.
“متخليش الراجل ده يعقدك. بيعي جاتوه، بيعي بطاطا، اعملي أي حاجة انتي عايزاها بس غني. أنا بشتغل عند الراجل ده وبَبِعله شرايط بيكسب منها دهب، وعارف إن صوتي حلو، وبرضه مش عايز يعمللي كاست.” يخاطب سيف (عمرو دياب) آية (جيهان فاضل) محاولًا تهدئتها، بعد أن قررت هجر الغناء إثر محاولة اعتداء المنتج زيكو (حسين الإمام) عليها خلال تجربة أداء. يعود سيف ويكشف لها في لقائهما الثاني عن الغناء الذي يريد تقديمه: “عايز أعبر عن نفسي، عن أحلامي، عني وعنك وعن نور، كلنا كجيل واحد”، وما بين اللقاءين تدور أحداث فيلم آيس كريم في جليم، الذي مثّل شخصية عمرو دياب المُعلنة لجمهوره في التسعينات.
تجري اﻷحداث في محورين، عاطفي باهت وموسيقي محمّل بالدلالات. تهيمن أحداث المحور الموسيقي عقب انفصال سيف عن حبيبته، حيث تدور عملية إنتاج موسيقي بين أربعة أطراف تمثل أركان الصنعة الموسيقية والرؤية الفنية في مطلع التسعينات: ملحن شارع صعلوك وشيوعي يُسمى زرياب (علي حسنين)، شاعر ناصري مُحمل بشعارات القضايا الكُبرى (أشرف عبد الباقي)، موزع موسيقي تحول إلى منتج رأسمالي ﻻ يهمه سوى مكسبه (حسين الإمام)، والمغني بطل فرقة من أصدقاء الحي في المعادي وشارع ٩ (عمرو دياب).
لم يكن سيف شخصية درامية عابرة في فيلم غنائي، بل كان شخصية اجتماعية معلنة لبطله عمرو دياب. نجح عمرو في تقديم سيف وإعادة استخدام مظهره في السنين اللاحقة، قبل استبداله بمظهر لاتيني لاحقًا، وكان وفيًا للآراء الموسيقية التي يعلنها سيف الراغب في الابتعاد عن كل الأركان وتقديم غناء يعبر عن نفسه وأحلامه وأصدقائه كجيل واحد.
قبل أن يعلن شخصية سيف للجمهور، درس عمرو دياب التأليف الموسيقي في المعهد العالي للموسيقى العربية، وقدم عمله اﻷول يا طريق (١٩٨٣) قبل أن يتم الثانية والعشرين، ثم أتبعه بـ غني من قلبك (١٩٨٥) وهلا هلا (١٩٨٦)، ثم خالصين (١٩٨٧) الذي شكل تحولًا لصوته وأسلوبه الخاص. كذلك قدم مسلسلين تلفزيونين وسهرة درامية ودورًا صغيرًا في فيلم السجينتان (١٩٨٨).
في أعماله اﻷولى، يبدو عمرو دياب مجرد صوتٍ مشارك ضمن تجربة الثمانينات الموسيقية، التي تنازعتها ثلاثة تيارات تمثّل قلق الموسيقى المصرية وقتها: تجديد حداثي وتجديد وسط وتجديد ماضوي. في يا طريق يبرز اسما عصام عبد الله وهاني شنودة، ثنائي فرقة المصريين، وفي غني من قلبك يعود اسم عصام عبد الله مع رفيق آخر من المصريين هو محمد الشيخ. يقدم عمرو دياب ثلاثة ألحان من تراث القنال بكلمات جديدة: أشوف عنيكي (عصام عبد الله) بتغني لمين (شوقي حجاب) يا خلي (شوقي حجاب).
بُنيت يا خلي على ثيمة لحن آه يا لالالي الذي قدمه محمد حمام قبل ذلك، ثم عاد وقدمه محمد منير. تطرح مقارنة نسخة عمرو دياب بنسختَي حمام ومنير ملمحًا مميزًا في صوت عمرو في بداياته، سيتابع استثماره على مدى مسيرته. ففي مقابل الصوت اﻷجش الحزين عند حمام ومنير، المتقاطع مع تراث النوبة والسلم الخماسي والبلوز، تبرز اﻵهة المرحة خفيفة الدم الخالية من الشجن عند عمرو دياب.
في هلا هلا (١٩٨٦)، ورغم استمرار الصوت المشارك غير البطل في أغانٍ مثل قلوع (كلمات عبد الرحيم منصور ولحن محمد الشيخ) وراحل (كلمات مجدي النجار ولحن عبد العزيز الناصر)، يبرز صوت عمرو دياب المرح الراقص بطلًا في أغنيتين من ألحانه وكلمات مجدي النجار، هما مية مية وهلا هلا. في العام اللاحق يعود عمرو لتأكيد الصوت البطل في ألبوم خالصين بتوزيع فتحي سلامة، بأغانٍ مثل خالصين (كلمات رضا أمين ولحن خليل مصطفى) ولو قال (كلمات رضا أمين ولحن عمرو دياب).
لم يحتج عمرو دياب سوى ٥ أعوام لينضج صوته، ويصبح أكثر جرأة في تقديم ألحانه الخاصة ويبتعد عن تيارات تجريب الثمانينات، التي أعادت تقديم الصوت الفرد بوصفه صوتًا مشاركًا في مشروع موسيقي يصوغه الملحن / المُوزع. استفاد عمرو دياب من التجربة وأعاد طرح الصوت الفرد بطلًا للعمل الموسيقي، تساعده الصنعة الموسيقية بكل أطرافها، مؤلف وملحن وموزع ومهندس صوت، ليُقدم الصوت المنفرد في أفضل حالاته.
في أعماله التالية أكد عمرو دياب قدرته على التحول من مجرد صوت ناجح إلى الصوت الرئيسي لجيله. في ميال (١٩٨٨) يظهر اسم حميد الشاعري موزعًا بالاشتراك مع فتحي سلامة، ليصبح الموزع الوحيد في شوقنا (١٩٨٩) وما تخافيش (١٩٩٠) وأيامنا (١٩٩٢). أعاد حميد تقديم صوت عمرو دياب بعيدًا عن السنين اﻷولى بالتركيز على اﻵهات والصوت العذب رغم قوته المحدودة، ونجح في التقاط سر عمرو وحسه الحلو.
استثمر عمرو دياب نجاحه في فيلم تلفزيوني هو العفاريت، ظهر فيه بشخصيته الحقيقية مع مديحة كامل، مغنيًا نشطًا راقصًا في مسارح المرحلة التي لم تكن سوى مدن ملاهي، أشهرها مدينة السندباد في ضاحية مصر الجديدة.
قبل تقديم شخصية سيف بعام واحد، أصبح عمرو دياب نجم حفل افتتاح البطولة اﻷفريقية، حين غنى بثلاث لغات هي الفرنسية والإنجليزية والعربية، بعد أن قام بجري الستاد بكامله ليؤكد لياقته البدنية قبل الصوتية.
https://www.youtube.com/watch?v=prM9metcFxI
افتُتح عقد التسعينات بحرب إقليمية، انتهت مغامرة صدام حسين في غزو الكويت بتحريرها بعاصفة صحراء بقيادة الولايات المتحدة، وقبل عامين من العرض اﻷول ﻵيس كريم في جليم في أغسطس ١٩٩٢، انتظرت آﻻف العائلات المصرية رجوع ذويهم الهاربين من جحيم الغزو، وقبله بعام تفكك اﻻتحاد السوفييتي، وعشية العرض اﻷول مباشرة شاركت الدول السوفييتية السابقة في دورة ألعاب برشلونة ١٩٩٢.
يُفتتح الفيلم بمشهد صباحي في ضاحية المعادي بمصاحبة صوتية من آهات عمرو دياب. وسط القصور القديمة واﻷشجار نرى كراجًا خشبيًا صغيرًا، ثم يظهر سيف وهو يمارس تمارين رياضية بالأثقال وسوستة الصدر، قبل أن نراه في المشاهد التالية يركب دراجته البخارية ويجوب شوارع القاهرة ليوزع شرائط الفيديو لحساب زيكو (حسين الإمام). يعمل سيف – ابن التسعينات التقليدي – في مهنة انقرضت بظهور الفضائيات وانتشار الحاسب الشخصي. يلبس في أذنيه سماعات الووكمان قصير العمر الذي اختفى تمامًا بعد عقدٍ واحد مسلمًا سوقه للأيبود والإم بي ثري بلاير، يركب دراجة بخارية اشتهرت باسم التوينز أو الجاوا، كانت من علامات الروشنة قبل هيمنة الهارلي والهوندا، ويلبس جاكيتًا جلديًا بطلت موضته في مطلع اﻷلفية.
ينقسم الفيلم موسيقيًا بين ألحان سيف (عمرو دياب) وزيكو (حسين الإمام). غنى سيف من ألحانه وغنت الشخصيات اﻷخرى من ألحان زيكو، ووزع جميع اﻷلحان حسام حسني. تبدو ألحان حسين الإمام ألحانًا شتوية صُنِعَت بفلتر أزرق مثل مشاهد الفيلم الديسمبري، بينما تتنوع ألحان سيف عبر مسيرة أحداث الفيلم. إلى جانب اﻷلحان تحمل أحداث الفيلم إشارات مرجعية لموسيقات أخرى وُجدت في مطلع التسعينات، ويمكن اعتبار تلك الإشارات المرجعية بوصفها رؤية نقدية لصلاحية دخول تلك الموسيقات في مشروع سيف وفرقة شارع ٩.
نسمع سيف يغني للمرة اﻷولى لحبيبته على الهاتف مشغول وحياتك مشغول، في إشارة لعبد الحليم حافظ. نرى زرياب يفترش اﻷرض ليعزف طقطوقة سيد درويش اﻷشهر زوروني كل سنة مرة. في عيد ميلاد سيف نسمعه وفرقة شارع ٩ يغنون لبوب مارلي نو وومان نو كراي ويمصّرونها بإيقاع مختلف، وفي حفلة الطبقة الغنية نسمع ألحان إسبانية. حين يُسجن سيف ويلتقي نور أبو الفضل، يغني لعبد الحليم حافظ مرة أخرى، قبل أن ينتقده نور بعد خروجهما من السجن لغرقه في سماع الغربي، الغربي الذي كان إلفيس بريسلي وأغانيه القديمة بدلًا من مادونا ومايكل جاكسون المكسرين الدنيا على حد تعبير زيكو. نسمع أيضًا الراي الدال على الثورة الموسيقية التي يريد سيف من زرياب اللحاق بها.
ﻻ يرفض سيف أي من تلك الموسيقات، بل يتخير منها ما يناسبه. يحب حليم السينمائي ويغنيه، مشغول وحياتك مشغول وبتلوموني ليه، ويُدخل أهواك في أغنية ويعيد صياغتها بصورة مختلفة، بينما يترك نور أبو الفضل يستمع ﻷغاني حليم الناصرية وحده. ﻻ يقلد الغربي بل يقول إنه “شرقي جدًا بس اللي بيعجبني فيهم طريقة تعبيرهم الواضحة والصريحة”. ﻻ يرفض عود زرياب بل يوظفه في مقدمة موسيقية ﻻ تتعدى نصف الدقيقة، يفسح بعدها الطريق للجيتار والإيقاع والكيبورد.
الحس لغةً هو الصوت الخفي، ويطلق المصريون المعنى وﻻ يقصرونه على الصوت الخفي، فإذا أرادوا مدح صوت سمعوه من غير محترف قالوا ببساطة “حسه حلو”. يقع طيف المعنى ما بين الصوت والإحساس، حسه حلو تعني كذلك أن إحساسه بما يغنيه جميل حتى لو لم يكن صاحب صوت عريض قوي مطرب.
كانت الموسيقى المصرية في عصر النهضة بنت جلسة الطرب بزمنها السائل المنساب غير المحدد التي لحقتها اﻷسطوانة وسجلتها، بما يعني ذلك الزخارف غير المحدودة والمنزهة عن اﻷغراض سوى الطرب وحده. كذلك كان الجيل التالي ابن الإذاعة والسينما، منحته السينما فرصة التحرر من طقطوقة الأسطوانة وتقديم أغنية قصيرة جميلة متنوعة اﻷغراض، ومنحته الإذاعة الليالي ليقدم اﻷغنية الطويلة. أما جيل سيف فهو جيل الحس الحلو ﻻ الصوت المُطرب، ابن زمن الكاسيت الذي يلبس سيف سماعاته في أذنيه. ﻻ يمكن فصل المحتوى الموسيقي عن وسيط التسجيل في أي من الأجيال كلها.
مقابل الزخارف غير المحدودة وبطولة المُطرب التي فرضت خطابًا نغميًا معقدًا، قائمًا على تخت بسيط مكون من ٥ آﻻت ولحن أولي يُرتجل عليه في زمن جلسة الطرب بزمنها المفتوح، فرضت السينما والإذاعة خطابًا نغميًا أبسط من قبل المغني / المُطرب، ودورًا أكبر للملحن ليقدم لحنًا ثابتًا مليئًا باللوازم يعتمد على فرق أكبر وتركيب أكثر، مقابل الميلودية البسيطة التي كان غرضها إفساح المجال للارتجال غير المحدود في زمن النهضة.
أتى جيل الكاسيت امتدادًا لمسيرة الخطاب النغمي البسيط والفرقة الموسعة في زمن السينما والإذاعة. وجد جيل سيف أمامه مهمة أخرى وهي تبسيط كلمات اﻷغاني نفسها ﻻ اللحن وحده، واحتل الموزع البطولة مقابل لحن بسيط لكلمات بسيطة وتوزيع متبادل غير مُركب مثل الجيل السابق، كذلك كان على هذا الجيل تقديم خطابٍ متحرر من زعيق الشعارات الكبرى، رافعًا من قيمة الرغبات الفردية البسيطة. اليومي كان بطل المرحلة مقابل القضايا الوجودية الكبرى في المراحل السابقة.
يتجلى ذلك في ألحان آيس كريم في جليم. ليس لأغنية دانة نص شعري من اﻷساس، هي مجرد ترديد لـ يا دانة دانة وآهات عمرو دياب. أما أنا حر فتغني الحرية الفردية دون هتاف، تُنغّم ﻻ الرفض بنعومة، وتوجِّه التمرد ضد وضع الشخص مع حبيبته ﻻ مجتمعه. في حين يمكن اعتبار إنت تغني واحنا معاك ميتا-أغنية meta-song حيث يُفكك النص الغنائي ويُركّب على المسرح مباشرة “كوبليه كمان والغنوة هتخلص”، وﻻ يوجد لدى المغني نص شعري، بل حيلته آهات ويا ليل مختلفة تمامًا عن التلييل التراثي؛ كذلك مقطع أهواك في الأغنية نفسها، الذي يعيد صياغته بصورة مختلفة عن عبد الحليم حافظ.
تحمل رصيف نمرة ٥ نصًا شعريًا بكلمات مسبوكة، ولحنًا تقليديًا مصاغًا بصورة جديدة. المقدمة على العود من نغم البياتي مقتبسة عن مطلع قصيدة أردت رضاها في الهوى فتمنعت التي لحنها محمد عبد الوهاب. سرعان ما يغادر العود المشهد فنرى زرياب يقلبه ويطبل عليه، تاركًا اللحن للكيبورد والجيتار. أما آيس كريم في جليم فهي إعلان انتصار رؤية سيف الذي يغني “أنا مش مألوف امبارح لكن للجاي مألوف.”
في اﻷعوام اللاحقة، أعاد عمرو دياب تأكيد مظهر سيف في ألبوماته اﻷربعة المتوالية من إنتاج دلتا ساوند ونصيف قزمان، سواءً في اﻷغلفة أو في الفيديو كليب أو في الألحان واﻻبتعاد عن توزيع حميد الشاعري قليلًا.
على غلاف يا عمرنا (١٩٩٣، من توزيع طارق مدكور) يظهر عمرو دياب بجاكيت أسود من جواكت سيف، ويدخل العود اﻷغنية بنفس روح رصيف نمرة ٥؛ وفي فيديو ضحكة عيون حبيبي نلمح صابرين الحسامي (فتاة محل آيس كريم جليم) من ضمن العارضات في الفيديو كليب، ويلعب الساكسفون بعزف سيد السمان بطولة كبيرة في توزيع اﻷغنية.
أما ألبوم ذكريات (١٩٩٤) فلا يعدو كونه إعادة توزيع ﻷغانٍ سابقة مع أغنية جديدة هي ذكريات التي غناها في فيلمه ضحك ولعب وجد وحب، في إشارة أخرى إلى عبد الحليم حافظ. أخيرًا، في تصوير راجعين (١٩٩٥)، نرى حسين الإمام (زيكو) يحمل جيتارًا في حفلة مشابهة لحفلات الطبقة المخملية في آيس كريم في جليم، قبل أن يقتحم عمرو دياب المشهد ويغير اللحن الذي يعزفه عزت أبو عوف على البيانو، ليختتم الكليب بمشهد العودة للتسعينات على الموتوسيكل.
عاد عمرو دياب لتوزيع حميد الشاعري في ويلوموني (١٩٩٥)، آخر ألبوماته مع دلتا ساوند ونصيف قزمان، حيث نسمع أثر أكبر للمسحة الإسبانية (بحسب تعبير مايكل فريشكوبف) في أغنية ويلوموني، الصوت التي سيُخرج عمرو دياب من جواكيت سيف الجلدية. في ألبومات عالم الفن (محسن جابر) اللاحقة، نور العين (١٩٩٦) وعودوني (١٩٩٨) وقمرين (١٩٩٩) وأكتر واحد بيحبك (٢٠٠١) وعلم قلبي (٢٠٠٣)، يُوطن عمرو دياب المسحة اللاتينية بحيث تصبح ضمن بنية أغانيه ومن خصائصها المميزة.
مثلما افتتحت التسعينات بسنين حافلة جرى فيها تفكك الاتحاد السوفييتي وحرب الكويت وحروب البلقان، افتتحت اﻷلفية بانتفاضة فلسطينية ثانية، وتفجير لبرجين في الولايات المتحدة تبعه حرب أفغانستان، واختتمت سنين التحول بغزو العراق. تزامن كل ذلك مع تغير في وسيط التسجيل، “ثورة موسيقية … ثورة تاني!” على حد تعبير حوار الفيلم. في عام ٢٠٠١ ظهر اﻵيبود ليحل محل الووكمان والديسك مان، تبعه الإم بي ثري بلاير والهاتف الذكي ثم اليوتيوب. لم يعد للكاسيت قيمة وصارت اﻷغاني تدعى التراكات، بعد أن كانت التراكات في آيس كريم في جليم وسيلة حديثة لتسجيل اﻷغاني. في غضون ١٠ سنوات تغير الوقت والجيل وحسه، لم يعد من الممكن الهرب من القضايا الكُبرى بعبارات سيف البسيطة “مش عاوز أبقى بطل عاوز أبقى سيف”، ﻷن القضايا الكُبرى اقتحمت حياة اليومي فأجبرته على المواجهة.
ودع عمرو دياب الإنتاج المصري برمته، ترك عالم الفن وانتقل إلى روتانا بدءًا من ليلي نهاري (٢٠٠٤) ولعقدٍ لاحق، قبل أن ينفصل عنها لينتج لنفسه اﻷلبومات الثلاثة اﻷخيرة. ترافق هذا مع انتقال مركز التيار الرئيسي الغنائي من مصر لإنتاج خليجي وتغير هائل في آليات تصوير اﻷغنية، وتحول الفيديو كليب لأداة تسلية بصرية أكثر منه عرضًا دراميًا ﻷغنية. ترك عمرو دياب سيف خلفه وصار مطربًا عالميًا، وبدءًا من كمل كلامك (٢٠٠٥) بدا كما لو كان يقدم تنويعات كثيرة على لحن واحد.
المألوف سلاح ذو حدين. حده الجيد من اﻷلفة والتآلف، وحده السيئ من اﻻعتياد وعدم الإبهار. صاغ سيف المزاج السائد في التسعينات، ولعب دورًا كبيرًا في تشكيل التيار الغنائي المسيطر حاليًا، لكنه توقف بعدها عن تقديم شيء مختلف. ثبت في مكانه على هضبة عالية. الهضبة اسم يحب معجبوه إطلاقه عليه، وهي سطح مستوٍ وثابت، أعلى من غيره حقًا لكن بلا قمم.
منذ منتصف العقد السابق في مطلع اﻷلفية، مع ألبوم كمل كلامك تحديدًا، يقدم عمرو دياب مستوى ﻻ يتغير، أغانٍ تصلح للإهداء العابر عبر شبكات المحمول. ارتبط مجد عمرو السابق بزمن الكاسيت حين كان للمحتوى الغنائي قيمة مادية ملموسة جعلت شرائط الكوكتيل هدايا معتادة ما بين عاشقي التسعينات. لا تلعب قائمة التشغيل الدور نفسه اليوم، ﻷن اﻷغاني (التراكات) متوفرة حد التخمة أمام الجميع، ويبدو شريط الكوكتيل كما لو كان من حكايات اﻷجداد.
افتتح العقد الثاني من الألفية بسنين أكثر سخونة من التي افتتحت الأول. اجتاحت الانتفاضات العالم العربي كله، حققت ألبومات عمرو الثلاثة مع روتانا أعلى المبيعات وفاز عن ثانيها بـ وورلد ميوزك أوورد، دون أثر في الشارع: بناديك تعالى (٢٠١١) والليلة (٢٠١٣) وشفت اﻷيام (٢٠١٤). كان إعلان سيف الغناء بلا قضية كبرى في أغانيه ثوريًا في زمنه، بينما صار عمرو دياب المعاصر ملجأ من يريد الانسحاب من المشهد السائد بأغنية هادئة بعيدة عن اﻷحداث كلها، في موقف مختلف عن التسعينات وجدلها المرح المُثار بخفة ضد هيمنة الشعارات.
في ألبوماته الثلاثة اﻷخيرة، يبدو عمرو دياب كما لو قد نسي تقديم ما ميزه، السهل الممتع – بحذف النون من الممتنع. أنتج لنفسه عبر ناي ميديا بعد قطيعته مع روتانا، فقدم أحلى وأحلى (٢٠١٦) ومعدي الناس (٢٠١٧) وكل حياتي (٢٠١٨). قطعت السنين مسيرة طويلة في تبسيط الكلام فقدم “والله أحبك موت وأموت في برج الحوت” التي ﻻ تحمل حلاوة “ما تخافيش أنا مش ناسيكي” اﻷكثر مباشرة واﻷقل افتعالًا. ظهرت حبيبته اﻷولى في تصوير ما تخافيش، بينما اختارت حبيبته اﻷخيرة أغنية شوقنا المنتجة في طفولتها لترقص عليها في تحدٍ إنترنتي من موضات ٢٠١٨. قبلها بثلاثة أعوام ظهر حميد الشاعري في إعلان تلفزيوني دال على انتهاء جيل الكاسيت وصعود جيل آخر. عجز الشاعري – نجم التسعينات – عن التواصل مع جيل الكول تون، لم يستقبلوا جلجلي جلجلة أو حلال عليك واستبدلوها باﻷبسط، ابن بلدي على قهوة بلدي. تبدو الكلمات اﻷبسط بنت تيار التسعينات نفسه رغم السخرية من أكبر ممثليه.
https://www.youtube.com/watch?v=_UyWUtqUUzk
اليوم، أصبح مواليد منتصف التسعينات يرغبون في إعلان جيل منفصل عن جيل التسعينات بتفضيلاته وموضته وإنتاجاته. في نهاية التسعينات، كان اسم أغنية رصيف نمرة ٥ ﻻ يزال يحمل معنى مرتبط بالفيلم الخمسيناتي – الذي أخذت عنه اسمها – لدى مراهقين ولدوا بعد إنتاج الفيلم بثلاثين عامًا، في حين استغرب مشاهدون شباب في معرض وليد طاهر اﻷخير عبارة مثل “ما تنكريش إن الطاووس أجمل من الطاووسة” من مقدمة مسلسل هو وهي من بطولة أحمد زكي وسعاد حسني، الصادر عام ١٩٨٥.، المنتجة قبل ميلادهم بخمسة أو عشرة أعوام فقط. تباعدت الأجيال، وأصبح سيف ماضٍ بعيد صنع مجدًا كبيرًا ثابتًا، أثّر في صياغة تيار رئيسي تفكك، وضاع منه حس الجيل ﻷن الجيل نفسه لم يعد صاحب حسٍّ واحد.