف/تتسلّق السلالم الموسيقيّة/وتحملني/إلى سرير الغيوم/ثم تهبط/يتبعها الله/الذي ينتحب/ويعتذر/عن كل شيء” . . . “أوتار العود/تسحب روحي/من بئر الصمت/وتملأ قلبي بزرقة البحر/تهبّ أصابع العازف/علي أغصاني/تقطفني/وتنثرني بعيداً/على جزيرة/خارج الوقت/داخل قلبي.”
الأغاني العراقية القديمة، وبالذات المقامات، التي أستمع إليها كثيراً، خصوصاً في السنين الأخيرة، تتسلل إلى رواياتي كثيراً وتجد لها مكاناً فيها. هناك أغنيات لسليمة مراد ويوسف عمر (ولصباح فخري أيضاً) ترددها شخصيّاتي وتطرب إليها. أحاول أن أستفيد من استراتيجيّات الموسيقى في بناء هيكل نصوصي. تضمنت رواية “يا مريم” عدداً من تراتيل فيروز الشهيرة التي كانت تستمع إليها شخصيّة “مها” بشكل يوميّ.
أتذكّر والدي وهو يستمع إلى ناظم الغزالي “حيّك بابا حيّك” ويطق أصابعه طرباً عندما كنت في الخامسة أو السادسة! أما بعدها فالأغاني التي أتذكرها هي أغاني الـ pop في السبعينات. كنا مهووسين آنذاك بفرق مثل بوني إم Boney M وأتذكّر أغنية Sunny التي كنت أردّدها كثيراً.
هناك مقولة أحبها كثيراً لأورباخ رسام بريطاني من أصل ألماني يقول فيها إن “الموسيقى تغسل غبار الحياة اليوميّة من الروح.” الموسيقى تلعب دوراً مفصلياً في حياتي اليوميّة. كل شيء يمكن أن يصبح أجمل أو أقل وحشة بوجود الموسيقى. لا أؤمن بوجود الجنة لكن جلال الدين الرومي قال “وما الموسيقى إلا أزيز أبواب الجنّة.” الموسيقى توهمنا أن الجنة موجودة على الأرض وتديمها لدقائق أو ساعات أحياناً.
الأغاني والمقطوعات الموسيقيّة هي رسائل العشق المتبادلة ولا بد من أن تكون في جعبة العاشق. وهي أماكن ندعو المحبوب إليها. بدايات اليوم مع حبيبتي هي دائماً موسيقى وقهوة. فيروز، أو أسمهان، أو عبد الوهاب الذي تحبّه هي أكثر منّي. أحياناً تستيقظ أغنية عراقية في ذاكرتي فأستمع إليها معها وأعرّفها عليها علّها تكون صديقة جديدة لها. والجميل في الموسيقى هو بهجة اكتشاف الجديد. ععلي سبيل المثال، قبل سنتين اكتشفت الفادو البرتغالي وأنا مغرم به من يومها وأرغب في زيارة البرتغال للتعمّق فيه.
كتاب إدوارد سعيد بعنوان عن الأسبوب المتأخّر، الذي نشر بعد وفاته من أجمل ما قرأت عن الموسيقى (والأدب). وقد ترجمه فوّاز طرابلسي هذا العام إلى العربية.
أعتبر نفسي محظوظاً فقد تمكنت من حضور حفل لفيروز هنا في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣ وحضرت مهرجان فلامنغو (وأنا مغرم بالفلامنغو، عزفاً ورقصاً) في مدينة غرناطة عام ٢٠١٠.
الكثير من التسجيلات هزّتني وما تزال تهزّني والقائمة طويلة. اليوتيوب يوفّر متعة بلا حدود في هذا السياق ويأخذنا عبر حدود الزمان والمكان. لكن الأمنيّة التي لن تتحقّق أبداً هي حضور واحدة من حفلات قارئ المقام العراقي يوسف عمر لأنه ليس على قيد الحياة!
أعتقد أن الأغاني والموسيقى تلعب دوراً هائلاً في كل المجتمعات. فهي بعد أساسي في المنظومة الثقافية وفي إعادة إنتاج الخطابات الثقافية والاجتماعية بكل ما تفترضه وتتضمنه عن الفرد والجماعة والمكان والذاكرة المشتركة. ومجتمعاتنا ليست استثناء. الحياة بكل تعقيدتها تتبلور في الأغاني وفي الموسيقى. وهي، بالتالي، تصبح حيزاً مهماً لصراع القوى السياسية والاجتماعية السائدة ولتلك التي تقاومها أيضاً.
لا أعتقد بأن مفردات الأغاني العربية رتيبة أو مستقرّة نسبياً. فهناك موسيقى وأغنيات عربيّة بديلة ذات مفردات وتراكيب جديدة ينتجها الشباب. لا أرى أن الهجر والوصال والعذول والليل والانتظار مفردات رتيبة بالضرورة. الأمر يعتمد على المقاربة والأسلوب. لو نظرنا إلى الأغاني العاطفية السائدة في الولايات المتحدة فهي تدور حول مفردات قاموس الحب التي تكاد تكون كونيّة. الانحسار هو ذاته في العالم كلّه وهو ناتج عن هيمنة الثقافة الاستهلاكيّة وتغلغلها في ثقافات الكوكب. لكن هناك دائماً تيارات تفكك القديم والتقليدي وتحاول تقديم ما هو مختلف.