.
شكرًا لـ صادق التيجاني لقراءة المقال والمساهمة فيه. صورة الغلاف لـ لانا هارون.
في الثامن من نيسان / أبريل، انتشرت صورة لفتاة (آلاء صالح) تقف على ما يبدو أنها منصة، يتبين لنا فيما بعد أنها سيارة بيضاء استترت تفاصيلها بازدحام الجمهور المحيط بالفتاة، يلتف حول جسدها الثوب السوداني الذي يحمل بين طيات لونه الأبيض رمزية للمرأة السودانية العاملة؛ ترتفع سبابة إحدى يديها وهي تلقن الجمهور الهتافات، فيما تتشبث يدها الأخرى بالثوب السوداني من منتصفه. لقِّبَت هذه الفتاة بالكنداكة (لقب ملكات كوش، حضارة قديمة في السودان)، ولقّبت أيضًا بتمثال الحرية السودانية.
هذه الصورة ليست مجرد لحظة خارج السياق، بل مشهد من فيلم أطول يحكي التاريخ النضالي للمرأة السودانية، الذي يمكن تتبع جذوره إلى عهد الاستعمار التركي عندما شاركت مهيرا بنت عبود وربها الكنانة في المعارك، وحملتا رسائل المهدي الي جميع أنحاء السودان. في عام ١٩٢٤، قادت العازة محمد عبد الله مظاهرةً عسكرية حين كان زوجها علي عبد اللطيف قابعًا في سجون المستعمر، بسبب تأسيسه ورئاسته جمعية اللواء البيضاء التي كانت تسعى لطرد الاحتلال الإنجليزي وتوحيد السودان ومصر. احتج زملاء علي عبد اللطيف في الجمعية وطلاب الكلية الحربية على سجنه وطالبوا بالحرية له ولجميع زملائهم، فاصطفوا عند منزل العازة وأدوا لها ولأسرتها التحية العسكرية تكريمًا له. استقبلتهم العازة بالخروج معهم في مظاهرة عسكرية قادتها بنفسها، وهم يرددون من خلفها قصيدة الشاعر والمدرِّس بمدرسة أم درمان الابتدائية عبيد عبد النور: “ﻳﺎ ﺃﻡ ﺿﻔﺎﻳﺮ ﻗﻮﺩﻱ ﺍﻟﺮﺳﻦ ﻭﺍﻫﺘﻔﻲ ﻓليحيا ﺍﻟﻮﻃﻦ.”
https://www.youtube.com/watch?v=vNeMd8L-8Bs
أنشد القصيدة فيما بعد عبد الكريم عبد الله مختار المعروف بلقب كرومة، ابن المطربة الشعبية مستورة بنت عرضو، لتتحول ﻳﺎ ﺃﻡ ﺿﻔﺎﻳﺮ إلى أغنية شعبية بالإضافة إلى كونها أغنية وطنية تستخدم في الحراك السياسي. كان كرومة من فناني فن الحقيبة، وهي مدرسة موسيقية مرتبطة بحقبة زمنية محددة، جاءت تسميتها من حقيبة الإعلامي أحمد محمد صالح التي كانت بداخلها الأسطوانات التي يقدمها في الإذاعة.
يظهر اسم العازة مرة أخرى في أغنية عازة في هواك التي كتب كلماتها ولحنها وأداها خليل فرح، أحد أعضاء جمعية اللواء الأبيض، ونتيجة لنشاطه السياسي كثيرًا ما ارتبطت أشعاره بمحاربة الاستعمار والوطنية. تتضارب الأقاويل حول المقصود في أغنية عازة في هواك، فهناك من يراها تكريمًا لنضال العازة، وآخرون يرون استخدام كلمة العازة تمويهًا في مواجهة الرقابة الاستعمارية البريطانية، وقد يكون الأمران معًا. عرف خليل فرح لتجديده في الأغنية السودانية، وكان جزءًا من رواد حراك أغاني الحقيبة بالمثل.
بعد خليل فرح، شهدت عازة في هواك الكثير من الاستعادات، بما في ذلك أداء قامت به أوركسترا وكورال كلية الموسيقى والدراما في جامعة السودان ومن توزيع كورال الصافي مهدي. اليوم، أصبحت كلمة عازة أو عزة تستخدم كثيرًا في الأدب أو الحديث العادي حين يود الشخص ذكر السودان بصيغة التحبيب.
https://www.youtube.com/watch?v=PbcQGr9TmcA
في إقليم دارفور والنيل الأزرق، يحتكم وجهاء القبيلة إلى الحكامات، ومفردها حكامة، وهي شاعرة القبيلة التي تحدد من خلال شعرها وأغانيها المرتجلة قوانين المجتمع وتعلق على الأحداث المهمة التي تجري فيه، تمدح وتهجو أفراده وفقًا لالتزامهم بالأخلاق التي تدعو لها، كما يمكنها إثارة الحروب مع القبائل الأخرى من خلال كلماتها. رغم أن معظم الحكامات أميّات، إلا أنهن يُجِدنَ ارتجال الشعر بالفطرة، ويُعرَفنَ لحفاظهنّ على تراث القبيلة وتاريخها، وتكريم سير أبطالها عبر قصائد تروى في أفراحهم ورحيلهم.
كانت حواء جاه الرسول المعروفة بحواء الطقطاقة ابنة إحدى الحكامات، يقال إن تلقيبها بالطقطاقة قد يرجع إلى أنها فنانة تعلم الرقص للعروس، أو أنه نتيجة نضالها ضد الإنجليز، حيث قال فيها أحد المفتشين الإنجليز أنها مثل شجرة الطقطاقة، موجودة في كل مكان. اعتقلت حواء الطقطاقة عدة مرات بسبب غنائها، إحداها كانت بعد إحياء حفلة وطنية في مسرح العمال في عطبرة مع حسن خليفة العطبرواي. كما قامت بحياكة وارتداء علم الاستقلال الذي صممته الفنانة التشكيلية والشاعرة السرة مكي الصوفي، والذي يحمل الألوان الثلاثة الأزرق والأصفر والأخضر رامزًا لطبيعة السودان: النيل والصحراء والزراعة. ارتدت حواء هذا الثوب في مسيرة الاستقلال، وقيل حتى وفاتها. اختصت حواء بما يسمى أغاني البنات، أغانٍ تؤديها في الغالب النساء حيث يمتزج صوتهن بصوت آلة موسيقية تسمى في السودان الدلوكة، وهي عبارة عن نوع من أنواع الطبول التي لها فتحة من جهة ومن الجهة الأخرى مغلقة بقطعة جلد مشدودة. تعد حواء الطقاطقة مثالًا على امتزاج العمل النضالي في السودان بالاحتفالات في الزواج، لذلك نجد أن كثيرًا من أغانيها قد باتت تستخدم على نطاق واسع بمدلولات نضالية حتى حين لم يقصد بها ذلك. كانت لحواء روح وطنية كثيرًا ما تجلت في أغانٍ تذكر فيها اسماعيل الأزهري، أول رئيس وزراء للسودان، مثل: “لا تعريفة ولا ملين عاش الشعب مع اسماعين (قاصدة بذلك إسماعيل الأزهري)، طال الليل للمسافر، المابيك نِدِمْ (في رثاء إسماعيل الأزهري بعد أن قاد ضده جعفر النميري إنقلابًا عسكريًا) والبريدو إبتلاني.”
https://www.youtube.com/watch?v=rNpuIklaTVU
في السنوات الأخيرة، ساهمت عدة موسيقيات في الإبقاء على هذا التراث حيًا. ولِدت السارة في السودان لوالدين ناشطين في العمل السياسي وحقوق الإنسان، وعاشت فيه حتى عام ١٩٨٩حين انقلب عمر البشير مع الجيش على الحكومة، وبدأت تضيق مساحة الحريات في تلك الأيام. حينها قررت أسرة السارة الهرب من السودان متجهين إلى اليمن ومنها الولايات المتحدة، حيث خالطت السارة ثقافات عدة على الطريق. منذ انطلاق مسيرتها الموسيقية، عملت السارة على إعادة أداء الكثير من الأغاني التراثية بطريقة تتيح لجمهور أوسع وخارج السودان الاستماع لها. كانت السارة أيضًا جزءًا من مشروع النيل الذي كان يهدف إلى إيجاد روابط ما بين مواطني منبع ومجرى ومصب النيل من خلال الموسيقى، كما شاركت في الحراك السياسي الراهن من خلال إصدار أغنيتها الجديدة من أنا، بعد أن أصدرت سابقًا أغانٍ ذات دلالات سياسية مباشرة ومبطّنة مثل يا وطن.
جسدت صورة آلاء صالح التي التقطت بعفوية قوة المرأة السودانية ودورها الريادي في الحياة العامة، وساهمت بكسر بعض الصور النمطية الغربية حول المرأة في دول الآخر الجنوبي. كان لهذه الصورة دور كبير في إيصال أصوات المحتجين التي تجاهلها الإعلام إلى شريحة أكبر حول العالم، وربما يُكتَب عن هذه الصورة يومًا ما كما كُتِب عن صورة فان ثي كيم فوك التي ساهمت في تشكيل الرأي العام في أمريكا المناهض لحرب فيتنام.