.
ينشر الفيلم لأول مرّة على الشّبكة، وبإذن من المخرج أحمد رحّال*
١
١٣ شارع الصاروخ القاهر، ميدان الجيزة. كان عنوان سكني أنا وأحمد رحّال في تلك الفترة. بخلاف الرفقة والصداقة، جمع بيننا حب الموسيقى، والشّغف بشكل خاص بالموسيقى الشعبيّة. كان رحّال قادماً من الإسكندريّة بأحلام كبيرة تتعلّق بالسينما والتصوير. وحتى وقت لقائنا، كان قد اشترك في عدد من التجارب القصيرة. إلى أن ولدت الفكرة ذات يوم بحلم لفيلم تسجيلي عن الموسيقى الشعبيّة المصريّة.
نتحدّث عن سنة ٢٠٠٨. وقتها كان للآباء الكبار للغناء الشعبي سطوتهم ووجودهم، بداية من عبد الباسط حمّودة وحتى العربي الصغير. وكانت الموجة الجديدة لجيل الشباب تقدّم ما يعرف بموسيقى المولد: والتي يمكن اعتبارها الإرهاصات الأولى لموجة موسيقى المهرجانات. وبخلاف شعبان عبد الرّحيم، لم يكن الغناء الشعبي منتشراً، أو معترفاً به كما الحال الآن. وكان من النّادر أن تجد نجوم الغناء الشعبي في أفلام سينمائيّة، أو أن تذاع أغانيهم على القنوات الفضائيّة. كان مجال إنتاج وتوزيع الغناء الشعبي محصوراً على شرائط الكاسيت التي توّزع وتباع في مواقف الميكروباصات.
لذا، لم يكن من السّهل إيجاد جهة تموّل مثل هذا المشروع. وكانت النتيجة أن أنجزه رحّال بميزانيّة تساوي صفر تقريباً. كنّا نجمع الأدوات اللازمة للتصوير من أصدقاء مختلفين. والحمد لله، لم يكن نجوم الشعبي قد تعرّفوا على السبكي في تلك الفترة، لذلك، قبلوا التصوير بدون أجر. ما سبق ليس محاولة للتبرير، بل شرح التفاصيل المحيطة بفيلم “شعبي” للتذكير بأنّه تجربة أولى بكر، بتكلفة إنتاج تساوي صفر.
٢
يمثّل فيلم “شعبي” صورةً أخيرة لعالم الموسيقى الشعبيّة قبل تغيّر شكله كليّاً مع انتشار الإنترنت وبرامج التوليف الموسيقي، والتوغّل لصيحة موسيقى المهرجانات. ببساطة، هو فيلم عن عالم قديم لم يعد موجوداً.
عالم يحتوى على منتج، واستديوهات تسجيل، ومؤلّف كلمات، وملّحن، وفرقة موسيقيّة ومغنّي. كل هذا يختفي الآن من الغناء الشعبي ليحلّ محلّه جهاز “الدي جيه“، ومغنّي المهرجان.
يشرح كل مغنّي وكل ضيف في الفيلم عملية إنتاج الموسيقى وعالمه الفني، بينما يعلّق اثنان، هما: مودي الإمام، ومحمد نوح بشكل نقدي. فبينما يربط الإمام بين تلك الموسيقى وتراث الموسيقى المصريّة، يبدو نوح أكثر انتقاداً لهذا النوع من الموسيقى التي يعتبرها تشويهاً لتراث وتجارب سابقة.
٣
نلمح في الفيلم صراعاً بين جيلين، الأول: جيل فناني الثمانينيّات والتسعينيّات، والثاني: جيل الشباب الذي يمثّله محمود الليثي والحسيني وصقر. وكما الصراع الفنّي بين الأجيال في أي نوع فني: يرى الكبار أن الشباب يشوّهون الغناء الشعبي ولا يلتزمون بتقاليده، بينما يرى الشباب أنهم يغنّون بلغة عصرهم، حيث يختلط في أغنيةٍ واحدة الغناء الصوفي بالجنس بالمخدرات.
٤
الصراع، على ما يبدو، هو أسّاس التطوّر الفني. ومن المدهش تأمّل مصائر نجوم الفيلم الآن. فالعربي الصغير المتمسّك بتقاليد الغناء الشعبي، من الموّال وأساليب الغناء وحتى الملابس، اختفى تماماً عن الأضواء في دهاليز حي “إمبابة“. بينما ما يزال عبد الباسط حمودة، المحتمي بصوته المميّز، مستمرّاً في شقّ أسلوبه الخاص القائم على رثاء الفشل والحزن، والفردي في مقاومة عجلة الزمن.
ومن جيل الشباب أيضاً، إذ عجز محمود الحسيني، صاحب أغنية سيجارة بنّي، والذي كان النجم الأول منذ بضعة سنوات، عن الاندماج في عصر الثورة بعدما فشل في خطف الأنظار في فيلم قدّمه فيه السبكي. أمّا محمود الليثي، والذي نشاهده في الفيلم حالماً بمزج الموسيقى الشعبيّة مع الموسيقى الهنديّة وموسيقى الراي، تحوّل إلى السينما ليقدّم اسكتشات غنائيّة كوميديّة في أفلام السبكي، متخليّاً عن طموحه الفنّي، قابلاً بشروط السوق والذائقة الجديدة، محاولاً الغناء بمصاحبة موسيقى المهرجانات.
٥
بعد فيلم شعبي، استمرّ رحّال في مشروع طموح لتوثيق مشاهد موسيقيّة وغنائية أخرى، حيث قدّم فيلم تحت الأرض عن الهيب هوب في المحافظات المصريّة خارج القاهرة. ويعمل حاليّاً على إنجاز المراحل الأخيرة من فيلم عن الموسيقى النوبيّة.
*المخرج أحمد رحّال.