.
أولاً أشكر الزميل صلاح باديس على رده على مقالي وردة: تجلّي الكيتش في الأداء، الذي أثار نقاشاً واسعاً. في البداية، أحب التأكيد على أن ما أكتبه هو اجتهاد يُأخذ منه ويُرد عليه (باستعارة لغة الفقه)، وبالتالي فهو ليس حكماً مطلقاً. النقطة الأهم هي ماذا يُقصد في المقال بـ“المحاسبة“؟ ليس هناك خصومة شخصيّة بيني وبين وردة، وهذا ليست حجّة في القضيّة. إذا كان ما يقصده المقال هو عدم تناول وردة أو أي فنان بالنقد، فأنا أختلف معه وبشدة. فمن حق أي مستمع أو متلقٍّ إثارة أسئلة نحو أي عمل فني يتم طرحه أو أي تجربة فنيّة. وإذا كانت هناك مآخذ على هذا النقد فهذا شيء آخر، لكن رفض فكرة تحليل وتناول تجربة فنيّة (أيّاً كانت وجهة نظر ذلك الطرح أو النقد) شيء غير مفهوم.
لم يهاجم المقال وردة بشكل شخصي أو إنساني، بل على العكس: كنت حريصاً للغاية في عدم التعرّض لحياة وردة الشخصيّة إلا في أضيق الحدود، وذلك لأن معظم التفسيرات التي تستمد من حياة الشخصيّة لأي فنان غالباً ما تكون إسقاطات. وبالتالي، لم أصدر “أحكاماً أخلاقيّة” على شخص وردة أو تجربتها الفنيّة.
لن أستفيض في الرد على اتهامي بالمحافظة والاستعلائيّة. هذا استنتاج شخصي عنّي ولا أرى أي داعٍ أو مجال للدخول في سجال حول دحض تلك الاتهامات أو التأكيد على تقدميتي أو “شعبويّتي“. و بالرد على النقاط التي أثارها: نعم، اختيار الشخصيّة الأدائيّة من ملبس وحلي وتسريحة شعر وكيفية الوقوف على المسرح جزء لا يتجزّأ من مفهوم الأداء. وأثيرت تلك النقطة في المقال السابق لي في معازف. صحيح أنّني لم أتعرّض لاختيارهن لملابس معينة أو غير ذلك لأن هذا لم يكن محور المقال – بل كان التركيز على دمج أساليب أداء وليس الشخصية الأدائيّة.
كما أختلف مع المقال في نقطة أن “أداء (..) وردة لم يتحوّر ليلائم متطلبات الكيتش المصري“، فمن يتابع تاريخ وردة يرى كيف كانت استجابتها للجمهور (والجمهور المصري خاصة) محور أسلوب أدائها.
حول النقاط التي تم توضيحها:
أولاً: محاولة المقال لتبديل “بلدي” بـ“كيتش” محاولة جنينيّة للغاية. ولم أرغب بالتركيز على الجانب المفاهيمي بشكل متعمّق، لأن هذا ليس مقالاً في فلسفة الجمال، وبالتالي أردت طرح تقديم عام للمعاني المختلفة لمصطلح “كيتش” من دون الخوض في سجال فلسفي يجعل من المقالة “استعلائيّة” أكثر ممّا هي عليه – كما يقول البعض.
ثانياً: لم يخصّص المقال أو يقتصر تعريف “كيتش” على أنّه نسخة تجاريّة أو مشوّهة. بل تم توضيح الاستخدامات المختلفة للمصطلح وربطه بمعانٍ أخرى مثل استثارة العواطف، المبالغة، العاطفيّة المفرطة وغيرها. وهذا ما أشار إليه المقال عدة مرات من خلال تحليل أداء وردة. فلا أعرف لماذا تجاهل هذا الجانب من مصطلح “كيتش” و التركيز خاصة على فكرة “التشويه” و“التسليع“؟
ثالثاً: كما هو واضح في المقال، لم أشأ الخوض في حياة وردة الشخصيّة واستلهام أحكام على أدائها من ذلك، إلا إذا كان هناك رابط بين تلك التجارب الشخصيّة (من ناحية التقنيّة) وذلك الأداء. ولكن أختلف مع المقال أن اعتقاد البعض بأن وردة “بلدي” له علاقة بنشوئها في مجتمع متحرّر ومجيئها لاحقاً إلى مجتمع محافظ. كان تعليق البعض –بما فيهم محمّد عبد الوهاب– على أسلوبها في الاختيار والتعامل مع فنّها وأدائها الذي دائماً ما يتّسم بالافتعال أو المغالاة أو الاستسهال أو الانغماس في لحظات آنية على حساب تصوّر عام للتجربة الفنيّة ككل (عكس أم كلثوم على سبيل المثال).
لا يمكن فصل أسلوب الأداء عن القالب أو النوع الفني الذي يؤدّى من خلاله العمل الفني. فلو كانت وردة مغنية شعبيّة تغنّي المديح أو الموّال أو أي نوع من الغناء ولم يكن لديها نفس الانضباط لكان عندي نفس التحفّظ. الانضباط والرؤية الكليّة للعمل ليس معناها الجمود والمحافظة. هذا خلط غريب بين فكرة “السيطرة” على العمل الفني والقبول بأي أسلوب أداء بحجة أن ذلك “الأسلوب الشخصي“. إذ من المفترض من أي فنان –وفنان في مكانة وردة وإمكانيتها– هو فهم واستعياب مفاهيم مثل وحدة العمل وعلاقة الأداء بالعملية الفنيّة إلى جانب عناصر تقنية عديدة. من الممكن جداً أن يختار الفنان عدم الأخذ في الاعتبار أيّاً من هذة العناصر أو علاقتها ببعضها البعض، ولكن لا يمكن إغفال أن ذلك سيؤثر حتماً على الشكل النهائي للعمل وكيفيّة استقباله.
أولاً: لا خلاف على أن اختيارات مجموعة من البشر الفنيّة – فليكن سائقو التاكسي – لها خصائص محددة – على سبيل الغناء الشعبي في مصر. وإذا قمنا بتحليله بشكل مبدئي نجد أنّه يمتلك عناصر تقنية معيّنة (الآلات المستخدمة، طريقة الغناء وغيرها)، وموضوعات معيّنة (ما يتم التغنّي به: ظلم الأيام، وخيانة الأحبة وغيرها). ممّا لا شك فيه أيضاً أن ردود الفعل التي تثيرها تلك الفنون أو طرق الأداء مختلفة عن أساليب وأنواع أخرى. لذلك، ف“وصمها” بـ“الشعبي” أو “الصاخب” أو “المزعج” لا ينفي قيمتها المعيّنة عند كثيرين.
أحب أن أؤكد مرة أخرى أنّني لن أرد على اتهامي “بالاحتقار الطبقي“، ولكن رفض تقييم أو تحليل أو التعامل مع تلك الأنواع من الفنون والأداء بشكل جدي، وطبقاً لمفاهيم أو أفكار عامة عن ما يسمى بـ“الجماليّات” (والتي بالطبع يمكن نقدها أو الرد عليها) بحجة أن في ذلك “احتقار” لفئة معيّنة، أو أن كل التجارب والأنواع الفنية “مساوية” لبعضها البعض في الموضوع والأسلوب و ما تثيره من نتائج – أمر مساوٍ للعبث الذي يشير إليه الرد على المقال.
ثانياً: هناك مغالطات عدّة في اقتباس النص، إذ لم ينتقد المقال الجمهور بوصفه “رتيباً وغير جاد“، بل كان اقتباساً من أغنية وردة “مسا النور و الهنا“. أمّا عن استخدام وردة للكيتش –من استدرار للعواطف أو المبالغة أو الميلودراميّة في الأداء– بالقطع كان نتيجة أنّها ارتأت أن مثل ذلك الأسلوب الأنسب للتعبير عن شخصيّتها الأدائيّة، وهذا ما أكّدت عليه في العديد من المقابلات. فهل كانت كل اختياراتها الفنيّة والشخصيّة كذلك “كيتش“؟ لا أعلم، و لكن في تحليل شخصيتها الأدائيّة، وما شرحته هي للكثيرين وما قاله عنها كثيرين – كانت تلك الملاحظة هي العامل المشترك في تفسير أداء وردة. وهنا أتفق مع الرد على المقال بأنّني لم أستفيض في تحديد ملامح شخصيّة وردة الأدائيّة كمؤديّة ومغنيّة في صالات الكباريهات في باريس وبيروت. بالقطع كان لذلك تأثير على شخصيّتها وأسلوبها في الأداء، وهذا تقصير في التحليل.
لكن لم “يحاسب” المقال طبقة سائقي سيارات الأجرة على اختياراتهم، ولكن من العبث تجاهل أن ذلك الذوق يمتلك خصوصيّة معيّنة يمكن توصيفها وتحليلها وتقييمها. النقد –في تصوري الشخصي– هو فعل تقييمي بالأساس، وبالتالي من المستحيل تناول ظاهرة تناولاً نقديّاً بدون قياسها بمعايير محددة. يمكن نقد تلك المعايير بالقطع (على سبيل المثال اتهام كاتب المقال بالاستعلاء الطبقي أو المحافظة)، ولكن لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن أي نقد هو عملية تقييم بالأساس، ولا يمكن بذلك “منع” أو “رفض” النقد في المطلق، سواءً لوردة أو لأي فنّان آخر.
قبل أن أختتم، أكرّر أن رفضي التام لأن ينسب إلي ما كتبته بأنّه يفضي إلى الحكم على تجربة وردة أنها “كيتش” بمعنى أنها مشوهة” أو “ملطخة” نابع من اعتبار ذلك خلط للمفاهيم وسوء اقتباس. فهل كانت وردة (وكثير من من علموا معها) يستخدمون الكليشهات والمبالغات؟ قطعاً. وكما وضحت سابقاً: وردة أو أي فنان ليس فوق التقييم أو النقد. استعار المقال مفهموم “الكيتش” لأن في كثير من الأفكار المترتّبة عليه والمرتبطة به تفسّر الكثير من تجربة وردة ومن عملوا معها. هل معنى هذا أنّه هذا التقييم “ضحى” بوردة في سبيل “إعلاء” ذوق معين؟ بالقطع لا. ما استنتجه المقال من تلك التجربة أنّه “الكيتش” ومسألة “الذوق” لا ينفي إطلاقاً المتعة التي نستمدّها جميعاً من وردة و“الترقيص” و“التأوّه” و“البكاء“، ولكن ليس بغياب الوعي عن تلك الكليشهات والمبالغات.
لنكتشف أن أكثر موقف فعلاً “يضحّي” بوردة هو أخذها على محمل الجد وقولبتها مع آخرين بقالب رفضت هي نفسها بشدّة “الانضمام” إليهم (كما أكدت هي في عدة مقابلات “أنا مش كده“). ما يثير اهتمامي وإعجابي بوردة هي أنّها كانت “بلدي” وقمة في الكيتش، ولكنّها كانت تعترف بذلك تماماً، وعلى قدر مثير من السلام النفسي مع ذلك التوصيف لأنّه يعبر عن وجهة نظرها الفنيّة والإنسانيّة. وهذا ما يجعلها “فنانة عظيمة” في نظري وليس لأي سبب آخر.
وأخيراً: نعم، إذا شاءت الأقدار وظلّت وردة في فرنسا لكانت أيضاً ستقدم أسلوباً وتجربةً فنيّة يتم إدراجها تحت الكيتش الفرنسي، وكانت ستمنح الجمهور قدراً كبيراً من المتعة والسعادة. لكنها لكانت أيضاً ستصبح مدعاة للسخرية ككثير من المطربات اللاتي أنتهجن نفس الأسلوب وتمّت السخرية منهن مع استمرار حب الناس لهن والاستمتاع بفنهن.