fbpx .

عازفو القرآن | الجيل المؤسس

مينا ناجي ۲۰۱٤/۰۸/۱۸

نستعرض هنا سير أبرز المقرئين والمقرئات في مصر مع توضيح الفروق بين أساليب قراءة كل منهم ونماذج من هذه القراءات. ستنشر المادّة على جزئين، الأول يرصد سير أبرز قرّاء الجيل المؤسّس مثل عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى اسماعيل وعلي محمود ومحمود البنّا ومحمود الحصري، والثاني يستعرض سير أبرز المقرئين المعاصرين مثل سميّة الديب وسيد متولي ومحمود الشحّات.

الجيل المؤسّس

عبد الباسط – براندو – عبد الصّمد

في مقابلة بدون تاريخ نشرت على موقعه الخاص، يتحدّث عبد الباسط عبد الصمد كنجم متحفّظ عن الشهرة وانفعالات الجمهور بكثير من الورع الذي يربط فيه بين شخصيّته الفنيّة المشهورة، وبين توفيق الله. يخبر عبد الصّمد المذيع عن رحلاته في العالم، وكيف كان أول مقرئ ذهب إلى جنوب أفريقيا، وكيف وقف له الفرنسيّون يصفّقون لمدة عشر دقائق بعد قراءة له هناك، وكيف كان لقب عبد الباسط [مارلون] براندوجزءًا من حرب عليه شنّتها بعض الأوساط.

سيرة

حفظ الصبيّ عبد الباسط (١٩٢٧-١٩٨٨) القرآن في سن العاشرة بقريته الأم أرمنت بمحافظة قنا حين كانت قرية وأصبحت مدينة كبيرة على حد قوله. وتعلّم من الشيخ محمّد سليم، مدرس علوم القرآن والقراءات في مدينة أصفون لمدة أربع سنوات بعد أن كان عبد الباسط يكاد أن يسافر إلى طنطا لدراسة قراءة القرآن، بعد أن التحق إخوته الأكبر منه بالأزهر. شغف الصبيّ هذا دفع به إلى المشي لأربعة كيلومترات للاستماع إلى محمّد رفعت من راديو المقهى الوحيد في المنطقة.

يشتهر الصبيّ وتنهال عليه طلبات إحياء الحفلاتالخاصّة والمناسبات الدينيّة، وعندما طلب منه الالتحاق بالإذاعة المصريّة تردّد في قبول الطلب مبرّرًا لهم بأنّه مشهور أصلًا في الصعيد ولا يحتاج أكثر من ذلك.” لكن في النهاية يلتحق الشاب الذي كان يبلغ العشرين بالإذاعة عام ١٩٥١.

ينهمك المقرئ المشهور في تعديد المساجد والمدن والبلاد التي قرأ فيها، مختتمًا أيّ رقم أو مسجد أو اسم مدينة بعبارة دا طبعًا بتوفيق من الله.” وعندما يحاول المذيع استدراجه لذكر أسماء مقرئين معاصرين يستمع إليهم، يتهرّب من الإجابة معللًا ذلك بتولّيه منصب نقيب المقرئين المصريين، وبأنّه لا يريد أن يزعّل حد.

مهنيًّا، يتكلّم الشيخ بوضوح عن انضباط القراءات القرآنيّة بالموسيقى، مؤكّدًا على أن لجان تحكيم المقرئين في الإذاعة المصريّة كانت تضم عضوان من معهد الموسيقى للحكم على المقرئين المتقدّمين. وعندما يطلب منه المذيع قراءة آيات من القرآن، يتردّد عبد الباسط قائلًا أن القراءة تحتاج لنفس طويل حتى يلين الصوت والجمهور ينفعل معهم.” لكنّه فيما بعد يشير إلى أنّه لا يحب تهريج الجمهور أمامه، مثل الصراخ بـ’الله’، لأن ذلك يضيع هيبة القرآن.

أسلوبه

في المقابلة ذاتها، يشير المذيع، ربّما من دون قصد علميّ، إلى صبيانيّةصوت عبد الباسط. وهو ما يعلّله الأخير بـالشباب الدائم الذي تمنحه إيّاه قراءة القرآن.” الأمر الذي يفسّره مدرّب الأصوات والمقامات طه عبد الوهّاب بأن خامة صوت عبد الباسط تنتمي إلى التينور، وهو أرفع درجة في الأصوات الذكوريّة. وهذا ما يدفع بالقرّاء الشباب في بداية مهنتهم لتقليده استسهالًا، والتقاطًا لنفس طبقة الصّوت الموجودة أصلًا لديهم، لكن قبل أن تتغيّر مع النضج.

بينما يشير الباحث نمر النيل إلى أن مساحة صوته تمتد إلى أوكتافين، حيث أن الأوكتافين هما ما يحتاجه الصوت من مساحة لإخراج ثمانية مقامات كاملة، وما بينهما من ثمانية مقامات أخرى ثانويّة، أي ستة عشر مقامًا بكل طبقاتها.

وعن التقنيّات التي استعملها الشيخ، يقول عبد الوهّاب أنّه أوّل من ابتدع تقنيّة التحكّم بنبرات الصّوت بتحريك يده على الجيوب الأنفيّة. وهذا ما يتّفق عليه النيل الذي قال بأن ميزة عبد الباسط في نجاحه بالتحكّم بهذا الصوت الجامح، إذ لم يكن يقرأ بدفع الهواء من حجابه الحاجز، بل بالاعتماد بشكل كامل على الحنجرة، وهذا سرّ قوّة صوته واستقراره وصفائه.” مؤّكدًا على أنّه صاحب أندر صوت ذكوري في القرن العشرين.”

الشيخ علي محمود | حلقة الوصل بين قراءة القرآن والغناء

كانت مساهمة الشيخ علي محمود حاسمة في تثوير الموسيقى بمصر خلال عصر النهضة الموسيقيّة هناك. الشيخ، الذي كان يؤذّن من على مئذنة مسجد الحسين بالجمّاليّة كل يوم على مقام مختلف، والذي تعلّم على يد عثمان الموصلي، علّم، أو على الأقل كان له أثر مباشر على عدد من أهم موسيقيي تلك المرحلة مثل الشيخ زكريّا أحمد، الذي كان أحد أعضاء بطانته في فرقة الأناشيد الخاصّة بالشيخ، ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان. إضافة إلى مقرئين ومنشدين مثل طه الفشني ومحمّد رفعت والشيخة كريمة العدليّة التي جمعته بها قصّة حب. ننظر إلى ذلك الزمن مستذكرين خبر تحويل أئمة في السعوديّة إلى التحقيق بعد التحاقهم بدورة للتدريب على المقامات الموسيقيّة.

سيرة

ولد الشيخ علي محمود عام ١٨٧٨ تقريبًا بمنطقة الجماليّة في القاهرة. وعندما فقد بصره وهو طفل، اتّجه إلى حفظ القرآن وتعلّم أحكامه وتجويده لدى عدد من الشيوخ. وعندما أثبت جدارته، اعتمد كمقرئ ومؤذّن ومنشد جامع الحسين، قبل أن يمتهن الإنشاد.

إذ يطرح نبيل حنفي محمود في مقاله علي محمود: إمام القرّاء من المنشدين“، والذي اعتمد فيه على نص لكمال النجمي، (والذي تعتمد هذه النبذة، بدورها، عليه)، احتمال استماع محمود طفلًا إلى عبده الحامولي في إحدى ليالي رمضان حين أنشد الأخير تسابيح من على مئذنة جامع الحسين. يذهب حنفي بعيدًا في نظريّته، مقترحًا أن هذه الحادثة أثّرت في الشيخ الطفل ودفعته، ولو بعد سنوات، إلى الإنشاد من نفس الموقع.

هذا ما دفع بالإذاعة المصريّة التي بدأ بثّها عام ١٩٣٤، وقبل عشر سنوات من رحيل محمود، إلى إسناد تلاوات القرآن إلى قرّاء غيره، مثل محمّد رفعت الذي قرأ أمام محمود، رغم أن الأخير كان في أوج شهرته. إذ اعتقد القائمون على الإذاعة أن محمود منشد وليس قارئًا، حتى أن استمعوا إلى الشيخ في مأتم الملك فؤاد عام ١٩٣٦.

أسلوبه

ساهم الشيخ علي محمود في إرساء قواعد قراءات القرآن التي لا تزال منتشرة بين المقرئين في مصر خاصّة إلى اليوم. إذ كان أوّل من درس العلوم الموسيقيّة واستفاد منها بالقراءة، منغّمًاقراءته كما يقول الشيخ عبد العزيز البشري عن أحد تلامذة محمود: “وإذا كان فن التنغيم بآي القرآن الكريم قد بلغ اليوم أوْجه، فلا شك في أن نهضته الحاضرة مدينة للمرحوم الشيخ حنفي برعي، فهو الذي استن هذه الطريقة الحديثة، فكانت جمهرة القارئين له فيها تبعًا.” إذ كان ظهور الشيخ علي محمود وانطلاق شعبيته في وجود أمثال هؤلاء القراء يعطي القارئ الذي لم يعاصر أيام تألق شهرة الشيخ فكرة واضحة عمّا كان عليه صوت الرجل من قوة وحيوية، وعما أحدثه في فن التلاوة من تجديد اجتذب إليه القلوب قبل الآذان.

يقترح المؤرّخون والباحثون في سيرة الشيخ علي محمود أن القصائد والموشّحات التي لحّنها تمثّل حلقة وصل بين ترتيل القرآن وبين الغناء العربيّ المتقن. إذ يحلّل كامل الخلعي عمل يا نسيم الصباالذي لحّنه الشيخ زكريّا أحمد: “وهذه القصيدة سجلها الشيخ علي محمود على اسطوانة في منتصف العشرينيات، وأداها بطريقة فذة مزج فيها مزجًا باهرًا بين أداء المنشدين والمقرئين والمطربين، وخلع عليها من سطوة أدائه وصوته ما جعلها من بدائع الغناء العربي الكلاسيكي، وأداء هذه الأغنية يحتاج إلى صوت رائع ونفس مديد وفحولة ونعومة، وتحتاج قبل كل شيء إلى إحساس فائق الدقة بالغناء العربي.

محمود علي البنّا | القارئ الحذر

لم يصل محمود علي البنّا إلى نجوميّة قرّاء جيله كمصطفى اسماعيل والمنشاوي وعبد الباسط، فأسلوب قراءته الحذر من دون المغامرة في التوغّل بالمقامات، كاسماعيل، وحياته الهادئة، وتأخّره النسبي في تعلّم علم المقامات الموسيقيّة، رسّخه كقارئ يمتلك صوتًا استثنائيًّا، لكن ربّما جهده الواضح في الابتعاد عن تقليد قرّاء آخرين، كما يصرّ في جميع مقابلاته، حجّم مساحات صوته.

سيرة

ولد محمود علي البنّا عام ١٩٢٦ في قرية شبرا بمحافظة المنوفيّة لمزارعين. وبعد محاولات لإنجاب الذكور، نذر الوالد إذا ما آتاه طفل ذكر بأن يهبه لتعلّم القرآن، وهذا ما حصل. إذ يتم ابن التاسعة حفظ القرآن في قريته لينتقل في عمره الثانية عشرة وحده إلى طنطا لتعلّم العلوم الإسلاميّة والقرآن. هناك، نصه أساتذته بالتركيز على علوم القرآن وتجويده لصوته الجميل، ليصبح تلميذًا لدى الشيخ إبراهيم سلام في المسجد الأحمدي بطنطا ويتعلّم على يديه لعامين.

انتقل الشاب بعدها إلى القاهرة ليتقرّب من قرّاء ومنشدين مثل محمد سلامة وعلي محمود وطه الفشني، حتى يتعلّم علم المقامات الموسيقيّة والتواشيح على يد الشيح درويش الحريري عام ١٩٤٦.

بدأت شهرة الشاب بعدها ليلتحق بالإذاعة المصريّة، ويستقبل الدعوات لإحياء الحفلات في مصر وخارجها حتى وفاته عام ١٩٨٥.

أسلوبه

يتمتّع البنّا بصوت استثنائيّ، لكن إصراره على اختطاط طريق خاصّ به حبس صوته في هذا الهاجس. إذ يقول الباحث طه عبد الوهّاب أن ميّزة صوت البنّا في قراره: “مع أن صوته من نوعيّة ‘الباريتون’، إلا أنّه يميل إلى الباص أكثر. ونشعر في قراره بنعومة وجمال صوته أكثر من الجواب لأنّه يضطر إلى حبس صوته كي يصل إلى أعلى الدرجات، فلا يخرج الصوت بمستوى القرار.

كما يشير عبد الوهّاب إلى حذر البنّا التنغيميّ: “أمّا بالنسبة للمقامات، فكان البنّا لا يدخل في مشتقّاتها، وإنّما يبدأ كالمعتاد بالبياتي، ثم ينتقل إلى الراست، ويعود إلى البياتي والصبا، مبتعدًا عن التوغّل في المقامات، ومعتمدًا على القّوة في قراره ومخارج الأحرف التي كان يتقنها.

أبو العينين شعيشع | المعمّم الذي قلّد محمّد رفعت

كان يقرأ القرآن مرتديًا الكاكولة والطربوش، الذي اضطر الى خلعه عندما زار تركيا، لأن عقوبة ارتدائه السجن. فخلعه وتعمّم بمنديل ثم تعمم بعد ذلك بشال أبيض. وعند عودته إلى مصر، طلب منه عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وقتها ألا يخلع العمامة بعد ذلك. الشيخ الذي ترك الإذاعة في فلسطين ورجع لأنه اشتاق إلى أمه، وسمع المذيع في الراديو يقول أن الشيخ أبو العينين أبو شعيشع سيتلو الآيات البيّنات وكرّرها ثم قال: “لعل المانع خيرًا.”

سيرة

ولد الشيخ أبو العينين شعيشع في مدينة ومركز بيلا بمحافظة كفر الشيخ  عام ١٩٢٢، وهو الابن الثاني عشر لأبيه. التحق بالكتاب ببيلا وهو في سن السادسة وحفظ القرآن قبل سن العاشرة ، وذاع صيته صبيًّا من خلال حفل أقيم بمدينة المنصورة عام ١٩٣٦، حيث استمع إليه أكثر من أربعة آلاف وكان عمره وقتها أربعة عشر سنة. استمع الشيخ شعيشع لأصوات كبار المقرئين في وقته، كالشيخ محمد رفعت، والشيخ مصطفى اسماعيل، وغيرهما، وتأثر كثيرًا بالقارئ الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي. دخل الإذاعة المصرية عام ١٩٣٩، وفي عام ١٩٤٨ بلغ أجر الشيخ أبو العينين مائة جنيه في الليلة الواحدة وأصبح يتقاضى خمسةً وعشرين جنيهًا عن كل إذاعة له من محطة القاهرة، وهو مبلغ لم يصل إليه في تلك الأيام سوى كبار القراء كمصطفى اسماعيل وعبد الفتاح الشعشاعي ومحمد الصيفي. كما كان أول قارئ مصري يقرأ بالمسجد الأقصى. أصيب بمرض في صوته في مطلع الستينيّات، غير أنه عاد للتلاوة، وعين قارئًا لمسجد عمر مكرم سنة ١٩٦٩ ، ثم لمسجد السيدة زينب منذ ١٩٩٢. ناضل الشيخ في السبعينيات لإنشاء نقابة القراء مع كبار القراء وقتئذ مثل الشيخ محمود على البنا والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والتي انتُخبَ نقيبًا لها سنة ١٩٨٨ وخلفه الشيخ شعيشع. شغل الشيخ شعيشع العديد من المناصب الدينية، فقد كان قارئًا في مسجد السيدة زينب، ونقيبًا لقراء مصر، وعضوًا للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعميدًا للمعهد الدولي لتحفيظ القرآن الكريم، وعضوًا للجنة اختبار القراء بالإذاعة والتلفاز، وعضوًا للجنة العليا للقرآن الكريم بوزارة الأوقاف.

أسلوبه

في بداية تسجيلاته الإذاعية كان متأثرًا بالشيخ محمد رفعت وكان على علاقة شخصية وطيدة به. وقد استعانت به الإذاعة لإصلاح الأجزاء التالفة من تسجيلات الشيخ محمد رفعت، فقد كان من أبرع من استطاع تقليد الشيخ الكبير محمد رفعت‏‏. لكنّه اتخذ لنفسه أسلوبًا خاصًا فريدًا في التلاوة بدءًا من منتصف الأربعينيّات.

طه الفشني | الصوت المحبوس

انحبس صوته عدة أسابيع ولم يفلح الأطباء في علاجه. ذهب للحج وفي يوم عرفة وكان الاستعداد لصلاة العصر، فجأة شق الفضاء صوت جميل يؤذن للصلاة، كان هذا الصوت هو صوت الحاج طه الفشني وقد استرده.

كان يسهر عشاق صوته حتى الفجر ليستمعوا إليه عبر الإذاعة في رمضان وهو يتلو القرآن الكريم ثم يؤدى الابتهالات ويرفع الأذان. وأيضا حين ينشد التواشيح بمولد السيدة زينب، وقد حفر اسمه بين أعلام فن التواشيح مع الشيخين طوبار والنقشبندي.

سيرة

ولد طه حسن مرسي الفشني عام ١٩٠٠ بمدينة الفشن بمحافظة بني سويف. حفظ القرآن، وتعلّم القراءات على يد الشيخ عبد العزيز السحار. تدرج طه في دراسته الدينية والعامة وحصل على كفاءة المعلمين من مدرسة المعلمين سنة ١٩١٩، حيث كان يسند ناظر المدرسة إليه القراءة اليومية للقرآن في الطابور وحفلات المدرسة. ذهب الفشني إلي القاهرة للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي ولكن الأحداث السياسية التى كانت تمر بها مصر واندلاع ثورة ١٩١٩ حالتا دون التحاقه بدار العلوم، فتوجه إلى الأزهر ، وما لبث أن اشتهر بقدرته على أداء التواشيح الدينيّة فى مختلف المناسبات بعد التحاقه ببطانة الشيخ علي محمود.

التحق بالإذاعة عام ١٩٣٧، بعدما استمع إليه بالصدفة سعيد لطفي مدير الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت، وهو يحيي إحدى الليالى الرمضانية بالإمام الحسين، وعرض عليه أن يلتحق بالعمل فى الإذاعة. ثم عيّن قارئًا لمسجد السيدة سكينة سنة ١٩٤٠، واشتهر بقراءته لسورة الكهف يوم الجمعة. وأصبح المؤذن الأول لمسجد الإمام الحسين، واختير رئيسًا لرابطة القراء خلفًا للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي عام ١٩٦٢. كما كان من المصاحبين للشيخ مصطفى اسماعيل فى تلاوة القرآن بقصري عابدين ورأس التين طيلة تسع سنوات، ولما بدأ التلفزيون المصري إرساله كان الفشني ممّن افتتح إرساله بهم.‏

أسلوبه

يقال أن الشيخ طه الفشني كان أول من أدخل النغم على التجويد مع المحافظة على الأحكام، ولقبه المختصون بملك العذوبة لطلاوة صوته. وصلت مساحة صوته لأوكتافين (جواب الجواب)، بالإضافة لأنّه يملك تحكم كبير في الذروة الصغرى لقرار القرار وهي الدرجة الهامسة من الصوت المنخفض التي تعطي نغمةً خاصّةً لا يملكها إلا صاحب الصوت العذب، فكانت تنويعات الصوت عند الشيخ طه الفشني مثار استغراب لانه كان ينتقل بين جواب الجواب وقرار القرار بسلاسة. كان الشيخ طه صاحب مدرسة متفردة في التلاوة والإنشاد، وكان على علم كبير بالمقامات والأنغام ويستطيع أن ينشد القصيدة الواحدة لمدة أربع ساعات متصلة بسبب طول نفسه الاستثنائي.

جسم عبد الفتاح الشعشاعي وصوته الذي يمتد لأوكتافين

كوَّن الشعشاعي فرقة للتواشيح الدينيّة كان في بطانتها الشيخ زكريا أحمد. ولكن فرقة التواشيح لم تكن ترضي طموحه، فغامر ودخل ليقرأ في الليلة الختامية لمولد الحسين، مع أبرز المقرئين في بداية هذا القرن أمثال محمد رفعت وأحمد ندا وعلي محمود والعيساوي ومحمّد جاد الله. في تلك الليلة أصبح له مكان بينهم، وأصبح له معجبين وتلاميذ ومنهم محمود علي البنا وأبو العينين الشعيشع وغيرهما كثيرين. يُحكى أن ذات عام دخل الشيخ لقصر الملك لقراءة القرآن في رمضان، ثم أقسم بعدها أن لا يعود إلى التلاوة مرة أخرى، فقد علم أنه بينما كان يقرأ القرآن في جناح القصر كان الملك يفسق في جناح آخر.

سيرة

ولد عبد الفتاح الشعشاعي عام ١٨٩٠ في قرية شعشاع (على اسم جده شعشاع) مركز أشمون بمحافظة المنوفية. كان والده محفّظًا للقرآن، فحفظ القرآن على يده وأتمه حين وصل العاشرة، ثم انتقل إلى مدينة طنطا لطلب العلم من المسجد الأحمدي وتعلم التجويد وأصول المد. ولتفوق الصبي وتميزه بصوت عذب، نصحه المشايخ بالسفر الى القاهرة والالتحاق بالأزهر الشريف ودرس هناك القراءات على يد الشيخ بيومي والشيخ علي سبيع. حصل الشعشاعي على درجة علمية من المعهد الأزهري، ثم درس لمدة ثلاث سنوات مع الشيخ درويش الحريري، وهو موسيقي ومعلم ذائع الصيت وقتها، في معهد فؤاد الأول للموسيقى (معهد الموسيقى العربية) ليتعلم فن المقامات.

انتقل الشعشاعي إلى القاهرة عام ١٩١٤، وسكن بحى الدرب الأحمر، وأنشأ فرقة للتواشيح الدينية، لكنه منذ عام ١٩٣٠ تفرغ الشيخ لتلاوة القرآن، تاركًا التواشيح. وبدأ صيته يذيع في القاهرة بين أساطين دولة التلاوة، وقرأ في مأتم سعد زغلول باشا، وعدلي يكن باشا، وثروت باشا، وكان ثاني قارئ يقرأ بالإذاعة المصرية بعد افتتاحها عام ١٩٣٤، بعد الشيخ محمد رفعت. عين قارئًا لمسجد السيدة نفيسة، ثم مسجد السيدة زينب عام ١٩٣٩، وكان يتقاضى راتبًا سنويًّا قدره خمسمائة جنيه مصري. يعتبر الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي أول من تلى القرأن الكريم بمكبرات الصوت في مكة والمسجد النبوي ووقفة عرفات عام ١٩٤٨.

أسلوبه

رغم ضآلة جسم الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، إلا أنّ صوته كان قويًّا ويمتد لأوكتافين كاملين، قادر على التحكم فيه بمساحاته المختلفة بشكل ملفت، ليصور كل معنى بصوته وبطريقة تفرد بها، فهو يعتبر مدرسة بمفرده بجانب مدارس المشايخ الأخرى الكبرى، ومن الرعيل الأول الذي أدخل العلم المقامي في قراءة القرآن.

محمد الطبلاوي | وشوشني وانعشني

أطلق عليه محمد عبد الوهاب لقب “صاحب النغمة المستحيلة”. رغم ذلك، دخل الطبلاوي اختبار الإذاعة تسع مرات (وفي بعض الروايات ست) بسبب مشكلة في الانتقال النغمي، وفي المرة العاشرة اعتُمد قارئًا بإجماع لجنة اختبار القراء، وحصل على تقدير الامتياز عام ١٩٧٠.

سيرة

ولد محمد محمود الطبلاوي عام ١٩٣٤، بحي ميت عقبة التابع لمحافظة الجيزة، تعود أصوله إلى محافظتي الشرقية والمنوفية. كان أهم ما يميز ميت عقبة آنذاك انتشار الكتاتيب والاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم. حفظ القرآن في سنته العاشرة، وبدأ يحيي الحفلات في سنته الثانية عشرة. تزوج مبكرًا في سن السادسة عشر وبعدها انتقل إلي القاهرة حيث ذاع صيته واعتمد كقارئ الأزهر ووصل إلى ما وصل إليه من شهرة ومن تلاميذ كثر في أنحاء العالم تتلمذوا علي يديه.

أسلوبه

ساعد الطبلاوي على تطوّر قراءته حرصه الشديد على صوته الرخيم وصحته، مع المواظبة على مجالسة مشاهير القراء والاستماع إليهم مباشرة وعن طريق الإذاعة المصرية، أمثال محمد رفعت وعلي محمود ومصطفى إسماعيل وغيرهم من الرعيل الأول في الإذاعة المصرية. وهو يرى أن  صفات القارئ الجيد أن تكون له مدرسة خاصة به في التلاوة، فلا يُقلد أحدًا؛ أي (يُقلَّد ولا يُقلِّد). ولا بد له من المداومة بشكل يومي على قراءة القرآن في حدود خمسة أجزاء في اليوم، فهو يبدأ قراءته يوم الجمعة ويختمه يوم الخميس، بمعدل ختمة كل أسبوع. كما أنه يستمع إلى أغانى أسمهان وأم كلثوم وعبد الوهاب ويعشق سماع التلاوات بأصوات رفعت والدمنهوري والمنشاوي والبهتيمي. والقراءة في رأيه ليس معناها علو الصوت كما يرى أنه يحدث الآن من بعض القراء، متذكرًا أن عبد الوهاب قال له يومًا: “يا شيخ طبلاوي وشوشني وانعشني.”

محمد رفعت مفتتح الإذاعة المصريّة

حين نشرت جريدة المصور صورته قبل وفاته انهالت عليه التبرعات من محبيه حتي وصلت خمسين ألفًا، لكنّه رفضها. قال عنه الشيخ المراغي شيخ الأزهر: “إنه منحة إلهية تعبر عن التكريم لنوعنا الإنساني.” وقال عنه عبد الباسط عبد الصمد “الشيخ رفعت عالم وحده، الإنسان عندما يسمعه يقشعر بدنه من تلاوته.”

سيرة

ولد محمد رفعت محمود رفعت عام ١٨٨٢ بحي المغربلين بالقاهرة، فقد بصره صغيرًا وهو في سن الثانية من عمره نتيجة مرض أصاب عينيه (في إحدي الروايات أنه فقد إحداهما والثانية عام ١٩٣٦، عقب صلاة الجمعة حين حاول أحدهم أن يصل إليه وسط التفاف الناس فمدّ أصابعه وفقأ العين الثانية ليفقد بصره تمامًا)‏. بدأ حفظ القرآن في سن الخامسة، حيث التحق بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب ودرس علم القراءات وعلم التفسير على أيدى شيوخ عصره أمثال الشيخ محمد البغدادي والشيخ السمالوطي وأتم حفظه في الحادية عشرة، ثم درس المقامات الموسيقية وكان يستمع إلى العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية الموجودة في مكتبته بجانب اسطوانات منيرة المهدية وبعض الأسطوانات التركيّة. تولّى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب عام ١٩١٨، وهو في سن الخامسة عشرة، وهو المسجد الذي بدأ الشيخ رفعت منه القراءة ، وظل يقرأ فيه سورة الكهف يوم الجمعة حتي حجبه المرض عن القراءة فيه قبل وفاته عام ١٩٥٠.

افتتح بث الإذاعة المصريّة عام ١٩٣٤، وقرأ كل يوم لمدّة خمسين دقيقة وحينما كبر أصبحا يومين في الأسبوع هما الثلاثاء والجمعة، حتي أصيب عام ١٩٤٣ بسرطان الحنجرة الذي كان معروفًا وقتئذ بمرض “الزغطة” فاكتفى بالقراءةَ في مسجد فاضل الذي بدأ واستمر فيه دون أن يذهب إلى الإذاعة. توقف عن القراءة عام ١٩٤٨ حتّى وفاته.

بدأ الشيخ رفعت في قراءة القرآن بالاذاعة، في حالة شبيهة بحالة أم كلثوم، وهو في الثانية والخمسين من عمره، أي أن ما نسمعه من تراثه الفني هو بقية ماكان لصوته من قوة وأداء. ولما سمعت الإذاعة البريطانية بي بي سي العربية صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، فرفض ظنًّا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتي وأُخبر بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم. لـ رفعت العديد من الحوادث المشابهة، كرفضه عرض إحدى محطات الإذاعة الأهلية أن تذيع له بعض تلاواته متعللًا “إن وقار القرآن لا يتماشى مع الأغاني الخليعة التي تذيعها.” ورفضه عرض عبد الوهاب أن يسجِّل له القرآن الكريم كاملًا مقابل أي أجر يطلبه، خوفًا من أن يمسَّ أسطوانة القرآن سكران أو جن.”

أسلوبه

كان الشيخ محمد رفعت أحد أقطاب جماعة النقشبندية إحدى إكبر الطرق المتصوفة التي تؤمن بمبدأ الخلة أي الصداقة مع الله، وعدم التكلف معه، وهو ما يساعد في معرفة طريقة فهمه للقرآن وطريقة تلاوته المجددة له. والشيخ محمد رفعت من أول من أقاموا مدرسة للتجويد الفرقاني في مصر، وكانت طريقته تتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة في القرآن الكريم وإمكانية تجلي بواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه لا بأذنه فقط، والتأثر والتأثير في الغير؛ يبدأ بالاستعاذة والبسملة والترتيل بهدوء وتحقيق وبعدها يعلو صوته عاليًا، منتقلًا بين قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلّف ولا قفزات. قبل تسجيل الإذاعة في كل صباح كان يدرب صوته حيث يدخل حجرته ويمسح حلقه بريشة أشبه بعمل مس للحلق ثم يظل في حجرته لمدة تزيد عن النصف ساعة يختبر صوته ليعرف مدى قدرته للوصول لمقام معين ويدرب صوته على النغمات العالية (الجواب).

محمد صديق المنشاوي | الصوت الباكي

يُحكى أنه كان جالسًا أمام بيته في جلباب أبيض وطاقية بيضاء، واقترب منه جاره وقال له: “لو سمحت يا عم ما تعرفش الشيخ محمد المنشاوي موجود في شقته ولا لأ؟” فنظر إليه الشيخ محمد قائلًا له: “حاضر يا بني انتظر لما أشوفهولك.” وبالفعل تركه الشيخ محمد صديق وصعد إلى شقته وارتدى العمة والجلباب والنظارة ثم نزل إليه وسلم عليه حتى لا يسبب له حرجًا.

ربما تكون هذه الحكاية، بجانب حكايات أخرى، مدخلًا لفهم شخصية الشيخ محمد صديق المنشاوي، الملقب بالـ”الصوت الخاشع والقلب الضارع”، أحد قرَّاء القرآن الكريم الأوائل العظام الذين أقاموا مدارس التجويد من مصر، والمنتمي إلى الجيل الثاني الذي حمل راية التلاوة بعد عمالقة الجيل الأول كمحمّد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي.

سيرة

ولد محمد صدِّيق المنشاوي عام ١٩٢٠ بمركز المنشأة بسوهاج. ونشأ في أسرة قرآنية، فأبوه الشيخ صديق المنشاوي الذي اشتهرت قراءته في كل من مصر، سوريا و لندن، وعمه الشيخ أحمد السيد المنشاوي الذي دعي للقراءة في القصر الملكي ورفض ذلك. أتم محمد حفظ القرآن الكريم وعمره أحد عشر عامًا على يد الشيخ محمد النمكي قبل أن يدرس أحكام التلاوة على يد الشيخ محمد أبو العلا والشيخ محمد سعودي بالقاهرة.

الحكاية الثانية التي تظهر شخصية القارئ محمد صديق المنشاوي، حدثت حين علم المسؤلون بالإذاعة بأمر موهبته، فأرسلوا إليه يطلبون منه أن يتقدم بطلب للإذاعة ليعقد له اختبار فإن اجتازه يعتمد مقرئًا بها، فرفض الشيخ هذا المطلب وقال: “لا أريد القراءة في الإذاعة فلست في حاجة إلى شهرتها ولا أقبل أن يعقد لي هذا الامتحان أبدًا.” فما كان من مدير الإذاعة في ذلك الوقت إلا أن أمر بأن تنتقل الإذاعة إلى حيث يقرأ الشيخ محمد صديق المنشاوي وبالفعل فوجئ الشيخ وكان يحيي حفلًا رمضانيًّا في قرية إسنا بدار أحد الأثرياء لعائلة حزين بأن الإذاعة أرسلت مندوبها لتسجل قراءته وتلاوته وفي ذات الوقت كانت مجموعة أخرى من الإذاعة قد ذهبت لتسجل قراءة أبيه الشيخ صديق المنشاوي والذي كان يقرأ بقرية العسيرات بمحافظة سوهاج في بيت الحاج أحمد أبو رحاب وكانت تلك التسجيلات من جانب الإذاعة لتقييم صوتيهما فكانت تلك أول حادثة في تاريخ الإذاعة أن تنتقل بمعداتها والعاملين بها ومهندسيها للتسجيل لأحد المقرئين.

والحكاية الأخرى التي توضح علاقة عائلة المنشاوي بالسلطة، إذا قرناها بحكاية عمه الذي رفض القراءة في القصر الملكي، هي حكاية الدعوة التي وجهها إليه أحد الوزراء قائلًا له: سيكون لك الشرف الكبير بحضورك حفل يحضره الرئيس عبد الناصر. ففاجأه الشيخ محمد صديق بقوله: ولماذا لا يكون هذا الشرف لعبد الناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت محمد صديق المنشاوي؟ ورفض أن يلبي الدعوة قائلًا: لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلي أسوأ رسله.

أسلوبه

اشتهر الشيخ محمد بقراءته بمقام النهاوند. مستمدًّا من المدرسة المنشاوية التي أسسها أبوه الكثير الذي كان سببا في نجاحه وتميّز صوته بأسلوب متميز وحزين بتلاواته، بجانب عذوبة صوته وإتقانه لمقامات القراءة، وهزات صوته المتأثرة وانفعاله العميق.

محمد عمران النهاوند المظلوم

توفي عام ١٩٩٤ عن عمر يناهز الخمسين عامًا بسبب مرض السكر. ولم تتطوع جريدة أو مطبوعة واحدة بنشر خبر وفاته باستثناء جريدة ذكرت الخبر باقتضاب شديد. بعدها بعشرين يومًا، وصل قرار اعتماده قارئًا في الإذاعة إلى منزله. هكذا تبدو حياة أحد أبرز الأصوات وأكثرها تعرّضًا للظلم. صوت مُلِم بأحكام التلاوة وفهم عميق للمقامات الموسيقيّة، تشكّل على الموسيقى الكلاسيكيّة من موتسارت وبيتهوفن.

سيرة

ولد محمد عمران عام ١٩٤٤ بمدينة طهطا محافظة السوهاج. وبعد عام واحد كف بصره. أتم حفظ القرآن الكريم في سن العاشرة على يد الشيخ محمد عبد الرحمن المصري ثم جوده على يد الشيخ محمود جنوط في مدينة طما. عند بلوغه أحد عشر عامًا سافر إلى القاهرة والتحق بمعهد المكفوفين للموسيقى حيث تعلم أصول القراءات والإنشاد وعلم النغم والمقامات الموسيقية وفن الإنشاد على يد الشيخ سيد موسى الكبير. عمل الشيخ عمران بشركة حلوان للمسبوكات قارئًا في مسجد الشركة، حينئذ بدأ اسمه بالشيوع وذاع صيته فتقدم لاختبار الإذاعة المصريّة وتم اعتماده في أوائل السبعينيات. سجل في الإذاعة عددًا كبيرًا من الأناشيد والابتهالات منها أسماء الله الحسنى وابتهالات أخرى عديدة، ولحن له محمد عبد الوهاب، وسيد مكاوي، وحلمي أمين. وبدأت بصمات عمران تبرز عبر الابتهالات الإذاعيّة من خلال مشاركته في إحياء المناسبات الدينية المذاعة والخاصّة. وتعاقدت معه إحدى شركات الكاسيت لتسجيل بعض سور القرآن قبل أن يشارك في إحياء بعض الليالي بدار الأوبرا.

أسلوبه

عُرف عن عمران أنه كان يبدع في تلاوته في الحفلات الخاصة أكثر من الإذاعة، إذ أن الوقت يحكمه في استوديوهات الإذاعة، كما أن له كيمياء خاصة مع تفاعل السامعين. تتسع مساحة صوته أكثر من أوكتافين كاملين، بجانب أنه خبير في فن النغم، ويتميز بتركيبات عديدة في نفس النفس، حيث يستطيع التنقل بين النغمات والرجوع للنغمة الأولى.

محمود حسنين الكلحي معلّم المشاهير

سيرة

ولد محمود حسنين صالح الكلحي عام ١٩٢١ في قرية الكلح بمركز أدفو في محافظة أسوان. حفظ القرآن في سن مبكرة على يد الشيخ الأمين محمد الأمير العمراني، وتلقّى علوم الفقه والنحو والتفسير حتى سن الثالثة عشرة، وفي عام ١٩٣٤ استكمل تعليمه بالأزهر الشريف على يد الشيخ محمد سعودي إبراهيم والذي منحه الإجازة. مزاملًا محمّد سليم المنشاوي الذي أصبح له فى قابل الأيام مركز مرموق فى تعليم القراءات، وتتلمذ على يده مشاهير القراء أمثال عبد الباسط عبد الصمد وأحمد الرزيقي. وكانت بداية اشتهار الكلحي عام ١٩٣٩ بمدينة أسنا، حين شارك في إحدى الحفلات صدّيق المنشاوي ومحمّد صديق المنشاوي ومحمود عبد الحكم.

أسلوبه

تميّز الكلحي بالصوت الشجي والنغمات الطَربة التي كان يختارها في قراءاته. كان من الرعيل الأول الذي أسس دولة التلاوة ومن الأصوات الذكيّة التي ظهرت مع الاسماء العظيمة وتجاهلها التاريخ رغم توافر تسجيلاته وتنوعها وغناها الموسيقي.

محمود خليل الحصري أول مقرئ في البيت الأبيض

بدايته حين دعاه شيخ الخفر، وهو طفل صغير، لإحياء حفل في داره وأعطاه عشرين قرشًا وكيلتين ونصف فول أجرًا له. شيخ عموم المقارئ المصرية عام ١٩٦٠ وشيخ قراء العالم الإسلامي عام ١٩٦٦ ورئيس الاتحاد ١٩٦٧. أول من رتل القرآن في القاعة الملكية وقاعة هايوارت المطلة على نهر التايمز في لندن، وأول قارئ يقرأ القرآن في البيت الأبيض، وقاعة الكونغرس الأميركي، ونال جائزة الدولة التقديرية من الطبقة الأولى عام ١٩٦٧.

سيرة

وُلد محمود خليل الحصري عام ١٩١٧ بقرية شبرا النملة التابعة لطنطا بمحافظة الغربية بمصر. أدخله والده الكتاب في عمر الأربع سنوات ليحفظ القرآن وأتم الحفظ في الثامنة من عمره، وفي الثانية عشر انضم إلى المعهد الديني في طنطا، ثم تعلم القراءات العشر بعد ذلك في الأزهر. أخذ شهاداته في علم القراءات ثم تفرغ لدراسة علوم القرآن لما كان لديه من صوت متميز وأداء حسن.

في عام ١٩٥٥ عين قارئ المسجد الحسين بالقاهرة، وعين بعدها مفتشًا للمقارئ المصرية، ثم وكيلًا لمشيخة المقارئ المصرية، وتخصص في علوم القراءات العشر الكبرى وطرقها وروايتها بجميع أسانيدها ونال عنها شهادة علوم القراءات العشر من الأزهر الشريف. عارض ابنته إفراج “ياسمين الخيام” حين احترفت الغناء بسبب ما يراه من حرمانية الغناء، رغم محاولة توسط جيهان السادات وقتها.

 أسلوبه

أجاد الحصري قراءة القرآن بالقراءات العشر إجادة تامة، وكتب عنها العديد الكتب وتأستذ فيها وفي أساليب التلاوة وأحكامها. وامتاز بقراءته المتقنة المدرسية للقرآن الكريم، والمتمكنة والشجية مع ذلك. تجلَّى هذا في رزانة صوته، وحُسن أدائه لمخارج الحروف وصفاتها، ناهيك عن مراعاته التامة لأحكام الغُنَّات والمدود، ومراتب التفخيم والترقيق، وتوفية الحركات، والاهتمام بالوقف والابتداء، وغير ذلك من أحكام التجويد.

مصطفى اسماعيل | مانيكان المشايخ

في عام ١٩٥٨ طلب منه شابان فقيران القراءة في مأتم والدهما بناءً على وصيته، فاستجاب الشيخ، وحين انتهى وأثناء خروجه من البلدة، إذ بعمال شركة غزل المحلة يرفعون السيارة التي كان يستقلها فوق أكتافهم تكريمًا للشيخ وتعبيرًا منهم عن انبهارهم وولعهم الشديد بما فعله ليلتها.

سيرة

ولد مصطفى اسماعيل عام ١٩٠٥ بقرية ميت غزال، مركز السنطة، محافظة الغربية، من أسرة ثرية ميسورة لها شأن في تلك القرية. حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر في كتاب القرية. التحق بالمعهد الأحمدي في طنطا ليتم دراسة القرءات وأحكام التلاوة علي يد الشيخ إدريس فاخر، ولازم الشيخ محمود حشيش. استمع إليه محمد رفعت في مأتم وتوقّع له مستقبلًا باهرًا ونصحه بإتقان أحكام القراءة والتلاوة. وسمعه الملك فاروق بمصادفة في الإذاعة فأعجب بصوته وأمر بتعيينه قارئًا للقصر الملكى علي الرغم من أنه لم يكن قد اعتمد بالاذاعة. وقد كان الرئيس السادات من عشاقه، حتى أنه كان يقلد طريقته في التلاوة عندما كان السادات مسجونًا. ترك اسماعيل وراءه ألفًا وثلاثمائة تلاوة لا تزال تذاع، و٥٣٠٦٩ ساعة قراءة لم يبق منها سوي ثلاثمائة ساعة فقط، وقدم للتليفزيون خمسًا وعشرين تسجيلًا بالصوت والصورة لم يذع شيئا منها منذ عام ١٩٨٢ حتّى الآن.

أسلوبه

لفهم شخصيّة اسماعيل، لا بد من ذكر بعض الحوادث في حياته: كان الطفل مصطفى يتهرب من الكتّاب ليلعب مع زميله، فكان شيخه يضربه ويذهب به إلى جده الحاج اسماعيل فيضربه هو الآخر. وأول ما لفت الطفل مصطفى صوتيًّا هو جمال أصوات الباعة في الموالد، حيث كان يتحسسهم ويمشي وراءهم يستمع إلى نبرات أصواتهم، حتى كان في أحيان يضل طريق العودة إلى منزل أسرته. ترك الشاب مصطفى الدراسة بالمعهد الأحمدي الذي كان قد دخله ليتعلم القراءات السبع وأحكام التلاوة، منصرفًا إلى القراءة بالمآتم والسهرات والحفلات، وترك مسكن الطلبة ليسكن باستقلالية في بنسيون تديره سيدة أجنبية، ولم يرجع إلى دراسته حتى بعد تهديد جده له، والذي رأى إقبال الناس عليه فاقتنع في النهاية. كان يحب النظافة في المأكل والملبس والمكان الذي ينام فيه، فبعد أن نال قدرًا من الشهرة بمدينة طنطا كان يذهب إلى القاهرة ليشتري أرقى الأقمشة ويذهب بها إلى أشهر الخياطين (من فرط أناقته أطلق عليه الشعراوي لقب “مانيكان المشايخ”). وعندما استقر به المقام في القاهرة عام ١٩٤٤ نزل بفندق شبرد الذي كان في ذلك الوقت لا يقيم فيه إلا الأثرياء أو الأجانب، بإيجار الغرفة في الليلة الواحدة أربعة جنيهات، وهو مبلغ يكفي لإعاشة فردٍ واحد لمدة شهر كامل. اشترى بعدها فيلا بالزمالك، وكان دائم التردّد علي مدينة الأسكندرية ويذهب إليها كل أسبوع ليقضي فيها يومين أو ثلاثة، حتى في فصل الشتاء. وفي سكرات موته قال لخادمته “أنا جالس الآن على كرسي العرش والعالم كله يصفق لي.”

كل هذه الحوادث تبين فرق شخصية مصطفي إسماعيل عن سير القراء الآخرين. وهي ما انطبع على شخصية صوته وقراءته الفريدة، ونورد أيضًا حوادث دالة عن طريقة تلاوته تبين ملامحها وأبعادها، ففي وقت ذيوع صيته، كان الشيخ محمد رفعت يعترض على قراءته لكثرة “أخطائه” (وهي الملحوظة التي أبداها أول مرة سمعه فيها وهو لا زال صغيرًا). وحين سألته أم كلثوم أين تعلم الموسيقى، قال أن أذنيه التقطت كل ما سمعه طوال حياته، واستنبط منها طريقته في الأداء بالفطرة، وأنه عرف المقامات من السميعة، فكلما قرأ آية سمع واحد يقول يا “حلاوة الصبا،‏ يا كذا النهاوند.” وقال محمد عبد الوهاب لعاطف الابن الأكبر للشيخ‏: “كان والدك يتمتع بمقدرة فائقة في تركيب السلالم الموسيقية، أبوك كان عبقري (…)‏ وكنت حريصًا على سماع أبيك كل ليلة، أروح أسمعه وأتعجب، أربعين سنة فشلت في أني أضبط ودني مع صوته لأنه كان عنده عنصر المفاجأة في كل آية من البداية للنهاية،‏ فإذا ما حاولت اللحاق بصوته يفاجئك حتي في حالة تكراره للآيات.” فاوض الشيخ مصطفي الإذاعة كي يسجل تسجيلات أطول، لأن صوته كان يحتاج إلى مدة من الوقت للإحماء حتي “ينجلي”، قائلًا: “الثلاثون دقيقة ليست هي مصطفي اسماعيل، فجواهر اسماعيل تتكشف كلما امتدت ساعات القراءة وازداد الأداء تمكنًا وارتيادًا لآفاق المقامات مجلجلًا بجوابات الجوابات.”

في البداية تسمع “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، فتتساءل عن هذا الصوت الضعيف المنكسر المخنوق وتشفق علي الأسلوب العادي، ثم يبدأ التصاعد التدريجي والمشكك في قدرات ما، حيل ما، لينفجر بعد دقائق طالت أو قصرت تراكُب نغمات ومقامات بشكل مفاجئ مثير للجنون، مزج طازج ولاهي وخاشع وواسع الخيال بين علم القراءت وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات، لا مثيل له، وصولًا إلي التجسيم والفيوضات الإلهية. قرأ بأكثر من تسعة عشر مقامًا بفروعها. صاحب نَفَس طويل ومدرسة جديدة في أسلوب التلاوة والتجويد، بالإضافة إلى قفلته المميزة التي لا تشبه أي مقرئ غيره وعبقريته في الوقف والمد. هو لا يقرأ الآيات بل يمضغ الكلمات ويلوكها ويبكيها ويصرخها، فيفسر المعاني ويتدبر دلالاتها، مستغلًا اختلاف القراءات السبع في التطريب وإظهار المقدرة بفتح الحروف أو إمالتها أو إدغامها أو ترقيقها، خارجًا عن القواعد والأصول محافظًا عليها في آن، مثلما كان في حياته، لأن ببساطة جميع القراءات متساوية في صوابها. فموسيقيًّا هو مجدد إلى أبعد حد، ولكن تجويده صحيح. تجويده عبقري.

المزيـــد علــى معـــازف