.
في فلسطين يمكن اعتبار أن بداية الأغنية الثورية الفلسطينية كانت بعد أغنية من سجن عكا التي كتبها الشاعر الفلسطيني نوح إبراهيم، ووصفت نضال ثلاث شبّان فلسطينيين أعدمهم الاحتلال البريطاني إثر ثورة البراق عام ١٩٢٩. (التي اندلعت بعدما نظمت حركات صهيونية مسيرة عند حائط البراق أنشدوا خلالها نشيد الحركة الصهيونية ورددوا أن هذا الحائط لهم، تصدى لهم الفلسطينيون في اليوم التالي الذي وافق ذكرى الاحتفال بذكرى المولد النبوي، اندلعت اشتباكات عنيفة امتدت بعدها إلى مدن وقرى فلسطين.). يذكر حسين نازك مدير فرقة العاشقين أن أغنية يا ليل خلي الأسير تيكمل نواحه وجدت محفورة بأداة حادة على جدار غرفة بسجن عكا ويقال أن الشهيد عوض النابلسي هو من كتبها قبل إعدامه. وقد ظلت الأغنية الثورية الفلسطينية تحفظ ذاكرة النضال المكلل بالبطولات والنكسات على حد سواء، لكنّها لم تتوقف أبدًا عن الإشارة والإحالة إلى رموز وأحداث حفرها لحن الثورة في الذاكرة.
لم يكن مستبعدا عندئذ أن تتسلّم حركة المقاومة الإسلامية قنديل الأغنية الثورية. في وسعنا ملاحظة تصاعد نبرة النديّة فيها، نبرة وعيد وتصعيد تمجد بطولات جرت وأخرى مقبلة. منح العنصر الإسلاموي الأغنية الثورية نبرة أمل لأنها تستقي رؤيتها للصراع من وعد بزوال المحتل من القرآن والسنة، وبالتالي فهي تخرج من [الآن] إلى [الآتي].
التفت الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس إلى أهمية الأغنية في إشعال فتيل النضال، فالأغنية تتيح للناس شيئا يجتمعون عليه ويتصلون به. لو تخلت الحركة عن الأغنية كعنصر من عناصر نضال الشعب الفلسطيني، لكان من الصعب أن تحافظ على استمراريتها، بل لنُظر إليها كدخيل. كانت أولى تجليات هذا الالتفات تأسيس الشيخ ياسين لفرقة المجمع الإسلامي، والتي ضمت كل من حازم العجلة وباسم السويركي والشهيد مصطفى صرصور أبو عماد كنواة للفرقة، لينضم إليها فيما بعد الفنان رمضان الصيفي أبو رامي المعروف بزجال غزة.
لم تكن فرقة المجمع الإسلامي يتيمة في المجتمع الفلسطيني فقد سبقها بفترة وجيزة تأسيس فرقة إم النور في مدينة أم الفحم في الداخل الفلسطيني المحتل بقيادة المنشد علي صالح جبارين، وكذلك فرقة الغرباء في نابلس بالضفة المحتلة التي أسسها القيادي في حماس الشهيد جمال منصور. تأثرت الفرق الفلسطينية الثلاث بالأناشيد الإسلامية التي تدفقت من المنشدين السوريين في تلك الفترة كأبو راتب وأبو الجود.
لم يكن الشيخ أحمد ياسين ليعتبر الأغنية الثورية منفصلة عن عامل الترفيه، ولعل هذا يؤكد أيضا على أهمية عنصر الأمل في الأغنية الإسلاموية. ففي أحد لقاءاته بالمنشدين في غزة، قال موجها كلامه للمنشدين “إنكم ترفهون عن الناس، واجبكم لا يقل عن دور الخطباء”. ومنذ ذلك الوقت لم تكن تخلو الأمسيات التي تقيمها حركة حماس داخل المساجد بعد صلاة العشاء أو أنشطة الكتلة الإسلامية –الذراع الطلابي لحركة حماس- من أداء لأنشودة يقدمها أحد الحضور من أصحاب الصوت الجميل، ينشد من ألبومات الحركة الإسلامية على أسماع الحضور، يحثهم على المجيء والاستماع إليه مرارا وتكرارا. وقد كان يعرف هذا الشخص دائمًا بمنشد المسجد الذي سيعمل لاحقا بتوجيه من أمير المسجد على إنشاء اللجنة الفنية للمسجد والتي ستضم منشدين أشبال آخرين من مساجد مجاورة، يجولون في الأمسيات التي تقيمها مساجد المنطقة.
تشكلت لاحقًا فرقة فنية في المنطقة مكونة من أفضل تلك الأصوات التي خرجت من حناجر اللجنة الفنية للمسجد، تجوب هذه الفرق حفلات الأفراح الإسلامية ومهرجانات تقيمها حركة حماس في المنطقة فضلا عن أدائها في عدد من المدن الأخرى داخل قطاع غزة. وغالبا ما تحمل هذه الفرق أسماء ذات مدلولات دينية أو جهادية مثل فرقة الشهداء والفوارس والبراق والغرباء واليرموك.
رمضان الصيفي، أبو رامي، الملقب بزجال غزة هو أحد المنشدين الذين كان لهم علامة فارقة في مسيرة النشيد الإسلامي في القطاع وصاحب الحنجرة التي دخلت كل بيت في غزة بعد العمليات الاستشهادية. كان أبو رامي المولود في غزة سنة ١٩٥٨ أحد أعضاء فرقة المجمع الإسلامي التي أسسها الشيخ أحمد ياسين، ثم أسس برفقة المنشدين القدامى مازن صلوحة ومحمد عوض فرقة الفن الإسلامي في منطقة الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة.
أصدرت الفرقة أربعة عشر شريطًا شارك فيه زجال غزة، كان أبرزها ألبوم البركان الذي تبع عمليتي العفولة والخضيرة. افتقرت الفرقة في ذلك الوقت لملكة التأليف مما دفعها لمحاكاة طراز الأغاني الزجلية المُغنّاة في الداخل الفلسطيني المحتل مثل أغاني شفيق كبها وأحمد مدنية ولكن بكلمات إسلامية. كان أبو رامي يدرك أن أن الجمهور يريد أن يفرح، وقد أراد أن تكون أناشيده سبيلا للتخفيف عن الناس ومواساتهم، فيقول لمعازف: “كسرنا الحاجز من خلال الزجل الشعبي والإيقاع السريع، الناس بدها تفرح وبدها ايقاع سريع يحمسها ويخليها تحس بالفرحة ويعالج مشاكلها وواقعها”.
تنقل أبو رامي بصوته بين أجزاء فلسطين فأحيا حفلاته في غزة والضفة والداخل المحتل، حيث شارك في مهرجان إم النور الأول الذي تقيمه الحركة الإسلامية بالداخل بشكل دوري. حاول من خلال أناشيده أن يؤرخ الانتفاضة الفلسطينية، ونستطيع القول أنه قد فعل ذلك عندما صدحت حنجرته بتبجيل مقاومي الحجارة ثم الكارلو والكلاشنكوف، كما كان في ألبوماته حضور ساطع للعمليات الاستشهادية والعبوات.
لا تقتصر أناشيده على سرد الملحمة بنبرة الأمل، لكنها تتجاوز السرد إلى التنبؤ، فقد تنبأ بصواريخ المقاومة الفلسطينية قبل صناعتها فأنشد عام ١٩٩٤ “أشعلها حربا قدسية بالقنابل اليدوية والحجارة المقدسية، اضرب اضرب بالمولوتوف بعد الحجر كلاشنكوف… بكرا بتكبر فرحتنا لما بنضرب صواريخنا”، وما كانت إلا سنوات قليلة، حتى غادرت كلماته مجاز المؤلف إلى إعجاز المقاوم، لتدكَ صواريخ المقاومة مغتصبات المحتل.
تردد صدى صوت الفنان أبو رامي الصيفي في كل مكان بغزة من محطات الراديو وأشرطة مسجلات السيارات إلى حفلات الأعراس وتأبين الشهداء ومناسبات وطنية تنقل بينها بحطته الفلسطينية وعقاله وإشارة تعلو وتدنو من يديه يحمس الجماهير الذين يرددون خلفه كلمات “فجر اضرب لا ترحم من فيها، دمر خليها عاليها واطيها … ولّعها لا تهتم، ع الغاصب المحتل” ويكمل خلفه الناس “كل المستوطنات … دمرها ، احرقها، أصوات التفجيرات للعالم سمعها … لا تسمع للجبناء، لا ترحم الأعداء… بيننا وبينهم الحرب”.
لا ينسى أهل مخيم خانيونس يوم تجمعوا في حفل تأبين الشهيدين جميل وادي وأحمد القدرة ورددوا خلف أبو رامي وأصوات الرصاص في الخلفية “بنتحداك رابين تظلك عنا، شيب وشبان وأجنة تنظمنا … هي هي هي … بنتحداك رابين تظلك عنا، ما نخليك تنام الليل والقسام يهد الحيل … والقسام في الميدان بيستناك وبنتحداك”. يقاطعه الجمهور بهتاف “تحية للكتائب عز الدين”.
https://www.youtube.com/watch?v=7AxhDC8kNdE
لا يخفي زجال غزة تأثره بالثورة الأفغانية وتعطشه “لشيء إسمه إسلام” كما يقول، إذ كانت أناشيده إضافة إلى كونه خطيبًا وإمامًا في المسجد سببًا في إبعاده خارج فلسطين مع مبعدي مرج الزهور، (هم ٤١٥ ناشطاً إسلامياً فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بإبعادهم إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان المحتل عام ١٩٩٢). فأنشد للمبعدين داخل الشاحنة في الطريق إلى لبنان وفور وصولهم إلى مرج الزهور أسس ورفاقه فرقة المبعدين وأصدروا ألبومي المبعدين الأول والثاني، حيث كان ينشد أبو رامي ويدق رفيقه عاطف ياسين على الجالونات من خلفه ليحيك إيقاعًا لأناشيد ساعدت بشكل كبير في شد أزرهم داخل مخيمهم.
يا ابن الكتائب لا تسلم السلاح، بهذه الأنشودة رد أبو رامي على من كان يدعو المقاومة لتسليم سلاحها في أواخر التسعينات، ويستذكر في حديثه مع معازف أنشودة أنشدها بعد استشهاد يحيى عياش كان يفترض فيها أن لا أحد سيرد على عملية اغتياله، فقال: “قالولي بيكفي كلام بيكفي طن طن زجل … ما عاد في قسام ما عاد في عمل … قلت الامل في الله ما هو في الرجال الهمل”.
وقد تسبب هذا المقطع الأخير باستدعائه من قبل السلطة الفلسطينية ليتم استجوابه بشأن عبارة “الرجال الهمل” فقد ظنوا أنه يقصدهم. فأجابهم بأنه لا ينبغي عليهم أخذ الكلمات بشكل شخصي وأن الشعب الفلسطيني مثله مثل بقية الشعوب فيه “الهامل والكامل”.
في عام ٢٠٠٠ وعندما طغت أحداث الانتفاضة الثانية المتسارعة على المشهد، وضمر حضور الفن الإسلامي تحت وطأة أخبار العمليات المتتالية. قرر ابو رامي الاعتزال والاهتمام بالدراسة حيث حصل على ماجستير في الجامعة الإسلامية ثم رسالة الدكتوراة من جامعة الجنان بلبنان في العلوم الإسلامية، ليعمل الآن موظفًا في الجامعة الإسلامية بغزة. وقال أنه لم يدرس علوم الموسيقى خوفًا من أن يساء فهمه من قبل المشايخ ويتعرض لانتقادات منهم، متمنيًا أن يكتب بحثًا عن الإخراج الفني بالقرآن الكريم.
يتحدث المنشد مروان أبو الحُسنى عن مراحل تطور الفن الإسلامي في قطاع غزة ويقول: “كانت تُسجل الأشرطة في المساجد بجودة سيئة ولاحقًا استخدم الفنانون الدف لصنع الإيقاع كما في الألبومات الأربعة الأولى من سلسلة زجل غزة، إلى أن أدخل الفنان نبيل الخطيب الإيقاع الإلكتروني إلى قطاع غزة ضمن ألبوم كوماندو القسام الذي أصدرته فرقة الشهداء. وسجل وقتها في استديو وليس في المسجد كما جرت العادة”.
يتابع أبو الحسنى الذي يقدم برنامج أعذب نشيد على إذاعة صوت الأقصى المحلية في غزة: “أول استديو ملتزم في قطاع غزة أنشأه عبد الكريم حبوش عام ١٩٩٤ ليُصبح معتمدًا لدى الفرق الإسلامية لتسجل أناشيدها عنده”. بعد ذلك بدأت بالتطور تدريجيًا وكانت النقلة الذهبية للأناشيد في غزة عام ٢٠٠٦ مع بداية فضائية الأقصى التابعة لحركة حماس في قطاع غزة حيث أوجدت قسمًا خاصًا للفنون فيه استديو عمل فيه محمود عمار أكبر موزع في غزة. بدأت الفضائية دعوة المنشدين الذين لديهم كلمات لأناشيدهم أن يسجلوها بشكل مجاني داخل أستديوهات الفضائية. وكانت لجنة تقييم الأداء بقيادة المنشد حسن النيرب حتى وصل الحال إلى إنتاج الكليبات وإخراجها.
أن يكون المنشد الفلسطيني داخل فلسطين فذلك يحيله إلى فلسطينيته، لا إلى عالم الفن بما فيه من امتيازات. ولعلّ هذه الحقيقة، هي ما أدخلهم إلى قلوب الناس. يقول سميح شقير “إن رحل صوتي ما بترحل حناجركم”. ولعل هذه هي رسالة المنشد الأبلغ، فهو يخاطب الشعب بوصفه واحدا منهم، رفيقا يعيش معهم درب النضال والتحرر.
إن رحل صوت المنشد، ستتمّ حناجر الشعب المسير. وأي رحيل يمكن أن يكون للمنشد في فلسطين أجمل رحيل من الاستشهاد؟ كان أول شهداء الحركة الإنشادية الإسلامية الشهيد مصطفى صرصور، أبو عماد، عضو أول فرقة اسلامية في غزة فرقة المجمع الإسلامي والذي كان له دور بارز في إنشاء أول فرقة للمسرح الإسلامي كذلك. وقد استشهد برفقة الشيخ أحمد ياسين بعد خروجهم من صلاة فجر يوم ٢٣ مارس/آذار ٢٠٠٤، وفي عام ٢٠٠٨ استشهد أعضاء فرقة نشيد حماة الوطن النشيد التابعة لوزارة الداخلية في حكومة حماس وهم صهيب عبد العال وحسن أبو شنب وأكرم أبو زريبة وثائر ماضي ومصطفى الصباغ ومحمد الخروبي. ليصبح اسم فرقتهم بعد استشهادهم فرقة شهداء الوطن. وخلال الأحداث الأمنية التي شهدها قطاع غزة في مايو ٢٠٠٧ اغتالت قوات تابعة للسلطة الفلسطينية المنشد محمد مطر عبدو عضو فرقة الفوارس برفقة أحد زملائه في عمله الصحفي بجريدة فلسطين.
https://www.youtube.com/watch?v=EAqmDGiUgiE
https://www.youtube.com/watch?v=ebnyUBbift4
بداية من الانتفاضة الثانية ومع انتشار الإذاعات المحلية أخذت الانشودة مكانها في المواجهة، فبعد العمليات الاستشهادية والقصف وسقوط الشهداء واندلاع الجولات بين المقاومة والاحتلال صعدت الأنشودة، فبعد الغارات استمعنا لـ يا مقاومة اشتدي، ومع تحليق سقوف الباصات في الأرض المحتلة حفرت أنشودة طلاب الموت جايينك يا فلسطين، حرة إسلامية رايدينك هالفدائيين” في أذهان الفلسطينيين.
كانت الأنشودة في غزة ولا تزال أداة هامة في التفاعل مع الحدث على الأرض، ولا يختصر ترديدها على الإسلاميين بل تتردد مع الحدث، ناشرة الحماس في مواقف النصر، ومعززة الحزن في لحظات الضعف.