.
بدأ روسكيلد عام ١٩٧١ كمهرجان محلي صغير امتد ليومين وجمع بعض فرق الروك الدنماركية للأداء أمام جمهور معظمه من طلاب المدارس. في العام التالي أصبح المهرجان غير ربحيًا، يتبرع بكل عوائده لقضايا خيرية، وبحلول اليوم، أصبح أكبر مهرجان موسيقي في شمال أوروبا، يتراوح جمهوره السنوي بين الـ ١٠٠ و ١٣٠ ألفًا، ويشارك فيه قرابة مائتي موسيقي على مدى أربعة أيام رئيسية وثلاثة أيام تمهيدية. خلال العقد الماضي بالتحديد، حاول المهرجان التخلي عن سمعة “مهرجان روك”، وفتح الباب نحو موسيقيين وأصناف من مختلف أنحاء العالم. ليصبح أحد الأماكن التي بإمكانك أن تحضر فيها بوب ديلان بعد الظهر وكاردي بي في المساء وترافيس سكوت في اليوم التالي.
كانت معازف إحدى وسائل الإعلام العالمية والمجلات الموسيقية التي دعيت لحضور المهرجان وتغطيته، وهذه أولى ثلاثة مقالات تمثل تغطية معازف لـ روسكيلد.
يعرف وو تانج كلان جمهورهم، وجمهورهم يعرفهم. لو كنتم من مواليد التسعينات أو بعد وفاتتكم أيام NWA وشتم الشرطة ورفع الاصبع الأوسط والمطالبة بتشريع الماريوانا، هذه هي فرصتكم. وو تانج كلان لا يبذلون أي جهد لتحديث عرضهم ودخول مشهد الراب المعاصر، بل يخلقون متحفًا من نوعٍ ما، غايته تقديم أفضل أداء حي لراب الأولد سكول في العالم حاليًا. لم لا؟ بعد أن أصبح الراب مسيطرًا عالميًا، من الجميل أن هناك فرصة للجيل الجديد من سميعة الراب كي يشهدوا بعضًا من الفصول المبكّرة للقصة. تستبدل المجموعة البصريات والمؤثرات بفيديو لأوراق ماريوانا متساقطة كمطر في الخلفية، وتعرف كيف تستفيد من طاقة فرقة الراب الكبيرة على المنصة، وكيف تبقي الجمهور في حماسٍ مستمر، إما برفع الاصبع الأوسط أو تشكيل حرف دبليو بأيديهم أو هتاف اسم الفرقة.
تمتلك آدلوس هاردينج تلك الكاريزما الغريبة القائمة على الاقتراب من الرضى وعدم بلوغه. تبقي الجمهور في حالة ترقب وكأن شيئًا مذهلًا على وشك الحدوث في أي لحظة. لا يحدث أي شيء على وجه التحديد، لكن حالة الترقب هذه تضمن التقاط الجمهور لكل التفاصيل الصغيرة التي تستخدمها هاردينج لبناء عرضها. الموسيقى التي تؤديها هاردينج ملائمة للتمايل أكثر من الرقص، بألحان محبوكة وإيقاعات بطيئة داعية للشرود والتأمل.
“هذا أكبر حشد قد أدّيت أمامه في حياتي وأعتقد أنني قد ألوث ملابسي” قالت ستيلا دونلي لجمهور قاعة جلوريا المغلقة والممتلئة إلى آخرها. قد تكون هذه العبارة إحدى أكثر الكليشيهات التي يستخدمها الموسيقيون لافتتاح أداءاتهم، لكن ستيلا كانت تعني ما تقوله. خلال الأغاني الثلاثة الأولى، والتي أدتها بشكلٍ منفرد بصحبة جيتارها، كان صوتها يرتجف ويتهدج، فيما ترنّحت في عدة مناسبات حول النوطات الصحيحة. ساعدتها خفّة دمّها على الحفاظ على حماس الجمهور، قبل أن ينضم إليها عازف الطبول وثم بقية الفرقة، ويساعدونها على استعادة ثقتها وتملّك صوتها.
تفكّر ستيلا بعروضها الحية كشيء قائم بحد ذاته. لديها رقصاتها الخاصة التي تقع في منتصف المسافة بين تمارين الآيروبيك التلفازية الصباحية وبين كيرت كوباين سكرانًا في التسعينات المبكرة، كما تحكي عدة نكت وقصص صغيرة مكتوبة بنفس الأسلوب الذي تكتب به أغانيها، لتبدو هذه الفواصل كامتدادات طبيعية للأغاني خلال الحفل. في العديد من المناسبات، كانت تروي قصة الأغنية أو حادثة مرتبطة بها، كأغنية أولد مان التي يظل والدها يعتقد أنها مكتوبة عنه، أو أغنية بويز ويل بي بويز، التي أصدرتها مساندةً لصديقتها المتعرضة للاعتداء الجنسي قبل أيام من فضيحة هارفي واينستين وانطلاق حملة مي تو. بلغ الحفل ذروته عند أداء ستيلا لأغنية احذر من الكلاب من ألبومها الأخير الذي يحمل نفس الاسم، مغنيةً باحتداد وشغف وكأنها ألفت الأغنية للتو، ومبقيةً على الجمهور تحت سلطتها العاطفية حتى اللحظة الأخيرة.
عرض كاردي بي مبهر جدًا لدرجة أن وجود كاردي بي فيه كان ثانويًا. بعد قيام الدي جاي بعدة جولات من تحميس جمهور الثمانين ألف شخص، ظهرت كاردي بي أخيرًا لقيادة فرقة الراقصات المساندات لها، في عرض يوظف كل العناصر الصوتية والبصرية والمؤثرات الخاصة لإبقاء الجمهور على الحدود القصوى من التسلية والحماس.
أدت كاردي كل العرض (بتقديري) عبر محاكاة الموسيقى المسجلة مسبقًا، ولم نسمع صوتها الحقيقي سوى في فواصل مخاطبة الجمهور، حين كانت تلقي نكاتًا إما محضرة مسبقًا أو تلقن لها عبر سماعات الرأس. في بعض اللحظات، كانت كاردي تخفق في الحفاظ على الحماس الجسدي والأدائي، لكن إخفاقاتها كانت تضيع وسط فرقة الراقصات والموسيقى الصاخبة ومدافع اللهب والدخان وقصاصات الورق اللامع. رغم أن الحفل ككل كان مبهرًا، إلا أنه يضع الموسيقى في المرتبة الثانية، ويجعل كاردي بي تبدو كمؤدية وحسب، لا علاقة حقيقية بينها وبين الراب الذي يلعب خلفها على المنصة، وهذا مخيّب للأمل بعض الشيء.
عند دخولي قاعة جلوريا المغلقة متأخرًا عدة دقائق، توقعت أنه لا تزال لدي فرصة للعثور على مكان جيّد للوقوف، وأن إيف تيومر سيغني على الأغلب فوق تسجيلات إلكترونية معظمها مسجلة مسبقًا. لكنني دخلت على ما بدا أنه حفل أندرجراوند لإحدى فرق الروك الكلاسيكية في أيامها المبكرة، نيك كايف آند ذ باد سيدز أو ذ فلفت آندرجراوند. كان إيف تيومر يظهر ويختفي وسط الضباب الكثيف الذي تغذيه آلات الدخّان، وسط فرقته التي تلعب جيتارات مشوهة ومشبعة بالضجيج (نويز) تذكّر بالبنك السبعيناتي، فيما يغني تيومر أسطرًا لحنية عاطفية تكاد تكون مبتذلة عن قصد.
يستثمر إيف تيومر الكثير في الموسيقى الحيّة والاستعراض، ويعثر على كل الطرق الممكنة للتهرب من جمود حفلات الموسيقى الإلكترونية البحتة، كما يكسر صورًا نمطية من قبيل أن كل العناصر البصرية التي ترافق الموسيقى الإلكترونية إما تجريبية أو حداثية. يعتني تيومر بالمناخ العاطفي للحفل، والذي يشمل الأزياء والحركة على المنصة والإضاءة وآلات الدخان، ويقنعنا بأنه من السهل أخذ عناصر أدائية مستخدمة لحوالي الخمس عقود والخروج بما هو جديد منها.
خرج إزرا كونينج على المسرح مرتديًا شورتًا مريحًا وصندلًا وقميصًا برتقاليًا، ملابس تلائم غرفة الجلوس أكثر من منصة أورانج التي تطل على أحد أكبر جماهير الموسيقى في أوروبا الشمالية. من الواضح أن إزرا لا يسعى للقب أفضل مغني روك حي، لكن في نفس الوقت، لا يمكنكم التقاط غلطة أو سهوة واحدة في أدائه من أول لآخر لحظة في الحفل. تمتلك فامباير ويكند احترامًا كبيرًا لموسيقاها، وتؤدي أغانيها ببراعة شخص وُلِدَ والجيتار في يده، واضعةً الموسيقى قبل الاستعراض وناجحةً بإقناع الجمهور بهذه المعادلة.
أدّت الفرقة الكثير من ألبومها الأخير فاذر أف ذ برايد، والذي قال إزرا كونينج إنه استمد بعضًا من الإلهام خلال تأليفه من تعاونه مع كانيه وست وبول مكارتني، وبالإمكان تتبع هذا الإلهام في التوزيع المنعش للأغاني، وفي المزج الحي المتقن. تلجأ الفرقة في حفلها إلى الكثير من الحيل المعتادة في حفلات الروك، مثل السولوهات الموسعة والارتجال على الجيتار، دون أن تسرح بعيدًا عن مزاج النسخ المسجلة من الأغاني، ليبدو أن كل أغنية لديهم لها نسختان، واحدة للاستوديو والثانية للمنصة.
بدأ حفل باركيه كورتس على نحوٍ لا يدعو للتفاؤل. صدف الحفل يوم الرابع من تموز / جولاي، عيد الاستقلال الأمريكي، وقررت الفرقة الافتتاح بنسخة روك من النشيد الوطني الأمريكي، أحد أصعب الأناشيد الوطنية للأداء. كانت النسخة معفسة جدًا لدرجة أنني اعتقدت أن الفرقة تحاول إيصال رسالة احتجاجية ضد أمريكا. صعد أعضاء باركيه كورتس المنصة بلا مرحبًا ولا السلام عليكم، يرتدون ملابس عادية ويقفون كأربعة عواميد لا يتحرك فيهم شيء سوى أياديهم العازفة. قلت لنفسي سأحضر أول كم أغنية ثم أرى من يعزف على المنصات الأخرى.
بدأت الفرقة العزف بثقة مفرطة، حتى أنها ثقة مزعجة بعض الشيء، بلا تبادل كلمة واحدة مع الجمهور أو أي حركة استعراضية لتحميسهم. من المعتاد أن تقوم فرق الروك بتعديل أغانيها بعض الشيء للنسخ الحية، إما لتصبح أسهل على الأداء أو لتصبح أكثر جاذبيةً، كتمديد السولوهات وإضافة هووكس راقصة وتجاوز المقاطع المعقدة لحنيًا التي قد تتعب الحضور الذين لا يعرفون الفرقة من قبل. لكن باركيه كورتس تجاهلوا كل ذلك، دفعتهم ثقتهم بأغانيهم لنقلها كما هي من الاستوديو إلى المنصة، مستندين إلى كون كل شخص بالفرقة سيّد في آلته الخاصة. بدأت الفرقة بأغانٍ من ألبومهم الأخير وايد أوايك، وعندما وصلوا إلى الأغنية المزدوجة الغنية بالطاقة أولمست هاد تو ستارت أ فايت / إن آند آوت أف بايشنس، كان من الواضح أن هذا أفضل عرض روك بإمكانك حضوره في المهرجان. يمكن تلخيص استراتيجية الفرقة بأنهم يبذلون جهودًا كبيرة في تأليف أغانٍ قوية، ثم جهود كبيرة في إتقان الأداء الحي لهذه الأغاني على أفضل شكل. بحلول الوقت الذي اختتمت به الفرقة بأكثر أغانيهم ملاءمةً للأداءات الحية، ون مان / نو سيتي، كانت منصة آفلون قد حشدت أكبر جماهيرها خلال المهرجان، حتى أكبر من الجمهور الذي حشدته روزاليا في اليوم السابق.
بدأ حفل أوكتافيان في الثالثة بعد منتصف الليل بعد تأجيله لنصف ساعة بسبب مشاكل تقنية. لا أعتقد أنني كنت بردانًا لهذه الدرجة في حياتي، فالمسرح مكشوف ويقع في منطقة خضراء، المطر ينهمر ويتوقف والدنمارك تحت القطب الشمالي بفشختين. لحسن الحظ، الجرايم هو أكثر فروع الراب اعتمادًا على البايس والسب بايس الذان يستهدفان الخصور مباشرةً. متنقلًا بين أغانٍ غاضبة ولعوبة، وبين الإلقاء الإيقاعي والتمويل الأوتوتيوني، تمايل أوكتافيان بحركات حادة، وكأنه نابض بشري مغروس في المنصة كل ما فيه يتحرك سوى قاعدته، وخلال دقائق كان الجمهور الذي يحاول مجاراة طاقته يتصبب عرقًا.
لعل أكثر ما علق في ذاكرة الجمهور من الحفل هو إصرار أوكتافيان على أن المهرجان يجري في كوبنهايجن، بينما هو في روسكيلده، البلدة الدنماركية التي ظهر اسمها على المونيترز والرايات وملابس بعض الجمهور وطاقم المنصة وكل مكان ممكن أن تقع عينك عليه. “دعوني اسمع صوت كوبنهايجاااااااان، إنها مدينة جميلة”، صاح الجمهور مجاوبًا: “روسكيلداااااااااا”، لكن أوكتافيان اعتقد أن روسكيلده كلمة تحية دنماركية ما وتابع بإصراره، بينما أخذ الجمهور الموضوع بمزح وكفّوا عن محاولاتهم لتصويبه.
في الدقائق الأخيرة من الحفل طالب أوكتافيان بأكبر حلقة موش بيت (mosh pit) في التاريخ. كان مسرح أبولو أصغر من طموح أوكتافيان، إذ عليك أن تخلي المسرح كله لتحاول تحقيق هدف كهذا، لكن الجمهور تباعد لإخلاء دائرة مهولة بالفعل، وكان بالإمكان رصد نظرة الـ “يا ساتر يا رب” في عيون أكثر شباب الحفلة مراهقةً وجموحًا، ثم بدأ أوكتافيان بأداء أغنية Bet، مستخدمًا تسجيلات صوتية لتغطية غياب سكِبتا ومايكل فانتوم الموجودان في الأغنية الأصل، وبدأ الجمهور بالتدافع والتقافز في الموش بيت بينما صبّ عليهم أوكتافيان والدي جاي المرافق زجاجة شامباين فائرة وبعض الماء (الذي دخل نصفه في عيني)، قبل أن ينسلّ أوكتافيان إلى الشريط بين المنصّة والجمهور، يركض مصافحًا بعض الجمهور، ثم يتعربش على سور الأمان ويلقي بارين عالسريع على جمهور هائج، قبل أن يعود لتسلق المنصة ويغادر وسط ضباب آلات الدخان في الساعة الرابعة تقريبًا، فيما كانت الشمس تشرق على نهاية واحد من أفضل حفلات المهرجان.
فكرة ترافيس سكوت عن حفل عظيم هو حفل لن تستطيعون فيه أن تأخذوا نفسًا أو تفكروا بفكرة واحدة، وبهذه المقاييس كان الحفل عظيمًا. ترافيس سكوت نجم بوب حقيقي، يظهر ذلك في تعامله مع الجمهور، حيث لا يحمسهم أو يحييهم، بل يأمرهم ويملي عليهم. نظرت حولي إلى أوجه عشرات آلاف المراهقين واليافعين، وكان بإمكاني تخيل صورة ترافيس سكوت معلقةً كأيقونة دينية في غرف نومهم.
يبني ترافيس سكوت عرضه حول فكرة واحدة: النار. يستخدم مدافع اللهب في مقدمة المنصة بسخاء، فيما تبث الشاشة فيديو يبدو وكأنه تم تصويره بكميرا حرارية وهو يحترق. زيدوا على ذلك أن الجمهور كان يسبح في عرقه من شدة التدافع والقفز رغم أن الحرارة قاربت العشر درجات.
خلال الأغاني الأولى، خفت على حياتي كما خفت عليها عندما ذهبت لحضور مولد الحسين في القاهرة. كان ترافيس سكوت يحرض الجمهور على تشكيل حلقات موش بيت أوسع وأوسع، وعندما كانت الحلقات تنهار في النهاية كانت قوة تدافع الجمهور ترفعني وتنزلني وتحركني دون مجال لحرية الحركة. هدأت الأمور في الأغاني الأكثر لحنيةً واعتمادًا على الأوتوتيون، وأتيح لنا رؤية ترافس الذي هيمن لوحده على المسرح الكبير بحضوره الطاغي، وقدم عرضًا يجمع تمرد وزعرنة الراب مع مشهدية ونجومية البوب.
سأخصص مقالًا منفصلًا (طبعًا) للحديث عن حفل بوب ديلان، لكن إليكم الخلاصة: لا تذهبوا إلى حفل ديلان متوقعين دندنة أغانيكم المفضلة والرقص عليها. على الأغلب ستمر ثلاث دقائق قبل أن تعرفوا أن الأغنية الحالية هي لايك أ رولينج ستون. يعيد ديلان توزيع وتلحين كافة أغانيه للأداء الحي، ربما هذه الطريقة الوحيدة التي تمكنه من تحمل أداء الأغاني نفسها لأكثر من خمسين سنة. على كلٍ، يحاول ديلان تحقيق الكثير خلال الفترة المحدودة لعرضه. يحاول قول الكثير حول الثقافة الأمريكية والروك والجاز والسوينج والحلم الأمريكي، كما يرسل تحيات للموسيقى الأوربية الكلاسيكية وبعض أعلامها، كبيتهوفن الذي يمكن رؤية تمثال لرأسه إلى جوار بيانو بوب ديلان.
يبدو حفل بوب ديلان كمعرض فني يستطيع المشاهد التجول داخله عبر التجول بعينيه وأذنيه في المنصة والموسيقى والتقاط الطبقات العديدة التي يخلقها ديلان بالتوازي. لو كان هناك موسيقي معاصر يحق له أن يضع شروطًا متطلبة ومعقدة كهذه على جمهوره، أعتقد أنه بوب ديلان.