.
إلى أهل منتدى زمان الوصل
عن تلك الموسيقى كلامي، التي لا يشار إليها بـ“هذه“، هي دوماً “تلك“، على مسافة، وإن ضؤلت، فلا يحاصرنا صوتها إلا برفق، ولا يقتحم علينا عيشاً إلا ضيفاً غير ثقيل. “تلك” موسيقى المشرق ما بين شآم هلاله الخصيب وسهل “مصر المحروسة“، على أطراف جبال تركيا وحدود الموصل، حين انتعشت لومضةٍ، قرابة نصف قرن، بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ثم لم تكد تخلّف وراءها شيئاً، إلا بضعة عازفين ومقرئين ومطربين قلائل يحيون جميعاً (باستثناء أم كلثوم التي تنضم إليهم في بعض حفلاتها) على هامش الرواية الرسميّة والدعاية التلفزيونيّة لما يعرف بالموسيقى العربيّة. وقد يكون شأنها شأن موسيقات أخرى لم تغمر بعد كياني برهبة بديعها، كالأندلسيّة والعراقيّة ربما، دونما حصر.
عن تلك الموسيقى كلامي، التي لا يزال يسعنا أن نشعر أمامها بالجمال، غريباً، ولا تزال خفتها بقادرة على أن تحيي فينا التجربة التي أسمتها العرب “الطرب” (وهو خفة تعتري المرء عند الفرح أو الحزن، على ما يعرّفه لسان العرب). عنها كلامي، لأن جوهرها الحريّة، ومادتها الصوت، وفضاءها قد انطوى على ذاته، على لحظاتٍ من حيوات تستطيع أن تسطع في صوان آذاننا إذا ما أصغينا. تلك التي تضمّ أول الأصوات العربيّة المسجلة منذ قرنٍ ونيف الآن، آخَرُنا المغاير والمباين.
عن تلك الموسيقى إذاً نقول.
(رباعيات عمر الخيام، بترجمة أحمد رامي، كما غنتها أم كلثوم)
تلك الموسيقى اختفت فجأة تقريباً في مصر. توقفت أم كلثوم، في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي عن غناء الأدوار، وكانت قبل ذلك عزفت عن القصائد الموقّعة على ضرب من ضروب الإيقاع وتلك المرسلة، وكان عبد الوهاب قد سبقها في درب تلك المغادرة. مات داود حسني وابرهيم القباني وأبو العلا محمد، واختفى أغلب مطربو تلك الحقبة، عاد عبد اللطيف أفندي البنا إلى قريته، وسافر أمين حسنين إلى تونس، واكتفى محمود صبح ودرويش الحريري بصب اللعنات على ذبذبات إذاعات محلية قبل أن تقفل هذه الأخيرة بدورها. حتى زكي مراد، عائداً من رحلته الأميركيّة الطويلة، أسلم ابنته إلى عبد الوهاب وانزوى. قلائل ظلوا يؤدونها، ولما خطر للتلفزيون أن يصورهم، لم ينس إضافة الطرابيش، كما فعل بفرقة عباس البليدي أو برأس صالح عبد الحي. في الشام، ظلّت الأدوار والموشحات متداولة إلى فترة أقرب، منطبعة بالطابع الحلبي وبأجواء الطرق الصوفيّة والتأثرات التركيّة والعراقيّة. حاول بكري الكردي تطويراً في إطارها، غير أن تلامذته ألجأتهم ضرورات الحياة أو طلب الشهرة الى تصنيم التراث وتجميد الأدوار في صيغة جامدة وإنشاد القدود تراثاً شبه أوحد، منافسين بها الأغاني الراقصة كما فعل صباح فخري، أو إلى إحالة الوصلة التقليديّة إلى خلطة من الأدوار تتقطعها مواويل أو موشحات ممزوجة بقدود، على ما فعل محمد خيري.
باستثناء عدد قليل من الهواة وعدد أقل من المطربين، اختفت تلك الموسيقى عن الأسماع. أي علاقة لما قدمه الرحابنة أو فرقة الموسيقى العربيّة بالموشحات في صيغتها الحرة الطليقة المطربة؟ باتت تلك الموسيقى، غالب الأحيان، مثار تندرٍ أو سخرية أو استغراب. في مقابل الاوركسترا الكبيرة والصوت النقي التسجيل بالميكروفونات الحديثة والهوى الذائب هياماً مصفىً في أصوات، باتت “عُرَب” الأصوات وعصراتها وزخارفها الزاخرة وتمايز رنين الآلات القليلة والفقيرة في تسجيلات بدائيّة تتخللها خشخشة وتشويش وأصوات أناس يصرخون، بات كل ذلك منبوذاً نافراً، وألقي به إلى غياهب الجاهليّة الموسيقيّة، حين جبَ الجديد ما قبله. لكن، هل كنا حقاً سعداء حين أًخِذنا بسلاسة الاوركسترا وبنجوميّة المغنين التي تحاصرنا في كل آن وكل مكان؟ بعد عشرات السنين ألم نزل نسمع نداءات محفوظة في أسطوانات شمعية أو مزفتة وتسجيلات علاها الغبار، تنادي الغفاة إلى مُنى الطرب؟ (ملاحظة: لا تسعى هذه المقالة إلى هجاء يقارب قرناً من الجهد الموسيقي، في عدد من الدول، عاش عليه ملايين من البشر وأحبوا وكرهوا وعانوا الغيرة مستعينين به ومتأثرين به، حيث عثروا فيه على ما ينطق ببعض ما في صدورهم فاستخدموه لغةً لهم في علاقاتهم ومغامراتهم، واستخدمهم شأنه شأن كل لغة. ولا هي تسعى إلى بيان حصيلته، بل فقط إلى النظر إلى ما قام هذا الجهد حاجزاً بيننا وبينه، وربما بسبب هذا الحاجز اكتسبت تلك الموسيقى أهمية و“بعداً” أساسيين. من خلال هذه الغلالة، ربما، تلوح تلك الموسيقى آخر وعد بالجمال والمتعة).
يزعم تيودور أدورنو (كل الإشارات عنه تعود إلى كتابه “الطابع الفتشي في الموسيقى“) أن الموسيقى تصدح بنبرة رومنطيقيّة في الآذان المستلبة كلما ازادات تشييئاً، وباتت غرضاً أو عيناً يدخل في الذمة والملك ودوائر الاتجار. الطابع الأملس للرومنطيقيّة التجاريّة، والغريبة عن الرومنطيقيّة كمذهب فني، دليل على تفشي فتشيّة الموسيقى وعلى ازدياد الأسماع طفليةً، حيث انها تسكن عندئذ إلى ما تسمعه ولا تسائله أو تستنطقه. ليس إذاً ما هو أسلس من موسيقى كهذه غير أن أدورنو أيضاً حسب أن الموسيقى التجارية، مسنودة بأساليب التكرار والإشهار، تتحول خليطاً فاسداً أصم لا فُرْجَة فيه أو منفذ إلى متعة تغيب حكماً كلما انتظرنا ظهورها. ذلك أن الأسماع الكسلى تقصر عن الاستماع حقاً، ولا تستلذ الموسيقى إلا خلفية صوتية لعيش مستلب، وأن المتعة لم تعد وعداً بالسعادة، ولم تعد تنال إلا حيث يتم فضح زيف هذه السعادة. فقط حين لا تلوح المتعة، يسعنا الاعتقاد باحتمال وقوعها.
وإذا رأى أدورنو أن لا مجال للاستمتاع بالموسيقى في عصر انحنت فيه كل قواها أمام السلطة التجارية، فتلك الموسيقى المشرقيّة المعشوقة تقع اليوم، كليّاً، خارج السوق التجاريّة والإعلانيّة وصناعاتها الترفيهيّة: بضعة هواة يتبادلون الأشرطة، بضع أسطوانات لا مجال للعثور على حاكٍ (فونوغراف) محترم لها، بضع منتديات يصرف عليها أصحابها وقتاً وجهداً وأعيننا وأموالاً ولا ترتد عليهم بأكثر من “يعطيكم العافية، شباب“. تلك الموسيقى إذاً لا يمكن الاكتفاء بتعرّفها مصدراً للإعجاب، وليس من ثمنٍ لها لتكون ملك أحد منا ـ ويفقرها ذاك ـ أو نغترّ بمثل ذاك نجاحا. وإذ تقودنا التقنيات، واستعراض الغناء تلفزيونيّاً، إلى أن ننسى أن الصوت أساساً خامة ينبغي صقلها ونحت الموسيقى منها، فها نحن أمام نداء موسيقى، تلك الموسيقى، تعين التقنيات آحاداً على إحيائها، وتنقيتها قدر الإمكان، غير أنهم لا يغفلون لحظة أنهم يبحثون عن خامات غيّمها حجاب الزمن، وأنهم مهما جهدوا لن ينالوا سوى أصداءً أو خيالات الصوت الأصلي أو السرعة أو الطبقة اللتين كانتا يوم وضع أحد المشايخ أو الأفنديّة صوته على الأسطوانة، قبل قرن أو نحوه. ذلك الصوت الأصلي، الذي قد لا ينال، غير صدفة، وحتى حينها سيظل يحيط به الشك أو الغفلة، هو أيضاً ما تبحث عنه الأذن، في ولهٍ وهيام، تحت كل تسجيل أو في باطنه، وراء كل معالجةٍ رقمية أو من خلال غربالها.
ذلك الصوت ينادينا، ونبحث عنه، وقد لا نلتقي يوماً. غير أن الطريق، على وعورتها أحياناً، وحاجتنا إلى الحذق بها والصبر عليها، ربما تكون أجمل ما يكون، وربما تكون الوعد الوحيد الحقّ بالسعادة والمتعة. هي، من عالمها المباين لنا ومن وراء حجبها، تلاقي الطبيعة التي توارت مثلها: سخيّتان، مجّانيتان، جميلتان ومفُارِقتان.
(ابن الرومي في صفة صوت المغنية “وحيد“)
لا تخلو موسيقى من تواطؤ أو اتفاق. بعض تلك التواطؤات أنتج التوافقات الهارمونيّة والألوان الأوركستراليّة. تلك الموسيقى المشرقيّة أنتجت تعددية أصوات، متآلفة لكن غير متوافقة (هيتروفونيّة). ضآلة عدد الآلات ومدى قوة أصواتها وطبائعها غيّب التوزيع الاوركسترالي وألوانه، وغيّب التواطؤ على تذويب الأصوات بعضها في بعض. لا تنفصم تلك الموسيقى لحظة عن الفرديّة، فردية الموسيقي والمؤدي والآلة، معاً.
تحرص تلك الموسيقى تالياً على “الإفراد والإبراز“، لا على الاستعراض ولا على القمع. في بوتقة “الوصلة“، تنطوي سلسلة من القوالب المشهورة (التقسيم والدولاب والبشرف والسماعي، والموشح والموال والقصيدة والدور)، وأخرى أقل شهرة (التحميلة)، وبشرف قره بتاك، وما يسمى بشرف آلسبار وغيرها)، غير أن تلك البوتقة ليست عامل صهرٍ، بل هي تتيح للآلات مجالاً لفرديتها، سواء منفردة (كما في التقسيم والتحميلة والقره بتاك) أو مجموعة (في حريّة زخارفها وسيرها في البشرف والسماعي مثلاً) أو متفاعلة مع المؤدّي (في ما يعرف بالترجمة أو المحاسبة إثر المطرب) ولإبراز ما في جعبة كل عازف، من وشيٍ وحلي وزخرف وخيال في الخلايا النغمية والسكك والانتقالات المقامية بما في ذلك اقتراحاته المقامية على المطرب الذي قد يأخذ بها أو لا يأخذ (وقد لاحظ البعض استمرار هذا التقليد في الاقتراح النغمي حتى مرحلة متأخرة من غناء أم كلثوم، حين كانت فرقتها الكبيرة تتقلص حين تبدأ بالتفريد إلى عدد ضئيل يوازي التخت التقليدي تشكيلاً ومهمة).
وشأن المطرب أو المطربة نظير شأن العازفين، ولئن كان في الأصل مفرداً فإن المذهبجيّة قد يكون واجبهم إنشاء المساحة التي يستطيع الانطلاق منها في ارتجالاته وتنويعاته ومن ثم العودة إليها، أو أن عليهم، بصيغة أخرى، أن يبسطوا القماشة التي يحفر عليها الصوت الفرد حفره الناتئ. فضلاً عن ذلك، فإن كل قالب إنما يتيح للقوّال ان يتفرّد ويبرز جوانب من صوته مختلفة، فالموشّح يفترض بذخ الزخرفة رغم إلزام الجمل وتعقيدها وضرورة ضبط الإيقاع والإلمام بأصعب السكك المقامية ودروبها، أما الموال فيبرز قوة الصوت متحررة من قيد الإيقاع ويفترض إبراز التفاعل مع الكلمة المقولة وتورياتها، في حين يُبْرِز الهنك والرنك في الدور، ومجمل هذا القالب عموماً (وقد قوي اعتقادي بأنه من نتاج تأثير التوشيح الديني في الغناء الدنيوي)، أفكار التنويعات والتغييرات على جمل ومحطات أثبتها الملحن كما يبرز العلاقات بين المطرب وبطانته وروابط التكرار والتنويع والإيقاع والتلاعب به، وذلك بخلاف القصيدة المرسلة حيث الارتجال وسبر الانتقالات المقاميّة وتركيب الجمل الطويلة أساس الطرب مع غياب الإيقاع (خلافاً لقالب القصيدة الموقّعة التي يرشح منه طابع الاتكاء على الإيقاع لبناء الارتجال).
بل يمتد ذلك إلى لبنات تلك الموسيقى ووحداتها المكونة، أي المقامات والأجناس المكونة لها. حيث ينبغي، في تلك الموسيقى، إفراد كل مقام، بالمرور على أجناسه في نظامها المخصوص وتتاليها المتمايز (لا في سلمها الرياضي). بعد ذلك، قد يسعى كل مؤدٍ إلى وسم ما يؤديه بميسمه لجهة فرض نقلات غريبة أو غير مألوفة، ويبرع ويتميز كلما جعلها مستساغة رغم غياب الألفة بها. غير أن ذلك لا ينبغي به أن يخل بالطابع العام للمقام. فالمقام سير وسكة وتتابع أجناس موسيقية، بقدر ما هو أيضاً مناخ وتتالٍ لتجارب انفعالية حبستها تجارب القرون الماضية في قوالب نغمية وعلائق بين الأجناس وفي داخل كل منها، لتشكل الرصيد الذي منه نستطيع أن نغرف الأحاسيس التي تفيض بها تلك الموسيقى.
في مقابل الإفراد والإبراز، تقوم تلك الموسيقى أيضاً على الإخفاء والتورية والمخاتلة. إخفاء الجهد والصنعة بالطبع (“تتغنى، كأنها لا تغني من سكون الأوصال، وهي تجيد“، بحسب ابن الرومي أيضاً. أليس رائعاً مخيفاً ذلك المشهد القصير للشيخ محمد عمران، بعض آخر إرث تلك الموسيقى، في “إنّي أنا المظلوم منك وأنت ظلمتني” المرفوع على اليوتيوب؟)، ولكن أيضاً في البنية، مثلاً، تقوم بعض طرق المقامات على التوتر والحيرة، ما بين البياتي والراست، أو بين الراست والهزام، أو بين الصبا والسيكاه البلدي… إلخ.
في شأن القفلات، صليبا القطريب مثلاً يسكت، وتواصل أصابعه على العود قفلة جملته الموسيقيّة، أما الشيخ مصطفى إسماعيل، على نسق المشايخ، فيترك لقفلته ان تتواصل نزولاً أبعد مما يخطر لسامعه المتابع، أبعد من مستقر المقام وركيزته. أبعد من ذلك غوراً، أن تلك الموسيقى، في طبيعة آلاتها وسبك قوالبها، لا تسعى إلى “الترسيخ” بل إلى التكنية عن البنية الأساسية، الملحنة، بنسيج صوتي مرتجل كثيف. ثمة دائريّة خادعة، تتبدى في ما هو شائع عن تلك الموسيقى، كضرورة الرجوع إلى المقام الأصلي في ختام القطعة، أو التناظر في قسمي بنية الدور وهو ليس بتناظر، بل هو، كما لدى باخ والموسيقى الباروكيّة، إفراد ونشر لما كان مطويّاً، وبحث في ثناياه عما تخفيه وتضمه. والحق إن لتلك الموسيقى بنية بحريّة، فهي أشبه بسفر تتقطعه المفاجآت، ولا يخلو، ضرورةً، من جزر وموانئ، قبل أن يعود إلى شطآنه، والغرير وحده يحسب البحر يتكرر.
تلك موسيقى لا يحدوها هاجس الثبات، بل هاجس التغيير الذي قد يشف أحياناً عما كان وقد يبتعد في رحلته عنه، وهي في ذلك أوفى ما يكون لطبيعتها كموسيقى، كذبذبة صوتيّة، متقلّبة، تقيم بين التذكّر والتوهم، أو تخفى بين الرنة وأختها، بين الذبذبة وثانيتها، بين تموّجين. لا يسعنا بها إمساك. على الدوام تلك الموسيقى تنادي، من وراء حجاب أو من خلاله، دوماً هي بين التلاشي والمجيء. هل أبلغ على ذلك، واكثر خوضاً في صميم تلك الموسيقى وأسسِ بنائها، من تقنية “العفق” على القانون أو “البصم” على العود؟ في حين ينقر إصبع الوتر، فإن إصبعاً آخر يخنقه كي تخرج النوطة متغيرة، تميل مائسة، تهفو إلى الغياب. أليس القلب يشفق على صاحب الصوت، أو صاحبته، حين يعفق أو تعفق بالحنجرة الصوت، كأنما عضلاتها تهصر مجرى الصوت، تعصره وتخنقه، قبل أن تعيد إطلاقه حراً. في برهة ذلك الاعتصار، والاختناق، بعض أسرار الطرب. بين الحياة والموت، يتقلب الصوت وتقيم تلك الموسيقى.
(أمير الشعراء أحمد شوقي)
في حين تأخرت المطبعة قروناً حتى أُذِن باستعمالها في المشرق العربي، انتشر التسجيل الصوتي في سرعة مذهلة. هل ذاك أننا “ظاهرة صوتية” أم أن السماع مهمل من السلطات فليس جديراً بفرض الرقابة الصارمة والقيود عليه أم أننا كنا آنذاك قد انتقلنا، لا سيما في مصر ومن بعدها لبنان (على ما تشهد تسجيلات المطرب والموسيقي البيروتي محي الدين بعيون ومن ثم آل بيضا)، من الهيمنة العثمانيّة إلى نظيرتها الأوروبيّة؟ ما همّ. يقال إن أولى التسجيلات، على أسطوانات الشمع، كانت في منتصف تسعينيّات القرن التاسع عشر وتضمنت تسجيلات تنسب إلى “سي عبده” الحمولي (أسطورة تلك الموسيقى الذي توفي دون ان يصلنا شيء جدير بالنسبة إليه وبالاستماع). بعدها بعقد من السنين بدأت التسجيلات التجاريّة، أي وجد، آنذاك، سوق كبير بفضل الانتشار السريع لآلات الحاكي (الفونوغراف)، التي دخلت حتى إلى الأرياف، على ما تشهد سيرة أم كلثوم. بعد نحو ربع قرن، عادت تلك الموسيقى لتخرج من دائرة السوق، لكنها حتى عندما كانت تسجيلات لصالح شركات تجاريّة ناشئة تلحق بالموسيقى، ولا تستطيع قولبتها آنذاك، بخاصة مع كونها ضعيفة أمام سطوة المغنين الكبار ومصادر رزقهم المتعددة آنذاك وعلاقاتهم بالوجهاء والباشوات، ظلت تلك التسجيلات “أحداثاً“، ولم تكن تطفيلاً للأذواق والأسماع، من جهة لسبب جوهر تلك الموسيقى، أي الحرية، ومن جهة أخرى لكون تلك التسجيلات حوادث في الزمكان تخرج من قمقمها ما إن نطلق التسجيل مرة أخرى.
تلك التسجيلات تنطوي على لحظات من الواقع، لا تزال في راهنها، وتستطيع حملنا إليه. يكفي الاستماع كيف أن آلة التسجيل والمهندس والكهربائي كانوا عاجزين عن فرض النظام قسراً على عازفي التخت الذي واصلوا رنينهم الهيتروفوني، وكيف أن المطربين كانوا عاجزين عن الأداء دون صحبة المذهبجيّة بالطبع، ولكن أيضاً دون كورس آخر من “المطيباتيّة” الذين كان عليهم واجب الاستحسان والتفاعل مع المغني والتعريف بالعازفين بصيحات الإعجاب. لا ينسَ من استمع إلى تسجيلات مثلاً لسليمان أبو داود (المطرب المصري اليهودي على الأرجح وهو شأن الكثيرين من جيله دون سيرة ذاتية تقريباً، وغياب السِيَر علامة على غياب النجوميّة التي هي أداة النظام التجاري الفضلى) رده الدائم بكلمة “حاضر” كلما قيل له “الله الله يا بو داود“، أو تلك التطييبات غير المألوفة في عصرنا مثل “يا كتاكيتك“. بل إن بعض تسجيلات وديع الصافي الحية، في التلفزيون اللبناني، تحمل بعض طابع تسجيلات الأسطوانات، لجهة طلب التفاعل مع المطيباتيّة/ المذهبجيّة (كما في بعض لحظات تسجيل “يا ريت بقدر جمّع ورود الدني” على سبيل المثال)، مثلما تحمل ذلك كل التسجيلات الحيّة التي وصلتنا لأمثال السنباطي وزكريا أحمد والمشايخ مثل صلاح الدين كبارة ومصطفى إسماعيل ومحمد عمران وغيرهم كثيرون.
تلك التسجيلات تضم آخَرِنا المغاير، أول الأصوات العربيّة المسجلة، حين كان مفهوم الصوت القادر على الغناء مختلفاً، لدى النساء كما لدى الرجال، وحين كان الغناء موجهاً إلى السامعين، لا إلى المراهقين ومجايليهم، وحين كان نطق الكلام ومعنى العبارات مغايراً عما بات عليه اليوم. تلك وثائق تبث الاضطراب في سياق الزمن الذي يحسبه بعضنا راكداً أو متكرراً وتدلّه على تغيير لا ينكر وجوده غير أعمى، ولا يسعنا عنه نكوص. في دور محمد عثمان الشهير “خدني الهوى” (أو “كادني الهوى” بعد أن تحرف نطق عبارته)، يقول المؤدون “للحسن دا بالطبع أميل“، يجدر بتلك العبارة أن تستوقفنا كلما قلنا “طبعاً“، فليس المقصود أن للحسن هذا بالتأكيد أميل، بل أن الميل إنما هو بالطبع أي بخلاف التطبّع، بالفطرة الراسخة، والأمثلة على نظير ذلك وفيرة. وفي نطق الشيخ يوسف المنيلاوي للباء إمالة وتمييع، في بعض الأحيان، حتى تشابه الفاء الافرنجيّة V، ألا يذكر ذلك بقول الشيخ عبد الله العلايلي بأن حرف الـ U كان موجوداً وأميت في العربية، مستشهداً بقراءة قرآنيّة للفظة “سيق“.
عبر تلك التسجيلات تردنا تواريخ وحكايات لا حصر لها: من يذكر مثلاً الشيخات مقرئات القرآن؟ ومن يتوقف الآن عند مدرسة العوالم في الغناء، واختلافها التام عن غناء المشايخ كما الأفنديّة، وبدائع ما أنتجت نعيمة المصريّة ومنيرة المهديّة وأسما الكمسريّة وغيرهن؟ كم تردنا، في حلية صوتية أو ارتجال أو ضرب إيقاع، من آثار أقوام كثر (على ان التفاعلات آنذاك كانت بطيئة السير ما يتيح لكلٍ التأثر بما يناسبه، وبما يجنب هذه الأقوام من الانسحاق أمام فنون الآخر وهو، أي الانسحاق، من مترتبات السرعة)؟ ولست أحصر أمر حضور الأقوام المختلفة في تلك الموسيقى في إسهام اليهود في تلك الموسيقى في وصفهم بعض اقوام العرب، بل أشير مثلاً إلى أن أسلوب الأداء الحلبي، في ارتجالات الأدوار والقدود، متأثر بالطبع بالتقاليد الصوفيّة كما بالحيويّة الإيقاعيّة لشعوب آسيا الوسطى من أرمينيا والقبائل التركيّة في مقابل الجريان المصري الهادئ حيث تم ثمة إنشاء تقليد موسيقي عالم، مديني، غير صوفي (لناحية العلاقة بالإيقاع)، رغم اشتراك التدريب والتوشيح الدينيين في التأسيس وتأهيل أغلب المغنين، في حين يكاد ينفرد عالم الزار بالايقاعات الإفريقيّة الأصل. وهل يسعنا أن ننسى أن التآليف الموسيقية التي عزفتها كل تشكيلات التخت الشرقي في مصر وبلاد الشام، وعازفو الآلات المنفردة (كمحي الدين بعيون، البيروتي الشهير بالغناء والعزف على الطنبور، الذي كان يضرب عليه أيضاً أحمد فارس الشدياق)، كانت في غالبيتها الساحقة عثمانيّة، أي كانت تركيّة بلقانيّة أرمنيّة يونانيّة شيشانيّة… إلخ؟ في أبسط معاني العبارة، كما في أعقدها كما سنتناول لاحقاً، تخلخل تلك التسجيلات، بمادتها الصوتيّة أولاً، الزمن وروايته.
في كل تلك التسجيلات لا تكلّ الأذن عن اكتشاف ذاتها، أي عن تلمّس مادة صوتية تغمرها بصفتها هذه تحديداً، فلا يسع الأذن ان تركن إلى اعتيادٍ او إلى سهولة أو نمطيّة. حين يسجل كل لحن عدد من المغنين، وبعضهم يسجله لأكثر من مرة، بل حين يكون شأن كل لحن ألا يكتمل بما أنّه مصوغ على انه منصة انطلاق للمؤدي (وبعض نتاج أم كلثوم المسجل خارج الاستوديو في الثلاثينيّات من القرن الماضي مصداق لهذه الفكرة، مثل تسجيل عيني يا عيني، الموجود على بعض المنتديات)، فإن من المحال حفظ تلك الأغنيات بكل أولئك المغنين، محال “استيعابها” (واستيعاب ما كان فيها بالقوة، لا بالفعل، إذا ما استعرنا المقولات الأرسطيّة) لجهة كونها أبداً مفتوحة، إلا انها مفتوحة على ما يستطيع الصوت أن يضيفه. ليس الكلام فيها أساساً (بخلاف المقام العراقي الذي “يُقرأ” بأبيات شعرية، ويقال لصاحبه قارئ مقام)، وغالباً ما يتم ارساله نثاراً مكسراً أو التوقف عند مفردات بل عند نأمات فيه. حتى في الإنشاد الديني الذي يفككه المداحون المنشدون في مساجلاتهم مع بطاناتهم فإن أثر الكلمة محدود بالمقابل مع السعي الهائل إلى استكناه الصوت وأساليب إنتاجه ومدى قدراته ومناهجه الكثيرة السبل وتنويع كل ذلك في الإنشاد. تردنا تلك التسجيلات إلى أذن “تتعرّف” طريقها، مستنفرة للمؤثرات التي قد تهجم عليها حين غرّة، تتوقع سبيلاً غير أنها تظل حذرة ذاك أن كل السبل قد تكون خادعة وتذوق الجمال لا يأتي إلا على غير توقع. تقيم الأذن، ونحن معها، على حد الصوت وهو، على ما نعلم، حد الزمان في التقلب والتذبذب والفرار والانسياب والتلاشي وانعدام المادة إلا من توهّم. خلافاً لرأي هيدغر في ما أتاه قومه، فإن تلك الموسيقى لا تقبل أن تتحول إلى “رؤية“، أي أن تعبر من مجال السمع إلى مجال البصر. خلافاً لرأيه، فإن الأذن هي التي تسمع تلك الموسيقى، أكثر من أنفسنا.
أياً كان ما في قمقم الزمان حين نفتض ختمه، فإن حدوده مبهمة، كجزرٍ لا تنفك شطآنها تتبدل تحت لفح الرياح وألسنة المياه. قد يكون الطرب خفة اللحظة أو إعجاباً بالبنية، وقد يكون محفزاً ومنشطاً للمرء بحيويته كما قد يكون خدراً يسري كسكر المدامة في الأعضاء، قد يكون صيحة وانتفاضة كما قد يكون انهدام الداخل مفاجئاً وانكفائه في صمت على غيابه أو على تبسّم الرضا. يظل الطرب ما لا يحاط، خفةً لا تطاق، سطحاً رجراجاً للروح.
تتنوع أنماط الاستماع المحتملة والمشروعة، بحسب السامع والأداء، إلا أنها في تنوعها واستحالة الجمع بينها في آنٍ معاً تجعل “استيعاب” تلك الموسيقى محالاً. في استعارة بصرية، لنحسب أن دوراً ما كان شريط نسيج ثخيناً، قد يمده البعض ويشملونه بنظرة كليّة، في ما يتركه آخرون ينبسط شيئاً فشيئاً ليدهشوا بعقداته وفتلات غزله. وفي حين تغري المقارنة بنسيج آخر قسماً مختلفاً من السمّيعة، فإن النظر، في بعض الحالات يغرق عميقاً بين قطبتين يبهت العقل أمامهما. فقد يستفيض البعض في المقارنة بين صيغ مختلفة للمقطوعة عينها، سواء بصوت المطرب عينه أو بأصوات آخرين، مندهشين للإضافات أو متحسرين على ما قد أهمل وكانوا في انتظاره متأهبين. وقد يميل بعض آخر إلى محاولة إدراك شامل، فيدركون الأقسام والتراكيب بارزين في البنية، ويشمل سماعهم التناظرات والتقابلات وخطط المغني أو قصده في تنقلاته، وينالون متعتهم من هذا الإدراك الذي يتطلب استماعاً للعمل في وصفه وحدة شاملة ويتطلب معرفة وحذقاً ودراية ودربة عليه، لكن هذا الاستماع يظل على مستوى البنية الكلية للعمل. وقد يقيم آخرون على حافة اللحظة في حد ذاتها (كما يقال بالافرنجّية على “يظل على حافة مقعده” تأهباً)، متأهبين لما جاد به فيض خاطر المؤدي أو العازفين بديهةً وارتجالاً، فيطربون للمفاجأة وتأخذهم رعدة الطرب على حين غرة في انعطافة مقام أو ارتعاش صوت، ترافقه حتى في أنفاسه حناجرهم المكتومة، أو في صدى وتر يبهتون له أو يخرجهم اللعب بالإيقاع ومعه عن طور استقرارهم وقاعدة اتزانهم، هم اذاً في تحفزّ لا يُفتره سير مقدّر أو متوقّع للهارموني ولا يشغلهم عنه ألوان أوركستراليّة. وهناك، أخيراً، الغرق، الهادئ المطمئن، بين نوطتين (كما يصيبني السنباطي غالباً في تقاسيمه)، حين ينفتح أفق الزمان بيد الحرية: في توتر، يجتاحه السكون، ما بين لحظتين، أثر الاستقرار، أو قبيل الذروة، أو في توتر، وما هو إلا هدوّ وما فيه انقطاع (“هدوّ وليس فيه انقطاع“، بحسب ابن الرومي أيضاً في صفة غناء وحيد)، بين ضربتي إيقاع لا تغيب سابقتهما ووتبدو لاحقتهما كأن لن تجيء أبداً وتبدو كأنها كانت منذ الأزل معاً.
(سعيد عقل، رندلى)
من المحال فك عرى العلاقة بين الموسيقى والزمن. منذ القديس أالتوجه والقصد والانتباه (وهي مرادفات نحاولها لـ intention الأوغسطينيّة)، وتالياً كان يمكن إثبات أن الإله أيضاً يحيط بزمن العالم، كما يحيط الإنسان بجملة موسيقيّة. فيقول القديس الجزائري في اعترافاته (XI):
“أنوي إنشاد لحن أعرفه: قبل البدء، يتوجه ترقبي نحو اللحن في مجمله. حين أبدأ، كل ما اتركه يسقط في الماضي يأتي ليثقل ذاكرتي. يتوزع عمل فكري بين ذاكرة، بالنسبة إلى ما أنشدت، وترقب بالنسبة إلى ما سأقول. إلا أنّه مل الاهتمام الحاضر الذي يحوّل ما كان مستقبلاً إلى زمن انقضى. كلما طالت هذه العملية، قصُر الترقب ونَمَت الذاكرة حتى يفرغ الترقب تماماً لدى انتهاء اللحن وانتقاله كلياً إلى الذاكرة. وما يصح على اللحن في مجمله يصح على أجزائه وكل شطرة فيه، وكذلك على عمل أوسع يكون هذا اللحن شطراً صغيراً منه ربما. وينطبق ذلك أيضاً على حياة الإنسان كلها، التي تكون أفعاله أجزاءها، وأخيراً على تسلسل الأجيال الإنسانيّة التي كل وجودٍ هو شطر منها…”، ثم يكمل قائلاً عن الإله أن “لا شيء كان له مجهولاً في تقلبات القرون، الماضية أو الآتية، فكلها تحت نظره، كما هذا اللحن، الذي أغني، كلّه أمامي“. (أليس هذا ما يوجزه تقريباً سعيد عقل، قائلاً “ وغني وغني إلى أن أموت / مع اللحن، والمرتجى والذِكُر“؟).
“معاً ولكن متتالين، متتالين ولكن معاً“، يصرّ كريستيان عكاوي ( في كتاب “الزمن الموسيقي” الصادر بالفرنسيّة)، شارحاً معنى الزمن عبر نوطات الجملة الموسيقيّة (أم تراه يفعل العكس؟)، سواء كانت “فا صول لا“، أو كانت “فرير جاك“. متكئاً على القديس أغسطين، يشير عكاوي إلى أن القصد والتوجه والانتباه يسمحون للمرء بالعيش في “المدة” الحاضرة، وليس فقط في الحاضر الذي هو نقطة ذهنية والذي لا يفتر يصير ماضياً، أي يسمحون له بالعيش مع إمساكه بتلابيب الماضي والحاضر والمستقبل معاً. هذه المدة الحاضرة، القصيرة المدى عموماً، تعمد الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، بحسب عكاوي، على إطالتها ومدها، بأدوات عديدة في البنية والتحفّز والتكرار وما إلى ذلك، بحيث يعبّر العمل عن “تصوير” لرؤية أو “تمثيل” لها Représentation يمكن إدراكه واستيعابه بكليته، على ما ينقل عن إشارات بيتهوفن وموتسارت إلى كيفية إنشائهما أعمالهما، بل هو يرى في هذه الإطالة هاجس الموسيقى الكلاسيكيّة ودورها الأساس. وهو يلاحظ، على خفرٍ، مآخذاً على رؤية أغسطين، مشيراً إلى أن مثل هذا التوجه والانتباه مستحيل إذا ما كانت الجملة مسموعة للمرة الأولى، إلا في حدود ما يتيحه أسلوب عصر المؤلف أو مدرسته من ترقّب، غير ان عكاوي اختار أن يتجاهل هذا المأخذ، خدمة لحججه وللبرهنة على ما يود قوله.
لكن هذه الثغرة هي تحديداً جوهر الموسيقى المشرقيّة المعشوقة تلك. حتى عندما يكون العمل مسجلاً وقد تم الاستماع إليه من قبل، فإن ثراء الارتجالات الهائل في كل تسجيل (والقادر على تحويل جملتين إلى دور كامل على ما لاحظ البعض في تسجيل عبد الحي حلمي “كنت فين يا حلو غايب عن عيوني” أو في غيره) يجعل محالاً استيعاب العمل والإحاطة به كاملاً كما لو انه جملة واحدة يتركز عليها الانتباه ويتوجه إليها القصد الأوغسطيني. فكيف الحال إذا ما كان للعمل أكثر من أداء، بصوت المطرب عينه، وتسجيلات أخرى بأصوات آخرين، وأخرى مفقودة أو لم تسجل وإنما نحلم بها، وكيف الحال إذا كان جوهر الأداء وحقه ألا يتشابه مع نفسه؟ يمكن للمرء أن يرسم خطيطةً لمسار دور ٍما ومسلك حلمي فيه، على سبيل المثال، إلأ ان توجهه وانتباهه يظلان عاجزين عن إمساك كل الجمل التي يكسو بها حلمي تلك الخطيطة حياةً وتأرجحاً وتوقّداً. تلك الموسيقى لا تصوير فيها ولا تمثيل. بل إنّها تثير أسئلة أبعد عما ذا كان من المكن اكتناهها بالكلية، وما يظل عندئذ من أطروحة اوغسطين عن علاقة الله بالزمن. وعما يظل من دليل التراجع اللانهائي الذي اتكل عليه علم الكلام الإسلامي حين تكون تلك الموسيقى أيضاً لانهائيّة، شأنها شأن الزخارف اللانهائيّة والمعاني اللانهائيّة لإحالات المعاجم. لا نهائيّة زخارف الفن العربي الإسلامي خادعة، فذا الفن، خلافاً لما يزعم قارئوه على ضوء التصنيفات الأوروبيّة، لم يتبع، كما حدث في أوروبا، مقولات كلاميّة مثبتة، وهو ليس كناية عن لانهائيّة الله، بدليل أن مفهوم الحنين غائب عنه كليّاً، بالمقارنة مع الإشراقات الفارسيّة أو المسيحيّة الغربيّة. ما يقوله هذا الفن أن اللامتناهي، والافق اللانهائي، متاح وممكن توليده في هذا العالم الآن في الحاضر.
تلك الموسيقى تشدنا بأوثق العُرَى إلى الآن، إلى الـ“هنا“، حيث تجري أحداث تلك الموسيقى، جرياناً كنهرٍ متقلب. في تلك الموسيقى، التحفز والمفاجأة ليسا أداتين فحسب لتصوير رؤية ما (رؤية من، إن كان عمل الملحن هو نقطة انطلاق لا أكثر؟)، بل هما أساس في إنشاء الموسيقى نفسها. لا تسعى تلك الموسيقى، من خلال التحفّز والمفاجأة والتطريب والتلاعب بالايقاع وبتغيير مواقع النوطات أشطاراً من مليمترات وبالنقلات المقاميّة وبالتكرار الذي يحضر للتغيير، إلى إطالة “مدة” حاضرة وإلقائها على وجه عملٍ كامل، بل إلى ابقاء المستمع في “حواضر” (إن جاز جمع “حاضر“) متلاحقة لا يسعه معها إلا الأمل بأن يخيب ترقبه، وليد العادة، في كل مرة ليصرخ من دهشة الجمال. والتركيز على الجمع هاهنا ضروري، ذلك أن كثيراً من الطرب يكون في القفلات، في الغناء كما في العزف، والقفلة إنما هي إعلان ختام “مدة” واحدة، في حين يتألف الدور أو الموال أو القصيدة من سلسلة منها، فيكون أن لتلك الموسيقى انماط ثلاثة، على الأقل، من الإيقاع: الإيقاع المنتظم Tempo، في الدور أو القصيدة الموقعة، وإيقاع كل “مدة” أو “وحدة” غنائية أو عزفية وفقاً لما تناولته وكيف تعاملت مع مواقع ضغط الإيقاع المنتظم الثابتة، وإيقاع السلسلة من الوحدات الزمنية أو المُدَد يتولد من انتظامها وتتاليها والفوارق ما بينها في السرعة والطول ومساحة السلم الموسيقي الذي أحاطت به. والقفلة الحرّاقة، اللاسعة كسوط، حينذاك، عندما تستثير الطرب، إعلان عن أن الزمن قد تمت خلخلته، ما جعل المستمع يصيح كأنما احترق أو أفاق من حلمٍ سرح انتباهه أو قصده فيه، أو كأنما فقد توازنه (واتزانه) وأشرف على الوقوع عن جرفٍ كان يحسبه ثابتاً. حينذاك، تحديداً، تسمح لنا القفلة بتذوق الصمت، ما بين الوحدات أو المُدَد، بأن نقطنه مثلما يقطننا الزمن (هل الزمن غير صمت، نحن داخله، لأنه هو كلُّ داخل، شأن ما قد يقول دولوز؟ والصمت قد يكون توتراً مشحوناً بالعنف، مفعماً بالخراب).
تخلخل تلك الموسيقى إذاً الزمن، بفعل جوهر الحرية الذي يحرّكها، حيث تثبت أنه ليس جرياناً متساوي الدفق، على ما تصفه الفلسفة التجريدية أو الفيزياء، وأن بالإمكان تقطيعه إلى وحدات زمنية لا يمكن التنبؤ بكنه كل واحدة منها، كما لا يمكن التنبؤ بعلاقاتها بعضها ببعض، على الأقل ما لم تحملنا الألفة بالعازف إلى فهم عميقٍ لكيفية بنائه مساحة حواره مع الزمن. لنأخذ على ذلك مثالاً تقاسيم عود رياض السنباطي (راست وراحة الأرواح وبيات وكرد ونهوند وحجاز)، وهو المثال الأقرب لسهولة الحصول على تسجيلاته، وبالإمكان عرض المقاربة نفسها لتقاسيم من سبقوه. في دراسة قدمها العازف والباحث المصري، طارق عبد الله، لاحظ أن البنية الزمنيّة لتقاسيم السنباطي الست، المسجلة في استوديو، والمسوّقة في شريط واحد، هي تقريباً واحدة. يبدأ التقسيم، أيّاً كان مقامه، بجملة استهلاليّة قصيرة (ما بين سبع إلى ثلاث عشرة ثانية، باستثناء تقسيمة راحة الأرواح)، تليها جملة طويلة، فيها تنويعات على تيمة محددة، يستعرض فيها أساس المقام، ثم يعود إلى سلسلة من جمل قد يخرج فيها إلى احد فروع المقام، وبين كل جملة وأختها فترة صمت تتراوح ما بين ثلاث إلى خمس ثوانٍ. وقبل الجملتين الأخيرتين، يستدخل السنباطي جملة إيقاعيّة طويلة فيها “شقاوة” ولعب وحيويّة، ثم يمهد للختام، ثم تستغرق جملة النهاية دقيقة وبضع ثوان (باستثناء تقسيمة البياتي حيث يستغرق هذا الجزء اثنين وأربعين ثانية فقط). كل ذاك في خمس أو ست دقائق لا غير. ولما كانت تلك التقاسيم مسجلة على دفعتين في الاستوديو، على ما يروى، فقد كان من الطبيعي أن يخرج السنباطي بمعادلة واحدة للتعامل مع الزمن وتقطيعه وتقسيمه (ولنقدم فرضية، لا سند لها ربما من الصحة سوى مواءمتها، بأن اسم التقسيم مشتق من قسمة الزمن التي ينشئها). بطبيعة الحال، فإن تقاسيم أمين المهدي أو سامي الشوا أو عبده صالح أو العقّاد أو محمد القصبجي، وليالي ومواويل وقصائد رعيل المطربين العظام تتأسس على فكرة السلسلة الزمنية، التي تولد الطرب، إلا انها تولد معادلات مختلفة، على صعيد أنماط الإيقاع الثلاث المذكورة آنفاً.
عود السنباطي، شأنه شأن حنجرة عبد الحي حلمي أو يوسف المنيلاوي أو الشيخ علي محمود مثلاً، يقترح أيضاً نموذج خلخلة للزمن من طراز آخر، أعني تعليق الزمن. في تقسيم الكرد، على سبيل المثال، للمحة خاطفة حين يرتفع السنباطي “نصف صوت” (demi ton) فوق جواب (أي أعلى بديوان، أو أوكتاف) مستقر المقام، بيد أن تلك اللمحة الخاطفة تأبى، في الوقت عينه أن تزول. تعلّق الزمن وتتعلق بها الأذن والروح معاً. هكذا يحفر السنباطي ممرات سريّة، ثقوباً سوداء، في الزمن. تغدو اللحظة، التي لا تنقضي ولا تحضر إلا منقضية، سرمديّة. تلك النوطة اليتيمة المعلّقة برهةً تفتح أفق زمن لا ينتهي، لأنها تنقلنا إلى زمان آخر، فهي تحضر في توتّرها الهادئ، كأنما هذا التوتر قد عثر مسبقاً على حلّه و“تنفيسه“، إلا أنه يظل مقيماً، “معاً“. حينها، تغدو هائلةٌ لأنها تحتل “كل الزمن” أي “زمن الكل” كما يقول جيل دولوز معلقاً على “المدرعة بوتمكين” لأيزنشتاين وأيامه التي “غيّرت العالم“. مثل ذلك التوتر البارد عزيز ونادر بطبيعة الحال، ذلك انه ليس مرتبطاً بالزمن فحسب، بل أيضًاً، انه يضرب عميقاً في غور المقام، بذاكرة المكان.
(الشيخ محمود بن عبد الله الشهال، بأداء الشيخ علي محمود)
تتسلل المقامات إلى جانب في المكان ليس في فضائه أو في امتداده الجغرافي، بل في جانبه اللامرئي، في الافتراضي (virtuel) الذي لا ينفك عنه غير أنه ليس بصريّاً، بل لعل المقامات هي تحديداً ذلك الافتراضي الذي هو المحيط الذي تسبح فيه ذاكراتنا الانفعاليّة. إن صح أننا كلما نظرنا إلى المكان، ما بين جبال تركيا إلى صعيد مصر مثلاً، أو شاهدنا ذلك في فيديو أو فيلم، انفصل، دون انفكاك، عن المشاهدة ذاك الافتراضي الذي سيكون الذكرى حين نطلبها أو حين تغمرنا، فإن من الصعب ألا ندرك أن ما ينفصل هو تحديداً صوت أم كلثوم أو سيد الصفتي أو وديع الصافي أو عود هرانت العواد أو الشريف محي الدين حيدر. هؤلاء بالطبع ينتمون إلى مدارس مختلفة ومراحل مختلفة، إلا أنهم، على اختلافهم، أبناء تلك الموسيقى وروّاد مسالكها، وحضورهم في إطار المكان وصورته دليل على أن الصوت هو الذي يشكّل قرين الذكرى وفحوى خزّانها.
من السهل تالياً القول إن البياتي في التسجيلات اللبنانيّة ليس هو عينه في تلك المصريّة أو التركيّة، وأن الصبا في بحة نجاح سلام حين تغني “غزالي” شأنه شأن الصبا في تجلّيات عبد الحي حلمي مختلفان عن ذاك التركي أو المصري اللاحق مثلما هما مختلفان عن الصبا الحلبي مثلاً. ثمة فوارق دقيقة، لكن الأذن لا تخطئها، تجمع كل ذاك وتفرقه معاً. من السهل أيضاً، بحد أدنى من التدريب، ملاحظة تلك الفوارق واعتياد نسبتها إلى أصولها الجغرافية. إلا أن ما يجمع مقرئاً مثل الشيخ علي محمود بمكانه أعمق بما لا يقاس من مجرد نسب المقام. لئن كان في مواويل محمد عبد المطلب وصالح عبد الحي وعباس البليدي وغيرهم صلة بطبيعة عيش الحارة القاهريّة، في الخشونة والرجولة وتقطيع الكلمات واستعراض القوة الصوتيّة، فإن صوت الشيخ علي محمود، وهو المثال الذي نضربه هاهنا، يتخطى ذلك ليطال أيضاً القاهرة المدينيّة، المزدهرة المنفتحة. يستقبل صوت الشيخ إيقاعات من بحر الإسكندرية المفتوح على اليونان والبلقان، وتفعيلات أو خلايا نغمية لا تنفر عن مزاج الأوبرا والآريا الأوروبية، ويظل مفعماً في الوقت عينه بحرارة افريقية وايقاع صلب ومتين. في “يا نسيم الصبا“، مثلاً، موجز مكثّف لما نقول وأكثر. صوت الشاميّة ماري جبران، آخر مغنيات الأدوار المصرية الكبار على الأرجح، مثال آخر على ارتباط غير سطحي بمكان: الاندفاع حد الجنون المتهور، تفجير الطاقة حتى الرمق الآخير منها، التقلب بين الذروة والكيتش المدّعي… كانت سوريا الخمسينيّات بانقلاباتها وطموحاتها واحزابها كل ذاك أيضاً! وما قد يقال عن وديع الصافي أو زكي مراد أو محي الدين بعيون مثلاً قد يملأ مطوّلات أخرى.
غير أن في المقامات أيضاً جوانب أشدّ خفاءً في علاقتها بالمكان. فالمقامات تروي، في ما ترويه، تجارب أرواح أهالي تلك المناطق العتيقة وتكثّفه، مكملة ما تحاوله اللغة البالغة الثراء في وصف تقلبات الروح وأهوائها. وكما أن في اللغات مشتركات وفرادات كذلك في المقامات الموسيقيّة وتناولها، والخريطة التي ترسمها لتجارب النفس والانفعالات. والمقام، في هذا السياق، ليس بحت سلمٍ موسيقي، بل هو خليط المزاج والتناول وسير العمل وعلاقات القرابة والألفة التي تشده إلى غيره فضلاً عن ذاكرة استعماله السابق وتقاليده. من كل هذا يتكون رصيد من الانفعالات، وليدة التجارب المحلية المعيشة، التي لا تعبّر عنها لغة القوم بدقة رغم بلاغتها ، والتي ينطوي عليها المقام ويختزنها.
وما يزيد الأمر ثراءً وتعقيداً هو التتابع المفترض لهذه الأحوال الانفعاليّة، إذ يرسم مقام الفرحفزا مثلاً مزاجاً هو خليط بمقادير محسوبة من مزاج (وليس سلالم) العجم والنهوند والنوى أثر والحجاز، قبل ان يقفل بجنس البوسيلك عن درجة اليكاه (الصول). في كل انتقال موفّق من الراست إلى الجهاركاه مثلاً أو من العراق إلى البوسليك عبور مفعم بالانفعال بين مناطقه العجماء هذه. عود السنباطي، شأنه شأن حناجر آخرين، يؤدي كل هذا ويجيد سبر التجارب المختزنة مثلما يجيد، في لمحات صاعقة كما ذكرت من قبل، الاتكاء عليها للانطلاق إلى مناطق جديدة غير مكتشفة من الانفعال، طوراً في داخل المقام الواحد (تقسيم الكرد مثلاً) وطوراً بابتكار سكك ومسارات مذهلة وجديدة (تقسيم العود في مقدمة أغنية “أشواق” مثالاً آخر). لا يعبّر الموسيقي عن معنى، ولا يتقصّد إيصاله، إلا أنه يجتاز تلك المناطق ببوصلة الموسيقى لا بقوة التعمّد والقصد. ما يصعق السامع، في بعض تلك الأحايين النادرة، إنما هو اكتشاف قارة جديدة غارقة في غور انفعالاته وانتشال أثر منها نحوه. لكن، أيكون ذلك دون أن يخرّ العازف أو المطرب أول المصعوقين أمام الاكتشاف الذي لم يكن ينتظره؟
(أحمد فؤاد نجم، بصوت الشيخ إمام)
لا يصف الموسيقيون المشرقيون موسيقاهم بصفات بصرية (والبصر يستتبع حكماً بعداً ومسافة عن المنظور إليه)، بل يقاربونها بحاسة الذوق وعضوٍ هو الفم. فيسمّون الدرجات الموسيقية “أحرفاً“، كما لو أنها تلفَظ، ويسعى العوّادون مثلاً إلى أن “يغنّوا” بالعود. ليس ذاك محض تأثّر بسطوة الغناء وغلبته، بل هو مضمار التحدي ومجاله: الخروج بالعود أو القانون أو الكمنجة أو الناي من كونهم آلات، إلى كونهم امتداداً للحنجرة وللنَفَس، ومن كونهم أدوات إلى كونهم أعضاء من الجسد. وإذا ما أجاد أحدهم فإنما يكون “لأحرفه نكهة” أو مذاق، أو أن لها “طعماً” مميزاً، كما يصفون القفلات بالحرّاقة وهي من صفات التوابل الحريفة.
هذه الاستعارة الذوقيّة تأتي لتمحو المسافة بين العازف وصوت الآلة، الذي يغدو طعماً في فمه أو رعشةً في الحنجرة، مثلما هي الحال لدى المطرب. حتى على العود أو الكمان، يحتل “النَفَس” موقعاً أساسياً في تنظيم الجملة وتقطيعها. كما هي حال المطرب، يسعى العازفون إلى الاتحاد بآلاتهم، وتطويعها لتتنفس وتغني وتتأرجح بين أمزجتها المختلفة.
لقد كان التدوين الموسيقي معروفاً عند العرب منذ العهد العبّاسي، فلم اختفى واندثر إن لم يكن التدوين محاولة مخالفة لجوهر موسيقاهم، أي الحرية. طبيعة تلك الموسيقى، باعتبارها الزخارف والارتجالات اسساً للأداء، تفسح مجالاً لمثل ذاك الاتحاد بالآلات، حيث يتقلص دور “الملحن” أو “المؤلف الموسيقي” لصالح المؤدين وحريتهم وقدرتهم على الابتكار. هل يمكن عند ذاك تمييز صوت محمد القصبجي من صوت عوده أو فصل صليبا القطريب عن آلته الأثيرة؟ في مثل تلك اللحظات، على ما يقول هيغل معلقاً على المساحة التي يتركها روسيني لارتجال مغنياته (وهو ما يشرح بالمناسبة قلة اكتراثه ببيتهوفن مثلاً)، نشارك لحظة الإبداع الفني الفعلي، وننسى كل الظروف الخارجية، ننسى المكان والمناسبة والمضمون، لنتابع “ما تمليه اللحظة على روح الفنان“. ولعل سبب ذهولنا، أو طربنا، يكون في أن الابداع في اللحظة، في ارقى تجلياته، يدل، على ما يقول هيغل أيضاً، على “حرية داخليّة بلا قيود“.
هذه الحرية الداخليّة هي القوة الدافعة التي تحرك يد الموسيقي أو رئتيه كي يعيد بهم تشكيل زمنه الداخلي، وزمننا، ودواخل الانفعال وتجاربه. فتلك الموسيقى ليست عاطفيّة، والعاطفة بنية فوقيّة للقسوة (كونديرا مشيراً إلى كزيناكيس)، بل هي انفعاليّة، وتلك الموسيقى ليست “غنائيّة” بالمعنى الذي يُطلق على الشعر الغنائي (lyrique) بل صوتيّة أولاً وأخيراً، ليس بالمستطاع التغاضي عن حضور مادتها في سبيل شحنة رمزية أو قصد. أصواتها تقيم في صوان الأذن، كصوت أسمهان في وصف بلال خبيز له. غير أن اسمهان احتاجت صوتاً استثنائيّاً وموتاً مبكّراً كي لا تغمر صوتها صفة أو يستنفده معنى مستقى من حياتها، أما فنانو تلك الموسيقى فجميعهم بلا سِيَر وإن طالت بهم الأعمار، ذلك أن موسيقاهم تستعصي على محاولات الإمساك بها في نعتٍ أو معنى أوحدين وتظل صوتاً يكتسب جماله، كحالة زكريا احمد مثالاً، من تمسكه بمادته هذه.
(“قل وداعاً للإسكندرية“، قسطنطين كفافيس، بترجمة سعدي يوسف)
الصوت، صوت محشو بالصمت أو صمت مشحون بالصوت، يحيط بنا، يخترقنا، ينظّم إيقاع زمننا والمُدد التي تحياها أنفسنا. لا يستطاع به إمساك، ولا عنه تراجع للنظر أو للتدقيق. هارب متذبذب، وإن استمر من دون انقطاع إما نغفل عنه، أو يصير تعذيباً، كما تقول ماري لويز ماييه في كتابها “الموسيقى في احترام“، لذا ربما تتساءل ماييه إن لم تكن الموسيقى ليل الفكر. فالصوت كالليل (في وصف ميرلو بونتي لليل): “ليس شيئاً أمامي، بل يحيط بي، يخترق حواسي، يخنق ذكرياتي، يمحو تقريباً هويتي الخاصة، لا أعود متخندقاً في موقعي المُدْرِك بحيث أرى من بعيد عبور الأشياء“. ولعل وصف الليل هو وصف الطرب، إلا أن الطرب لا يخيف، بل يخفّف الأعباء، حين يحمل تنظيماً للزمن وحرثاً لارث الاجيال ومساحة للتفاعل مع الخَلْق والابتكار، والابتكار هو الحريّة وشرطها المنشئ.
في ليل القاهرة وطنطا وطرابلس ويافا وحلب ودمشق والموصل وغيرها، رعى الطرب ازدهار موسيقى تنتزع الحميم، حتى عمق الانفعال غير المتفتح بعد (هيغل أيضاً)، وتحمله في سيل الأصوات نحو الخفّة والقدرة على تذوق الانفعالات والاستمتاع بها على اختلافها. من قلب تلك المتعة، الأخيرة ربما، يولد جمال محليّ (فرانسوا جوليان في “فكرة الجمال الغريبة هذه“)، نفيس وغريب، “إن النفيس غريب حيثما كانا” كما يقول أبو الطيب المتنبي. تلك الموسيقى الغريبة، المحيّرة، قلّ اليوم طارقو سبلها، رغم ان بعض المنتديات الموسيقيّة تحاول انعاش التواصل في شأنها. قلة من العازفين الموسيقيين يحملونها اليوم في أنفاسهم، وبضع مطربين.
رغم خشونة صوت زكريا أحمد، أو رداءة تسجيلات تلك الفترة والخشخشة الدائمة فيها، ورغم مشاكل السرعة عند نقلها إلى الوسائط الحديثة، ورغم أن معظم تلك الموسيقى ليس متوفراً في ذاكرتنا، وأن كلامها بعيد عن ذائقتنا، ولحنها غير جامد المعالم، يولد في نفوسنا إشراقٌ بالجمال، على حين غرة دون ترقب. يولد ذاك الجمال من إنهاك تلك الموسيقى، من روح المكان العابقة فيها ونكهتها، من تواري تلك التسجيلات خلف أسواق الأفلام والكاسيتات والسيديهات والفيديوكليبات. كأن ذلك الإنهاك شرط، مثلما كانت خسارة التماثيل ألوانها، شرطاً لتبدّي الجمال فيها. فجمال تلك الموسيقى هو ذاك الذي، بعد التعب وخارجاً عن كل تحليل أو نعت، يظل يُشعرنا بفداحة الخسارة في فقده الوشيك، فقد ذلك الحدث الذي يخلخل الزمن إلا أنه سُجّل قبل قرنٍ، ويُشعرنا بالحاح أن نعثر على لحظة كي نقول له فيها، مثلما يدعونا كفافيس، “وداعاً” قبل أن تتوارى آلات تلك الفرقة الغامضة في شوارع الاسكندرية أو شوارع المدن المشرقيّة.
نشر المقال في فصليّة “كلمن“، ويعاد نشره بالإذن من المجلة.
تم نشر هذه المادة بدعم من صندوق شباب المسرح العربي (YATF)